" وجوه مرّت": كتاب جديد لعبد الرحمن مجيد الربيعي - د. علي القاسمي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسوجوه ووجوه:
ثمّة وجوه تمرّ مروراً عابراً بنا، ولكنّها تقيم في ذاكرتنا لا تبرحها، وتلتصق بأحداق عيوننا لا تفارقها، حتّى إنّنا نراها في كلِّ التفاتة وعند كلِّ طرفة عين. وثمَّة وجوه تعاشرنا مدّة طويلة من الزمن ثم تغادرنا، فلا نكاد نذكرها بعد ذلك أبداً، ولا تخطر على بالنا مرّة أُخرى، وكأنَّها لم تكُن من قبل. ونبقى حائرين لا نعرف السبب.
ثمَّة وجوه تطالعنا في صباح يوم من الأيام، فتبعث الفرحة في نفوسنا، كما تبعث النارُ الدفء في أجسادنا في يومٍ شتائيٍّ عاصفٍ، وتبقى بذرة الفرح نامية مزهرة حيّة طوال النهار، تمنح ساعاتنا اللون والحركة والبهجة. وثمَّة وجوه ما إن يقع بصرنا عليها حتّى نشعر بالضيق والنكد يجتاحان أعماقنا، مثلما يخيم الظلامُ على حارةٍ انقطع عنها الكهرباء، واختفت منها القناديل والفوانيس.
ثمّة وجه يصادفك في طريقك، فتقرأ في ملامحه الطيبةَ ممزوجةً بمحبّة الآخرين ومحبَّة جميع الكائنات والموجودات، فتشعر بأنَّ الخير مازال موجوداً يمشي على رجلين بين الناس. فتنتعش روحك بنسيم الأمل وترتوي بندى التفاؤل. وثمَّة وجه يطير منه اللؤم وينتشر مثل انتشار إشعاع ذريٍّ فتّاك، أو ينتقل مثل انتقال فيروس معدٍ، يصيبك بالتشاؤم والضيق طول اليوم.
    ثمّة وجه تسحرك فيه العينان، تطلُّ منهما على دخيلة صاحبه وأخلاقه وصفاته بل حتّى أسراره وخباياه، كما لو كانتا نافذتَين مشرعتَين على دار الجيران المؤثثة بذوق وجمال وألوان متناسقة أو كما لو كانتا ينبوعي مياه صافية تروي الظماً وتطفئ النيران. وثمّة وجه لا تفصح منه العينان ولا الشفتان ولا أيّ جارحة فيه عن معنى من المعاني الإنسانيّة، كما لو كان جداراً مطلياً بالقار الأسود.
    لقد لاحظ الفلاسفة والأدباء وعلماء النفس ذلك، وسجل بعضهم تلك الظاهرة. أذكر أنَّ الأديب المصري الراحل يحيى حقي قد خصَّص كتابه " ناس في الظل" (1) لتلك الظاهرة. يقول يحيى حقي في النصّ الأوَّل من هذا الكتاب:
    " لماذا كان وجهه هو وحده الذي تعلق به نظرتي الشاردة من بين آلاف الوجوه التي تمرُّ بي عرضاً في الطريق؟ لو سألتني أن أصفها لك لما استطعتُ، لأنّي لا أذكرها ـ برغم التباين، تتشابه هي في أنها نكرات وسط عجينة باهتة. كان وجهه هو محدَّداً بإطار خفي يفصله عن الزحام والتماثل، حتى لو كان على الرصيف المقابل فلا بُدَّ أن يقفز بصري ويصطاده خطفاً، فلم أره إلا وهو مسرع في سيره، يكاد يجري." (2)
    لقد سجل بعض أولئك المفكرين هذه الظاهرة دون أن يقدِّم تعليلاً لها، على حين راح بعضهم الآخر يبحث عن سببٍ معقولٍ أو تفسيرٍ مقبولٍ. فمثلاً ردّها قسمٌ منهم إلى خاصَّةٍ يختصُّ بها ملمح أو أكثر من ملامح ذلك الوجه الذي سَرَّك أو أَسَرَك. فيحيى حقي يجيب على سؤاله السابق بقوله:
    " إنَّ الذي يستوقفني في هذا الوجه حقّاً هو عيناه، مستديرتان هما أيضاً، كبيرتان واسعتان.. جاحظتان قليلاً.. سوادهما كالفحم، منه جاءت لمعةُ نظرتِه التي تتلألأ كالماس. لم أرَ مثلهما عينَين تنظقان بالفرح، بالحبور.. بالجذل، كأنه أبداً يكتم ضحكةً تريد أن تنطلق.. تنطقان بالرضى عن النفس، الرضى عن الحياة، بالسعادة..طعم الدنيا في فمهما لذيذ. إشعاع هاتين العينين يغسل جسدي وروحي، يفيض عليهما كماءٍ صافٍ، براق ..منعش لأنّه هو منتعش." (3)   
وجوه الربيعي:
    يطرح الروائي العراقي المقيم في تونس، عبد الرحمن مجيد الربيعي، هذه الظاهرة في كتابه الذي صدر هذا العام بعنوان " وجوه مرّت" (4) والذي يضمُّ عشرة نصوص قصيرة كتبها عن أسماء ظلّ يتذكَّر وجوه أصحابها حيثما حلّ وأينما ذهب. يقول الربيعي في مدخل الكتاب:
    " هذه الوجوه علقت بذاكرتي، حملتها معي إلى كل منأى حللتُ به، أتذكرها دائماً، وإن سهوتُ عنها بعض الوقت فهناك من يذكّرني بها." (5)

     أصحاب هذه الوجوه هم " شخوص " حقيقيّون وإن خلع الربيعي على بعضهم القليل أسماء مستعارة. لقد عرف الربيعي بعض هؤلاء الشخوص إبّان طفولته في المدرسة الابتدائيّة أو الثانويّة في مدينته، الناصرية، وربطته علاقة مودّة مع بعضهم الآخر في فترة شبابه في بغداد حيث درس فنَّ الرسم في معهد الفنون الجميلة ثمَّ اشتغل هناك في مجال الإعلام. فأصحاب هذه الوجوه ليسوا " شخصيّات " روائيّة أو قصصيّة أبدعتهم مخيّلة الروائي الربيعي وجعلتهم يتحرّكون في فضاءٍ روائيٍّ معين؛ بل هم شخوص عاشوا فعلاً في أماكن محدَّدة، ونبضت قلوبهم بآمال وأحلام حقيقيّة، وارتعشت أرواحهم بخيبات وانكسارات فعليّة، ثم رحلوا عن عالمنا هذا ودُفِنت معهم آمالهم وأحلامهم وخيباتهم وانكساراتهم.
تجنيس الكتاب:
     لم يسجّل الربيعي في هذا الكتاب سِيَر تلك الوجوه، لأنَّ السيرة تُكتَب، عادةً، عن أشخاص أسهموا في إنجاز أعمال عظيمة بحيث أثَّروا في سَير التاريخ، أو تغيير وجهة الأحداث، أو تكوين الحركات الفكريّة، في بلادهم وزمانهم. والشخوص الذين تناولهم الربيعي في كتابه لم يكونوا أبطالاً من أيِّ نوع، وإنَّما نماذج من الناس البسطاء نجد مثلهم في كلِّ مكان وزمان. فهؤلاء الأشخاص كما وردت أسماؤهم في عناوين النصوص العشرة: "حسين مردان وديكاتوريته الفريده، خيون راشد العازب الأبدي، كوزان، مدلول يده، حامد جمعة وقصائده الموزونة، خالد الحداد شاعر المدينة وكاتب مراثيها، جابر الخطاب ومقهى الأدباء، عبد الكريم الفياض فارس الليل معوَّق النهار، عفّون، محسن ريسان بطل المدينة. " وجميعهم، باستثناء حسين مردان، غير معروفين حتّى للقارئ العراقيّ العاديّ.
    وعلى الرغم من أنَّ غلاف الكتاب، يحمل كلمة " قصص" التي وضعها الناشر على الأرجح، فإنَّ نصوص الكتاب لا يمكن تصنيفها قصصاً حتّى من قِبل أقلّ الكُتّاب حرصاً على التجنيس أو أكثرهم إيماناً بتداخل الأجناس الأدبيّة؛ فليس ثمّة حكاية، ولا تطوّر للأحداث، ولا عقدة، ولا حبكة. وإنّما هنالك وصف بأسلوب أدبيّ متميّز لأصحاب تلك الوجوه، كما لو كان الرسّام الربيعي يرسم صوراً لتلك الوجوه التي أحبّها. ولهذا نجد أنَّ المؤلِّف أضاف في صفحة العنوان الداخلي عبارة " بورتريهات عراقيّة". وفي حين أنَّ "البورتريه"، عادةً، هو رسم لملامح الوجه وقسماته، فإنَّ بورتريهات الربيعي لم تقتصر على الملامح الخارجيّة للوجه، وإنَّما تناولت كذلك الأحاسيس والمشاعر والآمال والأحلام والمعاناة التي كانت تموج في أعماق أولئك الأشخاص.
     ويبدو أنَّ الناشر مالَ إلى هذا الرأي فاعتبر، في كلمته التي وضعها في الغلاف الخلفيّ للكتاب، أنَّ نصوص الكتاب العشرة نوعاً من " الصور القلميّة " فقال:
    " (وجوه مرّت) لوحات رسمتها حروف الكلمات بقلم الكاتب عبد الرحمن مجيد الربيعي، فأنابت عن ريشة الرسّام والنحات، حيث خلَّد نماذج شعبيّة فريدة في بساطتها وتفكيرها وفطرتها وإبداعها."
   ومما يزيد تجنيس الكتاب إشكالاً أنَّ الربيعي كتب في مدخل الكتاب يقول:
    " وقد خطَّطتُ للكتابة عنها ضمن المناخ العراقي الواحد (الجنوبي غالباً) ... أما الأحداث فقد صغتُها بالشَّكل الذي يجعل مجموع هذه السير رواية عراقية موزّعة على مجموعة بورتريهات نادرة التكرار نظراً لفرادتها." (6)
    هنا نجد مصطلحاً جديداً هو مصطلح (الرواية)، على الرغم من عدم وجودِ فضاء روائيٍّ جامع للشخوص ما عدا بلاد العراق برمّتها، كما لا يتفاعل هؤلاء الشخوص في أحداث مشتركة، طبقاً لمتطلَّبات الرواية وشروطها التي حدَّدها النقاد. ومع ذلك، فإنّنا لا نميل إلى أعطاء الناقد صلاحيّة تقييد المبدع بالقواعد والحدود التجنيسيّة، وإنَّما نؤمن بحريّة المبدع وضرورة إتاحة هذه الحرية كاملة له للتعبير عن رؤيته ورؤاه بحيث يكون إنتاجه طليقاً أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. فجوهر الإنسان ومستقبله يكمنان في الخيال لا الواقع. ثم يأتي دور الناقد الذي ينبغي أن يستخرج أسرار الصنعة الأدبيّة من النصوص من أجل تكثيف عمليّة التلقي وجماليتها، كما يأتي دور اللسانيّ في وصف لغة ذلك الإبداع وتقعيدها.
   المهم أنَّ القارئ الذي يلقي نظرة على عتبات النصّ (العنوان، العنوان الفرعي، المدخل، كلمة الناشر، ...إلخ.) ليعرف جنس هذا الكتاب الجديد طبقاً لما يُسمّى بـ " عقد القراءة " بين المؤلِّف والقارئ، يواجه صعوبة في تحديد جنس الكتاب، إذ يجد في تلك العتبات حشداً من المصطلحات الدالة على جنس الكتاب: " قصص"، " سير"، " بورتريهات"،  " رواية "، إلخ. ومع ذلك كلّه، فإنّنا نعتقد جازمين أن قيمة الكتاب تكمن في الإبداع المتجلي فيه لا في عمليّة تجنيسه.
بورتريه أو كاريكاتير؟
          لكي نواصل عمليّة تجنيس الكتاب، نحاول التفريق بين البورتريه والكاريكاتير. ففي فنّ الرسم، يتناول "البورتريه" وجهَ الشخص فقط عادةً، أما "الكاريكاتير" فقد يتناول الوجه وحده أو الوجه والجسم معاً. والفرق الأساسيّ بينهما إضافة إلى اقتصار البورتريه على الوجه، هو أنَّ البورتريه أقرب إلى الواقع الجاد من الكاريكاتير الذي يحاول أن يصوِّر الشخص بصورةٍ ساخرةٍ أو مضحكة. وتتأتّى السخريّة لرسّام الكاريكاتير عن طريق رصد ملامح الشخص وتضخيم النافر منها بصورة مبالغ فيها. فإذا كان أنفُ الشخص مثلاً كبيراً، أخذ رسّام الكاركاتير بتكبيره بحيث يطغى على بقية الملامح، ويغدو الشخص مجرَّد أنف كبير تُلحق به بقية الأطراف والأعضاء، ما يثير ضحك المشاهد.
     في ظنّي أنَّ الربيعي، يرسم في كتابه " وجوه مرّت " كاريكاتيرات" أكثر من "بورتريهات"، لأنّه كتب نصوصه بأسلوبٍ ساخرٍ مضحك، يبعث المتعة والبهجة في النفس، إلى جانب المعرفة والمعلومة غير المعروفة من قَبل، لأنّها من الأمور الحميميّة التي لا يعرفها إلا الشخص نفسه والمقرَّبين منه. نقرأ في الفصل الخاص عن " عفّون"، أحد شخوص الكتاب، ما يأتي:
     "كان له شاربان متميّزان لم نرَ مثلهما عند رجال المدينة؛ فهما معقوفان مرفوعان إلى الأعلى وكأنهما جناحا صقر، على العكس من الشوارب الأُخرى الملتصقة فوق الشفتين،  وعند البعض تمتد مساحتهما إلى جانبي الفم إلا شاربا عفّون فهما الوحيدان اللذان يُحسَد عليهما رغم أن حالته كلها مثار ارتياب وموضوع سؤال...      
       طلعته بهية خاصة بهذين الشاربين. وعندما كنا نتساءل عن الكيفية التي بواسطتها يجعلهما واقفين، جاءت التخمينات أنه يلصقهما بصمغ خاص يأتي به من البصرة، أو أنه يضع لهما زيت الشعر " بريل كريم" وهو أشهر زيت شعر وصل المدينة فتلقفه الشبان علّ شعرهم يصبح لامعاً وناعماً مثل شعر الممثل الأمريكي توني كرتس المكوّر من الأمام." (7).
     وعلى الرغم من أنَّ كثيراً من الكُتّاب يطمحون إلى الكتابة بأسلوب ساخر، فإنَّ هذا الأسلوب لا يتأتّى إلا إلى عدد نادر منهم. فالسخريّة تحتاج إلى ذكاءٍ حادٍّ يمكِّن الفرد من رؤية جوهر الأشياء المخفي وراء الظاهر، وإلى قدرةٍ على النظر إلى الموجودات من زاوية تختلف تماماً عن الزاوية التي يُنظَر إليها منها عادةً. إنَّ السخريّة نوع من الخروج عن المعتاد، والإتيان بشيء جديد لم يُسبَق، أي أنّها نوع من الإبداع. ولهذا فإنّنا نجد حسَّ السخرية والفكاهة لدى كبار العباقرة وعظام الرجال وأفذاذ المبدعين. وبالإضافة إلى الذكاء، فإنَّ الكتابة بأسلوب ساخر، تتطلّب تمرّساً في الكتابة، وتمكّناً من اللغة، بحيث يستطيع الكاتب اختيار المفردات والتراكيب القادرة على إثارة الضحك لدى المتلقّي.
    لقد توافرت متطلَّبات السخريَّة هذه للربيعي بوصفه كاتباً كبيراً متعدّد الاهتمامات، له إسهامات متميّزة في أنواع أدبيّة عديدة، فهو القاصُّ الفذُّ الذي انتقل بالقصّة العراقيّة إلى آفاق العالميّة فاحتفت دور النشر العربية بإصدار طبعات متعدّدة من مجموعاته القصصية التي تربو على أربع عشرة مجموعة، وهو الروائيّ الذي أبدع لنا رواية " الوشم" (1965) التي تُعدُّ نقلةً نوعيّةً في الرواية العراقية والعربية، وهو الناقد الذي يتابع باهتمام تطوُّر السرد العربيّ لا في العراق فحسب بل في بقية الأقطار العربيّة كذلك، وهو صاحب سبع مجموعات من قصائد النثر، وهو الكاتب السيرذاتي الذي أبدع لنا كتابه " أية حياة هي؟"،  وهو رائد نوع أدبيٍّ جديد أطلقنا عليه اسم " سيرة الأدب" بعد أن درسنا كتابه الجيّد " من ذاكرة تلك الأيام: جوانب من سيرة أدبيّة"، وأخيراً وليس آخراً هو الكاتب السياسي الذي استلَّ قلمه منافحاً عن بلده العراق ومناهضاً الاحتلال الأمريكيّ الاستعماريّ.
   في كتابه الجديد " وجوه مرّت" لا يتحدُّث الربيعي مباشرة عن سيرته الذاتيّة، وإنّما يتحدَّث عن شخوص خلّفوا وشماً في ذاكرته، وتركوا بصمات لا تخفى في بصيرته، وحجزوا زاويةً مخصوصةً في أعماق روحه. ومع ذلك، فإنّ القارئ يستطيع أن يستشفَّ من هذا الكتاب بعض جوانب سيرة الربيعي الذاتيّة من خلال علاقاته الإنسانيّة وصداقاته الأدبيّة مع أولئك الشخوص.
السخرية في الكتاب:
   وعندما يرسم لنا الربيعي صورة قلميّة ساخرة (كاريكتير) لأحد شخوصه، يضعها في إطار مناسب، ويطرِّزها بحكايات مضحكة هنا وهناك، كما لو كان يزيّنها بالزخارف ويوشيّها بالألوان. في نصّه عن خيون راشد (أبو راشد)، نعرف أنَّ لهذا الإداري المولع بالأدب والكتابة، ميول لوطية، ولهذا فإنّه اختار داراً في أطراف البلدة بعيدةً عن الأنظار. ثم  نقرأ عنه الحكاية التالية:
 " كان يسكر ظهراً. وسمع صوت بعير يخور قريباً منه. وعندما استطلع الأمر عرف أن بدوياً ربطه بشبّاك غرفة الجلوس ظنّاً منه أن الدار فارغة.
   فصار أبو راشد يشتم بأعلى صوته وينادي على البدوي الذي مضى لقضاء أمر. وهنا طرأت له فكرة وصفها لاحقاً بالجهنميّة وتساءل:
    ـ ماذا لو شرب البعير العطشان زجاجةَ عرق كاملة؟
وجاء بزجاجة العرق التي أحضرها له حامد من وديع باكوس وصبّها في قدر مناسب من الألمنيوم، ثم فتح الشباك ووضعها أمام البعير الذي ظنَّ أنَّ ما فيها ماء، فامتصها بثوانٍ ثم لحس بقاياها بطرف لسانه.
   وما هي إلا لحظات حتّى بدأ البعير يخور بصوت أفزع سكان الشارع كلَّهم، فخرج بعضهم من بيته ليرى ماذا جرى.
    كان البعير سكران وهو يصرخ من جديد.
    ـ باع، باع.
    ثم قفز وبقفزته أخذ معه النافذة كاملة، اقتلعها من الجدار وصار يسحلها وراءه.
    تجمّع الناس لمراقبة هذا المشهد الفريد. وقد ظنَّ بعضهم أنَّ البعير جُن..." (8)
ثم يكتشف أهل البلدة أنَّ البعير ليس مجنوناً ولكنه سكران، ويأتون بجزّار متين البنية لنحر البعير. بيدَ أنَّ فقهاء البلدة يختلفون في ما إذا كان يحلُّ للناس أكل لحم هذا البعير السكران أم لا. ويصبح أبو راشد مشهوراً في البلدة حتّى إن بعضهم أخذ يقسم به كما لو كان ولياً من الأولياء فيقول: " وحقِّ أبي راشد صديق الغلمان ومسكِّر البعران."

   ولا يفوت القارئ أنَّ الربيعي يمرِّر من خلال كتابته الساخرة هذه نقداً اجتماعياً خفياً جادّاً، كما هو الحال في النصَّين اللذين سقناهما في هذا المقال. وكان أدباء عرب روّاد قد لجأوا إلى هذا النوع من الكتابة ليمرِّروا رسائل إلى القارئ، تفادياً للرقابة الصارمة التي تضعها بلداننا العربية على حرِّيَّة التعبير.

وصف الشخصيات عماد السرد:
   إنَّ وصف الشخصيّات من أهمّ عناصر العمل السرديّ الناجح، بالإضافة إلى عناصر الحكاية، وتطوّر الأحداث، والحبكة، والأسلوب. ولا يجيد وصف الشخصيّات إلا كبار الكُتّاب المتمرِّسين من ذوي الثقافة العالية، مثل الراحل نجيب محفوظ في وصفه لشخصيات رواياته خاصة ثلاثيته، ومثل الراحل يحيى حقي الذي نقلنا وصفه لعيني ذلك الوجه الذي علق بذاكرته.
    وعبد الرحمن الربيعي، الذي يُعدُّ أديباً عربيّاً كبيراً، أجاد في وصف شخوصه العشرة الذين ضمهم كتابه بصورة ملفتة للنظر. ونأتي على سبيل المثال بالصورة القلميّة التي رسمها بعناية لصديقه أبي راشد في هذا الكتاب:
   " أبو راشد تميّزه قامته القصيرة وكرشه الممتلئ، ضعف منه البصر وهو في المدرسة الثانوية ثم غاب أربع سنوات فقط هي سنوات دراسته في كلية الحقوق وقد بدأ الشيب المبكر يتوزع على شعره الأكرت الذي كان يقصّه بانتظام عند حلاقه المفضَّل...كانت نظّارته تزداد سمكاً حتى لم يعُد بالإمكان إيجاد العدسات التي تلائم بصره الضعيف، وأصبح قريباً من العمى، ويذكر لأصدقائه الذين يشاركونه الكأس في نادي الموظفين أو في بيته أنه خائف من العمى. كانت لديه خوذة خاصة، بيضاء اللون غالية الثمن من تلك التي يضعها الوجهاء على رؤوسهم في نهارات الصيف الجنوبية القاتلة..."(9)
خاتمة:
        على الرغم من أنّنا نؤمن بأنَّ الأدب العربيَّ في جميع أقطار الوطن هو أدب واحد، لأنّه نتاج ثقافة واحدة هي الثقافة العربية ومُدوَّن بلغة واحدة هي اللغة العربيّة،   فإنّنا  ـ مجاراة لأبي سومر (الربيعي) الذي يصرّ على ذِكر العراق في وصفه لكتابه الجديد، بقوله "بورتريهات عراقية" و " رواية عراقية" و " مناخ عراقي "، نتيجةَ توهُّج عواطفه الوطنيّة في هذه الفترة التي يمرّ بها العراق في محنة شديدة ـ نختم هذا العرض القصير بالتذكير بأنَّ فنَّ إبداع الصور القلميّة الساخرة نشأ في جنوب العراق، في منطقة سومر التي أنجبت الربيعي، على يد العبقريّ أبي عثمان بحر بن عمرو الجاحظ (المتوفّى سنة 255هـ/868م) عن ستة وتسعين عاماً بعد أن ألَّف ما ينيف على ثلاث مائة كتاب، أشهرها ثلاثة: "البيان والتبيين"، "الحيوان"، "البخلاء". وفي الكتاب الأخير رسمَ هذا العبقري بريشته الفذّة وأسلوبه السهل الممتنع وثقافته الموسوعيّة، صوراً قلميّة ساخرة، زاخرة بالدعابة والتندُّر والهزل والفكاهة؛ تصف بدقّة متناهية بعض الشخوص المهووسون بالبخل: حركاتهم المتوجّسة، وسكناتهم القلقة، ونظراتهم غير المطمئنة، ونفسيّاتهم المستاءة؛ ونقلَ أحاديثهم الخاصّة، وفضح خفاياهم، وكشف عن أسرارهم، وأزال القناع عن حيلهم وألاعيبهم ومناوراتهم، حتى نكاد نراهم اليوم ماثلين أمامنا، ونسمع ـ بالأذن المجرَّدة ـ همساتهم الخافتة ومناجاتهم الخفية.

    وخلاصة القول إنَّ " وجوه مرّت " صور قلمية ساخرة مضحكة رائعة، تنتمي إلى تقاليد الأدب العربيّ العريقة، أبدعتها ريشة كاتب كان في الأصل رسّاماً، درسَ أصول حرفته في معهد الفنون الجميلة في بغداد. وقد بلغت مهارة هذا الرسام الكاتب حدّاً تجعلنا نغرق في الضحك بفضل أسلوبه الفكه المرح، وفي الوقت نفسه تندى عيوننا حزناً على أولئك الشخوص البسطاء الذين ألقى بهم القدر في غياهب حياة زاخرة بالآلام والخيبات والمحن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
يحيى حقي، ناس في الظل (القاهرة: كتاب الجمهورية ، 1971)
المرجع السابق ، ص 9
المرحع السابق، ص 9ـ10
عبد الرحمن مجيد الربيعي، وجوه مرت (دمشق: دار الفرقد، 2008)
المرجع السابق، ص5
المرجع السابق، ص 5
المرجع السابق، ص 97 ـ98
المرجع السابق، ص 25ـ26
المرجع السابق، ص 19

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة