التخطيط اللغوي: خصائص واعتبارات وتدابير ـ ذة. ثريا خربوش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
anfasse.org1 .تقديم
نرمي في هذه المقالة إلى استعراض عدد من خصائص وقضايا التخطيط اللغوي، اقتناعاً منا بالحاجة الماسة إلى تجديد مناهج التعليم، وسبل نشر اللغة العربية الفصحى. نعرّف بالتخطيط، وأهدافه وخصائصه، وبعض اعتباراته.
2. التخطيط اللغوي
التخطيط اللغوي تدبيرٌ للتحول اللغوي، سواء أمس التحوّل المنظومة اللغوية أو الخطاب اللغوي أو كليهما. ويتكلف ببرمجة التحوّل أجهزة تُقام خصيِّصاً لأغراض التخطيط، وتُفوّض رسمياً لذلك. وفيما يلي، نفصل بعض خصائصه.1
1.2. في خصائص التخطيط
يبدأ التخطيط  بتعيين المشكل اللغوي، وتحديد المحيطات المجتمعية التي تتطلّب نشاطاً تخطيطياً، وتدبيراً للثروات اللغوية. بعبارة أخرى، إن الوظيفة الأولى والأساس في التخطيط حلُّ المشاكل اللغوية، وإيجاد معالجة ملائمة تكون الأفضل والأحسن، بالمقارنة مع غيرها. أي إن ما يُحدد اختيار خطة أو أخرى قيمتها وفعاليتها. وغالبا ما يُعرّف المشكل اللغوي باعتبار الاختيار اللغوي: حاجة بعض قطاعات الحكومة إلى تقرير اللغة أو التنوعات اللغوية التي ستُستعمل في المنظومة التربوية وسيطاً للتعليم، أو الإعلام، أو العدل، أو غير ذلك. وقد يُعرّف المشكل باعتبار تغيير نسق لغوي، أو تعديله بهدف عصرنة المعجم، مثلا، أو النحو أو النطق أو الخطاب. كما قد يتحدّد بالنظر إلى الحاجات المجتمعية، والأهداف السوسيواقتصادية من نوع نشر معلومات تتصل بقضايا التصنيع أو الفلاحة أو التخطيط العائلي.
بين باحثون من مثل داس كَوبطا (1971) das gupta أن تعريف المشاكل اللغوية ينبغي أن يتجاوز اعتبار الظواهر اللغوية إلى الدوافع السوسيوسياسية أو الأسباب الكامنة وراء إقصاء المشاكل اللغوية. بمعنى أن معرفة السبب يدخل ضمن تصنيف المشاكل. بل إن عدم ربط التحولات، التي يعرفها النسق اللغوي أو الخطاب، بقضايا وبواعث مجتمعية يحول دون نجاح التخطيط، ويُعرضه للفشل. ونعرض، فيما يلي لبعض الاعتبارات كخصائص ومحددات للتخطيط.
من خصائص التخطيط البرمجة المُسبقة، بمعنى أن الاستراتيجيات والمشاريع ينبغي أن تُحدد بتفصيل مُقدماً حتى لا تعرف الخطط الشك أو المجازفة. ويكون ذلك بإمكان إعادة صياغة الأوضاع الجديدة بحسب ما تكشف عنه الاحتياجات، ومراقبة ما تم إنجازه، ومحاولة تقييم فعاليته وتأثيره.
حدد عدد من الباحثين خطوات التخطيط. فقد حصرها روباين (1971) rubin  في جمع المعطيات، وتقرير الأهداف، ووضع الاستراتيجيات والمشاريع، ثم التنفيذ، والمراجعة. وإذا كان التخطيط يدمج المراحل في مستويات، وبدرجات مختلفة، فإن اعتبارها يرفع من إمكانات النجاح.
ينبغي أن يجمع المخطط في المرحلة الأولى قدراً من المعلومات تخص الوضع الذي سيُؤثر فيه. كلما كانت المعلومات كثيرة ارتفع احتمال التأثير الجيد. وتشمل المعطيات حاجات الهدف و/أو الزبون، والأوضاع السوسيولسانية، ونماذج الاستعمال،والأنظمة السوسيواقتصادية والسياسية القائمة.
تدخل في الخطوة الثانية مستويات متعددة من صنع القرار (decision-making)، منها مواقف الموظفين المختلفين، وصانع الخطة (policy-maker)، الذي قد يُعطي الأولوية لبعض المشاكل. ومعلوم أن أخذ القرارات يرتبط بمقدار المال المُخصص للخطة. أحياناً، يشترط صانع السياسة معرفة الدراسات وتحديد القيم والمواقف المُتضمنة فيها، لكن غالباً ما تُؤخذ القرارات دون ذلك ممّا يجعل من الصعب وضع الاستراتيجيات الملائمة، وصياغة الأدوات والموارد البشرية اللازمة لتحقيق الأهداف.
تأخذ الأهداف مكانها على مستويات متعددة. أولا، يُمكن للمشرع تقرير بعض الأهداف العامة، واقتراح جزء من الخطة للتنفيذ، ويتكفل المعهد أو المكتب بتخصيص أدق للأهداف آخذاً بعين الاعتبار مقدار الاعتمادات المالية، وقدرات هيئة الموظفين أو الأساتذة أو المُستخدمين. أخيراً ينبغي أن يُحدد المنفذون الأهداف باعتبار الوضع المحلي.
يعتبر التنفيذ خطوة ثالثة في التخطيط. وتتضمن سيرورة التنفيذ : (أ) تعبئة الموارد والتدابير المالية والإدارية العامة؛ (ب) تنشيط وتدبير السيرورات التي ترتبط بالبرنامج وأهدافه؛ (ج) السلسلة (the sequencing) ودرجات التنسيق المتساوية (co- ordination) لكل مظاهر السياسة من إعداد الكتب. ويُعد التنفيذ الملائم متغيِّراً خطيراً في نجاح الخطط.
أما الخطوة الرابعة، فهي التقييم. وتتضمن تحليل الاتجاهات، ومعرفة إن كانت الخطة قد اشتغلت في الواقع أم لا، وهل تتلاءم مع المشروع اللاحق، وما الذي يُمكن أن يُعدل فيها. وإذا كان التقييم خطيراً، بدوره، فإنه أصعب إجراء في التخطيط.
واضح أن التخطيط من خلال الخطوات المذكورة غير مُجار للنموذج. ذلك أن الأهداف قد لا تكون مرتبة، والمعلومات غير متوفرة جميعها في المراحل الأولى، والاستراتيجيات غير تامة التخصيص مُقدماً. إلا أن النموذج يوجد ليساعدنا عند الحاجة. ثم من الأفضل عدم التفكير في التخطيط كسلسلة من الخطوات، واعتبار أن هذه الأخيرة يُمكن أن يكون لها دور في مستويات مختلفة من التخطيط. مثلاً، يُمكن وضع الأهداف في مستوى عال يستجيب لإحساس عام بوجود المشكل. وقبل الشروع في وضع الاستراتيجيات، من الأفضل إضافة المعلومات والمعطيات. أما التقييم، فيُمكن أن يُدمج كجزء من التنفيذ.
2.2 من اعتبارات التخطيط
لا يُعتبر صنع السياسة (policy-making) في التخطيط اللغوي تخطيطاً. لنبين ذلك بمثال: غالباً ما يقول الناس، مُقيمين سيرورات التخطيط: لقد فشلت الخطة، لكن الحقيقة أن وسائل تنفيذ الخطة، وإنجاز الأهداف كان ضعيفا، كما أن معلومات المراجعة(background) غير ملائمة. وربما يعود الفشل لعدم ربط الخطة بأنساق سوسيوثقافية. تعد الأسباب من هذا النوع كافية لجعل الخطة مجرد سياسية لا خطة، كما قد يُعتقد. فحين يكتفي المخطط بالدعوة إلى استبدال لفظ بآخر، دون تبرير مُقنع، فإن ذلك يدخل في إطار السياسة، لا التخطيط، وكذلك، نعتبر أن تدريس اللغات أو المواد أو المعاجم دون تحديد المهارات والأهداف المطلوبة من باب السياسة لا التخطيط، وتوقع فشل النتائج المتوقعة منه ليس غريباً .
من الاعتبارات الواردة كذلك إيضاح الأهداف الحقيقية. هل تُريد الدولة المساهمة في تغيير الاستعمال اللغوي، أم تريد خدمة شيء آخر؟ أحياناً ما تكون هناك أهداف مُستترة. يعتبر الكثيرون أن سياسات جعل العربية لغة الحياة والعمل قد فشلت في المغرب، لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الهدف السياسي الحقيقي كان تحقيق الاستقلال، فإن السياسة قد نجحت. بعبارة أخرى، ينبغي أن يُميز المخططين بين الأهداف الحقيقية والأهداف المُقترحة، لأن من شأن، ذلك إنجاح التخطيط.
ويُقسم الباحثون الأغراض من تقييم الأهداف إلى ثلاثة : أغراض لسانية (linguistic)، وأخرى شبه لسانية (semi-linguistic)، وثالثة بعد لسانية (extra-linguistic). تتضمن الأغراض شبه اللسانية الحالات التي تخدم فيها التحولات في اللغة ليس فقط الأغراض اللسانية، بل أيضاً الأهداف المُجتمعية أو السياسية. وتشير الأغراض بعد اللسانية إلى عدم وجود مشكل لغوي حقيقي.من الأمثلة على ذلك إحداث أبجديتين اثنتين للغة الهوسا (hausa) في غرب إيفريقيا بهدف تأكيد الاختلافات القومية. ومن ذلك كذلك ما ذكره ستيفان ورن (1960) stephan wurn عن التمثيلات الإملائية لعدد من اللغات التركية في الخليج الواحد من روسيا، بقصد تمييز الثقافات القومية للشعوب التركية.
3. التخطيط وتدبير التحول والشيوع
تقتضي كل أنواع التخطيط تدبير التحول وتقييمه في النطاق الذي أُحدث له، فمثلاً، يُمكن للمخطط أن يتساءل حول السياسة اللغوية المُصاغة لنشر الألفاظ المعتادة في الحياة اليومية مما يعد فصيحاً. نتبنى، في هذا السياق إطاراً عاماً لدراسة الشيوع والنشر يصوغ ضمنه كوبيرcooper عدداً من الافتراضات من خلال الإجابة عن سؤال مختصر مفاده: "من يتبنى ماذا متى أين لماذا وكيف؟"2
من؟ يُحيل هذا السؤال على المتبنين وخصائصهم، والشبكات المتواجدين داخلها، كما يُحيل على المُستجدات ومميزات شيوعها، والمُتبنيات وأنواعها. ويتم تحديد خصائص المُتبنين من خلال مُتغيرات مثل الوضع السوسيواقتصادي (العمل ومستوى التعليم والدخل) والسوسيوثقافي (السن والجنس والمُعتقدات) والمحل الفيزيائي (physical location): المسافة بين السكن والمدينة، مثلاً.
وإذا كان لكل المتبنين شبكات اتصال، فإن تحديد مميزات هذه الأخيرة حصر للمجالات التي ينساب منها المُستجد اللغوي، ولذلك، فإن متغيرات مثل حجم الشبكة، ودرجة التعقيد والتجانس اللغوي والتفتح معلومات تساعد على فهم السر الذي يجعل بعض المستجدات تنتشر بسرعة أكبر من خلال شبكة أو أخرى.
ويطرح ذيوع المُستجدات وشيوعها وتداولها الخصائص الشخصية لهذه المستجدات. بعض المستجدات تنتشر بين النساء أكثر من الرجال، كما أن الخلفيات مثل المواقف ودرجة التفوق اللغوي تتحكم في مدى الانتشار، فقد يتم بين المُتحمسين للغة باعتبارها رمزأً للتضامن والنفوذ، ولا يتم بين من يعتبرون اللغة أداة تسلية أو ضرورة فقط.
تُحيل المُتبنيات على الدرجة قُبل بها المستجد اللغوي، وتُقاس بأربعة أنواع من التبني: (1) الإدراك (awareness) والتقييم (evaluation) والمعرفة (knoweldge) والاستعمال (usage). يظهر الإدراك في تبيان المستعملين مصادفتهم لكلمة أو أخرى، ويُعبروا عن انتمائها إلى هذه اللغة أو تلك، وإن لم يفهموا المعنى. ويُمكن كذلك أن يُبينوا إدراكهم لاختلاف الكلمات على مستوى صواتي كقولهم إن متغيراً صواتياً ما أشهر من آخر أو إن اللغة العامية أكثر استعمالاً، أو إن الكلمات الفصيحة كذا أشهر من كذا، وهكذا دواليك. ويعكس التقييم و/أو التثمين: المواقف، وعادة ما يرتبط التقييم الإيجابي بالأسباب العاطفية و/أو الوجدانية، أو المعرفية أو الفلسفية. وعموماً، إن تثمين اللغات والمُستجدات اللغوية لا علاقة له بمتكلمي اللغات ومستعمليها، بل بوضع اللغات، وما تُحققه من مزايا شخصية للمتبنين. أما المعرفة: فيُقصد بها قدرة المتبني على استعمال اللغة المتبناة لتحقيق وظيفة تواصلية معينة. ولا تتحدد المهارات في هذا الإطار بقواعد اللغة، بل درجة استعمال اللغة أو المبتكر اللغوي. وتتضمن المعرفة، في حالة المستجدات اللغوية القدرة على استعمال التحولات مع الشخص المناسب، وفي الوقت المناسب، وفي المكان المناسب، وذلك وفق شروط ومعايير التواصل الملائم. وأما الاستعمال: يحيل على التكرار الفعلي الذي تعرفه اللغة أو التحول اللغوي، يتحدد باعتبار عدد المرات التي استُعملت فيها اللغة والمُستجدات، وسياقاتها، ومقارنة استعمالها بمناوبات أخرى ملائمة كذلك.
لا يُقيم كل من يدرك اللغة والتحولات اللغوية تثمينات إيجابية عنها، وعن فوائدها الشخصية، ولا يقرأ اللغة ويعرفها كل من له أحكاماً إيجابية عنها، ولا يستعملها كل من يقرأها ويعرفها. فقد يعرف المتبني المستجد ويدركه دون معرفة معناه، وقد يعرف معناه، وإن لم يكن يستعمله. مقابل ذلك، قد يرغب المتبني للعامية في معرفة الفصحى، وإن كان يعرف أن حاجته إلى استعمالها ضعيفة، بحيث لا تتجاوز حل بعض مشاكل القراءة والكتابة لديه. كما أن الدلائل الأربعة المذكورة تمثل مراحل مرتبة، إلا أن هذا الترتيب غير ضروري، فقد تشتغل جميعها في وقت واحد. ذلك أن الذي يستعمل الفصحى في المدرسة يستعملها دون شك خارج المدرسة بغرض تبيان مستواه الدراسي. ويبدو منطقياً أن مجموع السلوكات الموجودة في السلمية يُقوّي بعضه بعضاً. فمعرفة اللغة والنجاح في استعمالها وإتقانها يُحسّن المواقف التقييمية، كما أن المواقف الموافقة للفوائد المنفعية للغة تساهم في الإقبال على اللغة. ومن هنا يُعد البحث في مؤشرات التبني المختلفة مفيداً في معرفة درجة شيوع اللغات والتحولات، وفي تأثير الشائع على شائع غيره، ومقارنة أنواع الشيوع ونماذجها.
حين يهتم المخططون بمشاريع المعرفة والاستعمال، مثلاً، يُمكنهم تشجيع الإدراك والتقييم الإيجابي بهدف تعزيز التبني، بحيث يتوازى عملهم مع شركات الإعلان عن السلع التي تستهدف من التعريف بمنتجاتها الجديدة تشجيع الطلب. وتُعتبر إسرائيل من الدول النموذج في هذا النوع من حملات التخطيط اللغوي. ففي هذا البلد تعلق ملصقات تتضمن وصايا يعود تاريخها إلى عشرين قرناً قبل ظهور دولة إسرائيل، ومنها: "العبري يتكلم العبرية" كما أن أكاديمية اللغة العبرية تنشر وتوزع لوائح الكلمات التي تستحسن استعمالها في التخصصات المختلفة. ويدخل في هذا الإطار إذاعة الراديو الإسرائيلي خلال سنوات طويلة مسرحية هزلية (مدة دقيقة خلال ثلاث مرات في اليوم) ينتقد فيها متكلماً استعمال متكلم آخر تعبيراً غير ممعير شائع، ويبين له البديل المعياري الرائج في الكتابة والاستعمالات الرسمية، وقد يُبرر له أفضليته بالاستشهاد على وروده في الكتاب المقدس.3
ماذا يتبنى المتبني؟ يمكن لمخططي ودارسي الانتشار الإجابة عن هذا السؤال انطلاقاً من عنصرين اثنين: شكل (form) ووظيفة (function) اللغة أو التحول اللغوي. يُحيل الشكل على البنية، وتتحدد البنية بالنسبة للغة ب: (أ) درجة مماثلة اللغة الشائعة للغات الأخرى المعروفة؛ (ب) مدى ما تتوفر عليه اللغة الشائعة من أساليب. ويُحيل، بالنسبة للمستجد اللغوي، على درجة بساطته أو تعقده. وأما الوظيفة، فترتبط بالغرض الذي تشيع من أجله اللغة أو الابتكار.ونادراً ما يكون التماثل البنيوي بين اللغات تاماً، وغالباً ما يتبنى المتبنين اللغة التي تقترب من تلك التي يعرفون. وعليه فإن تبني الفصحى العربية من لدن متكلم العامية العربية أمر متوقع ومتنبأ به. وعموماً، كلما عرفت اللغة المُراد تبنيها تشابها في الأسلوب والقواعد والمعجم، سهل ذلك تعلمها بسرعة وسهولة. ويعتقد الكثيرون أن من خصائص البساطة المساهمة في انتشار المستجدات من مصطلحات ومولدات (neologisms) قصر الكلمات. إلا أن عدداً من دارسي اكتساب الكلمات الجديدة بينوا عدم وجود علاقة بين طول الكلمة، وعسر تعلمها وشيوعها واستعمالها، بل غالباً ما تحظى الكلمة بالقبول إذا كانت تشترك مع كلمات أخرى كثيرة في الجذر نفسه، وبالعكس، إذا كانت تشترك مع كلمات قليلة العدد في الجذر، فإن قبولها يقل. وإذا كان انتشار لغة أو مستجد يتحدد بالغرض من ذلك، كما سبق الذكر، فإن شيوع اللغات والتحولات ترتبط بوظائف مختلفة باختلاف قنوات الاتصال ومجالاته ودرجاته. ويضيف الباحثون وظائف التواصل على أسس منها: المهارات المطلوبة مثل الإنصات (listenning) والتكلم (speaking) والقراءة (reading) والكتابة (writing)، ومن ذلك أهداف التواصل مثل التثقيف والتضامن والمودة، ومنه تحديد السياقات الواردة لنشر اللغة أو التحولات. فالشيوع داخل المجموعة الواحدة غير الشيوع داخل المجموعات المتعددة، كما أن نشر الاستعمالات الممعيرة والمقننة قد يقتصر على عدد محصور من السياقات، لأن التعيير يستهدف تثبيت تصورات متناغمة (monolithic)، بحيث قد يشعر المتكلمون الناشئون الحاصلون على شهادات عالية بعدم الأمان والشك. ولعل هذا المشكل كان وراء تخفيف وزارة التربية الوطنية في إسرائيل من حدة التشديد على المعيار و/أو الصحيح والصائب،وتنبيه المتعلمين إلى أن أساليب الكتابة والتحادث تختلف باختلاف الأغراض والمناسبات.4
متى؟ يشير السؤال متى في نشر اللغات والتحولات إلى زمن التبني، لأن تحديده يُمكن من تحديد خصائص المتبنين الأولين والمتبنين اللاحقين، ومنعطفات زمن النشر (diffusion curves)، ومقارنتها. وتُوصف المنعطفات من خلال النسبة المئوية لعدد المتبنين: تبدأ النسبة بطيئة ثم تزيد فتقل حتى تصل إلى الحد الأعلى من النسبة المتبنية التي تبقى ثابتة منذ ذلك الحين. وقليلاً ما تجمع معطيات زمن التبني على أهميتها في دراسة الشيوع، ويعود السبب في ذلك إلى صعوبة الحصول عليها. ويذهب الدارسون إلى إمكان جمعها إما عن طريق الدراسات المطولة أو باعتماد إحصاءات السكان الناجحة أو تحديد نقطة واحدة في الزمن، ومقارنة الذين تبنوا الابتكار في إطارها بالذين لم يتبنوه، كما يمكن اعتماد الدراسات الفردية. اعتبروا أن الدراسات المطولة مكلفة، ولا تغطي إلا مراحل صغيرة من مراحل الشيوع، وعادة ما يتأثر المؤلف الديمغرافي (بالنسبة لاعتماد إحصاء الساكنة) بعوامل التهجير والهجرة ومحدودية الصدق في الإجابة عن الأسئلة المطروحة. ثم إن المسافة بين إحصاء وآخر تكون طويلة، إذ لا يمكن حصر إلا عدد محدد من النقط الزمنية في الرسم البياني، كما أن الأسئلة التي تُطرح قد لا تهم إلا بعض العناصر: فقد تتعلق باللغات المعروفة في مرحلة الإحصاء دون المستعملة في الوقت الحاضر أو كانت تستعمل فيما قبل، زد على ذلك أن الإحصاءات لا تطرح أسئلة تتصل بمعرفة المفردات واستعمالها. ويعاني إمكان الدراسة بتحديد نقطة واحدة في الزمن من عدم إتاحة معرفة منعطفات النشر، في حين تتوجه الدراسات المنفردة بأسئلة مباشرة للمتبنين عن زمن تبنيهم، ومعلوم أنه غالباً ما يصعب تذكر ذلك، وتزداد الصعوبة إذا تعلق الأمر بابتكار، ثم إذا عرفنا أن تعلم اللغة يكون تدريجياً فهل يمكن فعلاً حصر زمن التبني؟ مهما تكن الصعوبات المنطقية والمنهجية في جمع معطيات التبني، فإن حصره مهم، ليس في دراسة الشيوع فقط، بل في وضع خطط لذلك أيضاً. إن تخطيط التحول غير مستقل عن الزمن، إذ لابد له من مدة، وإذا ما تم تحديد فترات التبني، فإن ذلك يتيح للمخطط مراقبة التنفيذ ومراجعة مقدار الزمن نفسه. صحيح أن لا أحد يمكن أن يعرف الوقت الذي يستغرقه انتشار لغة أو تحولات لغوية، ويمكن الحصول على هذا النوع من المعلومات برصد الخطط المنجزة وعلاقتها بزمن الإنجاز.
أين؟ لا يُشير السؤال "أين يُتبنى الابتكار؟" إلى محل المُتبني المُجاب عنه بالسؤال من؟ بالشبكات المجتمعية، بل إلى محل التفاعلات المجتمعية (social interactions) التي يشيع منها أو من خلالها التحول. الفضاء المجتمعي إذن لا يُحدد بمحل فيزيائي أو جغرافي، بل بنقط تقاطع (intersections) مثل الوظيفة (زبون، تاجر، طالب، معلم، موظف حكومة، جندي، ضابط)، والمحل (متجر، مدرسة، مكتب)، وأوقات مصادفة اللغة والابتكار وقبولها. ولا يتم التبني بفعل تكرار التفاعلات، بل بطبيعة العلاقة بين المُجددين (innovators) والمتبنين، أو بين المُتبنين الدائمين والمُتبنين اللاحقين. وعليه، فإن تكرار التفاعلات بين المُستخدمين والمُستَخدمين، مثلاً، لا تقود، بالضرورة، إلى تبني نماذج بعضهم بعضاً، في حين توصل التفاعلات  غيرالرسمية (informal) بين الأصدقاء إلى تبادل التبني. وتفيد دراسة التفاعلات المجتمعية في تحديد قنوات انسياب التحولات: من هم الأشخاص الذين يؤثرون؟ في أي سياق مجتمعي، وما الغرض، ومتى؟ثم من هم الأشخاص الذين يُؤثر المتأثرين أنفسهم عليهم؟، وهكذا يمكن للمهتم حصر عدد من المجالات والمقارنة بينها والاختيار بين تلك التي تتسم بقبول التحول قصد تنفيذ ما يريد من تحولات في إطارها.
لماذا؟ لماذا يتبنى الناس لغة أو مصطلحاً ما ؟ تكمن الإجابة عن هذا السؤال في مقاربة "وسيلة-هدف" التي تلخص دوافع مشجعي التبني وأهدافهم، من جهة، ودوافع المتبنين وأهدافهم، من جهة أخرى. فقد يُشجع الدارسون أو المخططون تحولات معينة بهدف إنجاز أغراض وطنية عامة، كما قد ينشروها لتحقيق أغراض شخصية، على غرار ما يحدث مع هؤلاء الذين يدافعون عن معيار لغوي خاص لاعتقادهم أنهم المؤهلون الوحيدون لمعرفة اللغة وحراستها. ومن الصعب معرفة الأسباب التي يمكن أن تجعل المستهدفين يتبنون لغة مثل الفصحى، مثلاً. إلا أن عنصر المصلحة الشخصية (self-interest) ونتائج ما بعد التبني، وما يترتب عنها من تحولات في سلوكات المتبنين المفترضين تفسر دوافع التبني وأسبابه. فمثلاً، تبنى الإسرائيليون الإنجليزية بهدف التواصل مع زبنائهم في الولايات المتحدة الأمريكية وكوستاريكا وكينيا واليابان والسويد، في حين يقل إقبال الأمريكيين على تبني لغة ثانية لعدم حاجتهم لذلك. ويمكن من فحص سلوكات ما بعد التبني اعتبار العلاقة بين محو الأمية وبين ما يترتب عن ذلك من وجود أناس غير أميين. لقد بين الدارسون لهذه العلاقة أن طلب محو الأمية يأتي بعد إحداث فوائد ومصالح مالية مباشرة للمعنيين. بعبارة أخرى، إذا كان محو الأمية عند الفرد في القرية سيمكنه من الاستفادة من النقل والسلف وتحسين مستوى عيشه، وقراءة ما يمكّنه من تحسين إتاحة، فإن إقباله على التعلم يكون مضموناً.
كيف؟ ناقش كوبير (1984) النموذج الكلاسيكي الذي اقترحه رجيرز (1962)rogers  للتبني بناءاً على أن سيرورة النشر تتوقف على: (1) فكرة جديدة؛ (2) فرد أ يعرف المستجد؛ (3) فرد ب لا يعرف المستجد (4) وجود علاقة مجتمعية بين أ و ب تتحدد بتكلم أ مع ب عن المستجد، ونتائج ذلك. وذهب إلى أن مثل هذا النموذج لا يعتبر عامل التلقائية والتعليم غير المباشر وتبادل التأثير والمتغيرات السوسيوسياسية المعقدة، ودافع عن نموذج يكون فيه أ مصدراً للتأثير وعاملاً لحصول المعرفة والإدراك والاستعمال عند ب. اعتبر أن اللقاء بين أ و ب  يمكن أن يكون عبر وسائل الإعلام أو الاتصال الشخصي أو عن طريق لقاء لا يتعلق بفرد ب، بل ج، لكن يكون فيه ب حاضراً ومستمعاً. وهنا لا يكون نشر المستجد بالتعريف به أو استعماله، بل يكفي التحدث عنه، كم يحصل عندما يشجع والد ولداً على تعلم لغة ما.
يتضمن نموذج كوبر خاصية أخرى تتجلى في إمكان مقابلة أ لعدد كبير من الألفات، وبذلك يُحدث مستويات مختلفة من التبني. قد تكون بعض الألفات أفضل في التأثير من أخرى، بحسب طبيعة تفاعلهم مع المتبنين المفترضين ودرجة تكرار التفاعل معهم، واعتبارهم للافتراضات السابقة المتضمنة في الأسئلة من ومتى وأين ولماذا. ثم إن الألفات ، وإن كانوا منفذين مباشرين للتحول، فإنهم لا يشتغلون في فراغ مجتمعي، بل يتأثرون بالسيرورات المجتمعية التي تسعى لإحداث التوازنات المجتمعية والتحولات بفضل التخطيط الوطني واللغوي، على السواء. ومن هنا ، يدمج النموذج، بالإضافة إلى التفاعلات الشخصية، السيرورات المؤثرة في هذه العلاقات. ومن الخصائص المميزة الأخرى تبادل التأثير بين التخطيط اللغوي والوطني والتحول المجتمعي (السياسي والاقتصادي)، من جهة، وبين المنفذين المباشرين، والمتبنين المفترضين. ولا يعني تبادل التأثير أن كل سيرورات التخطيط اللغوي تؤثر في كل المنفذين المباشرين، ولا كل المنفذين المباشرين يؤثرون في مستوى واحد، فقد يؤثر البعض ويتأثر على مستوى واحد، في حين قد يؤثر ويتأثر غيرهم على مستويات عدة. ويتم التأثير والتأثر على كل المستويات، وبين كل المنفذين والمتبنين، وبين كل أنواع السيرورات، بما فيها الشيوع اللغوي.
إن النموذج دينامي يساعد على معرفة المتبنين والمنفذين والتأثيرات التي نرغب في إحداثها، ذلك أن التعريف بلغة ـو مستجد لغوي لا يوازي التعريف بمنتج (قهوة، مثلاً)، إذ يمكن أن يتبنى الناس المواد عن قصد ووعي، في حين غالباً ما يتم تبني اللغة والمفردات اللغوية، خصوصاً حين يكون التلقي بدون وعي، وبطرق غير مباشرة. كما أن شيوع لغة قد يتحقق ويُوصل إلى الأغراض المبتغاة حين يرتبط بعوامل مجتمعية قد تكون اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك، ولا أدل على ذلك من التداول الكبير الذي عرفته الإنجليزية في إسرائيل، إذ لولا الحاجة إلى هذه اللغة في السوق العالمية، لما أقبل على تعلمها حتى العمال. ومن ناحية أخرى، تعمل سيرورات التخطيط اللغوي التي تعمل على تطوير العبرية وتطويعها، في اتجاه تقليل الحاجة إلى الإنجليزية على المستوى الداخلي.
والخلاصة أن الشيوع والتحول اللغويين يمثلان حالة من حالات النشر التي تتحقق بدون محاولات صريحة، وقرارات مدروسة. وإذا كان النشر لا يتحقق بالإقناع، فإنه على العكس من ذلك، يتطلب التخطيط اللغوي الذي يحدد خصائص المتبنين وخصائص الشبكات التي ينتقل من خلالها المستجد: سرعة الانتقال وبطؤه ومستوياته (معرفة وإدراك وتقييم واستعمال) ولزوم هذه المستويات بعضها بعضاً، وخصائص المنشورات البنيوية والوظيفية، ودور هذه الخصائص في تسريع التبني أو تأخيره، وزمن التبني وخصائصه، وفضاءاته المجتمعية، والمرشح منها لقبول التحول، ومميزاته ومميزات المؤثرين والمتأثرين، ودوافعهم الشخصية، وغير الشخصية (الوطنية، مثلاً) وغير ذلك من أهداف وسلوكات ونتائج وارتباط التبني بسيرورات التحول المجتمعية.
إن أغلب الناس في العصر الحديث يعتقدون أن المؤثر القوي في إحداث التماثل وتقليص التنوع والاختلاف وسائل الإعلام. إلا أن الحقيقة غير ذلك. صحيح أن السمعي يُشجع تبني اللغة المعيار، ويُسهم في نشرها عبر الراديو والسينما والمسرح والتليفزيون، لكن دوره، مع ذلك، محدود بالمقارنة مع قنوات الاتصال الشخصي. لقد بين دارسوا نشر المستجدات وشيوعها في المجتمع فعالية قنوات الاتصال الشخصي (الآباء والأبناء، مثلاً) في تشجيع ما يجد من ابتكارات، ليس في عالم اللغة والمستجدات اللغوية من مصطلحات ومعجمات وغيرها، بل عالم التكنولوجيا كذلك. ودحض باحثون آخرون فكرة تأثير وسائل الإعلام في تبني اللغة والمستجدات اللغوية بملاحظة ما يجري على مستوى البنية الصوتية، خصوصاً:
على الرغم من إنصات ساكنة القرى للنطق المعيار في الراديو والتليفزيون، فإنهم أغلبهم يستمر في نطق اللغة متأثراً بلهجته؛
يتبين من دراسة لغة الإعلام أن الإعلاميين أنفسهم تابعين لرغبات مستمعيهم ومستهدفيهم، بحيث لا يكون إسهامهم في التغيير اللغوي هدفاً أولاً.
4. خاتمة
لقد تبين من كثير من التجارب أن الإصلاح الذي لا يعتمد خطط واضحة غالباً ما يكون مآله الفشل. لذلك، حاولنا عرض بعض خصائص، واعتبارات التخطيط اللغوي، سعياً إلى ترسيخ مبادئه، كونه، يمكن من رسم سياسات الإصلاح اللغوي الفاعل.


تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة