أصبح من الشائع اعتبار السيميائيات(Sémiotique)عند المهتمين بهذا الحقل المعرفي علما موضوعه دراسة العلامات، والعلامة، كما حددها بورس( CH.S.Peirce)، كل شيء يحل محل شيء آخر ويدل عليه، سواء كانت علامة لفظية أم علامة غير لفظية، طبيعية أم اصطناعية؛ هذا بالرغم من أن أمبرطو إيكو(U.Eco) ذهب إلى أن موضوع السيميائيات ليس العلامة، وإنما الوظيفة السيميائية، وهو في ذلك يستند إلى يلمسليف (Hjelmslev)في هذا التوجه.
ارتبطت السيميائيات ابتداء بالعالم الأمريكي تشارلز سندرس بورس من خلال كتابه "كتابات حول العلامة"، وهو عبارة عن محاضرات لبورس جمعت بعد وفاته؛ فقد أرسى قواعدها منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، جعلها مناط دراسة التجربة الإنسانية عامة، منطلقا بالأساس من اعتبارها محرك باقي العلوم الأخرى، سواء كانت علوما إنسانية أم غير ذلك، وبورس إذ يراها كذلك، ينطلق من إبدالات نظرية أملتها التخصصات المتعددة التي أقام عليها نموذجه النظري السيميائي(الرياضيات والمنطق والفيزياء...). وفي الوقت نفسه الذي كان يبني بورس فيه هذا النموذج النظري، افترض اللساني السويسري فرديناند دوسوسور(F.De Saussure) وجود علم جديد سماه السيميولوجيا(Sémiologie)، سيكون جزءا من علم النفس العام، وسيدرس كل العلامات الدالة التي لا تدرس اللسانيات إلا اللفظية منها، حيث تعنى أساسا باللسان، وستكون اللسانيات بذلك ضمن علم أشمل هو السيميولوجيا.
تعددت اتجاهات النظرية السيميائية، واختلفت نماذجها، وأطرها المرجعية بحسب التحاقل المعرفي الذي شهده هذا العلم خصوصا في أواسط القرن الماضي، بموازاة تطور مجموعة من العلوم التي تفاعلت معها السيميائيات تأثيرا وتأثرا، إذ يمكن الحديث عن سيميائيات التواصل(بويسنس Buyssens وبرييطو Prietoومونان Mounin)، وسيميولوجيا الدلالة (رولان بارت Roland Barthes)، التي أخذت على عاتقها دراسة الأنساق الدالة غير اللفظية من خلال الاستثمار المتميز للمصطلحات اللسانية (الدال، والمدلول، والتقرير، والإيحاء، والشكل، والمحتوى...)، وسيميائيات الثقافة مع الإيطالي أمبرطو إيكو (U.Eco)وغيره، ثم السيميائيات البصرية، وسيميولوجيا الأشكال الرمزية، ومدرسة باريس السيميائية (السيميائيات السردية) مع رائدها اللتواني الأصل ألجرداس جوليان غريماص (A.J.Greimas) وأتباعه: جوزيف كورتيس (J.Courtés) وجون ماري فلوش(J.M.Floch)وجاك فانطاني (J.Fantanille) وغيرهم.
تبلورت نظرية السيميائيات السردية(Sémiotique narrative) منذ كتاب مؤسسها الأول غريماص"الدلالة البنيوية"(1966)، حيث أرسى أولى قواعدها، لكن توالت النماذج السميائية بعد ذلك بدءا من: "في المعنى"(1970) وفي المعنى II(1982)، ثم المعجمين السميائيين اللذين أنجزهما بالاشتراك مع تلميذه جوزيف كورتيس وغيرها.
عرف هذا الاتجاه المعرفي بالمدرسة الفرنسية (مدرسة باريس السميائية)، أسست نموذجها النظري ابتداء على الخرافة والحكاية الشعبية، مستثمرة العمل الهام لفلاديمير بروب(V.Propp) في"مورفولوجية الخرافة"، ثم استدراكات ليفي ستروس (C.Levistraus) وغيرهما، لتنفتح المدرسة بعد ذلك على حقول معرفية أخرى، مثل سميائيات الأهواء مع جاك فونتاني، ونظرية الكوارث مع روني طوم (R.Thome) وجون بيتيتو كوكوردا،(J.P.Cocorda) ومفهوم التناظر(Isotopie) مع فرانسوا راسيتي(F.Rastier) وغيرهم؛ وقد أغنت هذه الإبدالات النظرية السيميائية السردية، وجعلت منها إطارا حاضنا لنصوص ذات أبعاد مختلفة اجتماعية وسياسية ودينية.
وهذا التوجه الأخير هو الذي نتبناه في تحليل رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، لكن هذا لا يعفي من الاستفادة من توجهات سيميائية أخرى في التحليل، وسنحاول استنادا إلى ذلك استثمار مقتضيات وإجراءات السيميائيات الغريماصية، التي تضع في صلب اهتمامها الرئيس دراسة شكل الدلالة في كل الخطابات السردية بحثا عن المعنى، علما أن مؤسسها يرى أن السردية تحضر في كل الأفعال والخطابات الإنسانية بكامل تمفصلاتها، سواء تعلق الأمر بالرواية أم بالقصة أم بالصورة، وهلم جرا. وبناء على ذلك سيتخذ تحليلنا السلمية الإجرائية الآتية:
1- في عتبات النص
ينظر إلى الغلاف في النظرية السيميائية، خصوصا مع أعمال فانتاني الأخيرة، بوصفه لوحة (Tableau) ضمن معمار النص، تشتغل باعتبارها صفحة تتميز عن الصفحات المشكلة للنص المتن بطابعها الدلالي الأيقوني، وبتنظيم العلامات البصرية بكيفية تجعلها ترسخ(Ancrage) المتن النصي بأكمله، وتبرز كيف يأتي المعنى إليه.
يخضع معمار النص (Architecture de texte) من حيث تحديده، وطريقته في التدليل والاشتغال، إلى الجهاز النظري الذي يروم دراسة النص، أي مختلف المفاهيم الإجرائية التي تحدد المنهج الذي تتبناه النظرية بوصفها جهازا واصفا، له كفاياته المخصوصة، وطريقته في الاستدلال عموما؛ ويختلف المعمار من هذا المنظور باختلاف الإطار النظري الذي يستند إليه في التحديد، ومن تم فهو، منظورا إليه من وجهة سيميائية سردية، يحدد باعتباره تركيبا للنص، أي بوصفه لوحة تنتظم فيها المعطيات البصرية، والمعطيات اللسانية، بشكل يجعل من اندماج النسقين اللفظي والبصري أمرا واردا ومهما في بناء النسق الدلالي العام.
إن التساؤل حول المعنى، عن طبيعته، وعن شروط إنتاجه في علاقته بالنص، هو تساؤل عن طبيعة التدليل نفسه، أي الكيفية التي يأتي بها المعنى، مادام النص يشتغل بوصفه تدلالا(Sémiosis)، ويقصد به السيرورة التي يحيل من خلالها المأثول على الموضوع عبر مؤول بحسب الطرح البورسي(نسبة إلى تشارلز سندرس بورس).
تنتظم الغلاف مجموعة من العلامات البصرية الأيقونية(Iconiques) والتشكيلية(Plastiques)، والعلامات اللسانية(Linguistiques). يقع في أعلى اللوحة اسم كاتب الرواية نجيب محفوظ، وفي وسطها يدان ممدودتان؛ في اليد اليمنى منهما مسدس مصوب، وأمام هذه العلامات كلبان بلون أسود، لكنهما يوجدان في خلفية الصورة أو عمقها(Fond)، وفي أسفل الصورة على اليمين امرأة تلبس لباسا شفافا يكشف عن أسارير جسدها، وتضع في فمها أحمر الشفاه، كما أنها تحمل علبة تحيل إلى الهدية، ويوجد في أسفل الغلاف على اليسار عنوان النص "اللص والكلاب" كتب بلون أبيض، وبخط منحرف تماما، توجد اليدان في الأعلى، وكأنهما فوق عمارة، بينما ترزح المرأة بحركتها الملتوية تحت هاتين اليدين.
هذا كل ما يقوله المؤول المباشر لهذه العلامات البصرية واللسانية، وهذا ما لا يرتضيه الذهن السيميائي المحلل، إننا وقفنا فقط عند حدود ما تقوله هذه العلامات في صورتها التقريرية(Dénotatif)، لكنه لا يسعف في استكناه دلالات الغلاف إلا باستدعاء مؤول دينامي، ننتقل بوساطته من المعاني المباشرة إلى المعاني الإيحائية(Connotatives)، إذ نستدعي تجربة جانبية سابقة في الوجود والاشتغال عن ما هو متحقق نصيا، وهي الكفيلة بتناسل المعنى وطرحه لمتاهات التأويل.
فلا يمكن سبر أغوار دلالات الغلاف المائعة والدفع بمعانيها نحو ساحة التداول إلا باستدعاء هذا المؤول، بحسب المفهوم البورسي للتأويل، هو بمثابة مؤول ثان غير مباشر كفيل بالانطلاق في متاهات التأويل إلى حدود الرسوخ عند مؤول نهائي باعتباره نهائيا داخل التدلال.
يرى رولان بارت(Roland Barthes) في هذا الصدد أن الصورة تقرأ على شكل z، وهي في ذلك تتبع سيرورة العلامات اللسانية، وبارت في ذلك يقصد اللغة الفرنسية التي تتجه في كتابتها من اليسار إلى اليمين، لكن نحن في اللغة العربية نقرأها إذا بالعكس على شكل s.
يوجد في الأعلى اسم الكاتب نجيب محفوظ، لماذا كتب بلون غير بارز، ومن دون أي حلية مثل "الدكتور"؟ إن الأمر يتعلق بنمط نموذجي(Prototype)، بتعبير روش(Rosch)، فمحفوظ أكبر من أن يحلى أو يكتب بلون بارز، إذ هو أشهر من تضاف إليه اللغة الكرافية(Graphique)، لذلك كتب بخط غير بارز مادام اسمه سابق لنصه.
وتمتد في وسط اللوحة يدان، في اليمنى منهما مسدس مصوب، فلماذا اختفى صاحب المسدس؟ ولماذا المسدس مصوب نحو الفراغ؟ وما علاقة الكلبين الموجودين خلف الصورة بتصويب المسدس؟
تلك أسئلة تنقدح انقداحا على الذات السيميائية القارئة للصورة، وتجعل القارئ يربط الظاهر بالباطن والكائن بالممكن والمحال، إن غياب صاحب المسدس غياب للتبئير(Focalisation)، وغياب للتحديد أيضا، لأن الأمر مرتبط بشيء مشين ابتداء، فاللص يتخفى عن الأنظار لأنه يعي بما يفعل، وكان بإمكانه استبدال القناع بالتخفي، فغيابه رهين بغياب أهلية العامل الذات/اللص، غياب للتنظيم، وكأن هذا اللص لا يدري هدفه أو موضوع القيمة(Objet de valeur) بالنسبة إليه بوصفه عامل ذات(Sujet) ، يطلق رصاصه نحو الفراغ، كما أن الرصاصة لن تصل إلى الكلبين الموجودين أمام المسدس، بقرينة أن المسدس مصوب إلى العدم.
لماذا يحضر الكلب باللون الأسود؟ ولماذا هما اثنان وليس أكثر؟ إن الأسود في الثقافة المصرية مرتبط بالحداد والخيانة والتشاؤم، وفي ذلك نستحضر أن دلالات الألوان تخضع للمعيار الأنتروبولوجي أكثر من غيره، كما وضحت ذلك دراسات سيميائية مهمة، كدراسات كاندنسكي(Kandinsky) وإيتن(Itten) وكوكيلا(Coucula) ومجموعة مو(Groupeµ) البلجيكية.
إن الكلب، استنادا إلى هذه المعطيات، سينصرف عن مدلولاته الحيوانية المتعلقة بالألفة والوداعة والوفاء، ليفيد الكون القيمي المرتبط بالكلب الإنساني، الذي من سماته المميزة(Traits distinctives)، بالتعبير الياكوبسوني(Jakobson)، العربدة والخيانة والمكر والخديعة، فمن يكون هذان الكلبان الإنسانيان إذن؟
إذا كان اللص الذي يرمي بالمسدس نحو الفراغ هو "سعيد مهران" العامل الذات بلا شك، فالكون القيمي للكلب الإنساني لا ينطبق إلا على شخصيتين اثنتين/عاملين اثنين في الرواية، هما "رؤف علوان"، و"عليش سدرة"، لأنهما خانا معا "سعيد مهران" مع زوجه "نبوية"، إنه إذن يصوب نحوهما لقتلهما انتقاما لشرفه، واعتدادا بكرامته، وإكبارا لمروءته؛ فغيابه عن الأنظار مرتبط إذا بعدم تحقيق الرغبة، مما يحيل تلقائيا إلى فشل البرنامج السردي(Programme narratif)، وعدم حصول العامل الذات على موضوع القيمة نهاية: القتل.
تدل صورة المرأة الموجودة أسفل الغلاف من خلال شكلها الخارجي (شفاه حمراء، قد ممشوق، لباس كاشف كلبسة المتفضل...)، وكذلك الشيء الذي تحمله، والزمان الليلي، تدل كل هذه البديهيات المزيفة، حسب بارت، على كون نسائي مخصوص مرتبط ببائعات الهوى، تمثله في النص "نور" خليلة "سعيد مهران"، وهي وإن كانت تمثل الرذيلة، فقد وجد فيها البطل المأساوي سعيد ملاذه. فكيف يتغير مجتمع تختفي فيه المروءة حتى تغدو فيه المومسات حاضنات، وكريمات، وصانعات للخير؟
إن هذه التناقضات التي حبلت بها نتائج ثورة يوليوز1952 في أم الدنيا، الثورة التي كانت أقوالها أقوى لها وأفعالها أفعى لها، تختزلها الرواية في البناء الرمزي للنص، سواء من خلال التداعيات أم من خلال علاقات العوامل(Actants) فيما بينها.
فشل صاحب المسدس في درء الخيانة واسترجاع ابنته، ومن ثم أصبح بطلا مأساويا بامتياز، لأنه اختار الحل الفردي في ذلك، وأصبح ينظر إلى الناس جميعهم بوصفهم خونة إلا ابنته "سناء"، وهذه سبيل غير مجدية في مجتمع متناقض.
يرزح في أسفل الغلاف على يسار اللوحة" اللص والكلاب" عنوان الرواية، والمشة التي تقدم للقارئ حتى يزدرد النص، هي علامة بصرية تشكل النسق اللساني الذي يحد من تعدد دلالات (Polysémie) الصورة، وهذه العلامة اللغوية هي بمثابة ترسيخ(Encrage) للنص بأكمله.
إن الأمر يتعلق إذا بلص "سعيد مهران"، وكلاب تدل أحيانا على الكون القيمي الإنساني فتحيل إلى الكلاب الإنسانية التي تحبل بها الرواية (رؤوف علوان، عليش سدرة، المخبر، بياظة....)، وأحيانا تدل على الكلب الحيواني، فتتعلق بكلاب البوليس التي طاردت سعيد مهران بعد خروجه من السجن، وقتله لشخصين بالخطأ عندما أراد في الأولى قتل "عليش" وفي الثانية قتل "رؤوف".
2- تقطيع النص الروائي
يعد تقطيع النص عملية إجرائية مهمة بحسب مقتضيات المنهج السيميائي السردي، فالتقطيع هو السبيل الوحيدة في فهم النص والأخذ بتلابيب تشكل دلالاته، وكل مقطع سردي قادر أن يكون لوحده حكاية مستقلة بذاتها، كما يمكنه أن يدخل ضمن حكاية أوسع؛ يرتبط تقطيع النص، حسب غريماص، بمعايير أهمها: الفضاءات النصية، والثيمات المتتالية في تناسل خطاب النص، والمكونات الخطابية المختلفة مثل: التزمين، والتفضيء، وبنية الممثلين، وكل ما من شأنه أن يضيء دلالة الخطاب، ويخلق آثار معنى يسهم متضافرا في بناء دلالة النص.
نشير من خلال المحددات السالفة للمقطع إلى وجود ثلاثة مقاطع رئيسة في النص مناط التحليل، يمكن تقسيمها وفق ما يلي:
- المقطع الاستهلالي: يرتبط بخروج "سعيد مهران" من السجن عفوا بمناسبة عيد الثورة الرابع إلى رجوعه من البيت ذي الأدوار الثلاثة بـ"عطفة الصيرفي"، حيث كان يريد استرجاع ابنته "سناء" وكتبه والانتقام من غريمه "عليش سدرة" وزوجه "نبوية" اللذين خاناه بعد دخوله إلى السجن. وهو مقطع يتضمن برنامجا سرديا فاشلا، حيث لم يسترجع مهران ابنته التي نفرت منه، ونكرته وأوجست منه خيفة؛ وقد حاول سعيد تبديد فشله باستعادة كتبه رغم تفاهتها لكي يبين للحاضرين بأنه ليس، كما يحسبونه، لصا؛ إن هذا المقطع الاستهلالي يشكل بداية لإخفاقات سعيد مهران المتتالية.
- المقطع الوسطي: تتخلل هذا المقطع مجموعة من تداعيات "سعيد مهران" كسرت الترتيب المنطقي للأحداث، كتذكره، وهو في مقام الشيخ "علي الجنيدي"، لطفولته وللطريقة التي مات بها والداه، وتذكره للأيام الخوالي مع "نبوية"، وتقديره السابق لـ"رؤوف علوان" الذي كان بمثابة أستاذ له"علي أن أبدأ الحياة يا أستاذ علوان" ص27.
تعرف "سعيد" من خلال جريدة الزهرة أن "علوان" صحافي بها، لكن بعدما نكره أيضا أصبح يفكر في سرقته ثم قتله، مادام تخلى عن أستاذيته، وكل المبادئ التي كان يؤمن بها، ويشبعها سعيد مهران، فقد أصبح من المستفيدين من ثورة الضباط الأحرار" قمة النجاح أن يقتلا معا، نبوية وعليش. وما فوق ذلك يصفى الحساب مع رؤوف علوان، ثم الهرب، الهرب إلى الخارج إن أمكن" ص59.
وبعد ذلك أصبح سعيد مهران متسللا في بيت "نور" المومس التي حضتنه، وأخفته، لا يخرج إلا ليلا لابسا بذلة بوليسية، كانت قد أخاطتها له بنفسها قناعا، وأصبح رهين مطاردة البوليس وكلابهم، بعدما فشل في قتل عليش سدرة وعلوان، ففي المرة الأولى أصاب "شعبان" (بالمسدس الذي اقتناه من "المهرب" بمقهى طرزان) الذي سكن بيت عليش بعدما غادره خوفا من اقتفاء سعيد مهران له، وفي المرة الثانية قتل حارسين لرؤوف.
- المقطع النهائي: يرتبط باختفاء سعيد مهران في بيت "نور"، فبعد أن خرج يوما إلى مقهى "المعلم طرزان"، رجع لتوه ولم يجد نورا، جاءت صاحبة البيت تطلب تسديد الإيجار، فاضطر سعيد إلى مغادرة البيت في منتصف الليل خائفا يترقب، قاصدا الشيخ "علي الجنيدي"، ليتبين له أنه نسي البذلة في بيت نور، فكر راجعا إليها، وإذا به يجد صاحب البيت، ثم رجع هاربا إلى مقام "الشيخ علي الجنيدي، لا يعقب ولا يلوي على شيء، كانت الليلة ليلة ذكر، وفجرا سمع بخبر حصار الحي، ليخرج هاربا نحو المقابر، فتمت مطاردته، حاول المقاومة، لكنه انتهى إلى الاستسلام.
3- المسار التوليدي للنص
إن ضبط المسار التوليدي لكل نص بغية البحث في تشييد دلالاته، والكيفية التي يأتي بها المعنى إلى النص استنادا إلى البناء النظري السيميائي الغريماصي يخضع ضرورة لتتبع المسار التوليدي السيميائيات السردية، بدءا بالبنية الخطابية التي تعد، كما يراها غريماص وأتباعه من المدرسة الفرنسية، بنية متجلية متمظهرة، وهي بذلك البنية الأخيرة في سلمية المسار التوليدي عينه. ثم ننتقل إلى تحليل الرواية استنادا إلى البنية البينية بين المحايثة والتجلي، يتعلق الأمر بالبنية العاملية، وهي أساسا تحليل للحالات والتحولات في المسار السردي عموما؛ وأخيرا البنية الموغلة في التجريد المرتبطة ابتداء بالمربع السيميائي الذي يعد بنية منطقية أولية للدلالة.
إن هذه السلمية المنتقاة في التحليل إجرائية، تفرضها طبيعة النص، فنحن لا ننتقل إلى ما هو موغل في التجريد إلا قبل المرور أولا عبر ما هو متجل متمظهر مؤنسن(Anthropomorphe)، وثانيا إلى ما هو بين التمظهر من جهة، والتجريد من جهة ثانية وفق المسار الآتي:
3-1- البنية الخطابية
تقوم البنية الخطابية على مكونين اثنين: المكون التركيبي والمكون الدلالي، إذ تعد هذه البنية بالأساس تجل للبنية السيميائية السردية وتحويلها إلى بنية خطابية بوساطة عملية التخطيب (Discursivation)؛ إن الخطاب نتيجة تحويل للأشكال المجردة. وتستند عملية التخطيب، في الانتقال من المجرد إلى المحسوس، إلى ثلاثة مستويات: مستوى صوغ الممثلين، ومستوى التفضيء، ومستوى التزمين.
3-1-1- بنية الممثلين
إذا كان العامل يتميز ببنيته التركيبية، فإن الممثل يتميز ببنيته الدلالية بالأساس، بوصفه وحدة معجمية منتمية إلى الخطاب، وهو قادر أن يقوم بدور أومجموعة أدوار من خلال موقعه. إن الممثل على المستوى الخطابي هو بؤرة التحليل، لأن في برنامجه الخطابي2 (الذي يزين البرنامج السردي) يؤثر في انتقاء الأفضية (السجن، والبيت ذو الأدوار الثلاث، وعطفة الصيرفي، ومقهى المعلم طرزان، وقصر رؤوف علوان، ومقام الشيخ علي الجنيدي، وبيت نور، والمستشفى، والقرافة...) والأزمنة (فترة الطفولة، والشباب، وثورة الضباط الأحرار في يوليوز1952 وما بعدها، وأربع سنوات في السجن، والخروج من السجن...). وعموما يقوم الممثلون، (سعيد مهران، ونبوية، وعليش، ورؤوف علوان، ونور، وسناء، والكتب، وعلي الجنيدي، والمخبر، وطرزان، والمهرب، والكلاب، والبوليس، والبذلة، والمسدس...) بدورين هامين على المستوى الخطابي:
- دور ثيماتي (Thématique)
- دور تصويري (Figuratif)
وللتمييز يرى جوزيف كورتيس (J.Courtés)3 أن البعد التصويري يعود إلى الحواس، أي إلى كل ما يدرك مباشرة من خلال المدركات الخمس، وهو بذلك قابل للمعاينة في العالم الخارجي؛ ويتحدد البعد الثيمي بوصفه كونا مجردا، أي: بصفته مضمونا لا رابط بينه والعالم الخارجي، وبعبارة أخرى لا وجود للشيء إلا من خلال النسخ المتولدة عنه. وينظر إلى البعد الثيمي بوصفه وجودا معايشا لقيم تولد ثيمات، لتتحول هذه الثيمات إلى سلوك، أي إلى معطى تصويري.
أ- الدور التصويري: يقوم التصويري على سلمية محددة في التحليل:
مسار سيمي صور مسارات تصويرية تشكلات خطابية
- الصورة (Figure) : تعد الصورة وحدة قارة تعرف من قبل نواتها الدائمة، والتي من خلالها تحقق الإمكانات بطرق مختلفة بصدد السياقات عبر مسارات سيمية (Parcours sémique). والصورة هي المعنى الذي يقدمه المدخل المعجمي(4. نجد بين أيدينا في النص صورا متعددة يمكن أن نجملها في كل العناصر التي لعبت أدوارا عاملية مخصوصة (سنشير إليها لاحقا)، ويمكن النظر إلى الصورة من خلال الذخيرة المتعلقة بحدود الإمكان، أي بمختلف الدلالات الممكنة لأي صورة قبل استعمالها، ثم من حيث الاستعمال، الذي يتعلق بتحقق هذه العوالم، أو بجزء منها؛ وعند تداخل هذه الكلمات، وارتباطها بعلاقات داخل تتابع الجمل، أمكننا دمجها في حقول:
– الحقل المعجمي: هو المجموع المكون من خلال الكلمات (اللكسيمات)، تصنفها لغة معينة من أجل تعيين التمظهرات المختلفة لفكرة أو موضوع أو تقنية ما: يمكن للحقل أن يتطابق مع اختبار التمظهر المحتمل للصور؛ إن الحقل المهيمن هنا هو الانتقام والمطاردة.
- الحقل الدلالي: وهو مجموع استعمال كلمة في نص معطى، يقدم لهذه الكلمة حمولة دلالية: يمكن للحقل الدلالي أن يتعلق باختبار المسارات السيمية لصورة أو لتمظهر محقق لصورة، مثل الانتقام الذي قد يفيد في حدود الإمكان كل المعاني الواردة الدالة عليه، وعلى المطاردة سواء كانت حقيقية أم متخيلة، وذلك ما تبرره الصورة (الكلاب) إذ تفيد حينا الكلاب الحيوانية البوليسية، وتفيد حينا آخر الكلاب الإنسانية وغير ذلك.
نلاحظ إذا أن اختبار الصور في ذاتها ولذاتها يظل قاصرا في التحليل السيميائي، لأن أي نص لا يتضمن صورا منعزلة، بل يشمل تعالقا بينها، يسمح بالانتقال من المعجم إلى التركيب، أي من الصور بوصفها وحدات معجمية إلى المسارات التصويرية (Parcours figuratifs) باعتبارها علاقات تركيبية جامعة بين هذه الصور، ومن تم الانتقال من البسيط إلى المركب من خلال البعد التحليلي للمستوى التصويري.
- المسار التصويري: إن ترابط هذه الصور فيما بينها بشكل منسجم، وديناميتها بصفة متناظرة5 يولد مسارات تصويرية متجلية في المقاطع السردية التي أشرنا إليها سالفا. إننا هنا أمام برنامج منتظم ومنسجم، مما يخول لنا القول إن المسارات التصويرية تلبس وتزين البرامج السردية على المستوى السطحي، وتبين كيف تتجلى البرامج السردية على مستوى الخطاب6.
رأينا سالفا أن المسارات السيمية تولد الصور، والصور في تعالقها المتناظر تولد مسارات تصويرية، ومنه توجد عناصر ربط واضحة داخل النص بين هذه المسارات، تبدأ بخروج سعيد مهران من السجن وتتوسط بالجرائم والمطاردة وتنتهي بالاستسلام.
- التشكلات الخطابية: نجد بين هذه المسارات الواردة في النص نقط التقاء مشتركة، يمكن أن نجمعها في تشكلات خطابية، حيث تظهر التشكلات الخطابية(Configurations discursives) بوصفها مجموع دلالات محتملة قابلة لأن تكون محققة عبر مسارات تصويرية متمثلة في الانتقام والمطاردة والاستسلام . نجمل إذا ما قلناه عن البعد التصويري في ما يلي:
مستوى خطابي
مستوى لكسيمي
جهة الإمكان
تشكلات خطابية واردة من قبل قاموس الخطاب
صور لكسيمية واردة من قبل قاموس جملي
جهة التحقق
مسارات تصورية محققة في الخطاب
مسارات سيمية محققة في جمل
يمكن من خلال الجدول تقسيم البعد التصويري إلى مستويين اثنين: مستوى لكسيمي يقوم على الوحدات المعجمية التي تتكفل بها الحقول الدلالية والحقول المعجمية، نميز فيها بين جهة للإمكان، أي ما يمكن أن يتحقق، وجهة للتحقق، أي ما ندركه متحققا فعلا عبر المسارات السيمية، والصور والمسارات التصويرية؛ ثم مستوى خطابي يتعلق بجماع المسارات التصويرية الناظمة للتشكلات الخطابية، من خلال الإمكان أولا، ثم من خلال التحقق ثانيا.
ب- الدور الثيماتي
يقوم تحليل جماع ما هو محقق نصيا من خلال المسارات التصويرية إلى أنواع من الأدوار الخطابية يمكن تسميتها بالأدوار الثيماتية، فإذا كنا نرى أن الأدوار العاملية التي يقوم بها عامل في المستوى السردي السطحي، تختزل إلى دور عاملي محدد، فإن المسارات التصويرية التي يتفاعل معها الممثل يمكن أن تختزل وتستثمر دلاليا في أدوار ثيماتية. والثيمات الثلاث المهيمنة، كما أشير إلى ذلك، هي الانتقام والمطاردة والاستسلام المرتبطة بالخيانة، والنكران، والحرية المسترجعة، وتطبيق القانون الزجري.
نلاحظ أنه إلى حد الآن نتحدث عن مسارات غير محددة بتخوم، مما يفرض علينا إجرائيا الحديث عن التفضية والتزمين المرتبطين إلى جانب الممثل بالتركيب الخطابي.
3-1-2- التفضية والتزمين في النص
يرتبط التزمين التفضيء(Spatialisation et temporalisation) في النص من خلال إجراءين أساسين هما: الاندماج واللااندماج (Débrayage/Embrayage)
يمكن النظر إلى اللاندماج بوصفه عملية تسند انطلاقا من انحلال محفل التلفظ، الذي يحدد في "الأنا والهنا والآن". 7 والاندماج هو العملية التي تعود بنا إلى محفل التلفظ. ومنه نتحدث عن لاندماج ممثلي (أنا، لا أنا) ويمكن أن نلاحظه عبر إشاريات حضور السارد أو غيابه عند تداعيات "سعيد مهران"، حيث ينحل محفل التلفظ، فنكون أمام لااندماج ممثلي، حيث يتكفل السارد بالحديث عن الشخصية، وهذا النوع هو المهيمن في النص، فالسارد ذو معرفة كلية، يسرد بضمير الغائب، مطلع على كل شيء، بما في ذلك بواطن الشخصيات مثل البطل المأساوي "سعيد مهران".
أ- اللاندماج الفضائي - الزماني
يبعد هذا اللاندماج الفضاء والزمان خارج محفل التلفظ، ونعبر عنه بـ(هنا، لا هنا) حيث يتوارى، ويحل محله الزمان - الفضاء الآخر. ومفاد ذلك أن الذات المتلفظة، تتحين داخل فضاء وزمان مخصوصين، وتتحدث عن وقائع خارج محفل التلفظ، تمثل هذا الانحلال في محفل التلفظ تداعيات سعيد، حيث إن زمن الحكاية يبدأ مع خروجه من السجن، لكن السارد يستبطن الشخصية الرئيسة لسرد أحداث وقعت قبل السجن عن طريق الاسترجاع والتداعي، باعتماد الفعل الدال على المضي "وعقب شهرمن الحادث ماتت الأم في قصر العيني. وطيلة احتضارها ظلت قابضة على يدك وتأبى أن تحول عنك عينيها. غير أنك في غضون شهر المرض سرقت..."ص90
وداخل الفضاءات والأزمنة نتحدث عن المحلاتية(localisation)والتضمين (Emboîtement)، كما هو الحال في إدخال فضاءات جزئية في أخرى كلية.
ب- توزيع الفضاءات والأزمنة
إن المسار الذي يعتري تسلسل الأحداث التي يقوم بها الممثل، والتي تحدد دينامية الخطاب عبر مسارات، توازيه سلمية في تحديد الفضاءات والأزمنة، حيث يبتدئ بالزمان-الفضاء المنبع (Espace temps source)، الذي يعد نقطة انطلاق البحث عن موضوع القيمة، وهو هنا السجن في السنة الرابعة من ذكرى عيد الثورة في مصر، ثم الزمان-الفضاء الهدف (Espace- temps cible)، أي الزمان- الفضاء الذي يحصل فيه البطل على موضوع القيمة، أو لا يحصل عليها، وهو هنا في الرواية "القرافة" التي استسلم فيها "سعيد مهران" في مقابرها، فلم يحصل على موضوع القيمة نهاية.
غير أن الانتقال من الأول إلى الثاني لا يتم إلا عبر فضاء-زمان وسيط (Espace temps médiateur)، وهو فضاء-زمان الفعل الإنجازي (بين السجن والقرافة 1956). ويشمل فضاءات وأزمنة مساعدة، فالفضاءات والأزمنة المساعدة كانت هي: بيت نور، ومقام الشيخ علي الجنيدي، والبيت ذو الأدوار الثلاثة، ومقهى المعلم طرزان، والليل... ثم فضاءات وأزمنة معاكسة كفضاء السجن، والقرافة، والمقابر، والفجر... ويمكن صورنتها وفق ما يلي:9
simiologie.jpg
3- 2- البنيات السيميائية السردية
3 -2-1- المكون السردي السطحي
إن الانتقال من البنية المتجلية خطابيا إلى مابين المحايثة والتجلي يتطلب إجراء يحدد هذا التمفصل بين الخطابي والسردي؛ وهذا الإجراء يمر عبر الدورين المختلفين اللذين يلعبهما الممثل، وهما: الدور العاملي بوصفه عاملا على المستوى السردي السطحي، والدور الثيماتي في علاقته بالبنية الخطابية، في الأولى ينظر إليه بوصفه عاملا، وفي الثانية ينظر إليه باعتباره ممثلا؛ إن موقعه إذا بين بين.
يقدم النص على مستوى البنية العاملية بوصفه سلسلة من الحالات ((Etats والتحولات (Transformations)، جعلت غريماص يقر أن السردية (Narrativité) توجد في كل الأنساق الدالة؛ تتعلق الحالات بالكينونة(Etre) وتعود التحولات إلى الفعل والظهور((Paraître.
يفرض هذا الاختلاف وجود ملفوظين مختلفين: ملفوظ حالة (Enonce d’état) يتعلق بالعلاقة بين الذات(Sujet) والموضوع(Objet)، ونرمز له ب (ذ-م) وملفوظ الفعل (Enonce de faire)، يرتبط بالتحول في هذه العلاقة إما اتصالا أو انفصالا، يلزم من ذلك ملفوظين للحالة:
- ملفوظ حالة اتصال(Conjonction): يكون العامل الذات متصلا بالعامل الموضوع، نرمز للاتصال بالرمز ∩ حيث ع ذ ∩ ع م.
- ملفوظ حالة انفصال (Disjonction): يكون العامل الذات منفصلا عن العامل الموضوع، نرمز للانفصال بالرمز U حيث ع ذ U ع م.
أما ملفوظ الفعل أو التحول فيرتبط بالانتقال من حالة إلى حالة أخرى، حيث نجد شكلين من التحول:
- تحول الاتصال: يتم الانتقال من حالة الانفصال إلى حالة الاتصال.
ونرمز له بالصياغة الصورية الآتية:
ع ذ U ع م ع ذ ∩ ع م
يشير السهم إلى التحول من حالة انفصال إلى حالة اتصال.
- تحول الانفصال: يتم الانتقال من حالة اتصال إلى حالة انفصال، نمثل له بـ:
ع ذ ∩ ع م ع ذ U ع م
يشير السهم إلى الانتقال من حالة اتصال إلى حالة انفصال.
يسمي غريماص تتابع الحالات والتحولات برنامجا سردياnarratif) Programme (، يرتبط بالعلاقة (ع ذ-ع م)، وتحولاتها الاتصالية أو الانفصالية، وهذا التحول، أي القيام بالبرنامج السردي، يتطلب فاعلا إجرائيا (Sujet opérateur) مؤنسنا (Anthropomorphe) ومادام هناك حالة وتحول، فالفاعل الإجرائي إما أن يكون:
فاعل الحالة: يكون في علاقة اتصال أو انفصال بموضوع القيمة (Objet- valeur) فالعلاقة (ع ذ-ع م) تحدد ملفوظ الحالة، أو فاعل الحالة.
فاعل الفعل: التحول في العلاقة إما بالاتصال أو بالانفصال، نرمز لفاعل الفعل بالترسيمة العامة (Schéma générale) الآتية:
فا ف [( ع ذ U ع م ) (ع ذ ∩ ع م )]
يرمز (فا ف) إلى فاعل الفعل و(ع ذ) إلى العامل الذات والسهم إلى التحول، و(∩) إلى الاتصال و( U) إلى الانفصال.
يتطلب هذا التحول انجازا (Performance)، إن تحقيق التحول من قبل الفاعل الإجرائي يفترض أن يكون هذا الأخير محفزا من قبل عامل آخر مرسل (Destinateur) يقنعه فيقتنع بالإنجاز، نسمي هذه العملية تحفيزا(Manipulation). ولابد بعد ذلك للعامل الذات/الفاعل الإجرائي أن يملك الشروط الضرورية لإنجاز الفعل، وفق قيم جيهية (Modalités)أجملها غريماص في أربع: وجوب الفعل(Devoir faire) والقدرة على الفعل(Pouvoir faire) ومعرفة الفعل (Savoir faire وإرادة الفعل(Vouloir faire)، نسمي هذه الشروط والقيم الجيهية القدرة.(Compétence)
تعد القدرة موضوعا يمكن أن يكون الفاعل الإجرائي ممتلكا له أو لا، وهذا الموضوع بوصفه كذلك، ليس المطلوب الرئيس للإنجاز، لكنه شرط ضروري له، لذلك سمي موضوعا استعماليا أوموضوعا جيهيا (Objet modal) لأنه مرتبط بتحقيق للقيم الجيهية السالفة، أما الموضوع الرئيس فيسمى موضوع القيمة، لأنه مرتبط بالإنجاز وبالعلاقة (ع ذ- ع م)، أي بمجموع الحالات والتحولات (البرامج السردية) التي يقوم بها العامل الذات في بحثه عن موضوع القيمة.
سنحاول في البدء تقديم النموذج العاملي بوصفه نسقا في البداية، ثم نجري إجراءه فيما بعد.
أ- النموذج العاملي باعتياره نسقا(10
ويمكن النظر إلى هذا النموذج باعتباره أزواجا:
-المرسل / المرسل إليه (أو محور الإبلاغ): دور المرسل (الحرية) هو إقناع العامل الذات، أما المرسل إليه (المروءة) فهو يشكل العامل المستفيد من الموضوع (الانتقام)، ولهذا فإن محفله يكون في النهاية.
-الذات / الموضوع (أو محورالرغبة): يشكل هذا الزوج قطب الرحى في النموذج العاملي، فالذات (سعيد مهران) ترغب في موضوع القيمة (الانتقام)، ويكون هذا بعد إقناع العامل الذات من قبل العامل المرسل.
-المساعد/ المعاكس (أو ما يشكل مقولة الصراع): نلاحظ أن العوامل المعاكسة أعظم من العوامل المساعدة في النص، فهي تقوم ببرامج مضادة للبرنامج السردي الأساس الذي يقوم به العامل الذات(سعيد مهران)، تعرقل بذلك مسار بحثه عن موضوع القيمة، ومادام العامل الذات يحمل في نفسه عاملا معاكسا لنقصان أهليته (غياب التنظيم)، فإن المسار السردي بأكمله سيكون فاشلا، ولن يحصل العامل الذات على موضوع القيمة نهاية بالضرورة "أنا روحك التي ضحيت بها ولكن ينقصني التنظيم على حد تعبيرك..ومأساتي الحقيقية أنني رغم تأييد الملايين أجدني ملقى في وحدة بلا نصير، ضيع غير معقول"ص110.
ب- النموذج العاملي بوصفه إجراء
إن النموذج العاملي باعتباره نسقا بنية ساكنة، ولا يمكن تحريكها إلا عبر الانطلاق من النسق إلى الإجراء عبر ترسيمة سردية من أربعة مواقع.
- التحفيز: (Manipulation)(أو فعل الفعل): حيث قام المرسل (الحرية) بإقناع معنوي للعامل الذات(سعيد مهران) ب البحث عن موضوع القيمة (الانتقام)، غير أن الإقناع في هذا النموذج معنوي، لأن العامل المرسل عامل معنوي أصلا(الحرية)، ومادام الأمر مرتبط بالأنفة والكرامة والمروءة فالعمل الذات محفز ابتداء.
- القدرة : (Compétence)(أوكينونة الفعل): إن الإقناع والاقتناع ليسا كافيين لتحقيق الرغبة، بل لابد من تحقق القدرة التي تعني الشروط الضرورية لتحقيق الإنجاز، وتتلخص في:
إرادة الفعل : العامل الذات طامعا إلى الانتقام لأن الأمر يتعلق به لذاته.
القدرة على الفعل: العامل الذات ينقصه التنظيم، وهذا ما سينعكس على المسار السردي بالفشل استقبالا.
معرفة الفعل: العامل الذات عارف بطرق، وكيفيات الانتقام نظرا لصوصيته السالفة فحدوده القيمية تجعله عارفا.
وجوب الفعل: أساسه الفعل اعتداد بالكرامة والأنفة لأن الأمر مرتبط بالخيانة والنكران.
هذه الشروط تتطلب برنامجا استعماليا يتوخى منم خلاله العامل الذات الحصول على الموضوع الجيهي المشتمل للقيم الجيهية، إنه يرتبط بالبعد الذريعي، مادام هو أس البرنامج الأساس، غير أن سعيد مهران عجز ابتداء في الحصول على الموضوع الجهي، إذ تنقصه أهلية القدرة على الفعل.
- الإنجاز : (Performance)(أو فعل الكينونة): ويشكل المرحلة الثالثة في الترسيمة السردية؛ والإنجاز هو كل عملية تحقق تحولا لحالة، وهذه العملية تقتضي عاملا (Agent) هو الفاعل الإجرائي (Sujet opérateur). إننا ننتقل مما هو محين إلى ما هو محقق،11) والتحقيق يتطلب برنامجا أساسا هدفه الحصول على موضوع القيمة، غير أن تحقيق الرغبة ما يكون مفروشا بالورود، بل إنه خاضع للبنية الجدلية التي تحكم النموذج العاملي، إذ نجد برنامجا مضادا يقوم به فاعل إجرائي مضاد. ولعل ذلك ما جعل سعيد مهران يعيش المطاردة طيلة فصول الرواية، لأن العوامل المعاكسة أكبر من أن يضاهيها، وهو الذي يغيب عنه التنظيم منذ البداية، فرغم وجود بعض العوامل المساعدة، التي أشرنا إليها، إلا أن ذلك لم يجد نفعا، وبالتالي فمنذ الوهلة الأولى يمكن الحكم على البرنامج السردي بالفشل.
- الجزاء (Sanction)(أوكينونات الكينونة): إنه الحكم على الإنجاز، فإذا كان المرسل هو الذي يحكم على نجاح البرنامج السردي أو فشله، فإنه هنا في النص مغيب، مادامت معرفة فشل البرنامج السردي أمرا مفروغا منها، لأن الفاعل الإجرائي حين هم بالبحث عن الموضوع كان ناقص الأهلية؛ فكان الجزاء والتحفيز سيان. ومنه عاد البطل المأساوي إلى نقطة الصفر، حيث ابتدأ منفصلا عن موضوع القيمة في المقطع الاستهلالي للرواية ليختم بالانفصال أيضا في مقطعها الختامي، بل انتهى سعيد مهران إلى الاستسلام؛ ويمكن التعبير عن ذلك صوريا بـ:
فا ف [( ع ذ U ع م ) (ع ذ U ع م )]
ويمكن التأشير إلى هذه المراحل من خلال الجدول الآتي:
تحفيز
قدرة
إنجاز
جزاء
فعل الفعل
علاقة مرسل
فاعل إجرائي
(إقناع-تأويل)
كينونة الفعل
علاقة فاعل إجرائي
برنامج استعمال
(مواضيع جيهية)
فعل الكينونة
علاقة فاعل
إجرائي-برنامج أساس
(مواضيع قيمية)
كينونات الكينونة
علاقة مرسل
فاعل إجرائي
(تقويم)
3-2-2- المكون العميق
إن الانتقال من العمليات إلى التركيب السردي السطحي يتم عبر الفعل التركيبي، وهو يدمج مفهوم الفعل المؤنسن، مادام الفعل يتم من خلال انتقال من عمليات عميقة ذات حمولة دلالية بالأساس إلى فعل يفترض وجود فاعل من سماته (+ إنساني)، كما أن إدخال الفعل التركيبي يفرض مفهوما آخر، هو الملفوظ السردي الذي أشرنا إليه سالفا.
يفترض أن يفهم ما قلناه أعلاه بطريقة ارتدادية، حيث تنسجم القراءة والبعد الإجرائي الذي حددناه ابتداء، إذ منه سنتحدث عن البنية الأولية للدلالة، حيث يشكل الخيط الناظم للكرامة, وهي بنية اختلافية تضادية، يمكن أن نجسدها بصريا عبر المربع السيميائي، الذي يمثل الوحدات الدلالية من أجل توليد كون دلالي قابل للتجلي، ويمكن صورنته كالآتي:
تعد البنية الدلالية عبارة عن علاقات، فانطلاقا من تحريك المربع السيميائي ننتقل من العلاقات الدلالية إلى العمليات التركيبية، التي من خصائصها أنها موجهة، فلا يمكن الانتقال من المقاومة إلى الاستسلام إلا عبر اللااستسلام من خلال الصورة الآتية:
على سبيل الختام
ينتظم هذا العمل ضمن إطار للتحليل يهم دراسة النص العربي، متخذا له نموذجا مخصوصا، نص"اللص والكلاب" للمؤلف»نجيب محفوظ» الذي تعد نصوصه مختلفة باختلاف طرقها في التدليل، وأنماطها في الاشتغال، وقد تم الاعتماد في تحليل هذا النموذج على مرجعية نظرية تمثلت في نظرية السيميائيات السردية، بناء على جماع المفاهيم التي تستند إليها هذه النظرية، سواء تلك المرتبطة بها ابتداء، أو تلك التي استعارتها من نظريات أخرى. تشكل هذه المفاهيم المنهج المتبنى في الدراسة، إلا أن هذا لم يمنعنا من الاستفادة من كل المناهج الواردة (Pertinentes) في التحليل. وقد كان هدفنا استثمار المنهج السيميائي في التحليل آملين أن تحذو الدراسات النقدية هذا الحذو لما تقدمه السيميائيات من فوائد جمة للدرس النقدي العربي الحديث.
مرجع المتـن :
محفوظ، نجيب: اللص والكلاب، مكتبة مصر، (د ت)
بيبليوغرافيا
1-CHADILI (EL.Mustapha), Le traitement de la spatialité dans le conte populaire, in Recherche Linguistique et Sémiotique Publication de la faculté de lettre, Rabat, série débats N 6 1981.
2- COUTES (J), Introduction à la sémiotique narrative, et discursive, Ed Hachette, Paris 1976.
3- COUTES (J), Analyse sémiotique de discours, de l’énoncer à l'énonciation, Ed Hachette, Paris 1991.
4- GROUPE, D' ENTREVENES, Analyse sémiotique des textes, Ed Toubkal 1987.
5- GREIMAS (AJ), Du Sens, Ed Seuil, Paris 1970.
6- GREIMAS (AJ), COUTES (J), Sémiotique dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Ed Hachette, Paris, T1 1979.
7 –GREIMAS (AJ), Du Sens II, Ed Seuil, Paris 1983.8- GREIMAS (AJ), COUTES (J), Sémiotique dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Ed Hachette, Paris T2 1986.