التجريب الحداثي في القصيدة العربية - د- امحمد برغوت

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسيشهد التجريب المستمر في الفن و الأدب العربيين على النمو والإدراك الواعي للتغيير عند الفنانين و الأدباء لا من أجل الانفصال عن الحقب السابقة فحسب، بل لتأكيد قدرة الذات على الإبداع والتفوق في ظل إيقاعات الزمن المتلاحقة، والتطور المذهل في النمو المعرفي، والمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والاستجابة الايجابية لمظاهر التغير عند مختلف الشرائح الاجتماعية، و لذا انعكست آثار هذا التجريب في أعمال الكتاب  والفنانين من خلال الحركات الفنية و البيانات الأدبية يصدرها الكتاب و الشعراء بين وقت  وآخر توضح أبعاد و آفاق أعمالهم الفنية.
و قد جاء هذا التجريب في مرحلة انتقال عاشتها الثقافة العربية، و هي مرحلة بالغة التعقيد في ظل صراعات وطنية لا زالت مستمرة من جهة، و في ظل علاقة هذا الانتقال بالنموذج الذي قدمه الأدب و الفن الغربيين من جهة أخرى.
و من هنا، كانت المرحلة الشعرية في طرحها الأساسي- كما يذهب إلى ذلك " إلياس خوري: " جوابا أو محاولة جواب على تقنين الشعر وقوليته،  لكنها، منذ البداية، لم تكن موحدة على المستوى الإيديولوجي. ففي منبريها الرئيسيين: "الآداب" و "شعر" ثم في منابرها المتعددة - بعد ذلك- كان واضحا مدى الاستقطاب الإيديولوجي و السياسي الذي تتعرض له. فالمنبر/المجلة، هو جواب داخل ظرف محدد. إنه موقف، وهو مسيس بالضرورة. لذلك كانت المعركة الرئيسية بين "الآداب" و "شعر" تعبيرا عن خيارات سياسية محددة و انتماءات ثقافية بدت مختلفة ".(1)
هكذا دخل الشعر العربي افق تجربته عبر معاناة طويلة و معقدة، و قد مر هذا الانتقال الشعري بمراحل تبدو في الواقع و كأنها محاولة سريعة أو متسرعة لاستعادة تاريخ الشعر الغربي وحرق مراحله انطلاقا من حركة الإحياء ثم الحركة المجهرية التي أنتجت اللغة الجبرانية وصولا إلى "الديوان"  و "رومانتكية أبوللو" و "رمزية  أديب مظهر" وغيره.
" إن القصيدة الحديثة، الشاملة، الغامضة، المليئة بأسرار الكشف و الاكتشاف، و التي يتدرج مرجعها الاصطلاحي من ت.س "اليوت" إلى السرياليين والواقعيين والرمزيين... لم تنبت فجأة، إنها محصلة تحولات طويلة، إنها محصلة معاناة ما يسمى بعصر النهضة "(2).
على أرض الشعر يقول إلياس خوري: "خيضت أكثر الأشكال تجريبية، و تمت أجرأ محاولات تغيير الثقافة العربية. الشعر ديوان العرب، وداخل هذا الديوان تم الانفجار،  وأخضعت اللغة العربية، والقيم الشعرية لمراجعة صارمة و بالغة الجرأة. لكن هذه المراجعة كانت تنطلق دائما من قناعاتها بمسؤوليتها الثقافية . فرغم كل التطرف التجديدي، احتفظ هذا الشعر بنبرة تراثية، و كأنه يريد عبر ثورته إثبات هويته. فليس صدفة ان تأخذ اللغة الصوفية و الرموز الصوفية هذا الحجم من الشعر المعاصر، فهي إلى جانب ظواهر: الأسطورة، الرمز التاريخي، الرمز الواقعي تحمل في جانب منها محاولة تأكيد الذات لحظة الخروج من ماضيها ، محاولة إثبات الجدارة عبر انتماء إلى وجود حضاري متميز في لحظة كسر عمود الشعر كسرا لا عودة إليه " (3).
نستخلص مما سبق أن مواقف الشعراء من " الحداثة الشعرية " - و خصوصا الرواد منهم - تختلف باختلاف المواقف من التراث الذي اعتبر حجر الزاوية في تشكيل المفهوم النهائي الذي تتمحور فيه هذه الحداثة، حيث تراوح الموقف بين البحث عن هوية للحداثة العربية من أعماق التراث وبين موقف يوازن بين ما ينطوي عليه التراث من إمكانات العطاء، وبين الاستفادة من معطيات الحضارة الغربية لتأسيس مفهوم جديد للشعر يمثل سمات المرحلة العربية الراهنة، و بين موقف آخر يرى أن أغلال التراث تمثل حواجزاوأسوارا تحول دون الانطلاق إلى الحداثة الشاملة، و من ثم فلا سبيل إلى الحداثة إلا بقلب المفاهيم الثقافية والاجتماعية والدينية، والتمرد عليها، باعتبارها مفاهيم قديمة تجاوزها الزمن و لم تعد قادرة على أن تجيب عن تساؤلات الإنسان الحديث.
هكذا، كانت أولى المشكلات التي أثارتها حركة الحداثة في الشعر العربي إذن، هي موقفها من التراث القومي، وانفتاحها على التراث العالمي والغربي منه على وجه الخصوص، وتفاعلها مع روافد الثقافة والفكر والشعر والفن، غربية كانت أم شرقية، معاصرة أم قديمة، دينية أم لا دينية.
و قد اتهم الحداثيون من شعرائنا وأدبائنا بتنكرهم -أو رفضهم - لتراثهم القومي، وهو ما حدا بهم إلى التعبير عن مواقفهم تجاه هذه المسألة.
 وعلى العموم؛ فإن شعراء الحداثة يجمعون على أن موقفهم؛ ليس موقف رفض له. كما توهم البعض – بل " ان التراث من حيث هو جوهر، لم يظفر بتقدير و حسن تفهم و استيعاب من الشعراء، قدر ما ظفر به من شعراء التجربة الجديدة، إلا إن علاقتهم بهذا التراث استحالت إلى مكون يتفاوت قوة و وضوحا من مكونات ثقافتهم الشعرية و الفكرية ، نتيجة انفتاحهم على التراث العالمي. هذا الانفتاح الذي لم يشهد تاريخ الشعر العربي مثيلا له من قبل " (4). إلا أن هذا لم يشفع لبعض الشعراء و النقاد من اتهام شعراء الحداثة بمعاداتهم لتراثهم القومي، وفيما يلي بعض آراء هؤلاء:
يلاحظ الناقد "حسين مروة" - وهو من المتحمسين للشعر الحديث - في شعر إبراز ممثلي الشعر الحديث (صلاح عبد الصبور وأدونيس وخليل حاوي والبياتي) اتجاها نحو "الانفصام وربما الانفصام التام عن ينابيع التراث الأصيلة في حياتنا العربية، وعن الشرايين التي تمنحه الحياة و الحركة في أرضنا "(5).
و يرى جبرا إبراهيم أنه لا مفر من الإقرار بأن " حركة الشعر الجديد متصلة بحركة الفن الحديث في أوروبا - أو قل في العالم كله - أكثر من أي شيء آخر بغير مواربة ".  و" انه من العبث أن نستشهد بالقدامى، و نستند في أحكامنا إلى سوابق لن نجدها في كتب الأدب التي وضعت قبل بضعة قرون على الأقل " (6).
و يذهب "غالي شكري" إلى أن الشعر الحديث لم يستلهم حداثته من التراث القومي، بل من أصول غربية بالدرجة الأولى(7).
و هناك آراء مماثلة كثيرة تؤكد تضاؤل دور التراث القومي في الشعر الحديث بسبب الانفتاح على التراث العالمي. و حسبنا أن نستعرض مثلا كتاب البياتي عن تجربته الشعرية، أو دراسة أدونيس "محاولة في تعريف الشعر الحديث" و كتاب "حياتي في الشعر" لعبد الصبور، لنلمس هذا الميل إلى تمثل التراث الغربي وتوظيفه شعريا - ليس على حساب التنكر للتراث العربي طبعا - و لكن من أجل خلق نوع من التوازن بين المكونات القومية و العالمية للتراث.
و تبدو جدلية التراث وعلاقته بقيم الحاضر محورا رئيسيا في كتابات ادونيس، وعلى ضوء هذه الجدلية يتلمس جذور "الحداثة الشعرية "، وهذا ما يجره إلى إصدار أحكام تدعو إلى هدم المؤسسات الثقافية و الدينية و الاجتماعية، بل و الثورة عليها باعتبارها معوقات تمنع ميلاد الإنسان العربي الجديد (8) .
و "الحداثة الشعرية " عند ادونيس ؛ تساؤل حاد يفجر اللغة الشعرية، و يفتح دروبا و آفاق تجريبية جديدة في فضاء الممارسة الإبداعية، واستكشاف طرق تعبيرية تتلاءم مع حجم هذا التساؤل، هذا لا يتحقق عنده إلا إذا وقع ضمن إطار النظرة الشخصية الفريدة للإنسان و الكون (9) .
و يتشابك هذا المفهوم مع أربعة عناصر أساسية في تحديد المفهوم الكلي "للحداثة الشعرية" وهي: الشعر، والشكل الشعري، واللغة والشاعر. والشعر رؤيا، والرؤيا بطبيعتها قفزة خارج المفهومات السائدة، هي إذن تغيير في نظام الأشياء، و في نظام النظر إليها. هكذا يبدو الشعر الجديد - أول ما يبدو- تمردا على الأشكال و الطرق الشعرية القديمة. فهو تجاوز و تخط يسايران تخطي عصرنا الحاضر و تجاوزه للعصور الماضية. إن الشعر الجديد نوع من المعرفة التي لها قوانينها الخاصة في معزل عن قوانين العلم، إنه إحساس شامل بحضورنا، و هو دعوة لوضع معنى الظواهر من جديد موضع البحث و التساؤل، و هو لذلك يصدر عن حساسية ميتافيزيقية، تحس الأشياء إحساسا كشفيا. الشعر الجديد من هذه الوجهة هو ميتافيزياء الكيان الإنساني " (10).
وعلى العموم، فان فكر ادونيس حول "الحداثة الشعرية" في العالم العربي قد أوجزه في كتابه : " خاتمة لنهايات القرن " في فصل بعنوان " بيان الحداثة " .
و يبدأ فصله هذا بتبديد ما يسميه أوهام الحداثة و هي: "أوهام تتداولها الأوساط الشعرية العربية وتكاد على المستوى الصحفي – الإعلامي أن تخرج بالحداثة عن مدارها عدا أنها تفسد الرؤية و تشوه التقييم" (11).
وقد أوجز هذه الأوهام في خمسة :

الوهم الأول  : هو الزمنية، فهناك من يميل إلى ربط الحداثة بالعصر بالراهن من الوقت،  إلا أنه من الحداثة ما يكون ضد الزمن كلحظة راهنة ، و معنى ذلك أن ثمة شعرا كتب في زمن ماض لا يزال مع ذلك حديثا، فالشعر لا يكتسب حداثة بالضرورة من مجرد زمنيته كخصيصة تكمن في بنية ذاتها.
الوهم الثاني : هو المغايرة، و يذهب أصحاب هذا القول إلى أن التغاير مع القديم موضوعات و أشكالا هو الحداثة أو الدليل عليها، و هذه نظرة آلية تقوم على فكرة إنتاج النقيض. و هي شأن النظرة السابقة، تحيل الإبداع إلى لعبة في التضاد. و هكذا يصبح الشعر تموجا ينفي بعضه ببعض، مما يبطل معنى الشعر و معنى الإبداع على السواء.
الوهم الثالث : هو ما يسميه ادونيس بوهم المماثلة، ففي رأي بعضهم أن الغرب مصدر الحداثة اليوم بمستوياتها المادية و الفكرية و الفنية. و تبعا لهذا الرأي ، لا تكون الحداثة خارج الغرب إلا في التماثل معه. و الحق أن شعر المماثلة مع الخارج المحتذى ليس إلا الوجه الأكثر إغراقا في ضياع الذات لشعر المماثلة مع الموروث التقليدي المحتذى... الممارسة هنا وهناك استيلاب، لذلك تقتضي الحداثة قطعا مع التأسلف و مع التمغرب في آن من أجل كتابة الذات الواقعية الحية.
الوهم الرابع : شأن الوهم الخامس فنيان يرتبطان عضويا بوهمي : المماثلة و المغايرة، و يسمى ادونيس الوهم الأول و هم التشكيل النثري ، و يسمى الثاني و هم الاستحداث المضموني و هذان رائجان اليوم. و هم النثر استغراق في المغايرة المماثلة، و وهم المضمون استغراق في الزمنية. من الناحية الأولى، يرى بعض الذين يمارسون كتابة الشعر نثرا أن الكتابة بالنثر هي تماثل كامل مع الكتابة الشعرية الغربية، و تغاير كامل مع الكتابة الشعرية العربية إنما هي ذروة الحداثة. و يذهبون في رأيهم الى القول بنفي الوزن، ناظرين إليه كرمز لقديم يناقض الحديث.
الوهم الخامس: أخيرا يزعم بعضهم - انسياقا وراء وهم استحدث المضمون أن كل نص شعري يتناول انجازات العصر و قضاياه ؛ هو بالضرورة نص حديث. وهذا زعم متهافت. وخلاصة القول أن حداثة النص الشعري ليست في مجرد زمنيته أو مجرد تشكيليته و كما انها - كذلك- ليست في مجرد مضمونيته (12) .
وبعد أن يبدد ادونيس "أوهام الحداثة" هذه، يتساءل عن حقيقة الحداثة فيقول "ان الحداثة في المجتمع العربي إشكالية معقدة، لا من حيث علاقاته بالغرب وحسب، بل من حيث تاريخه الخاص أيضا. بل يبدو لي أن الحداثة هي اشكاليته الرئيسية " (13).
ثم يقسم ادونيس الحداثة إلى ثلاثة أنواع : الحداثة العلمية، و حداثة التغيرات الثورية -الاقتصادية- الاجتماعية - السياسية، و أخيرا الحداثة الفنية. و تشترك مستويات الحداثة هنا مبدئيا بأنواعها الثلاثة في خصيصة أساسية، هي أن الحداثة رؤيا جديدة، و هي جوهريا رؤيا تساؤل و احتجاج. تساؤل حول الممكن و احتجاج على السائد (14).
و يقف ادونيس على مفارقة غريبة حين يلاحظ أنه ليس في المجتمع العربي حداثة علمية و ليس فيه حداثة التغيرات الثورية و الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و السياسية، و لكن مع ذلك، هناك حداثة شعرية.
و تبدو هذه المفارقة كبيرة حين نلاحظ أن الحداثة الشعرية في المجتمع العربي تكاد أن تضارع، في بعض و جوهها الحداثة الشعرية في المجتمع الغربي. ومن الطريف أن نلاحظ في هذا الصدد ؛ أن حداثة العلم في الغرب متقدمة على حداثة الشعر ، بينما نرى على العكس ، أن حداثة الشعر في المجتمع العربي متقدمة على الحداثة العلمية - الثورية. هكذا تبدو الحداثة الشعرية العربية لكثير من العرب كأنها جسم غريب مستعار.
و في هذا ما قد يفسر أسباب عدائهم لها، ورفضهم إياها، و رمي ممثليها بمختلف التهم التي تبدأ بالغموض، و تنتهي بتهمة تقليد الغرب ، مرورا بتهمة هدم التراث أو التنكر له(15) . و يرد ادونيس على التهم الموجهة للحداثة و التي يراها محصورة في تلا ث قضايا :
القضية الأولى: تتصل بإشكالية نشوء الحداثة في المجتمع العربي.
القضية الثانية : تتصل بإشكالية التعارض بين الشرق و الغرب.
القضية الثالثة : تتصل بمعنى الحداثة العربية الشعرية و بخصوصيتها.
فبالنسبة للقضية الأولى، يلاحظ أن المحدث الشعري العربي نشأ كخروج على مكافحة النموذج القديم، أي نموذج النظم كما تمثله القصيدة الجاهلية و الذي سمي في المصطلح النقدي "عمود الشعر".
والحداثة في المستوى ليست ابتكارا غريبا .لقد عرفنا الشعر العربي منذ القرن الثامن، أي قبل بودلير و راميو و مالارميه بحوالي عشرة قرون، وهي لذلك ليست مستوردة.
أما فيما يتعلق بالقضية الثانية، فيلاحظ أن العرب بالقطع العثماني قد انفصلوا عن أفق الإبداع الحضاري.... و بالقطع الغربي انفصلوا عن هويتهم الحضارية."و إذا كان خطر القطع الأول يتمثل في تعميم الظلامية و ترسيخها، فإن خطر القطع الثاني يتمثل في تعميم نور زائف وفي هذا بدأ الإنسان العربي كأنه غير تاريخي ضائع بين استحداثية تستلب ذاتيته، و استسلامية تستلب إبداعيته و حضوره في الواقع الحي" (16).
من كل ما تقدم ، يحاول ادونيس أن يقدم تصورا واضحا للحداثة الشعرية و يبرر خصوصيتها كرؤيا جديدة و نظام جديد من المقاربة و المعرفة، و في هذا الصدد يقول عن الحداثة الشعرية العربية :
" إنها على الصعيد النظري العام طرح الأسئلة من ضمن إشكالية الرؤيا العربية - الإسلامية حول كل شيء، لكن من أجل استخراج الأجوبة من حركة الواقع نفسه لا من الأجوبة الماضية. و هي على الصعيد الشعري الخاص، الكتابة التي تضع العالم موضع تساؤل مستمر، و تضع الكتابة نفسها موضع تساؤل مستمر.
هكذا تنبثق الحداثة العربية من قديم عربي هي في الوقت نفسه في تعارض معه. فان تكون شاعرا حديثا، هو أن تتلألأ كأنك لهب خارج من نار القديم... ان حداثة الشعر العربي لا يصح أن تبحث إلا استنادا إلى اللغة العربية ذاتها، إلى شعريتها و خصائصها الإيقاعية - التشكيلية، و إلى العالم الشعري  الذي نتج عنها و عبقريتها الخاصة في هذا كله "(17).
والخلاصة التي ينتهي إليها ادونيس، أن الحداثة انتقال نحو سمة ما، رؤية ما، حساسية ما ، تشكيل ما ، ليست غاية في حد ذاتها، إنها إبداع من أجل مزيد من الإضاءة، من الكشف عن الإنسان و العالم. الإبداع لا عمر له، لا يشيخ، لذلك لا تقاس حداثة الشعر بإبداعيته، إذ ليست كل حداثة إبداعا، أما الإبداع فهو أبديا حديث.
إن آراء أدونيس حول الحداثة الشعرية تنم عن ثقافة واسعة أتاحت له التأثر بالنظريات الأدبية الغربية ، حيث انسرب إلى فكره شيء غير قليل من هذه الأفكار، و منها على وجه الخصوص الحركة السوريالة، كما تأثر - حسب قوله- " بفكرة البحث و التجريب في الشعر العالمي الحديث الأمريكي والفرنسي على الأخص" (18). كما تأثر أيضا بأفكار الحركات الباطنية والمتصوفة باعتبارها طلائع التمرد والتغيير في مسار التاريخ الثقافي العربي.و لذا حفلت آراؤه حول الحداثة الشعرية بشمولية التناول وعمق التحليل - رغم اثارتها لكثير من الجدل.
و بالإضافة إلى ادونيس، يمكن اعتبار يوسف الخال أحد الرموز المؤسسة لتيار الحداثة الشعرية  العربية ، سواء بما أسهم به من آراء و مواقف و تنظيرات، أو بما أبدعه من شعر.
و يرى الخال أن "الحداثة الشعرية" ابداع و خروج عن المألوف...، و تفترض الحداثة انبثاق شخصية شعرية ذات تجربة حديثة تتشكل ذاتها في الشكل و المضمون ، فهي ليست زيا يمكن ارتداؤه، أو شكلا يمكن اقتباسه ، إنها في الدرجة الأولى موقف من الحياة في رؤيا حديثة... و هذا لا يتاح للشاعر إلا بالألم الكياني الرائع، كألم الولادة ، فإذا أنت أمام خليقة فنية متكاملة لا تطيق منك العبث بحرف منها ، و لا أنت تجرؤ على أخذها بعنف فهي كالحقيقة الساطعة المتجلية بثوب يتلألأ ببياض الجدة الذي لا عهد له بمثله، تظللها غمامة التراث، فتخرج منها دعوة صارخة إلى عالم جديد" (19).
و يؤكد يوسف الخال أن هذه الحركة الشعرية تطمح إلى إدخال مفهوم شعري حديث في مستوى العصر الذي  نحن فيه  إلى الأدب العربي. وما "الحرية" التي اتخذها الشاعر الحديث لنفسه اسوة بشعراء العالم الحديثين منذ بودلير و رامبو .... إلا ضرورة اقتضاها هذا المفهوم. فهي إذن مظهر خارجي لحقيقة داخلية...هذا المفهوم الشعري الجديد؛ ينبع من صميم حياتنا و بيئتنا الاجتماعية، و تطور حياتنا... و هو يتلخص في أن الشعر تجربة شخصية ينقلها الشاعر إلى الآخرين بشكل فني يناسبها " (20).
و بعد أن يؤكد الخال أن غاية الشعر هو التعبير الجميل عن الذات في موقف الكشف و الرؤيا، و اختراق ظواهر الأشياء المبهمة لاكتشاف أسرار الوجود، يرى أنه على ضوء هذا المفهوم ظهرت "حركة شعرية ثورية في الشعر العربي، لحقت بالشعر المعاصر في آداب الشعوب الأخرى، و أعطت نتاجا أصبح للمرة الأولى عالمي الصفة، بل عالمي المستوى أيضا .فسماها بعضهم حركة الشعر الحر، وبعضهم حركة الشعر الحديث، وآثر بعضهم الآخر تسميتها بحركة الشعر الجديد" (21).
إن ما يشير إليه الخال هنا من بلوغ صفتي العالمية و المستوى في الشعر المعاصر، هو رد غير مباشر على أولئك الذين يعتقدون أن حركة "الحداثة الشعرية" ليست إلا صدى أو محاكاة لمثيلاتها في الغرب.
و هي تهمة جاهد اتباع مجلة شعر في دحضها و إظهار تفاهتها ، وعلى رأسهم ادونيس الذي اعتبرها "ظاهرة شبه مرضية في الوسط الثقافي العربي" (22).
ان انبثاق شخصية شعرية جديدة، ذات تجربة حديثة – في نظر يوسف الخال – لا يمكن أن يتحقق في غياب حرية الشاعر. و يبدو من خلال آرائه؛ أن "الحركة" التي يتحدث عن ضرورتها تعني عنده أمرين اثنين:
الدفاع عن " قصيدة النثر" .
" حدود اللغة الشعرية ".
ففيما يتعلق بالأمر الأول؛ نجد أن الخال و رفاقه في مجلة " شعر" دأبوا على نشر قصائد خالية من الوزن، واعتبرها رفاقهم من النقاد شعرا.
أما فيما يتعلق بالأمر الثاني؛ فنجد أن الخال بدأ يروج للعامية كلغة شعرية، لأن الشاعر- حسب رأيه يصطدم في عملية الخلق الشعري بحدود اللغة، أي أصولها و قواعدها.
فباسم هذه الحرية المطلقة إذن، يدعو يوسف الخال إلى التحرر نهائيا من الوزن الذي يعتبره "القيد الذي يرسف الشاعر به و لا يستطيع الخلاص منه "كما يتبنى دعوة ت.س "اليوت" الداعية إلى اعتماد لغة الحياة اليومية لغة للشعر، مستشهدا بقوله : "إن الشعر يجب ألا يبتعد ابتعادا كبيرا عن اللغة العادية اليومية التي نستعملها و نسمعها، إذ أن لغة  الحديث اليومي لا تقف جامدة بل هي في تغير، و كلما تغيرت قامت حركة جديدة في الشعر تدعو  إلى اقتراب الشعر من هذه اللغة." (23).
كما يعزز دعوته هذه، بأقوال ينسبها إلى "محمد النويهي" يحث فيها بطريقة غير مباشرة، اعتماد الكلام المحكي لغة للشعر: " إننا بهذه اللغة الجديدة، و بها فقط نتمكن أن نتخلص من الشكل الموسيقي التقليدي و متفرعاته في سبيل شكل موسيقي حديث نابع من لغة الكلام الدارجة على ألسنة الناس في عصرنا " (24).
و يرى الخال أخيرا، أن الكتابة بالعامية كفيلة بإخراج الحداثة الشعرية من المأزق. فهل يكون هذا " الشكل الجديد " الذي سينبثق عن التجربة الماضية التي استنفذت كل طاقات اللغة الفصيحة و أشكال موسيقاها الشعرية شكلا يخترق "جدار اللغة" باعتماد الكلام الحي المحكي أساسا لصياغة اللغة العربية الأدبية المكتوبة ؟ أيكون أننا باعتماد هذه اللغة الجديدة، و بها فقط نتمكن أن نتخلص من الشكل الموسيقي التقليدي و متفرعاته في سبيل شكل موسيقي حديث نابع من لغة الكلام الدارجة على السنة الناس في عصرنا ؟ يجيب عصام محفوظ " بالإيجاب، إذ ينصب نفسه مدافعا عن آراء يوسف الخال حين يقول :
"عبر تاريخنا اللغوي، و هو جزء من تاريخ العالم ، شيء بسيط و مهم نلاحظه : كل عصر يمضي يأخذ معه تشابيه و استعارات و صور ميتة، و كل عصر يأتي يجلب معه تشابيه و صور و استعارات جديدة أكثر تعقيدا و أشد غرابة بين صلة المشبه و المشبه به.و أنا أتكلم عن اللغة اليومية التي يستعملها رجل الشارع، لا عن اللغة الأدبية. و يبدو أن لغة الشاعر كانت دائما طليعة هذا التغيير، و من الطبيعي أن يكون الأمر كذلك. فالتركيب الجديد يظهر عند الشاعر أولا، ثم يأتي رجل الشارع فيختار ما يلائم ذوقه و مزاجه ... و هذه الحاجة إلى تركيب الاستعارات و التشابيه الجديدة في اللغة اليومية، هي ميزة الإنسان على لغته، هي الراية الصغيرة التي يشكلها في بحر اللغة  ليظل يذكر أن اللغة وسيلة لا  غاية ... و لأن قاموس اللغة محدود بالنسبة لمتطلبات الشاعر اللامحدودة ؛ فإن الشاعر يسعى باستمرار لغسل وسخ الاستعمال و إعادة صياغة الكلمة بتركيب يبدو مدهشا و غريباو نقيا "(25).
كما يدافع عن شكل جديد للإيقاع المتمرد على قوانين العروض التقليدية، حيث يقول: " الإيقاع الجديد، يحمل فوضى الارتجاف والرعشة الجديدين. هذه الرعشة التي تميز العلاقات الإنسانية بالأشياء و تبدلها المستمر" (26).
إن هذا الدفاع الحار عن "قصيدة النثر" و عن "حدود اللغة الشعرية" يشير إلى حجم التغيرات التي طرأت على مسار حركة الشعر الحديث التي تبنتها جماعة مجلة " شعر "،حيث أفسحت هذه المجلة ضمن صفحاتها مساحة لا يستهان بها لنشر تجارب الأصوات الجديدة التي تحاكي تجارب "بودلير" و "رامبو" و "مالارميه" و "سان جون بيرس" و"أراغون" و غيرهم.
و هكذا أصبحت القصيدة الحديثة- كما تبنتها هذه الجماعة - مرادفة للغة الجديدة التي ترفض القواعد الجامدة، لإيمانهم بأن الشعر يستطيع استيعاب اللغة اليومية، و يستطيع من داخل التجربة أن يشحن الكلمة بمدلولات جديدة ارضاءا للتعبير الحسي. إن اللغة الجديدة - بهذا المعنى - لا تنشأ ضمن قوالب جاهزة، أو ضمن فكر محافظ. انها تعد مجرد صدى، فهي كمؤشر لا تستطيع أن تتقولب في قواعد جاهزة تحافظ على ماض لم يعد أحد يحافظ عليه.
ان هم التغيير في بنية القصيدة هو أساسا هم استكشاف لغة جديدة. و كما تم التخلي عن اللغة الفصيحة، التي تؤطرها القواعد الجامدة ، تم التخلي كذلك عن الإيقاع الخارجي، أو الوزن المقيد لحرية الشاعر و تم استبداله بالايقاع العضوي الناتج عن العلاقة الداخلية التي تأتلف داخل البناء الشعري. فالوزن هو جزء من مظاهر اللغة داخل مفهوم علاقتها المحددة في زمن محدد.
و القصيدة الحديثة يجب أن تستبدل الوزن و القافية بأشكال من الضابط الأخرى، كالموسيقى الداخلية، و التكرار، و التداعي، و التوتر...الخ.
نستخلص مما سبق أن الموقف من " الحداثة الشعرية" عند رواد الحداثة – أنفسهم - يختلف باختلاف مواقفهم من التراث الذي يعتبر حجر الزاوية في تشكيل المفهوم النهائي الذي تتمحور فيه هذه الحداثة. و هذا التباين في الموقف يعود أساسا إلى أن رؤية الشاعر العربي المعاصر مشدودة إلى بعدين حضاريين :
- الحضارة العربية التي انتهى دورها و أصبحت في ذاكرة التاريخ.
- والحضارة الغربية التي أصبح دورها مؤثرا وفاعلا في كل مناحي الحياة المعاصرة.
إن ما تطرحه القصيدة العربية الجديدة هو متصل بالوضع الإنساني العام، و من ثم فإنها تلتقي في مواقفها العامة مع ما تثيره القصيدة الغربية الحديثة. و لا يعني هذا أن الشاعر العربي يستنسخ النماذج الغربية "للحداثة الشعرية"، بل إنه يبحث عن حلول لمشكلاته الإنسانية ووضعه المتخلف في إطار رؤية واقعه في تخلفه، و الحضارة الإنسانية المتجددة.

مآخذ على حركة الحداثة في الشعر العربي:

مع الشعر المعاصر ، والذي اختلف النقاد والأدباء على تسميته : الشعر الحر، الشعر الحديث، الشعر الجديد، الشعر المنطلق، الشعر المغصن... بدأت مرحلة انعطاف جديدة في الشعر العربي، إذ تم إحلال القصيدة مكان البيت، والإيقاع مكان الوزن والإشارات  و التداعيات مكان المعاني المطابقة.
إنها المرة الأولى – يقول إلياس خوري – "التي لا يهتز فيها النموذج الشعري العربي، بل يتساقط ، و لا تقف حدود الثورة الشعرية عند محاولات إحداث تعديلات على الشعر، بل تمتد إلى محاولة إلغاء مجموعة المفاهيم القديمة، و الأطر القديمة، لتؤسس على أنقاضها تجربة جديدة في الشعر العربي (27).
لذلك، و انطلاقا من واقع الثقافة العربية، يرى الخوري أن الشعر العربي " لم يتدرج في الخروج إلى " الحداثة " أو إلى القيم الجديدة، و إنما انفجر انفجارا. و ليس مصادفة أن يكون انفجاره انقطاعيا، و كأن لا علاقة لمراحله المختلفة بعضها ببعض. هناك خيط من الوحدة يمكن اكتشافه عبر مرحلة الشعر، لكنه خيط من التطور الانقطاعي، و كأن الشعر هو المؤشر الأول و الأساسي لواقع الثقافة العربية" (28).
ثم يقف الخوري و هو يستعرض المسار التاريخي للشعر العربي على مظاهر هذا التطور الانقطاعي منذ عصر النهضة إلى الآن.
" و معاناة عصر "النهضة" بالغة التعقيد، إنها معاناة رفض و قبول؛ رفض الغزو الأجنبي، و الاندراج في سياق قبوله.فكما كان "الاحياء" رفضا للنموذج القادم دون تمييز تياراته، و دون القدرة على قراءة مقدماته، كان القبول قبولا للمنطق الاستعماري الغربي و محاولة انتماء إلى الغرب. و بين حدي الرفض و القبول، أخضعت المنطقة العربية لغزو لم تشهد له مثيلا، و إلى بداية تجزئة و تفتيت. و ليس صدفة أن يكون الشعر العربي هو أرضية هذا الصراع" (29).
يعتبر الخوري، أن الشعر هو المجال الذي تمت فيه أجرا المحاولات لتغيير مفاهيم الثقافة العربية بحكم انهيار المثقف العربي بالنموذج الثقافي الغربي، كما خضعت اللغة العربية و القيم الشعرية الأصلية لمراجعة صارمة بفعل هذا الانبهار، مستجيبة بذلك لتيار الحداثة الشعرية – كما عرفه الغرب – إلا أنه يلاحظ أن هذه الاستجابة التحديثية كانت تلفيقية في جوهرها.
من الواضح أنه بعد انهيار النموذج القديم، سياسيا و اقتصاديا و ثقافيا، كان الفكر العربي الحديث و المعاصر، أكثر قدرة على الاستجابة للعلاقة بالفكر الغربي، و كانت استجابته التحديثية تلفيقية في جوهرها. لكنها واقعيا، قبلت بانهيار النموذج القديم دون أن تقوم بعملية توفيق بين العقل و النقل. كما حدث في العصر العباسي، بل قبلت نتائج  العقل داخل قبولها الضمني و العلني للفكر السلفي. لذلك انصبت المعركة في المستوى الثقافي الأدبي، وهنا، كانت قدرة الأشكال الموروثة على المقاومة هائلة، فالشعر العربي، وهو المصدر الثاني للغة و الموروث، استطاع أن يقاوم طويلا" (30).
إن هذا الترجرج الذي عاشته الحداثة الشعرية العربية – كما يرى الخوري – بين نموذجين متناقضين :
- النموذج التراثي.
- والنموذج الغربي، هو ما وسمها بالنزعة التلفيقية التي هيمنت على مسار هذه الحركة، و لذلك لم يكن نسقها واضحا.
و يرجع منير العكش غياب هذا النسق إلى عدم توافق العمر الاجتماعي للشعر الحديث بالعمر العقلي للمجتمع العربي، ومن ثم لم يتحقق ذلك التوازن بين الولادة الاجتماعية للشعر العربي والولادة الإبداعية : "في المرحلة القصيرة، بين البارودي ومنتصف الخمسينيات، شاهدنا نماذج من مختلف الأعمار الاجتماعية للشعر العربي. لم تكن هذه الفترة تنسجم فعلا مع نشاطاتها، فلم يقم توازن بين الولادة الاجتماعية و الولادة الإبداعية ...  إن الحركة الشعرية التي ابتدأت بالخمسينيات، و ركزت مفاهيمها مجلة " شعر" لا تزال إلى الآن جسرا إلى ضفة لم تكتمل ملامحها بعد، أي أنها لا تمثل وعي الوجود الاجتماعي بحق ، بل إما تتجاوزه أو تتخلف عنه" (31).
و يذهب منبر العكش إلى القول بأن " النقد العربي ميع معنى الحداثة، و نصب لها متاهات كثيرة، إنه بالإضافة إلى فساد مقولته في الثبات و اشتباك دلالتها بالوظيفة التاريخية ، و بالإضافة إلى إساءة مفهوم الزمن في اللغة العربية، هذا الزمن المكاني المعاش، الذي أحاله إلى زمن عائم عند النقاد المتصلين بالفلسفة اليونانية قديما، أو المتصلين بحركة النقد الغربية الحديثة، بالإضافة إلى هذا كله ، غفل النقد عن الوصل بين "شيء" الشعر و "رمزه" فأقام تعريفات فاسدة بالضرورة لفساد الفصل الذي وقع فيه" (32).
و يضرب أمثلة لهؤلاء النقاد، فيصنفهم هذا التصنيف :
- الشينيون: و هم الذين اهتموا بدراسة علاقات الأشياء في القصيدة، أي دراسة حركة الفكرة و قيمتها و صدقها بمناهج تتراوح بين المنطق الصرف الذي يهتم بصحة أو بفساد تلك العلاقات، و يعرف الحداثة على أساسها.
- الدوغمانيون: الذين اخضعوا صحة العلاقات بين أشياء القصيدة إلى مواقف مسبقة أو مرتجلة.
- الرمزيون: الذين اهتموا بدراسة علاقات رموز الأشياء، أي دراسة التشكيل ضمن الشكل، و مراقبة حركة اللغة في التشكيل و الشكل معا.
و من هنا ، يستنتج أن " النقد العربي الذي يعيش في ذاكرة مفروعة بين ماضي الأنا (المستغرق بالحس التاريخي) و بين واقع الآخر (المستغرق بالحس النقلي المستعار) و الذي ينظر إلى الواقع وفق مقولات الآخرين، إنما يخون الحداثة و يسوقها في قنوات غريبةعنها" (33).
و يذهب منير العكش إلى أن النقد العربي أساء إلى الحداثة إساءات يمكن تلخيصها فيما يلي :
أ- لم يدرس النقد مصادر الحلم، فوقع في الخلط بين الخيال و التوهم، و بين التداعي والإبداع.
ب- لم يميز بين الموقف و الشكل، و نسي أن الشكل ليس لغة مساعدة، و إنما هو تجسد الباطن في ظاهر.
ج- حاصر النقاد التفسيريون الحداثة بالمعاصرة، فأعطوها صيغة آنية و آلية، إذ اكتشفت بملاحقة تطورات العصر التكنولوجية أو السياسية أو المذهبية، ومن ثم نفت "الرؤية المستقبلية " التي هي خصيصة أساسية للشعر و اللغة العربية.
د- لم يوضح النقد علاقة الحداثة بالجمال، و نفى النقاد الجماليون عن فعل الخلق قدرة الإيحاء الجمالي. وعلى نقيض هؤلاء، حاول بعضهم أن يقيم تنافرا مزاجيا بين الحداثةوالجمال في محاولة للثورة على الذاكرة الجمالية، و هذا ما قادهم إلى الخلط بين القيمة القبلية و نظيرتها البعدية.
ه- لم يستطع النقد أن يقدم حلولا عملية لمشكلة التوصيل و لا إلى إعادة التوازن بين الحلم و الأداء، لا من خلال اللغة، و لا بالإفادة من وسائل التوصيل الإنسانية كالنغمة و اللون و الحركة، لأنه انطلق من بديهية ارتباط الشعر باللغة" (34).

الأسس العامة التي قامت عليها الحداثة الشعرية:

يمكن حصر الملامح العامة التي تأسس عليها تيار الحداثة الشعرية باتجاهاتها المختلفة في العناصر التالية:
- إلغاء تام للذاكرة الشعرية و محاولة ابتداع ما ليس له وجود قبلي.
- الحس النقدي الساخر من العالم ،و انتهاك أعراف الإذعان المالوفة.
- التشكيك في المسلمات و اكتشاف التصدع في كل المستويات و التمرد عليها.
- علاقة الحداثة بالقيمة أكبر وأهم من علاقتها بالزمن، حيث تفرق بين ما هو معاصر و ما هو حديث.
- اقتحام "المدينة" و انتهاك معايير "التقدم" و "العلم" و "الآلة " لأنها مجرد حضارة تحولت من قداسة " الكلمة" إلى قداسة "الرقم" و نشدان الحرية و العدل.
- الوعي بضياع الإنسان الحديث في عصر الآلة، و السعي لتبديل الحساسية و الرؤية للواقع، و الالتحام بالعصر الذي يسير نحو الدمار و التصدي له بفعالية.
- التأكيد على الذات، و نقل الاهتمام من الذات - باعتبارها شيئا خارجيا- إلى الذات باعتبارها الداخل الإنساني.
- اقتران الشعراء الحداثيين برسل المعرفة يطلون على الآخرين بعد طواف الأرض و البحر .
-إن التشكيل ليس غاية، كما أنه ليس ماضيا، لأنه لا يتم في الصيغة التي يفرضها التعبير. و التنوع الداخلي للتصور بمجمله يختزن استقلالا شكليا لكل أداء.
- مادة الشاعر في تغير مستمر، طالما أن النفس في تحرك مستمر. و الشاعر كإنسان هو في كل لحظة تغير كيفي عن اللحظة الماضية.
- مفارقة اللغة لمفهوم "الوعاء" لتصبح القصيدة/الرسالة فعلا لغويا ينضح من جوانية الشاعر و يتخذ منه حيزا أوسع و أعمق.
- الغموض و الغرابة ليس شطرين، إنهما صفتان تلتحقان بطبيعة الحلم، و لهذا ينبغي التفرق بين غرابة الحلم و غموضه، بين غرابة التعبير و غموضه، الأول طبيعة، و الثاني زخرف معقد. ليس ثمة شيء واضح، منجز- أو بسيط. والشاعر الذي يحدد المفاهيم بوضوح و بساطة، يقوم بعملية إغلاق لإمكانية التفسير والإيحاء والنص الحديث؛ هو ما يخرج من دلالة مغلقة، نهائية ، و يفجر أكبر عدد ممكن من الدلالات.
- إن العمل الشعري يتم بعدد من الوسائط التي تدخل في تركيب الصورة الشعرية،و هذه الوسائط تزداد اليوم ارتباطا برؤية مشدودة إلى المطلق، و الشاعر يتوغل أكثر في قلب العالم يدخل في المطلق الحسي/الشعري.
- لأن قاموس اللغة محدود بالنسبة لمتطلبات الشاعر اللامحدودة، فإن الشاعر يسعى باستمرار لغسل وسخ الاستعمال و إعادة صياغة الكلمة بتركيب يبدو مدهشا و غريبا و نقيا.
- الرؤيا ميدان الشاعر لأنها التنفيس الطبيعي لعملية دائمة غير منظورة، و لأن الرؤيا لا تستعاد، و لأنها تضع هذا  الحل الفاصل بين الواقع و ما فوق الواقع، فهي أشمل من الصورة و أرحب. الصورة تولد في حالة عقلية و الرؤيا وليدة حالة نفسية.
- الإيقاع الجديد يحمل فوضى الارتجاف و الرعشة الجديدين. هذه الرعشة هي التي تميز العلاقات الإنسانية بالأشياء و تبدلها المستمر.
- الأثر الشعري لا يمكن أن ينكشف خارج نطاق التاريخ والمجتمع والسياسة،و بالتالي خارج كل ما له علاقة بالإنسانية.


الـــهــــوامــش

إلياس خوري "دراسات في نقد الشعر" دار ابن رشد، بيروت 1979، ص21.
إلياس خوري "دراسات في نقد الشعر" دار ابن رشد، بيروت 1979، ص198.
إلياس خوري "دراسات في نقد الشعر" دار ابن رشد، بيروت 1979، ص199.
عز الدين اسماعيل: "الشعر المعاصر والتراث العربي" الآداب. عدد 4، 3 مارس 1966 ص182.
حسين مروة: "ظاهرة جديدة وخطيرة في الشعر الحديث" الآداب.عدد 4، 3 مارس 1966 ص68.
جبران خليل جبران: "الرحلة الثامنة" بيروت. المكتبة العصرية 1976.
غالي شكري: "شعرنا الحديث إلى أين" القاهرة. دار المعارف 1968 ص112.
ادونيس، علي أحمد سعيد: "زمن الشعر" دار العودة. بيروت 1978ص228.
ادونيس، علي أحمد سعيد: "فاتحة لنهايات القرن" دار العودة .بيروت 1980 ص321.
ادونيس، علي أحمد سعيد: "زمن الشعر". ص9 وما بعدها.
ادونيس، علي أحمد سعيد: "فاتحة لنهايات القرن" ص321.
ادونيس، علي أحمد سعيد: "فاتحة لنهايات القرن".دار العودة. بيروت 1980. الصفحات: 314-315-316 بتصرف
ادونيس، علي أحمد: "فاتحة لنهايات القرن". ص321.
ادونيس، علي أحمد: "فاتحة لنهايات القرن". ص321.
ادونيس، علي أحمد: "الحداثة في الشعر" مجلة "شعر". عدد43.ص70-71.
ادونيس، علي أحمد سعيد: "فاتحة لنهايات القرن" ص 323،328.بتصرف.
ادونيس، علي أحمد سعيد: "فاتحة لنهايات القرن".336-337-338 بتصرف.
ادونيس، علي أحمد سعيد: "فاتحة لنهايات القرن".ص267.
يوسف الخال: "الحداثة في الشعر" دار الطليعة للطباعة والنشر ببيروت 1978 ص15-17.
يوسف الخال: "الحداثة في الشعر" دار الطليعة للطباعة والنشر ببيروت ص51.
يوسف الخال: "الحداثة في الشعر"مرجع مذكور.ص14.
ادونيس علي احمد:" فاتحة لنهايات القرن"مرجع مذكور.ص317.
يوسف الخال: "الحداثة في الشعر" مرجع مذكور.ص55.
يوسف الخال: "الحداثة في الشعر" مرجع مذكور.ص61.
عصام محفوظ:"في الشعر والشعراء:خطرات حول التجربة الشعرية" مجلة  "شعر".64 .ص118-119.
عصام محفوظ: نفس المصدر.ص120.
الياس خوري: "دراسات في نقد الشعر" مرجع مذكور.ص197.
الياس خوري: "دراسات في نقد الشعر" مرجع مذكور.ص198-199.
الياس خوري:"دراسات في نقد الشعر" مرجع مذكور.ص198.
الياس خوري: نفس المرجع السابق.ص200.
منيرالعكش: "اسئلة الشعر" في حركة الخلق و كمال الحداثة و موتها. المؤسسة العربية للدراسات و النشر ببيروت.1979.ص 28-29.
منيرالعكش: "اسئلة الشعر" في حركة الخلق وكمال الحداثة وموتها. مرجع سابق.ص42.
منيرالعكش: "اسئلة الشعر" في حركة الخلق وكمال الحداثة وموتها.مرجع سابق.ص42.
منيرالعكش: "اسئلة الشعر" في حركة الخلق و كمال الحداثة و موتها.الصفحات: 46 -47-48 بتصرف.


تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة