البطل أ م الشخصية ! : لماذا تخلت الرواية عن البطل لصالح الشخصية؟ ـ حبيب مونسي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

abstrait_3_bandesقد لا يلتفت كثير من الدارسين إلى طبيعة المصطلح الذي يتعاملون معه حين المعالجة النظرية أو التطبيقية للأدب تحليلا وتفسيرا وتأويلا..  وكأنهم ألفوا المصطلحات التي يستعملونها وخبروا دلالتها ، وعلموا أنهم يريدون منها ما تحمله أصالة في كلماتها، سواء عدنا بها إلى المعجم تأثيلا، أو بحثنا في أمرها استعملا واصطلاحا. غير أن المطب الأكبر في مثل هذه الاستنامة لما نألفه من معان درجت بيننا وكأنها تامة الدلالة بيِّنة الحد، واضحة المقاصد. ومن ثم يغدو استعمالها مثار التوجس والتخوف وعدم الفهم والخلط. بل إن كثير منها حين يُقلب في وجوه استعماله يكشف عن حقائق خطيرة يجب التنبيه عليها، لكونها تتصل بمستقبل هذا الفن أو ذاك، أو هي ترسم في تلونها جملة التحولات التي اعتورته في تاريخه الخاص والعام.
إننا حين نراجع مصطلحي: "البطل" و"الشخصية" في الرواية والقصة والمسرحية والسينما، تنتابنا الدهشة حيال الاستعمال أولا، وحيال المعاني التي يراد تمريرها من خلال كل مصطلح على حدة. والناظر اليوم إلى كافة الدراسات النقدية يجد هذين المصطلحين يتبادلان المواقع من غير تحقيق ولا تدقيق. وكأن الشخصية هي البطل، وأن البطل هو الشخصية في الوقت ذاته. صحيح أن البطل شخصية من شخصيات القصة والرواية والفيلم والمسرحية.. بل قد تتسع الشخصية لتشمل الحيوان والجماد في بعض الأعمال، ولكن "البطل" "مهمة" وليس "دورا" لذلك يصح لنا الآن أن نعتبر الشخصية مصطلح يغطي "الأدوار" التي تكون في القصة والفيلم والمسرحية. سواء اتجه الدور اتجاها إيجابيا فوافق الأعراف والقيم، أو سلبيا فخالفها وانتهك حرمتها. وليس للبطل في الدور إلا أن يتجه الوجهة التي ترتضيها القيم ويحتفل بها العرف وتزكيها الأخلاق.


إنه الأمر الذي يحدد للبطولة وظيفتها ومهمتها. وكل من حمل هذا النعت إنما يحمله من أجل أداء دور يتجه صوب الحق والفضيلة والخير. لأن البطولة في مفهومها العام لا تتجسد من خلال أفعال القوة والبطش، وإنما تتجسد من خلال الخير والعدل، ودفع الشر والظلم.
وقد نشتطُّ بعيدا في البحث عن دلالاتها في بطون المعاجم، ولن نعود منها إلا بمعان لا تستقيم والصورة التي نحملها في أنفسنا لمفهوم "البطل"، لأنها كلها تتجه صوب الفساد، والترك، والعطالة، وهي معان أخذت من أن البطل لا يطالب بدم أو ثأر، وأن حظوظ الآخرين تبطل بين يديه. أو كما قال "ابن منظور"في اللسان:« رجل بَطَل بَيِّن البَطالة والبُطولة شُجَاع تَبْطُل جِرَاحته فلا يكتَرِثُ لها، ولا تَبْطُل نَجَادته. وقيل إِنما سُمّي بَطَلاً لأَنه يُبْطِل العظائم بسَيْفه فيُبَهْرجُها، وقيل سمي بَطَلاً لأَن الأَشدّاءِ يَبْطُلُون عنده. وقيل هو الذي تبطل عنده دماء الأَقران فلا يُدْرَك عنده ثَأْر من قوم أَبْطال». ([1])  وهي صورة تنتهي عند حدود الصحراء في العصر الجاهلي ولا تتعداها، لأنها تستجيب لأعراف الذات العربية ومقاييسها.ولن نجد أوسع تمثيل لها إلا في قول ابن الوردي:
ليس من يـقطع طرقا بطلا. . . إنما من يتقي الله البطل.
على أن لا نجعل اللغة تقف عند الدلالة الساذجة الكامنة مباشرة وراء الكلمات. فالقطع ليس اعتراضا للمسافر الآمن في الطرقات، وليست هي الصورة التي يريدها الشاعر أصالة، وإنما القطع هو الاعتراض المطلق على كل سير في الطريق.. في المنهج .. في الرؤية.. لكل سالك آمن في مسلكه. إنه فعل الاعتراض على الحق والخير والعدل لمجرد الاعتراض الأرعن الفاسد. ومن ثم كان رأي الشاعر أن يحدد البطولة بالتقوى.. والتقوى من معانيها الدقيقة هي الاحتراز من اعتراض الله U  في مراده من خلقه. فالذي يحترز أن يعطل، أو يبطل مراد الله في خلقه هو البطل الفعلي الذي يجسد حقيقة البطولة في أفعاله ظاهرا وباطنا.
إننا حينما نسم "فعلا" بالبطولة إنما نفعل ذلك لأننا ندرك البعد الحضاري لهذا الفعل حين يتجاوز المطلب الذاتي إلى مطالب تتسامى عن الرغبات الآنية إلى ما يحقق مراد الكل تحقيقا في انتصار الخير والعدل.  ومن ثم يغدو البطل هو ذاك الشخص الذي يرتفع في فعله وقوله إلى مصاف يتيح لغالبية الناس سلامة الحركة والإبداع، تأمينا لهم من خوف، وتمكينا لهم من طريق.
لقد حاولت الأعمال الأدبية والفنية القديمة رفع شعار البطولة في آحاد من الناس، فكان لهؤلاء أبطالهم من الآلة، وكان لآخرين أبطالهم من أنصاف الآلهة، ورآها بعضهم في التفاني في خدمة الآخرين، كما فعل "الفرسان" في القرون الوسطى، اعتقادا منهم أنهم جند المسيح u وأن عليهم مهمة الحفاظ على الضعفاء ونصرة المحرومين. وحفلت قصصهم بالمرويات التي تبجِّل أفعالهم في البوادي والحواضر، ونشأت عنها أشعار وأغان ترنَّم بها المحرومون والمنبوذون، وحلُم بتحقيقها كل شاب طموح رأي في نفسه القدرة على أن يلبس لبوس البطولة، وأن ينذر نفسه خادما للخير.. ربما كانت "البطولة" بهذه الصورة ساذجة هي الأخرى، لأنها حصرت حدها في السيف والانتقام، ولم تنشر معناها إلى "التقوى" التي لا تعترض على مخلوق في الحياة.. أيا كان ذلك المخلوق، وأيا كان جنسه. كتلك النملة التي ابتسم لها "سليمان" u أو الكلب الذي سقته غانية بني إسرائيل، أو الليِّنة التي نهى الخليفة "عمر بن الخطاب" جيشَه عن قطعها.
وقد نجد معنى جديدا للبطولة ينفتح أمام كل واحد منا، حين تغدو البطولة مكابدة للنفس في ارتقائها نحو الاكتمال، يدفع بها صاحبها في دروب الصبر الاحتمال وصولا إلى الحمد،في قول شوقي رحمه الله:
وَما البُطولَةُ إِلّا النَفسُ تَدفَعُها.... فيما يُبَلِغُها حَمداً فَتَندَفِعُ
وَلا يُبالي لَها أَهلٌ إِذا وَصَلوا.... طاحوا عَلى جَنَباتِ الحَمدِ أَم رَجَعوا.
وكأني بالشاعر لا يجد للبطولة من معادل موضوعي سوى صورة السير الحثيث إلى غاية نبيلة، تقوم العثرات في طريقها سدا بعد سد،وهوة بعد هوة. لأن الوصل إلى الغاية سينسي صاحبه الآلام التي كابدها والمشقات التي عاناها.
إنها صورة "التطور" التي كانت الرواية القديمة تريدها لشخصياتها،فتجعلها في سيرها تتبدل من حال إلى حال مستفيدة من تجاربها وسقطاتها ونكساتها، وهي تتطلع إلى الأسمى والأفضل، فتجعل من سيرتها ميدانا فسيحا للتجارب المثمرة التي يحدوها عامل الخير والعدل، وهي تتجاوز مكامن الشر والظلم. لذلك تحدث النقاد كثيرا عن الشخصيات "النامية". وفي استعمالهم لهذا المصطلح حقيقة النمو نحو الإثمار. فإذا كان "التطور" اصطلاحا يحتمل الاتجاه صوب الإيجاب وصوب السلب بنفس الدرجة والقوة، فإن "النمو" و"النماء" لا ينبغي له إلا أن يكون صوب الإيجاب أبدا. ومنه تكون الشخصية التي يصاحبها القص من خطواتها الأولى في شأن مستمر نحو الأحسن، وإن رافقتها الإخفاقات في رحلتها، أو اعتراها الشر والظلم، أو صدر منها في أحايين خاصة. ذلك هو قول  "شوقي" في بيته الثاني:
وَلا يُبالي لَها أَهلٌ إِذا وَصَلوا... طاحوا عَلى جَنَباتِ الحَمدِ أَم رَجَعوا.
قد يعترض كثير من الدارسين على هذا الضرب من الفهم، ويجدون في الرواية التي تتحدث عن السقوط نحو مهاوي الحياة، أكثر فاعلية من تلك التي تتغنى بالنجاحات، وذلك قول فيه كثير من رجاحة العقل وسداد الرؤية، غير أننا في طرحنا هذا لا نبخس ذلك الضرب من السير في القص حقه، لأننا نعلم أن القاص وهو يصف مسارات السقوط والتردي، لا يغيب عنه أبدا قياس مسافاته استنادا إلى قيم ثابتة يرى أحقيتها في الحياة والمجتمع. ومنها تقاس فداحة الخطب، وشدة الميل. لأن الذي سيقرأ العمل الأدبي لن يقف أمام السقوط موقف المتفرج المحايد، وإنما سيسأل نفسه ويحاسبها انطلاقا من معيار بين يديه. حينها لا تكون البطولة غائبة عن القص، فهي إن غابت في الرواية فهي موجودة في ذات القارئ حين يمايز بين الأفعال والمواقف، ويختار بين المشاعر والأحاسيس. وتلك هي وظيفة الأدب أولا وأخيرا.
بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم بشدة وإلحاح! لماذا اختفت البطولة من القص؟ لماذا غدت الشخصية هي البديل؟ وما الذي تخفيه الشخصية حتى يستنيم لها الكل في أعمالهم الروائية والقصصية؟ لماذا تحافظ السينما على البطولة في شكلها الفروسي القديم؟ ولماذا يعيد المخرجون إخراج البطولات الأسطورية والخرافية من جديد؟ هل نحن في حاجة إلى بطولة من ذلك النوع اليوم؟ أم أننا في حاجة إلى بطولة من النوع الذي عرضناه من قبل؟
إن "القص" حينما استند إلى "الشخصية" وألغى "البطولة" من اعتباره، فعل ذلك استجابة إلى "مرض" اجتماعي أصاب الحضارة الإنسانية كلها ولم يعد لها بُرْءٌ منه يرجى. فالإنسان اليوم يجد في نفسه عجزا مريعا عن "الاستقامة". إنه يدرك في قرارة نفسه أنه غير "مستقيم" وأن كل أفعاله إنما تمليها حاجات وضيعة، وأن القيم لا اعتبار لها في منظومته الخاصة.. إنه يتحرك في مساره حركة مشبعة بالأنانية التي تطمس في ناظريه كل أسباب التواصل الخيِّر مع الآخرين، وتعود عليه بأثقال من الكراهية والحقد المشين. فلا يصدر عنه سوى إفرازات ذلك الموقف. بل قد تتعكر الرؤية في ناظريه فلا يميز بين قريب وبعيد، ولا بين أخ وصديق. إنه في عالمه المغلق يبصر الآخر عدوا، وخصما، وندا، وغريما.. وما شئنا من النعوت التي تُجنَّد فيه كل عواطف الصدود والدفع. فتنغلق الدائرة عليه انغلاقا شديدا تنقطع فيه الروابط حتى مع خالقه.. نعم هو لا ينكر وجوده.. إنه يؤمن به.. يؤمن بالحساب والعقاب.. ولكنه يعجز عن أن يستقيم، لأنه في انغلاق دائرته يرى أن عليه أن يصفي حساباته بنفسه.. ينافق، يدلِّس، يخادع، يكذب، ينتهز، يضمر الشر، يشي،يقترف الذنب، يرتشي، يداهن،يراهن... فهو لا ينمو وإنما يدور في حلقة قد تنتهي بالجنون والاغتراب.
إنه مخلوق عجيب.. يتعب.. يجهد نفسه.. ويرهق الآخرين في صحبته.. إنه جماع أقنعة.. تتبدل وتتغير بحسب المواقف والأوضاع، إذا سقط قناع لم يكشف إلا عن قناع آخر مرصوص خلفه. ومن ثم كان معنى الشخصية أصالة هو القناع، وبالإضافة:« إلى المعنى الضمني للكائن الإنساني الفردي، صار مصطلح "الشخص" منذ العصور الوسطى يشير أيضا إلى الجسد المُنْهَدم المزين الذي يمتلك المرء من خلاله شخصا مقبولا، أو كما نقول شخصية بارزة.» ([2]) ولعل التركيز على صفة الجسد المُنْهَدم المزين تكشف حقيقة الشخصية في كونها واجهة قد تخدع الناس وتحول دون الوصول إلى حقيقة الفرد الكامن وراءها.
إن فكرة التدليس تُلغي أساسا فكرة البطولة التي وصفناها من قبل، لأن التزيين للمُنْهَدم غشٌ المراد منه تجاوز القيم إلى ما يُنال بالأنانية. ولسنا نفهم اليوم حقيقة التزيين البهرجي الذي نراه على شخوص القرون الماضية في الغرب من أصباغ، وباروكات ، وحركات مدروسة إلا من خلال إدراك معنى التدليس والتزيين. إذ ليس هناك نمو لمثل هذه الشخصيات بمعنى الاكتمال أو السعي وراءه، وإنما هناك محاولات للتستر من أجل إخفاء واقع الحال. فقد ورد عن "جبور عبد النور"  في معجمه أن الشخصية:«  عنصر ثابت في التصرف الإنساني، وطريقة المرء العادية في مخالفة الناس والتعامل معهم، ويتميز بها عن الآخرين.» ([3]) أي أنها ما استقر عليه الإنسان في قرارة نفسه في وضعية اختارها أو فرضت عليه، فلا يسعى إلى الخروج منها،أو الفكاك من أسرها، وإنما يتحرك داخل قوقعتها مختلفا متميزا، وكأنه دوران في حلبة مغلقة. ثم يمضي صاحب المعجم ليقرر بعد ذلك أن الشخصية في واقعها:«  ليست نشاطا حيويا فحسب، أو اندماجا اجتماعيا، بل هي مجموع منتظم من المؤهلات الفطرية كالوراثة،والتركيب العضوي، والمهارات المكتسبة من البيئة والتربية. فإن كل هذه العوامل هي التي تؤهله للتكيف بكل ما يحيط به من كائنات حية وجامدة.» ([4]) والحديث في هذا التعريف يلتفت إلى القوى الكامنة في الذات الإنسانية قصد التكيف ومسايرة الواقع للاستفادة منه. وهو عين ما يصنعه القناع في التدليس حين يُمكِّن صاحبه من تجاوز العقبات التي تعترض طريقه. فيلجأ إلى خاصية التكيف التي تُمكِّنه من التأقلم مع الواقع القائم. ولن نفهم أبدا من التأقلم ذلك السلوك الذي يبقي على الذات ويحافظ عليها أمام العوادي الطارئة، على النحو الذي يحدث مع الحيوان، وإنما التكيف هنا ضرب من منافقة الواقع، والتسلل بين الحواجز، والالتفاف حول القيم والأخلاق. لأننا في هذا الإطار نتحدث عن أدوار يقوم بها الشخص من أجل تحصيل مصلحة. وليس العيب في تحصيل المصالح فذلك شأن حياتي مباح ومرغوب فيه، وإنما الشأن في الكيفيات التي  يسلكها الشخص من أجل ذلك .
إننا حين نقرأ تعريفات  الشخصية في المعاجم المختصة، ندرك أننا نقرأ ما نريد فهمه لا ما يُعرض علينا فيها، لأننا سريعا ما نتوقف عند عتبة الكلمات، ونحسبها قد أدت مرادها تأدية تامة. ومن هنا يأتي الفهم السقيم للمصطلحات، نتجر عنه رداءة الاستعمال التي تترهل بها الكتابات النقدية الحداثية اليوم. إن ربط الشخصية بالدور يكفي ليفتح عيوننا على طبيعة الأدوار وما يصاحبها من سلوك، وما يحوطها من رغبات. فإذا كنا مع البطولة نرى اجتهاد الفرد نحو النمو والاكتمال، فإننا في الأدوار لا نلمس هذه اللهفة إلى النماء والتحسن، وإنما نقبض على الغاية التي تقف وراء الفعل فقط مهما كانت طبيعة تلك الغايات. لأن الدور وسيلة لتحقيق الغاية فقط، ولا يشترط فيه أبدا أن يكون إيجابيا، لأنه يعمل في الاتجاهين معا.
قال "لطيف زيتوني" في معجمه:« الشخصية دور، والأدوار في الرواية متعددة ومختلفة... بقيت الشخصية الروائية من الأصناف الغامضة في الشعرية بعد انصراف النقاد المعاصرين عنها بسبب الاهتمام المبالغ فيه الذي نالته في الماضي، وبسبب تداخل مفاهيم عدة ومختلفة في تشكيلها. » ([5])  ولا يكون منشأ الغموض فيها إلا من خلال اتساعها لتشمل الأدوار كلها من غير أن تحدد وجهتها. فليست الشخصية بعدُ تعريفا للمركز، والجاه، والسمو، والمكانة، مثلما كان يعتقد في بادئ الأمر، أو مثلما يشاع في ثقافة العامة حين يُنْعَت الشخص بأنه ذو شخصية. وإنما هي في حقيقتها دور وحسب، تتعقد مكوناته بعقد الأحداث التي تحيط به. ومن ثم نجد صاحب المعجم يسترسل في بيان أنواع الخلط الذي رافق هذا المصطلح وجلَّله بالغموض، فيعددها على النحو التالي:
-        «خلط الشخصية بالشخص». لأن الشخص هو الذات، والشخصية هي تمظهرات الذات في وسط ما بحسب حاجة ما.
-        «قصر الشخصية على البؤر السردية (الرؤية أو وجهة النظر) شجع على تحول الشخصية إلى نوع من "الوعي الذاتي" الذي يقدم رؤى مغلفة بالشك، تكشف طاقات الشخصية الداخلية أكثر مما تقدم "واقعها". » .
-        «قصر الشخصية على الصفات المسندة إليها نتيجة ميل النقد البنيوي إلى حصر الشخصية بالصفات، أي بالخاصيات الجامدة التي ينسبها إليها النص. ».
-        «قصر الشخصية على عالمها النفسي، مع أن عالم الشخصية النفسي ليس فيها ولا فيما ينسب إليها من صفات وأفعال، بل هو في نتاج شكل من أشكال العلاقة بين الجمل اللغوية.». ([6])
كانت "الشخصانية" من قبل قد أكدت على التمايز الخطير بين الشخص والشخصية، واعتبرت الشخص هو كل ذات خام إذا طرأت عليها إكراهات الواقع، تشكلت في شخصيات تتكيف بها للخروج من المواقف المختلفة. وهو فهم يخلو من هم الارتقاء والنمو بغية استكمال الناقص فيها على هدي القيم والأعراف والأخلاق. بل الشخصية مجرد "ضربة مقص" في خامة القماش الذي تجعل منه سروالا أو قميصا أو غير ذلك من الألبسة والمقتنيات. ذلك هو السبب الذي يفسر انكفاء الشخصية على ذاتها، والاهتمام بهواجسها، والتصنت على تداعيات أحوالها الداخلية. فهي لا تأبه للخارجي إلا لمداراته والتكيف معه، وإنما ينصرف اهتمامها إلى الداخلي تنشره وتطويه، وتتفنن في هتك أسراره وعرض أحواله.
إننا حينما نقرأ الرواية الجديدة، لا نقرأ حكاية في واقع الأمر، وإنما نتصنَّت على أحاديث النفس، تُروى لنا بأساليب إفشاء الأسرار في المخادع الرطبة. إنه فن التلصص على الآخر، وانتهاك حرمة الخصوصية. ذلك ما وجده "ر،م، ألبيرس" في الرواية الحديثة حيث يقول:«إن تاريخ الرواية الحديثة هو تاريخ إطِّراح الحياء، ذلك بأن الفنون الأخرى –حتى التشكيلية منها- تسمو بأخفى خفايا الضمير الفردي أو الجماعي، على نحو رمزي أو تزييني. إلا أن الرواية، كالمنمنمة، تنطوي على فن الجزئيات.. إن أعمق بواطن الكائن وأكثرها حركة، وأشدها سرية، هي الهاوية التي جذبت نحوها الرواية منذ أواخر القرن السابع عشر. وأن القارئ بدون وعي منه بهذا السحر الذي يستسلم إليه بمتعة، يتبنى بيسر دور مصاص الدماء الذي يجعل من قراءة الروايات متعة سادية، فإذا رفضنا هذه المتعة بدت الرواية "باردة".» ([7]) ففي هذا الإطار لا نجد مجالا للبطولة والبطل، لأننا لسنا أمام مصير يُخطُّ في صلب الحياة، وإنما نحن أمام ضوضاء من الأحداث العرضية التي لا رابط يربطها سوى المصلحة الآنية ورغبات التكيف التي لا تنتهي إلى حد. ساعتها ستغدو أحاديث المخادع الرطبة، والوساوس، والأوهام، وأحاديث النفس وهواجسها، وما يتراكم فيها من ظنون، وما يلتف حولها من أحاسيس ومشاعر، هو الآتون الذي تغرق فيه اللغة بقاموسها المتميز الذي نجده عند هذا الروائي وذاك، واحدا في دلالاته، واحدا في إشاراته..
قد كنا نعجب كيف يكتب شعراء اليوم باللغة نفسها، بالمعجم نفسه، لأننا لم ندرك أن الدوامة التي تدور فيها اللغة هي دوامة الداخل/الباطن، فقد أصبحت اللغة السردية والشعرية على حد سواء:« تلبي حاجات أكثر سرية، وأشد باطنية، وأبعد عمقا إلى ما لانهاية.» ([8]) وأن الكون الشعري أو القصصي لم يعد يحفل:« بقدر يُبرزُه الروائي سلفا، بل فوضى الحياة المقلقة حيث يبدأ كل شيء، ولا ينتهي شيء.» ([9])
إن أخطر ما في هذه الحصيلة أن تجد الشخصية نفسها في مأزق ساهمت في حفر خندقه،وتمويه مساربه، حتى اختلط عليها الأمر، وتجاوزتها الأحداث، وتخطتها اللغة فلم تعد تأبه بها، ولا تعيرها اهتماما.. لقد صارت الشخصية مشجبا تُعلق عليه الأسرار والخواطر،وتضخمت الجزئيات التافهة في الحياة لتسد أمامها جميع المنافذ، فصارت هي "البطل" وغدت هي محط الاهتمام، والموضوع الذي تُكتب الرواية من أجله اليوم.



- ابن منظور. لسان العرب ج11ص:56 دار صادر بيروت ط1 د.ت [1]
[2] - طوني بينيت - لورانس غروسبيرغ ، ميغان موريس. معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع. ترجمة. سعيد الغانمي. ص: 428.ط1. بيروت 2010
- جبور عبد النور -المعجم الأدبي. ص: 146.147. دار العلم للملايين. ط2. بيروت.1984.[3]
- نفس. [4]
- معجم مصطلحات نقد الرواية. ص:113. مكتبة لبنان- ناشرون.ط1. 2002[5]
- معجم مصطلحات نقد الرواية. ص:115.114. مكتبة لبنان- ناشرون.ط1. 2002.[6]
- ر،م،ألبيرس - تاريخ الرواية الحديثة. ص: 7.6 ترجمة جورج سالم، منشورات عويدات. بيروت1982.[7]
- تاريخ الرواية الحديثة .ص: 8.[8]
- تاريخ الرواية الحديثة .ص: 175.[9]

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة