الرمز الشعري ووظيفته في التجربة الشعرية لجيل الستينات في سورية - د. محمد برغوت

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسلقد ارتبطت مسألة استلهام الشعراء المعاصرين للرمز الشعري وتوظيفه بتيار الحداثة، وهي قضية طرحت العديد من المصاعب للشعراء الحداثيين العرب، وتتمثل في كيفية التوفيق بين صياغات مختلفة حول مفهوم التراث الثقافي للشعراء العرب المعاصرين.
ذلك أن مفهوم الرمز التراثي يتصل بالإنجاز الثقافي العام للحضارة العربية التي تشكلت عبر قرون من مظاهر حضارات متعددة بالغة الثراء والخصوبة والتنوع؛ شملت الحضارات السومرية والفينيقية والفرعونية والعربية، وتتضمن كذلك الديانات الوثنية واليهودية والمسيحية والإسلامية.
وبقدر ما تظل مجموع رموز هذه الحضارات والديانات جزءا مهما من التراث الإنساني على مر العصور وفي مختلف الأمكنة، بقدر ما كان حوار الشاعر العربي معها يكشف في أحد جوانبه تصلبا في الرؤية، وانحيازا في الموقف جر الكثير من الوبال على حركة الشعر العربي المعاصر كانت في غنى عنه. ذلك أن هذه الرموز ـ مهما اعتبرناها انفتاحا روحيا وذهنيا على التجربة الإنسانية ـ لا يجوز أن تكون بديلا لشعرائنا عن تأسيس الحوار التراثي مع الرموز العربية والإسلامية المتجذرة في وجدان الأمة العربية.
والملاحظة التي تسرعي انتباه الدارس للمتن الشعري الستيني في سورية أن الشعراء تبنوا هذا الحوار مع الرموز العربية والإسلامية، إلا أن مواقفهم اختلفت حول طريقة تناولها، فبينما ذهب فريق إلى حد تبني مواقف معادية للتراث العربي والإسلامي، فراحوا يختارون بدقة الجوانب السلبية في توظيفهم لهذه الرموز التي لا يرون فيها سوى مظهرا من مظاهر التخلف الفكري والانحطاط الحضاري والاجتماعي؛ اتجه فريق ثان لاتخاذ موقف مغاير ينم عن مدى تعاطف شعراء هذا الفريق مع مجموعة هائلة من الرموز العربية والإسلامية، كما ينم عن مدى إيمانهم بضرورة بعثها في قصائدهم من جديد، وتوظيف مواقفها الإيجابية في الحياة المعاصرة.
1- تحطيم الرموز العربية والإسلامية، واستدعاء الجوانب السلبية فيها لانتقاد الواقع والتمرد عليه:
لقد تبنى فريق من شعراء الحقبة الستينية في سورية مواقف معادية لمجموعة هائلة من رموز الثقافة العربية والإسلامية، وهو ما جعلهم يركزون في توظيفهم لهذه الرموز على الجوانب السلبية فيها. وقد رأى أنصار هذا الموقف أن انتماءهم لهذا الوطن المستباح، ولهذه الأمة المسبية ـ بفعل الهزائم التي أصابتها في مطلع العصر الحديث ـ هو انتماء يسلبهم الحرية والأمان والكرامة ويحاصرهم بالخوف والحزن واليأس، ولذلك عادوا إلى ماضي هذه الأمة يستقرئون فيها بعض الرموز السلبية ليتبرأوا منها، وكأنهم أرادوا بهذه العودة أن يتطهروا من هذه الصلة التي تربطهم بتاريخ أمتهم المتخلف المهزوم.
وهكذا راحوا يعتبرون أن عصرهم هو عصر الردة، ولذلك اعتبر ممدوح عدوان أن مسيلمة يتراءى له في كل مكان وهو يحشد الأنصار ويصافحهم:
" حين تكالب حولي الحقد، تتالى اللطم على وجهي المزرق،
امتلأت عيناي دما وأنا أرفض أن أركع، ثم ترنحت، مددت يدي
أبحث عن لمسة حب تسندني... من منكم مد يده؟
من منكم لم يتجنب وجهي في ساعات الشدة؟
من منكم لم يتقدم ليصافح كف مسيلمة
في أول أيام الردة؟"(1)
لقد عادت أيام الردة من جديد إذن، وأنصار مسيلمة يتكاثرون، في حين يتقاعس الناس عن تأييد علي ابن أبي طالب:
" يا أيها الرمح الذي لم تحن رأسه
    ولم تكسره ريح الغرب
يا أيها الرمح الذي عليه فارسي اتكأ
حتى يمر الركب
لا تشرب الدماء كلها
نخاف ان مضى وانكفأ
أن نجمه هوى أو انطفأ
نخاف أن نضل عن دروبه
ففي دروبه سينبت الصدأ
والناس سوف يحجمون
خوف اشتداد الحر،
أو خوف اشتداد القر
نخاف أن يبقى علينا مغلقا كالسر".(2)
إن الشاعر هنا يستحضر مجموعة من المواقف التاريخية التي شهدها عصر الخلافة الراشدية، ليندد بالرموز التي عاثت الفساد، وخرجت عن دائرة التعاليم الإسلامية، وفي هذا السياق، يستحضر "معاوية" والصراع بينه وبين علي حول الخلافة:
..." وحينما انتهت حروبهم
وعقدت راياتنا للمنتصر
عاقبني علي من أجل الزبير
عاقبني لأجله معاوية
ثم دفعت بالزكاة للاثنين".(3)
ويضيف قائلا في نفس القصيد:
" من ترى اطفأ الوجه؟
نفي الفقير؟
أم معاوية المستعير كلام علي
ليسرق شيعته الغافلة".(4)
ينتقد ممدوح عدوان في هذه المقاطع الشعرية الوضع السياسي لعصره ـ الذي تميز بالانقسام ـ عبر نسخة للحظة التاريخية التي ظهر فيها هذا الانقسام جليا بين علي ومعاوية. ومن ثم فهو يحرص على استخدام التاريخ الإسلامي ، ـ وبعض رموزه ـ كوسيلة فنية لنقل أفكار معاصرة لمتلقيه. وهو يسبر أغوار هذا التاريخ الإسلامي كوسيلة فنية لنقل أفكار ثورية تنم عن مدى إحساسه بالصدمة العنيفة التي تلقاها جيله في العصر الحديث، ولذلك فهو لا يتوانى في تعرية الأنظمة السياسية المسؤولة عن هذه الصدمة المروعة. فتاريخها إذن هو تاريخ الردة:
" في زمن الردة والتوابين
ينتشر مسيلمة في كل مكان
يختلط الشاهد بالقاضي بالقاتل
والكل يخيطون القمصان
وعلى كل قميص جاؤوا بدم كذب
ليقال قميص عثمان".(5)
ويستدعي عبد الكريم الناعم في ديوانه: "الكتابة على جذوع الشجر القاسي" رمز "عثمان" كي يدين السياسة العربية المسؤولة عن الهزائم المتتالية، وعن تردي أوضاع الوطن الموبوء:
"لم يكن في الشعب غيري
صحت: يا سكان هذا الوطن الموبوء،
...اتركوا لي لقمة الخبز، وامني
وضياء الشمس، والحرف، وآيات كتابي،
سوف لا ألقى "أبا سفيان" إن جاء على
رأس القوافل
اتركوا لي "خيبر" الثار،
    وأحلام المقاتل
    وحكايا الفصول
كانت "البارودة" الدرب، ملاذي
كانت الانفاق مفتاح الدخول" (6)
كما يستوحي زمن الوحي، ليقارن بينه وبين زمن الفواجع المرعب في قصيدة "دثروني" فيقول:
    "زمليني"،
    " دثريني"،
لم يكن بيني وبين الوحي إلا خطوتين
... دثريني،
زمن الرعب، زمان الأوجه السوءات،
عصر الورم..، الدينار، هذا
و"سلامات"
و"أهلا"
زمن الوجه..، النذالة.
... زمليني
دفئيني
 يا خديجة
اقفل البحر خليجه"(7)
والشاعر حريص بعد هذا على العودة إلى تاريخ الصراع على الخلافة بين علي ومعاوية لاستدعائه كشهادة بالغة الدلالة على ما أصاب زعماء هذه الأمة في العصر الحديث:
" حينما قلت لوجه القمر العشبي: اقبل
وارتمى نصف على بطحاء "مكه"
وعلى "عمان" نصف
كان "جبرائيل" يغفو
... دثروني
آمن من كان في دار سواكم
... دثريني
كذبيني مثلهم
واعتنقيني
ليس إلاك وصيفه
وأنا لست نبيا
فأنا ظل خليفة".(8)

2- التعاطف مع الرموز العربية والإسلامية، واستدعاء الجوانب الإيجابية فيها:
ومن أجل تربية الوجدان القومي، وصقل هوية الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية تبنت مجموعة من شعراء الستينيات في سورية مواقف إيجابية من رموز تراثية عربية وإسلامية.
وتكشف هذه المواقف عن إلمام واسع بتاريخ هذه الأمة، وتمثل جيد لتراثها.
وقد اعتبر هؤلاء الشعراء أن إثارة اهتمام الناس بالتراث الساكن في أعماقهم، هو وظيفة من وظائف الفن الذي يسعى إلى توسيع دائرة الوعي والانتماء. واستلهام التراث العربي وإبرازه؛ هو جزء من معركة هؤلاء الشعراء من أجل خلق أمة عربية ناهضة وموحدة.
وهم بإحيائهم أو بعثهم لرموز التراث العربي والإسلامي، إنما يعبرون عن ضمير أمتهم، وعن أنبل ما فيها من قيم، وأعرق ما في ماضيها من مواقف إيجابية.
أ/ الرموز التاريخية والحضارية العربية والإسقاطات الحديثة:
إن الانفعال بالواقع والتعبير عنه هو ما دفع بشعراء الستينيات في سورية إلى استنطاق الشخصيات التاريخية واستلهام مواقفها في تجاربها الغابرة وذلك من أجل تطعيم البوح الشعري الذاتي بنسغ موضوعي وواقعي يمكنه أن يساعد في الإبلاغ الشعري. ومن ثم شاع اصطناع الرموز التاريخية والحضارية، وتوظيف حكايات وأحداث قديمة للتعبير عن التجربة الشعورية لهؤلاء الشعراء وإعلان مواقفهم من أحداث الواقع والحياة على شكل إسقاطات بعضها ذاتي شخصي، والبعض الآخر جماعي واجتماعي.
وفي هذا الإطار، خصص الشاعر علي الجندي ديوانه "طرفة في مدار السرطان" للتعبير التأملي الإسقاطي، إذ يعتبر هذا الديوان قصيدة طويلة توظف سيرة طرفة بن العبد بصيغة المتكلم، ويتقمص الشاعر هذه الشخصية ليطرح مسألة الموت في الواقع العربي المعاصر بشكل تأملي حينا، وآخر ثوري اندفاعي حينا آخر.
يقول علي الجندي في مقدمة هذه القصيدة الطويلة:
"كان طرفة بن العبد البكري شاعري النموذجي منذ أن عرفته وأنا بعد في مطلع شبابي، وظل كذلك حتى اليوم، بالرغم من أنني رأيت نفسي أحيانا في شعراء آخرين خيل إلي أنهم أكثر تجسيدا لي عبر رمال التاريخ. فحينا عروة بن الورد، وحينا قطري بن الفجاءة، و.. ربما المتنبي... وها انذا اكتشف طرفة اليوم. نختلف في كثير من صفاتنا فقد هوى يافعا وما أزال اهرم... إلا أننا نتفق في شيء أساسي، وهو أننا معا عرضة للانهيار في أية لحظة. وأن "السرطان يقرض حياتنا أبدا.."(9)
من هذا المنطلق راح علي الجندي يستلهم طرفة بن العبد في قصيدته الطويلة "طرفة في مدار السرطان"، يقول في قصيدته" كان يا ما كان":
"إنني أعرف أني صرت وحدي،
إنني أفردت أفراد البعير
صرت كالمجذوم في أهلي
فمن دنياي... غوري"
... أيتها الوضاءة الوجه ايابهكنة الليل الحريري
كم تمنيت لو أني في دياجيك التي تغسلني بالفرح
المر اسيح
وافيق الذكريات الشقر في أقصى خلاياي
وفي واديك، تحت القمر الصعلوك اغدو
وأروح
آه يا قلبي الجريح". (10)
هكذا إذن يسقط علي الجندي وضعه الراهن المشبع بالإحباط والغربة والهزيمة على الحالة التي عاشها طرفة بن العبد حينما قال: "وأفردت إفراد البعير المجرب".
وعن مثل توظيف هذه الرموز التاريخية في الثقافة العربية يقول علي الجندي: "منذ البدايات كنت أختلف مع الشعراء الذين يستخدمون رموزا غربية، ليس بدافع قومي ولكن بعدما تأكد لي أنه لا يجوز للشاعر أن يستخدم الرموز التي لا تعيش في خيال هذا الشعب. ...أنا تعاملت مع رموز من تاريخ هذا الشعب، أخذت عنترة وطرفة بن العبد والمتنبي، وتعمدت ذلك بعد هزيمة 1967 من خلال فهمي للواقع وفي ظل حالة العجز التي تؤثر على حياة المثقف وأعماقه دون أن يستطيع أن يغير من هذه الأحداث ومجراها ولو شعرة واحدة تقريبا... لقد خيل إلي أن المثقفين وأنا واحد منهم في حالة تشبه حالة "قعد" الخوارج، فالخارجي عندما يشيخ ولا يستطيع القتال كان يطلق عليه اسم قاعد". (11)
إن لجوء الشاعر إلى استنطاق الشخصيات التاريخية، واستلهام أحوالها في تجاربها الغابرة يساعده على تطعيم البوح الشعري الذاتي بنسغ واقعي، وموضوعي ويبعده من البوح الغنائي العفوي المباشر لينتقل به إلى السرد الفني الممزوج بتأمل جوهري للظواهر والعلاقات. وبذلك استطاع أصحاب هذه التجربة الفنية أن يتجاوزوا الغنائية والرومانسية إلى الاندفاعات الثورية والتأملية. وديوان "طرفة في مدار السرطان" لعلي الجندي نموذج واضح لهذا الحديث التأملي الإسقاطي، حيث يزاوج بين البوح والسرد، وحيث الحضورية وسياقاتها تطغى على الغناء المباشر وفرديته.
هذا الديوان قصيدة طويلة  تعتمد على سيرة طرفة بن العبد، وهي بصيغة المتكلم، وتدور حول الموت، و(المتكلم) فيها يتقمص بين تارة وأخرى شخصية طرفة:
"...عندما أوي إلى آخرتي المنتظرة
امنحوني شكل موتي، رحلتي المنكسرة
ودعوني احتفي بالميتة المنفجرة
واجعلوني انتهي في صورة مبتكرة
شيعوني أنا والنغمة في مركب صمت
شيعوها لغتي المنتصرة
امنحوني قينة ماجدة وحشية الإيحاء
رحبا جسمها (محطوطة المتنين غير مفاضلة)
واجعلوها حول منافي النهائي تغني
وتغاوي الريح والليل برقص همجي
وخطى مستنفرة.
ودعوا جنبي دنا عبقريا
فائر الروح عظيم الثرثرة
دق من كرمة شامية
روضوها بالأيادي الخفرة
عصروها، دفنوها حية
في خوابي وجدهم مستعرة".(12)
وكما فعل علي الجندي مع طرفة بن العبد، فإنه سلك نفس المسلك مع "قطري بن الفجاءة" في ديوانه "الحمى الترابية" حيث يتقمص فيه شخصية الشاعر الخارجي الذي شاخ وأصبح من "قعد" الخوارج لا يشارك في الحرب إلا بكتابة الشعر، وتلك كانت نهايتة.
وقد سمى قصائد هذا الديوان أناشيدا تعبر عن لسان حاله وحال جيله من الشعراء والمثقفين الذي يشبه حال "القعد" من الأحداث التي شهدتها الأمة العربية والمتعلقة بالهزائم المتتالية منذ سنة 1948، والهزات المؤلمة التي عاشها الوطن العربي دون أن يقوى أحد من هذا الجيل على فعل شيء يذكر أمام هذه الأحداث سوى البكاء وكتابة المراثي.
وهذا نموذج من هذه الأناشيد ـ التي تبلغ تسعا وعشرين نشيدا في الديوان؛ وهو النشيد السابع:
"يا سنونوات أيامي في العصر الجبان
يا بروقا تخطف الأبصار في لون الزمان
ها أنا أقبل من أقصى جحوري
حاملا للشعر هذا الصولجان،
دون أن أمحو عن جبهتي السمراء أثار الهوان
جبهتي دفعتها العتمة الرطبة في الأنفاق خطت فوقها
بعض سطور
... لأنني أقبل كي أثار من "جور الزمان"
حاملا تاريخي المر وجغرافيتي الشمطاء من دار لدار
وغدا أحفرها في صفحة الأفق على كل جدار
... انني أقبل موتورا وبي حقد على المريخ والزهرة والشوك
على أرجوحة الشمس على أنوارها الفاجرة الشقراء..."(13)
وقد كان هدف الجندي أن يقرب هذه الرموز التاريخية من خيال الشعب، لأنها تتيح له أن يبدع في إسقاط حالات قديمة على حالات حديثة، وكما تعامل الشاعر مع طرفة وقطري بن الفجاءة، تعامل كذلك مع شخصية أبي ذر الغفاري والمتنبي وموسى بن نصير وغيرهم كثير.
وهذا ما يفضي به الشاعر في معرض جوابه عن سؤال بشير البكر: "ـ يبدو لي أنك وهذه الرموز تتقاطع كثيرا، مأساوية طرفة وموسى بن نصير يتسول في شوارع دمشق، الحس الداخلي الوجودي والهموم الفلسفية لديكم واحدة، وكذلك قوة الاختيار؟
 هذا صحيح، ولولا ذلك لما أخذتها قطعا. أنا لا أختار إلا من يماثلني قليلا أو كثيرا، ولا أختار هذه الأسماء لمجرد أنها أسماء، اختارها بطريقة أو بأخرى لأنها تعيش في داخلي لفترة طويلة، ولأنها في المماثلة الرمزية تساعد على قول ما أريد قوله مثلا موسى بن نصير في مرحلة السبعينيات الأولى كان يعني حالة هذا الكائن الذي أقام المعجزات في الحرب العربية، ثم وجد نفسه في السجن، وقد منعت عنه "الصدقة" وضعف بصره، فخرج يتسول. هذه الحالة شبه حالة كثيرين في بلدان وطننا العربي، يجدون أنفسهم محرومين من كل شيء مع أنهم كانوا يظنون أنهم قاموا بأعمال عظيمة لصالح الوطن".(14)
يقول في قصيدة بعنوان: "موسى بن نصير يتسول في شوارع دمشق":
".. يتطوح من حائط مبكي نحو الآخر في أحياء البلد المتقلقل،
ثم يعود فينكفئ
و... يحدق في سرداب خفاياه، ويحدق في جوف الشاعر،
... يا موسى بن نصير،
ماذا تفعل في قلب دمشق الكاوية...
وحيدا كالشبح الخاوي؟
فالناس ـ كما تعلم ـ بعض يغرق في النوم وبعض ينفر للحرب وبعض
هاجر نحو حقول الصبار ليجني رزق الشوك...
وهذا الحر النافر من كل الجدران وكل الأرض
تجرجره الريح فيما ينطفئ؟
... يرجح للتحديق بظل ميت وبجوف الشاعر..
يجلس عند جدار هرم،
يبسط راحته ويتمتم: "من مال الله".(19)
وهكذا راح شعراء الستينيات يستلهمون رموز الثقافة العربية وملامح التراث الأدبي ليسقطوها على احداث واقعهم. وفي هذا الإطار حظيت شخصية أبي الطيب المتنبي باهتمام عدد وافر من الشعراء، وتناولوها من زوايا متعددة، فمنهم من اعتبرها رمزا للبطولة العربية الضائعة، ومنهم من اعتبرها رمزا للتحدي العربي للروم وحماية الثغور، ومنهم من وظفها كرمز للعنفوان والاعتداد بالذات.
وقد خصص محمد عمران ديوانه: "الدخول في شعب بوان" ليحاور المتنبي، وليجيب عن أسئلة الواقع وينور آفاق يلفها الغموض.
يقول من قصيدة له في هذا الديوان:
        " حرنت خيلي هنا
        الفرسان مروا في طريق الريح
        هذي لغة تمسك بي، وجه من الضوء،
        يناديني، عصافير من الأعشاب. هذي
        شفة تخطفني
        ارتمى بين ذراع الصحو
        بوان على كفي والسماء اعتصرت زرقتها
        كأسا سقتني، الشمس موال على صدري". (16)
إن محمد عمران يتخذ من المتنبي في هذا المقطع الشعري رمزا للبطولة الغائبة في زمن الفواجع والانكسارات، إنه زمن العري، ولذلك لم تعد تلزم الثياب:
"لم تعد تلزم الثياب
كل شيء تعرى
الغيب، والأرض، والبشر
ولغات الحجر
أشهد العري وحدي
آه كيف القمر
جن في ليلة الخرافة
كيف صار الشجر
في رغيف الضيافة؟". (17)
هذا الإحساس بالعري، وبوطـأة الانكسار هو ما يدفع الشاعر في مقطع لاحق لتضمين قول المتنبي بتصرف ليعبر به عن الفروسية الغائبة:
"أجيء إليك، يا بوان، بين الليل والفجر
أجيئ إليك صخرا لا تحركه المدام ولا الأغاريد
وبيني والأحبة ألف بيد دونها بيد
فمد يدك، غص بيديك، يا بوان، في قهري".(18)
هكذا انطلق محمد عمران من "شعب بوان" الذي وقف عنده أبو الطيب المتنبي حائرا ليستوحي لمحات من تجاربه لتطعيم بوحه الشعري وذلك بتوظيف مواقف أبي الطيب في حماسته واسفاره.



ب/ تربية الوجدان القومي، وصقل الانتماء إلى الأمة العربية:
إن استلهام التراث العربي وإبرازه هو جزء من معركة ممدوح عدوان وكفاحه من أجل خلق أمة عربية ناهضة وموحدة.
وهو بإحيائه أو بعثه لرموز التراث العربي إنما يعبر عن ضمير أمته، وعن أنبل ما فيها من قيم، وأعرق ما في ماضيها من تقاليد وأعراف.
وتحتل مجموعة من رموز التراث العربي أهمية بالغة عند ممدوح عدوان، وهذه نماذج منها.
يقول ممدوح عدوان في قصيدة" يوميات الحطيئة"
1- الحكمة: حين يضيع الخبز بين الله والناس
وحينما تنقر في القلب مناقير الصغار
وتشتكي من جوعها القاسي
تخاف أن تلقي بك الأيام والطوى
من كف نخاس لنخاس
2- الكلمة: يا سيدي
لما مدحت الزبرقان
كنت أبيع كلمتي بلقمة الزؤان
لما هجوته
كنت أبيعها بلقمتي زؤان
وحينما زقا الصغار
سقطت في المرآة
باغتني كالبرق وجه الله". (19)
إنه في هذه القصيدة يكشف للقارئ عن الوجه الآخر لهذا الشاعر؛ إنه يبحث عن عناصر مأساة الحطيئة بعمق، فيلتفت إلى الوضع المعيشي الذي كان يحياه هذا الإنسان المعيل، وهو وضع يمكن أن يصادفه كل صاحب كلمة في عصرنا الحاضر منع من لقمة العيش.
ويستوحي الشاعر في المقطع التالي فلسفة الشاعر العربي: أبي العلاء المعري كما تجلت قي قصيدته: "تعب كلها الحياة" حيث يقول في قصيدة: "الحرب تزهر أطفالا" (20)
"خفف الوطء
فهذي الأرض أجساد ضحايا
ولدت عارية عاجلة
        عاشت بعري وعجل
... حيثما سرت اتئد
واخلع النعل
فهذا معبد الموت
وها نحن القرابين الجديدة". (21)
إن استلهام فلسلفة أبي العلاء تتجسد هنا من خلال توحد الشاعر بهموم الفقراء والجياع، ومدى فظاعة الاستغلال الذي مورس عليهم وأسرع بهم نحو الموت. لذلك، فهو يضم صوته إلى صوت أبي العلاء المعري في دعوته إلى احترام هذه الجثث الراقدة تحت التراب، وذلك بخلع النعل والمشي بتؤدة.
وهو بذلك يعلن عن انتمائه الراسخ لجبهة الكادحين.
وفي نفس السياق، يوظف الشاعر رمز "الصعاليك" والخلعاء للدلالة على ما يعانيه الشاعر من مشاعر الإحباط:
"جاء نحوي التائهون عن البلاد
الداعون من البلاد
أتى الصعاليك الحفاة
وجاء في الخلعاء
صرت قبيلة موبوءة
نادمتهم،
وشربت ذكراهم عن الأم التي وئدت".(22)
يستدعي الشاعر في هذا المقطع الشعري رمز "الصعاليك" ليجعله شاهدا على الزمن الفلسطيني وزمان اليتم والرماد، ويجعل من هؤلاء الصعاليك شاهدين على (جريمة ضياع فلسطين)، وما منادمته لـهم إلا دلالة علـى ما يعيشـه من غربة بعدما وئدت الأم/ فلسطين هنا.
ويستوحي الشاعر رمزا آخرا من الرموز المتجذرة في الوجدان العربي، ويتعلق الأمر بالشاعرة العربية "الخنساء" المشهورة بقدرتها الفائقة على رثاء أخيها صخر، إذ يستلهم من رثائها هذا مجموعة من الصور التي يسقطها على رثاء الزمن العربي بعد هزيمة 1967، وتبدو مهارة الشاعر فائقة هنا في خلق حوار فني بين مضمون قصيدة الخنساء، ومضمون قصيدة الشاعر المعونة بـ "روي عن الخنساء" حيث يقول في أحد مقاطعها:
" يذكرني غروب الشمس بالقتلى
بمن من ليلنا انطفأوا
وتجثم فوق أعيننا وحوش الليل
تأبى الشمس أن تأتي مع الريح
فيغرق في الظلام الحر شيطان بتسبيح
ويجهش حولنا فوج التماسيح
يدوم بكاؤهم جيلا
    ولولا كثرة الباكين حولي
    ما تعرت نسوة للفاتحين ضحى
ولا اهترأت سيوف الجند في بيتي
ولا قتلت قبيلتنا ابنها صخرا
ولا عشنا بلا شمس".(23)
إن طبيعة البنية الرثائية هنا تبدو مستلهمة من رثاء الخنساء لأخيها صخر، لكن الشاعر يربطها بواقع أمته السياسي، ويسحبها على كل مظاهرها الاجتماعية والوطنية، موظفا معاني: الظلام والغروب والبكاء للدلالة على ما خلفته الهزيمة في نفس الشاعر.



ج- تربية الوجدان الإسلامي وتعميق الانتماء لرموزه الثائرة على الفكر التقليدي:
ولممدوح عدوان مواقف إيجابية من بعض الشخصيات الإسلامية المعروفة بمواقفها ومبادئها، وهو ما يدفعه إلى توظيفها كرموز يمكنها أن تلعب دورا هاما في بلورة الإحساس بالانتماء إلى الإسلام لدى المتلقي.
إلا أن انتقاء الشاعر لهذه الرموز يكشف للمتأمل مدى حرصه الشديد على اختيار شخصيات إسلامية كانت قد خرجت ـ في الأغلب الأعم ـ عن شعارات: الإمامة والخلافة أو السنة، وتمثل "الاتجاه اليساري"، وهذا ما يتجلى بوضوح في النماذج الشعرية التالية:
"تبح حناجر النداب من ندم بعاشوراء
يهيم النهر كالمجنون والتمساح يسكب فيه أدمعه
ويملأ جوفه المسعور بالحمأ
ولكن القتيل بكربلاء يموت وسط النهر من ظمأ
وآلاف الحناجر كل يوم تتخم الدنيا
تؤذن للصلاح والفلاح... ولا يمر الصوت في الصحراء
ينبه غافلا يقضي... ولا يدري
    بأن الفقر، أن الغدر في الملأ
وأن النار في الدهماء،
ويأبى أن يمر الصوت في الصحراء
يودع جثة كانت أباذر
لأن الصوت قد تمتصه الرمضاء...".(24)
يستلهم الشاعر هنا شخصية: "الحسين" كرمز من رموز التراث الزاخر بدلالات التضحية والفداء، وهذا الاستلهام يستدعي من الشاعر استحضار فترة معينة من التاريخ الإسلامي، ومقابلتها بمرارة الرثاء التي يعاني منها الوجود العربي بعد نكسة حزيران 1967، وكأنه يريد القول بأننا نعيش "كربلاء" جديدة، وأن عاشوراء" لم تنته بمقتل الشهيد، وإنما هي ممتدة إلى عصرنا الحاضر.
والشاعر شغوف باستحضار "الحسين" كرمز للجو الجنائزي المهيمن على الشاعر:
"ها أنا بدم اتدثر:
    إن الدماء تدق النوافذ
    توقف زحف المشاة
بدأ الدم من جرح كف تجاهد للخبز
    تجني مجاعتها كل عام
بدا الجرح من ماء نهر يفيض بوجه الحسين المضرج
وتدفق في الليل،
    والنيل يحمل وجه الشفيع المدجج". (25)
كما يستحضر "كربلاء" في كثير من قصائده كقوله في قصيدة الدوار:
" حين فشلت أن أموت في رمال كربلاء
رجعت في قوافل البريد
بصقت في وجه يزيد
لكي يميتني بسجنه
لكنما جلاده العنيد
أصر أن يخون سيده
وأن أعود للحياة من جديد". (26)
إن الشاعر في هذا المقطع لا يخفي تعاطفه مع شهداء الشيعة، في مقابل تنديده الصريح برمز الخلافة " يزيد بن معاوية".
ويحضر "علي بن أبي طالب" كرمز لمجموعة من القيم الإيجابية في كثير من القصائد عند ممدوح عدوان، في مقابل "عثمان بن عفان" الذي يوظفه عدوان كرمز سلبي.
ويقابل الشاعر ما بين هذين الرمزين في قصيدة له بعنوان: "خارجي قبل الأوان":
"أنا من جند علي
فارس لم يرهب الموت ولم يحفل بمغنم
معه في أحد قاتلت وحدي
وبكفى رددت السيف عن صدر النبي
وشهرت السيف لما عضني الجوع وآلم
باحثا عن جنة الله على الأرض بأبواب علي
ولكي أثار من أجل أبي ذر
    أنا كنت على عثمان سيفا من حصار
ولكي لا يخلط القوم وينسوا
ما ترددت بأن أقطع رأس ابن العوام
رغم علمي أن من يقتله يغشى جهنم
ولكي لا تكثر القمصان أضحى أقرب الناس إلي
ابغض الناس علي
وهو خلفي
حينما امتشق السيف ينادي:
" سيفك الدرب إلى الله تقدم
                أتقدم." (27)
يبدو الشاعر في هذا المقطع الشعري شغوفا بفروسية علي ـ التي يستمد منها اعتزازه بحمل السيف ـ في مقابل معارضته لعثمان واتباعه، وبذلك فهو يمنح أبعادا إيجابية لمواقف علي التاريخية؛ في حين يبدو عثمان رمزا لفساد الأوضاع السياسية.
وفي هذا تلميح إلى الوضع الذي تعيشه فلسطين التي انفض الجميع عنها، وراح كل منا يبحث عن مبرر لتقاعسه وخذلانه، تاركين إياها تناضل وحدها وتواجه مصيرها المشؤوم.
ويكشف ممدوح عدوان عن جوانب أخرى في التاريخ الإسلامي، موظفا بعض الأحداث التي شهدتها مسيرة هذا التاريخ المليء بالصراع بين قوى الخير والشر، وملتفتا بعناية إلى بعض الرموز المجسدة لهذه القوى: فتستوقفه شخصية وحشي" ذلك العبد الذي قتل "حمزة"، فيحلل دوافع وحشي لقتل سيده في قصيدة رائعة وهي "سقطة وحشي" من ديوانه" تلويحه الأيدي المتعبة" من الصفحة 45 إلى ص 55: حيث يقول في إحدى مقاطع هذه القصيدة:
"أعدت إلي؟
    إني انهرت من وهني
ففيم بربك العجلة
أكنت تمر عبر مفاصل الزمن
أكنت تسيل كالوسن
أظنك دون غيرك
سوف تقتل سيد القتلة
...
هربت... لطأت في الأوكار،
    أغلقت الكوى وعفوت في المطر
فجئت إلي في الأحلام كالثكلى
غدا سأراك،
    حيث تبوح أعصابي بما خبأت
    لن أقوى على الكذب
ستشهد كلها:
    اني أغرت عليه أطعنه
    وإني حامل أجله
    وإني قلت: مت يا سيد الشهداء
        إني سيد القتلة."(28)
ينفض الشاعر في هذه القصيدة غبار الأقوال التاريخية التي أحيطت بحياة "وحشي" ويقف بموضوعية على الدوافع التي املت اقتراف جريمته  ـ دون أن يرغب  في ارتكابها ـ، إنه يستجيب استجابة عمياء لرغبة سيده الذي وعده بالحرية. ولكنه بعد ارتكابه لهذه الجريمة وقتله لحمزة أصبح ملاحقا بذنبه، وهو غير قادر على تحمل هذا الشعور بالذنب.
ويتناول في قصيدة أخرى ـ من هذا الديوان ـ وهي: "واتكأ على رمحه " قصة البطل العربي: "ربيعة بن المكدم "الذي حمى قومه وهوميت فوق فرسه، مستندا إلى رمحه القائم في الأرض ومتخذا منه رمزا للفداء والتضحية:
" يا أيها الرمح الذي لم تحن رأسه
    ولم تكسره ريح الغرب
يا أيها الرمح الذي عليه فارسي اتكأ
حتى يمر الركب
لا تشرب الدماء كلها
نخاف إن مضى أو انكفأ
أن نجمة هوى أو انطفأ
نخاف أن نضل عن دروبه
ففي دروبه سينبت الصدا". (29).
والقصيدة قيلت في رثاء "شي غيفارا" حيث يستمد الشاعر قيم البطولة والفروسية والتضحية من البطل العربي "ربيعة بن المكدم" ويسبغها على هذا المناضل الثائر الذي استشهد من أجل المبادئ التي ناضل من أجلها.
ويحضر طارق بن زياد" في ديوانه": "أقبل الزمن المستحيل" كرمز للبطولة والتضحية أيضا، حيث يحيطه بهالة من التقدير تنم عن مدى تعاطف الشاعر مع هذه الشخصية البارزة في تاريخ فتح المسلمين للأندلس، إذ يقول فيه:
"... كان جسر البيت، كان العين للدمع
    وشيطانا لرجم الاتقياء
دمية للطفل كان
    من أضرم النار في السفن؟
    من قال: إنا تائهون في المدن؟
    فلتهجموا إلى المرافئ
    ولتنقلوا المياه للشواطئ
    ونحن قابعون في المخابئ
    ما تنفع البيارق".(30)
والشاعر حريص على مقابلة حضور هذا الفارس المغوار في الماضي، بغيا به المهول في الزمن الحاضر، هذا الغياب الذي ترك جرحا عميقا في نفس الشاعر:
"قد دفنا رؤى طارق بالهموم
كان سيفا كسرناه فوق الصخور
هذه لعنة جلبتها إلينا السموم
لا نرى غير هذه الصقور،
    التي منذ جئنا تدور
لا ماء في البحار
    والنار في السفن
    تمتد للمدن
    وطارق كالحلم طار
    ولم تجئنا في غيابه المزن".(31)
ويتم استلهام التراث الإسلامي عند ممدوح عدوان بعناية وبقدرة تحليلية فائقة، ولهذا نجد أن الشاعر لا يقتصر على استحضار رموز شخصية فقط، وإنما يستقرئ التاريخ الإسلامي وما زخر به من حركات ثورية كان لها فضل تصحيح مسار هذا التاريخ نحو تحقيق العدل والحرية.
وفي هذا الإطار، تسوقف الشاعر ثورة الزنج التي قادها: "علي بن محمد"، فيقول في قصيدة: الهروب من ثورة الزنج":
" جاءنا ابن محمد ثم امتطانا
    وحين التقى بالاعادي استحلنا أسنة
قال لي: تلك بغداد في الأفق
    شمس من الفقر ترجو الأفولا...".(32)
إن الشاعر حريص على نقد وضعه الاجتماعي والسياسي من خلال تصويره لما أصبح يحكم هذا الوضع من تردي وخذلان، ولذلك فإن ممدوح عدوان يعمد إلى قلب كل القيم الايجابية التي تحققت في الماضي، بقيم سلبية تحكم وضعه الراهن، فيقول في مقطع موالي من هذه القصيدة:
"حينما اصطك جوعي بسيفي
اكفهرت وجوه الاعادي
    غشاني البريق
عندها اندلع البرق حتى رأيت جذور المرارة
ورأيت بوجه علي تقاطيع حجاجهم
وأنا من رأى عينه الخابية
ورأيت عليا ينادم جند الموفق خلف ستاره
وأمامي رأيت المدائن تهوي
    ولكن ببغداد بانت لنا كعبة
    فوق جرح ابنها حانية
كان فيها جياع تهاووا بقصفي،
    ومثلي ذاقوا الهوان".(33)
هكذا يصبح علي بن محمد ـ قائد ثورة الزنج ـ حجاجا، كما يصبح نديما للخليفة العباسي "الموفق" بعد أن تخلى عن مبادئه الثورية لقد انقلب إذن من النقيض إلى النقيض، وهنا يركز الشاعر على الردة التي أصبحت تسم حياته المعاصرة وتجرفه إلى الهاوية:
"لم أزل أبصر الروم والفرس والترك في القصر،
    والزنج في فقرهم يغرقون
والموفق لعبة حكم تمدد مسترخيا
خففت عنه عبء الجياع بضحكتها جارية
والسيوف استحالت قسيا بلا اسم
يضربون بها... تلتوي.. ثم ترتد بين العيون".(34)
وفي هذا دلالة واضحة على إصرار ممدوح عدوان على تنديده بالحكام العرب الذين يعقد لهم صلة بالدخلاء (الروم ـ الفرس ـ الترك) في السطر الشعري الأول في الوقت الذي استعار فيه رمز "الزنج" الغارقين في فقرهم ليدل به على الفقراء والجياع والطبقة الكادحة بصفة عامة.
ولذلك يعلن الشاعر الثورة ـ من جديد كما أعلنها الزنج بقيادة علي بن محمد في عصر الموفق ـ على هؤلاء الذين يدعون: "التقية لستر جرائمهم التي لا تنتهي:
" كيف اخبئ سيفي وجوعي معي؟
والطريق استحالت صحارى
ورمل الصحراء يشير ويتقن عني الوشاية
يترهب جوعي، ولكن مسوح التقية لا تستر الشهوة العارمة".(35)
يتضح من هذه النماذج الشعرية التي استلهم فيها عدوان بعض الشخصيات الإسلامية، مدى توظيفه لها كرموز ثائرة على الفكر التقليدي، وعلى الفساد السياسي والاجتماعي، وكحاملة لهموم التغيير، وهو بإحيائه لها وبعثها من جديد، إنما يريد أن يعمق هوية الانتماء لهذا التراث لدى المتلقي من جهة، ويبرز قدرتها على المساهمة في النهوض بهذا الواقع العربي المتردي في مرحلة حرجة شهد فيها هزائم وانكسارات وأزمات لم تعرفها الذاكرة العربية على مدى تاريخها الطويل.

نستنتج مما سبق أن تعامل الشاعر السوري الستيني مع الرمز الشعري كان محكوما بعاملين اثنين:
الأول : تأكيد الانتماء إلى الرموز الضاربة في أعماق التاريخ العربي والإسلامي بغية إحيائها، وإسقاطها على واقع الحياة المعاصرة وتوظيف مواقفها من جديد.
الثاني: تأصيل الرمز الشعري واستلهام عناصره من التراث العربي والإسلامي بدل الالتجاء إلى الأساطير اليونانية والإغريقية والمسيحية.
وقد اتخذ الشاعر الستيني في سورية هذا الموقف من منطلق انتمائه الفني والفكري، ولذلك فإن عودته إلى الرموز العربية والإسلامية وتوظيفها ـ سواء بالسلب أو بالإيجاب ـ كان الباعث الرئيسي وراء توجهاته الشعرية، إذ استطاع أن يبتعد عن العالم الغريب لأساطير الإغريق والرومان، وأن يقترب من العالم المتأصل في وجدانه وذلك عبر تركيزه على تربية الوجدان القومي وصقل هوية الانتماء إلى الأمة العربية من جهة، وتربية الوجدان الإسلامي، وتعميق الانتساب لرموزه المشعة من جهة أخرى.
وعلى هذا النحو، فقد استطاع الشاعر أن يساهم في تجديد البنية التراثية للرمز الشعري، وقد ارتبط هذا التجديد عنده بعنصرين اثنين:
التمرد على الرموز المعاصرة، أو السابقة لجيله في مدرسة الشعر الحديث.
ب- مواكبة متغيرات الواقع الفكري والاجتماعي والسياسي الجديد الذي وجد نفسه محكوما به.

الهوامش:
ممدوح عدوان: "أقبل الزمن المستحيل" ط 2، دار العودة بيروت 1982
                 من قصيدة: "وتمر المدينة برقا" ص 38.
ممدوح عدوان: "تلويحه الأيدي المتعبة" ط.2 دار العودة، بيروت 1982.
                         من قصيدة بنفس العنوان، ص 35-36.
ممدوح عدوان نفسه: "ثلاث قصائد صعبة" ص 29-30
ممدوح عدوان نفسه: "ص 38-39
ممدوح عدوان نفسه: ص 25.
عبد الكريم الناعم: "الكتابة على جذوع الشجر القاسي "منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 1974 من قصيدة بنفس العنوان ص 24.
عبد الكريم الناعم: نفسه ص 25-26-27.
عبد الكريم الناعم: نفسه ص 29-30-31
علي الجندي: "طرفة في مدار السرطان "مطابع ألف باء الأديب دمشق 1975، ص5.
علي الجندي: نفسه من قصيدة: "كان يا ما كان" ص 15.
من استجواب مع الشاعر: اليوم السابع 4 نونبر 1985، ص 34.
علي الجندي: "طرفة في مدار السرطان" ص 33
علي الجندي: "الحمى الترابية" منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع بيروت بدون تاريخ من قصيدة: "النشيد السابع" ص 24.
من استجواب مع الشاعر: مرجع مذكور ص 34.
علي الجندي: "النزف تحت الجلد" "منشورات اتحاد الكتاب العرب دار الأنوار للطباعة دمشق 1987، ص 99-100.
محمد عمران: "الدخول في شعب بوان" منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1972. من قصيدة: "الدخول الأول: بوان" ص 11.
محمد عمران: نفسـه: من قـصيدة" الدخول الثاني: المجـيء من الماء" ص 24.
محمد عمران: نفسه ص 49.
ممدوح عدوان: "تلويحة الأيدي المتعبة" مصدر مذكور ص 56-57.
ممدوح عدوان: "يألفونك فانفر" ط 2، دار العودة بيروت 1982.
      من قصيدة: "الحرب تزهر أطفالا" ص 86.
ممدوح عدوان: "أمي تطارد قاتلها" ط 2، دار العودة بيروت من قصيدة: "هكذا تكلم التل" ص 63.
ممدوح عدون: الظـل الأخضر" ط 2 دار العودة، بيـروت 1982، ص 22-23.
ممدوح عدوان: نفسه، من قصيدة: "روي عن الخنساء" ص 19.
ممدوح عدوان: نفسه
ممدوح عدوان: الدماء تدق النوافذ من قصيدة بنفس العنوان: ص 7.
ممدوح عدوان:" تلويحة الأيدي المتعبة" ص 161
ممدوح عدوان: نفسه ص 67-68.
ممدوح عدوان: نفسه ص 45-46.
ممدوح عدوان: نفسه ص 35
ممدوح عدوان: أقبل الزمن المستحيل "ط 2 دار العودة بيروت 1982 من قصيدة: "أمة خلعت موتها" ص 64-65.
ممدوح عدوان: نفسه ص 57-58.
ممدوح عدوان: الدماء تدق النوافذ" ط 2 دار العودة بيروت 1982 من قصيدة الهروب من ثورة الزنج" ص 17-18.
ممدوح عدوان: نفسه 19-20.
ممدوح عدوان: نفسه ص 26.
 ممدوح عدوان: "أقبل الزمن المستحيل" ص 23.


نهج السيرة

الاسم واللقب            : محمد برغوت
تاريخ ومكان الازدياد    : 1954 بتاونات (المغرب)
المهنة                : أستاذ باحث في الأدب الحديث

الشهادات المحصل عليها:
الإجازة في الآداب سنة 1979 بفاس من جامعة محمد بن عبد الله.
دبلوم كلية علوم التربية سنة 1980 بالرباط من جامعة محمد الخامس.
دبلوم الدراسات العليا سنة 1993 بفاس من جامعة محمد بن عبد الله.
دكتوراه الدولة تخصص "أدب حديث" سنة 2005 بفاس من جامعة محمد بن عبد الله
الأبحاث المنجزة:
شعر "البورجوازية الوطنية" المغربية.
التعليم الثانوي بالمغرب.
دراسة نقدية لأعمال ممدوح عدوان الشعرية.
حركة الحداثة في الشعر السوري المعاصر.
    * دراسة تطبيقية لجيل الستينيات
بالإضافة إلى مقالات نقدية أذكر منها:
- محمد الماغوط    : الشاعر الجارح ومتسكع الأرصفة الحزين:
               * شعرية السلوك الوجودي لرجل الشاعر والمقهى.
- علي الجندي    : الشاعر الساخط على انهيار الزمن العربي يكتب وصيته
                        الأخيرة.
- فايز خضور    : الشاعر العابث بثنائية الموت والحياة.
- علي كنعان        : الكتابة فعل تطيهري لتضميد جراح الوطن النازفة
- ممدوح عدوان    : الشعر حلم البشرية بإمكانياتها الفعلية
- بنسالم الدمناتي    : شاعر مكناسة المنسي يعلن اغترابه في خضم الزمن
                      الجاحد.
- محمد عمران    : الشاعر المفتون بقيم الحب ونضارة الطبيعة في لهيب
                       الزمن الحارق.
- محمد الطوبي    : شعرية الغواية والانقياد لسلطة العشق.
- محمد السرغيني    : الشعر سفر في الأنا العاشقة وتوحد بملكوت الخالق.
- محمد الماغوط    : توقف الطائر الريفي الشريد عن التحليق.
- عبد الكريم الناعم    : الشاعر المسافر مع اللغة والحالم بالوصل في ليالي الربيع
                      المقمرة.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة