عبد الكريم الطبال : شعرية الاحتفاء بجلال المعنى - د.امحمد برغوت

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

abstrait-6صرح " ميرلوبونتي" ذات مرة بأن المعنى هو سر الوجود، إذ لا وجود بلا معنى  و الاحتفاء   بالمعنى كان دائما هو الشغل الشاغل لمن خبر تشكيل القصيدة ذات المعاني الإنسانية الخالدة . غير أن صياغة هذه المعاني و منحها بريقها الوهاج شعريا عملية تتطلب معرفة عميقة ناتجة عن ذلك القلق الخلاق و التساؤل الضروري لكشف المخابئ السرية ، و خلق الدهشة  البكر التي بها امتلك الإنسان مفاتيح الأسرار الكامنة وراء تشكيل العالم.  
إن دوحة الشعر ظلال معانيها وارفة تمنح المستظل بها الجمال و الجلال و الجرأة على التوغل في ما هو محجوب عن الرؤية .
توقد المعنى و اشتعاله هو قدر المراهنين على خلق الدهشة العالية ليأتي بعده التورط في تشكيل قامات الحروف المؤهلة لصياغة التعابيرالقادرة على إشعال فتيل الدلالات و إيصالها إلى المتلقي لتوريطه في عملية البوح الشعري الخلاق .
و من أجل بناء الجسور الآمنة التي تنتقل عبرها المعاني لتحقيق الخطاب المرتجى، لابد من توفر مهارة   نحث اللغة و صياغتها و تسلق حواف الكلمات باعتبارها لباسا لابد فيه من شروط الملاءمة في مقاسات الطول و العرض و المدى و الحركة و الصورة و الإيحاء حتى تستقيم معاني القصيدة على هيأتها البهية .حينذاك تقوم القصيدة بأداء أدوارها بدقة متناهية و تأسر المتلقي بمطابقة دوالها بمدلولاتها. 

و هذا هو ما تحقق للشاعر الذي خبر المشي بأقدام عارية فوق أحجار القصيدة المسنونة ، يتوسل لمعانيها المحتجبة ويجوب براريها الفسيحة و يتأمل في آفاقها القصية النائية كي يظفر بما يطفئ غلة البوح الشعري ليؤسس على أنقاضها رؤيا شعرية مغربية أصيلة جعلته في مصاف الكوكبة القليلة من الموهوبين الذين أمضوا عقودا من السنين ينحتون ملامح قصيدة مغربية أصيلة ذات قسمات خاصة تميزت بها عن نظيرتها المشرقية ،إنه الشاعر الموهوب الذي ما يزال ـ إلى يومنا هذا ـ معتكفا في محراب مملكة البهاء ، ينشد حبه الصوفي لهذه البلاد المنيعة، بصروحها التاريخية و الحضارية ويهذي بعشقه لأهلها الطيبين دون سأم أو ملل ،إنه الشاعر عبد الكريم الطبال الابن البار لبلاد "جبالة" و الشامخ شموخ الجبال الراسية التي تفجرت ينابيع رقراقة ، ودررا فواحة ، ولآلئ براقة و التي صاغها الشاعر بعذب كلامه  الذي نحث منه دوحة شعرية بهية الفروع و الأغصان يفوح منها الجلال و عطر الأنوار،و سحر الأسرار التي       استودعها لغته و محا فهارسها المكتوبة .
يقول في قصيدته : " إلى جهة أخرى " :

 

سبحان السر
في كشوفه و في سجوفه
قد يختفي في اللغة المكشوفة
و في زجاج الذاكرة
و قد يبين
في الضحك المكتوم
في حفريات الجسد الموشوم
أكتفي أحيانا
لا أصدق بقدس السر
و لا بكون السر
لأني أفكر
في محو الفهرس المكتوب.  ـ 1 ـ      
الذات المتعبة من فرط عشقها للوطن المنيع:    1)

تحضر القضية الوطنية في المتن الشعري لعبد الكريم الطبال باعتبارها أرقه الدائم و قضيته الأثيرة ، ومن ثم يبدو حريصا على التوغل في استجلاء المعاني النبيلة لهذه القضية المؤثرة على الذات الشاعرة .

إن الشاعر كثير التوجس من خطوات الجواسيس الذين يترقبونه في كل منعرج أو طريق، ولذلك فهو دائم الحذر من المرايا التي تراقب خطوات الأحرار و المعلقة في جميع الجهات؛ يقول في قصيدته: " خلوة ":

" كنت أجفل
من هاجس الخطوات القريبة
أهرب
لا ألتفت عبر المرايا
لا أرفع وجهي في السقوف
في النوافذ
في رؤوس الشوارع
في جذوع الشجر
في الوجوه الغريبة
فالمرايا معلقة في جميع الجهات
كنت أجفل
من نزوات الظلال
أهرب
أتعثر
حتى وصلت
فمات الذي كان خلفي
و كان أمامي....يسير." ـ 2 ـ     

يبدو الشاعر مهووسا بملاحقة عيون السلطة للوطنيين المتيمين بعشق البلاد و العباد، و الحالمين بغد أفضل لهذا الوطن تتحقق فيه طموحات الجماهير التواقة لاستنبات الأمل في حياة حرة ديمقراطية تقودها طليعة واعية تواقة إلى وطن حر تسوده العدالة الاجتماعية و المساواة و الإخاء. و من أجل تحقيق هذه الأهداف النبيلة؛ يصدح الشاعر بنبرة تحدي قوة الحديد و النار في قصيدته: " الأصدقاء":

" يا أيها الأحباب
يا طيورنا المهاجرة
باسم الطواف في الزنزانة
باسم الصلاة في القنيطرة
سنفتح السماء المغلقة. " ـ 3 ـ

إن إيمان الشاعر بتصميم و عزم الرجال القابعين في عتمات السجون المحصنة ـ سجن القنيطرة هنا ـ قوي من أجل تكسير القيود ورفع الظلم و التصدي للطغاة ، لأن قناعتهم راسخة بحتمية التاريخ الذي وعدهم بالنصر في آخر المطاف :

" فليرفعوا الجبال من جدران
و ليسكبوا البحار من قضبان
فباسمكم يا أيها الأطياف
ستسقط الجبال
يجف الماء في البحار
و ينتهي عصر الأبواب السبعة ." ـ 4 ـ


إن الشاعر مؤمن بعزم الرجال المتفجر قوى خارقة تدك الجبال دكا، و تفجر الأرض ينابيع رقراقة في كل البراري و البطاح لينعم إنسانها بحريته الطبيعية المكفولة كونيا من أجل بناء وطن يعمه القانون ،        و يهجره الخوف و التوجس. غير أن تحقيق ذلك يتطلب المشي بأقدام عارية على طرق مسنونة،و حواشيها شائكة لا تزال تحفها الأخطار من كل جانب ، و أقساها أن من سيقود المشي في هذه الطريق، أصبح أشبه بضرير في المنافي من فرط شيوع روح المهانة و الغربة التي يستشعرها في كل زاوية من زوايا هذا الوطن المنسي،الوطن المسبي ، الوطن القاسي على أهله الطيبين :

" لك يا ضرير
في المنافي
وردة بيدين
من ضوء
فجاهد
أن تمس أريجها
أو تستشف هفيفها
هي قرب كفك
في سياج القلب
لا تدوي
إذا جاء الخريف
تموج مثل السلسبيل
كأنها في النهر." ـ 5 ـ

يتخذ الشاعر من مظاهر الطبيعة ( الورد هنا) رموزا و لمسات مفعمة تعينه على الذوبان الكوني من أجل التعبير الشفاف عما يرزح تحته المنتسبون لطبيعة الوطن و الراعون لها من خسف و ظلم و تجريح لكبرياء هذا الإنسان، و من ثم فهو حريص على استنفار الهمم كي يحاصروا حصارهم و يكابدوا
" مازوخية " جلاديهم وراء القضبان و في المخافر و الأقباء السرية ، و يعدهم بأنهم  في النهاية هم المنتصرون :

" كابد
و لا تيأس
لعلكم في سديم
قادم
تعروك نشوة
من يشم
و من يهيم
و من يشاهد ." ـ 6 ـ

2) الغنائية الطبيعية كملهم للذات الشاعرة :

تحضر الطبيعة بشكل لافت للانتباه في الأعمال الشعرية لعبد الكريم الطبال، غير أن حضورها يتم عنده غالبا باعتبارها خزانا رمزيا لتفجير الطاقة التعبيرية عن المعاني، التي تختزنها و الأسرار التي تحملها،وهي عنده وسيلة ـ و ليست غاية في حد ذاتها ـ يمتزج فيها الذاتي بالموضوعي. يقول الشاعر:

" على تلة
في طفولة هذا المساء
سماء مهشمة
وثوابيت ماء
حمائم شاحبة
و فحيح رياح
و بعض من العابرين
يئنون
من عبء ما في مزاودهم
من سراب
و ثم جنادب
في شرفات الصنبور
تجهش
ثم وعول عجاف
تحدق في سحب غائبات." ـ 7 ـ

إن حضور الطبيعة في هذا المقطع الشعري ( التلة،المساء،السماء، الماء، الرياح، الصنبور،السحب....) هو حضور رمزي، يتخذه الشاعر مطية للتعبير الإيحائي بما تئن تحته شريحة المزارعين و المزارعات،  و المشتغلين في حقول الأرض من أعباء، وما تعاني منه من شظف العيش. إنه يرسم لوحة شعرية لهؤلاء المعذبين في الأرض وقت الرواح، و قد تعبت ظهورهم من حمل زواداتهم و ما تحتويها من ثمار الأشجار التي لا تفي بحاجاتهم اليومية.

بهذه الطريقة يتوسل الشاعر إلى مظاهر الطبيعة الصامتة التي تبوح له بأسرارها، و تحكي له عما يعانيه البسطاء من سوء حال،وما يتخبطون فيه من فاقة و فقر. و في كل ذلك تعبير من الشاعر و تصريح بأن انتماءه الحقيقي ؛هو انتماء لهذه الفئة من المواطنين البسطاء التي تصون بأياديها و صبيب عرقها تربة هذا الوطن دون أن تجني ثمار ما بذرت، و دون أن تحصد محصول ما زرعت. ومن ثم يعلنها صراحة بأن   شمس الحقيقة ستسطع قي المقبل القريب لتبدد السحب الجاثمة، و لتجدد الفصول و تنبثق الحدائق خضراء يانعة تبشر بقرب انجلاء الصبح، و النهاية الحتمية لناهبي خيرات هذا الوطن:
ففي مقطع من قصيدة: " ظهور " يقول :

" لك يا مرايا
ما تشاء
من الحقائق
فانجلي شمسا
و أنت الشمس
تنكشف الحدائق
يحضر البحر
يطل منك الوجه
تلو الوجه
لا يبقى وراء
الشمس
إلا غيمة بيضاء
شاملة
لأعراق الفصول
و ماء هذا الكون
و الطين البعيد."


و في المقطع التالي؛ يتخذ عبد الكريم الطبال من شجر الصفصاف رمزا طبيعيا يسقط عليه ما يحياه الإنسان المغربي من شروخ كبريائه التي كان يتلمس بها مكانه الطبيعي في عنان السماء وهو يشرئب نحو ملامسة الأعالي لتصدح بالأناشيد المنتظرة، فإذا بهامته تقصر و تتضاءل و تتقلص مثل نجمة صغيرة تدب مع النمل متمرغة في التراب و الوحل :

" صفصافة مهيضة
مشروخة البكاء
من أجل أن تبدأ نهرا
دائم النشيد
تخلع الوجه و اليدين
تضؤل
مثل نجمة صغيرة
كي تدب في التراب
مع  النمال الذاهبة." ـ 8 ـ


إن الدود جاثم في أعماق التربة، و في مسام الحجارة و جفون الندى و جيوب الريح يمتص كل ما تزخر به من سماد، ولذلك فلن تينع الحقول، ولن تورق الأشجار، ولن تكتسي الأرض حلة من سندس:

" نقرة
ثم ما لا يقال
هي: المسألة
فتشوا في جيوب الرياح
في مسام الحجارة
بين جفون الندى
في دماء القرنفل
في داليات السحاب
فتشوا
كل ماء
و طين
فلن تجدوا
غير نقرة عود
و شهقة روح." ـ 9 ـ

3) توظيف جلال الأمكنة و الفضاءات باعتبارها رموزا لمجد دارس :

و من أجل الاحتفاء بالهوية الحضارية و التاريخية و الثقافية للوطن الذي آوى الشاعر، و ترسبت في وجدانه بيئاته؛ يوظف أسماء المدن المغربية و العربية العريقة بما تحمله من إرث أصيل، وما تزخر به
من كنوز و مآثر تاريخية، كانت إلى عهد قريب منارات حضارية لمجد دارس.

و لكي يتم تطعيم بوحه الشعري بمسحة فنية خالصة وهو يعدد و يحصي مفاتن هذه المدن، يستدعي في متنه الشعري شخصية الصوفي "ابن عربي"  باعتباره رمزا لمن اخترق الحجب، و جاب الآفاق بحثا عن القبس النوراني، و التماسا للتوحد بملكوت الخالق و كشف ما يزخر به من حقائق و أسرار .

ففي نص طويل تحت عنوان : " و قال ابن عربي " يستحضر الشاعر عبد الكريم الطبال ابن عربي كرحالة " يسري كالموجة بين القطرة و البحر " و يخترق مقاماته العليا كي يحط الرحال" بمراكش" حيث " يخلع ظله ليخف بالقرب من الكتبية " :
رمز شموخ الحضارة العربية الإسلامية أيام: الموحدين و المرابطين؛ إذ يقول:

" ها أنا قرب الكتبية
أو فيها
أخلع ظلي
فأخف
فأنساب هواء أبيض
في الآماد بعيدا
في الأفلاك القصوى
لا أتعثر
في نار البرق
و لا في طين الريح
أسري كالموجة
بين القطرة و البحر
أجوز مقامات
عليا
حتى أبلغ في الرحلة
آخرها
و هناك الأقباس." ـ 10 ـ


ثم يتلاشى الرحالة ابن عربي إلى أن يحييه صوت صادح من سيد الطير المترنم تسبيحا يوصيه بأن ينزل في " فاس " المضمخة بعبق التاريخ، فاس: مقام الغرب و معراج الشرق :

" إلا أني أتلاشى
أو تلاشيت
إذا بي
يحييني
صوت لا أبلغ منه
ولا أعذب
وافاني
من سيد الطير جميعا
دثرني
ثم أوصاني
أن أنزل في فاس
مقام الغرب
و معراج الشرق
وأوصاني
ألا أرحل وحدي
فالطرقات إلى النبع
بلا أنصاب." ـ 11 ـ


ثم يسترسل الشاعر مقتفيا رحلات " ابن عربي " التي انطلق فيها من " مراكش " لينتقل إلى " فاس " ثم يرحل منها في اتجاه مدن عربية عريقة يستوحي منها أوجهها المشرقة أو أدوارها في الرقي بالحضارة العربية الإسلامية، أو يعدد مظاهر جمالها و بهائها، أو يترنم مشدوها بماضيها و السحر الذي لا تزال تعبق به مآثرها التاريخية الناطقة  بماضيها البهي. و هكذا يتابع رحلته ليحط ب " بجاية "  ف " بغداد " ف " مكة " ف " المدينة المنورة " ف " دمشق "...؛

و الجميل في قصائد عبد الكريم الطبال هاته التي يحتفي فيها بجلال المعاني توظيفه " لابن عربي "      
و عوالمه الصوفية، مستوحيا منها ما يزخر به هذا العالم من سمو على العالم الدنيوي من أجل الارتقاء إلى الأعالي و استنطاق معانيها، و التوغل فيما وراء الطبيعة بحثا عن الحقائق المحتجبة.
ففي نص من مطولته " و قال ابن عربي " تحت عنوان: " في المدينة "، يتتبع الطبال رمزه ابن عربي وهو يجوب الآفاق و يستمتع بالسياحة في ملكوت الخالق، مندهشا و منبهرا بفضاء المدينة المنورة، حيث يقول:

" ها أنا في المدينة 
أو في مهب البهاء
أشع
أسير
كما الأنجم السيارات
... أجوز السياج
كما الضوء
أخلع نعلي
... أرتوي حين أشرب
من جدول الورد
أوغل
في ملكوت الحديقة
شوقا فشوقا
إلى أن بلغت
إلى السدرة النبوية
حينئذ
كانت الشمس تطلع
فاضت علي السماوات
كنت أراه
على حافة الكون
في جسد أخضر
و أنا قد أتمتم
لكن كل الحروف
تضيع علي
أغمغم
أصمت
أذوي
أغيب." ـ 12 ـ


إن الشاعر وهو ينشد حبه الصوفي لبلاد العروبة و مواطن الوحي والرسالات، ويعدد مظاهر بهائها   و مراكز حضارتها حريص على استجلاء ما يزخر به ملكوت البهاء من سحر المعاني المحتجبة عبر الحلول في مظاهر الكون ـ كما فعل المتصوفة الأصفياء ـ و التوحد بملكوت الخالق، و السمو بالذات         و تحريرها من غرائزها و مما هو مادي ـ واقعي ـ دنيوي لهتك الحجب و الارتقاء بها إلى مراتب عليا حيث النور و الإشراق، حيث سدرة الأنبياء،حيث الحقيقة الكونية. و هذا لن يتحقق إلا عبر هذه الرحلة التي ابتدأها ابن عربي بالاندهاش و الانبهار، بعد التأمل في الأنجم السيارة، ثم الارتقاء و التوغل في الأعالي،  و اختراق الفضاءات وصولا إلى سدرة الأنبياء حيث يتحقق الفيض و الإشراق المؤدي إلى الكشف ثم الغيبوبة في نهاية المطاف.

يبدو الشاعر في هذا النص حريصا على توظيف تيمة " السفر الروحي " كما تجلى في متون أعلام المتصوفة لكونه وسيلة لتحقيق اللذة الكبرى، و المتمثلة في انكشاف الحقيقة. إلا أن الظفر بمثل هذه السياحة لا تتحقق إلا عبر التطهر من أدران الواقع المادي الملموس، و التنسك في محراب نشوة التشظي  لمعانقة عالم البهاء، عالم الأصفياء و الأنبياء.

و في نص آخر تحت عنوان: " أيها البراق " يلتمس الشاعر أن ينفذ عبر مظاهر الطبيعة الحية والصامتة ( النورس، الضفدعة، زهرة اللوز،المرج،السواقي، الدوالي، البحر، المساء ،الليل) ليعرج بالبراق في سفر افتراضي و لا نهائي من أجل تلمس جوهر الوجود و لب الحقيقة، إذ يقول :

" زهور اللوز
كانت سرب نورس
****
ضفدعة في المرج
قالت
للدوالي ساقيات
أنا رباب الليل
****
كآبة المساء
ليست بكاء البحر
أو بكاء الشمس
و إنما بكاء الكون
****
خيال الورد
مثل الماء

لا يشيخ في الخريف
****
جنون البحر
هلوسات الشاعر
****
حقيبتي
تحملني إلي
و أنا أريد
سفرا إليك
****
يا أيها الحلم العميق
أيها البراق
أعرج بنا
منك إليك." ـ 13 ـ

و بالإضافة إلى تيمة السفر، يوظف الشاعر تيمة " الشراب " بمعناه الصوفي، و المتمثل في الانتشاء بالحلول في مظاهر الكون الطبيعية، و التوحد بملكوت الخالق، و السمو بالذات إلى مراتب عليا، حيث النور و الإشراق، حيث النجم البعيد الذي يستمد نوره من شعاع الله.
يقول في نص بعنوان : " بلا مرآة " :

" يا ساحبا ذيلا
و ليس عليك ما يخفيك
هاك الكأس
ها مرآة ماء
إن تشأ
اشرب و حدق
قد تراك كما أتيت
من العراء
بلا دمقس
أو حرير
آمن
بالذي في الكأس
في المرآة
قل لبيك
حتى تستشف
الياسمين
و قل لبيك
حتى يأتي النجم البعيد
إلى ذراعك
مثلما يأتي إليك الكون
بعضا من شعاع الله." ـ 14 ـ

4) انصهار الذات الشاعرة بالهم القومي:

تبدو الذات الشاعرة و هي تجوب الآفاق محتفية بجلال المعاني المحتجبة غير قادرة على التحرر ـ نهائيا ـ بما يشغلها من واقع الخذلان و العار الذي أصاب الكفاح العربي التحرري في زمن استنزاف الطاقات،      و تكريس العجز العربي.

إن تجرع مرارة الكوارث القومية التي تقاطرت على كل أنحاء جغرافية هذا الوطن هو ما ولد لدى الشاعر هذا الإحساس الفوار بفداحة الخطر الصهيوني الجاثم و الذي يهدد مستقبل العروبة في فلسطين      و لبنان    و سورية و باقي أقطار العالم العربي؛ ولذلك فهو يتفرس في الفضاء القريب و البعيد، و يحملق في البحار كلها، لكنه لا يرى إلا مظاهر الخراب و الإبادة الممارسة على المناضلين الأحرار في أرض فلسطين:

" فأنا لست شاهدة
في الفضاء القريب
البعيد 
في البحار المحيطة
المتوسطة
الميتة
غير " أًًًََّرْزموت "
ويولد
غير كوفية نثرتها الرياح
لتنسجها
أو تنسج هي الرياح
راية ترتقي في الدواخل
في الأزمنة
في امتداد القلاع
و العروش
و الحدود." ـ 15 ـ


إن الشاعر وهو يحدثك عن الهم القومي يبدو مسكونا بصور القتل و الدم المسفوك بآلة القمع الصهيوني المصفحة بالمستحيل و بالعناد الأعمى. و لذلك تراه يسافر في ذاكرة صناعة هذا الدمار في منطقة جغرافية كانت مهدا للرسالات، ومترعا للحب و السلم و النور الذي شع في كل أنحاء المعمور.

و من أجل مقاربة هذه المعاني و ضخها في نسيج قصائده، تستوقفه حالة لبنان التي استعصت على الحل، و بقيت أسيرة الثغرات و الحساسيات و الأقنعة المستوردة و المياه الراكدة التي تحركها أيادي أولي النيات السيئة بمباركة المتغطرسين الصهاينة و حلفائهم، و عن حاله يقول عبد الكريم الطبال في نص بعنوان : " بيروت تتكلم " :

" ليس يدهشني أي شيء
الجنادل تسبح
في الأنهر الهمجية
أو تتكلم في الفلسفة
السنابل تغزل
أو تتحدث في معضلات السياسة
الشواطئ تخطر
في قنوات الحدائق
أو تفكر في جنيات المغاور
فالهويات واحدة
و الشكول هي اللهجات
أو الأقنعة
ليس تم اختلاف
يستوي عندي الخمر و الدم
السيف و الخيزران
القيامة و القبر
يستوي عندي الصمت و الأغنيات
المقاهي ..  السجون
الرعاة   ..  القطيع
الظلال ..  الشجر                                                                                             
أن أجدف  ..  أن أتصوف
ليس تم اختلاف
يستوي .. أيها الحكماء
البلداء
النبيون                             الأدعياء." ـ 17 ـ

إن واقع الخذلان و العار هذا الذي خيم على تاريخ الكفاح العربي منذ هزيمة حزيران هو ما يحز في النفس الشاعرة لعبد الكريم الطبال، ومن ثم تبدو ملامح تعب هذه الذات واضحة من فرط عشقها لهذا الوطن العربي الذي لا تبدو في أفقه المنظور أية بارقة أمل.

بهذه الطريقة تحضر الذات الشاعرة للمبدع عبد الكريم الطبال في متنه الشعري ، إنها ذات عاشقة لملامح جلال المعاني و الأمكنة و الفضاءات التي ترسبت في وجدانه ، وهذا ما أضفى نوعا من الغنائية الطبيعية التي أصبحت ملمحا بارزا في عملية تشكيل قصائده ، و صبغها بتجربة الامتلاء و الوثوقية         و الاحتفاء داخل النص الشعري ذي البنية المركبة بين :
ـ ما هو ذاتي : حيث تطغى تجربة الانكفاء الجواني و الاهتمام بما هو خاص.
ـ ما هو جماعي: حيث تهيمن تجربة الانفتاح و الالتفاف إلى ما هو عام.

الهوامش


1 ـ عبد الكريم الطبال: من قصيدة: " قصيدتان: خلوة " من مقطع بعنوان: " إلى جهة أخرى " مجلة: "آفاق" عدد 8 غشت 1981 ص 88.

2 ـ عبد الكريم الطبال : نفسه.

3ـ عبد الكريم الطبال:من قصيدة: " الأصدقاء " مجلة " أقلام " دار النشر المغربية.
الدار البيضاء مارس 1964.ص105 .

4 ـ      ...     ...     : نفسه.

5 ـ      ...     ...     : نفسه.

6 ـ      ...     ...     : نفسه.

7 ـ      ...     ...     : من قصيدة " سماء أخرى " العلم الثقافي. السبت 22 نونبر 2003 .

8 ـ      ...     ...     : " قصيدتان " من مقطع بعنوان: " تناسخ " العلم الثقافي السبت 7 ماي 1994 .

9 ـ      ...     ...     : نفسه .

10 ـ   ...      ...  : من قصيدة " في مراكش " العلم الثقافي السنة 41 الخميس 1 فبراير 2010 ص 5 .

11 ـ   ...      ...     : نفسه .

12 ـ   ...     ...      : من قصيدة " وقال ابن عربي " من مقطع بعنوان: "في المدينة " العلم الثقافي.
الخميس 3 يونيو 2010.

13 ـ   ...     ...      : من قصيدة " أيها البراق " العلم الثقافي. الخميس 18 يناير 2007.

14 ـ   ...     ...      : من قصيدة " بلا مرآة " العلم الثقافي. الخميس 12نونبر2009.

15 ـ   ...     ...      : من قصيدة " بيروت تتكلم " مجلة " آفاق " عدد 11 دجنبر 1982. ص 57 ـ 58                                      بتصرف.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة