كلّكم يعرف أن المشهد النقدي عَرف ويَعرف شلالات من التيارات النقدية التي تدرس النص الأدبي من زوايا مختلفة، ومن خلال طرائق تداولها للنص، فاحتفتْ مناهج كثيرة بالنص وببنياته ومكوناته الداخلية والخارج-نصية، تمثلت في: سوسيولوجيا الأدب أو المنهج الاجتماعي، والمنهج النفساني، والمنهج البنيوي، والمنهج الكولدماني[1]، والسيميائيات[2]، واللسانيات البنيوية[3]، والتفكيكية[4]، والمنهج الأسطوري الأنثروبولوجي[5]، والشعرية[6]، والأسلوبية[7]، لكن الذي لا تعرفون أنني يعتصرني الأسى وتصيبني لسعةُ حزنٍ حارقة وأنا أضطرّ لسماع كلامٍ كهذا الكلام:"يجب أن نلاحظ أن النقد العربي المعاصر الذي احتفى بما يسمى التركيب أو البنية داخل اللغة، نسي ما يموج به المجتمع من تدافع غريب قاسٍ، ولم يستطع أن يقيم جسرا بين الجانبين، ولذلك بدا الاحتفال بداخل اللغة هربا من المسؤولية أو عجزا من مواجهة اللغة في نشاطها الحيوي.لقد عاملت البنيوية اللغة معاملة قاسية، ومن ثم اعتبرت الأعمال الأدبية جسماً ساكنا تقرّر أمره واكتمل قبل البدء في تلمسه.وراح البنيويون يقيمون بين هذه الوحدات علاقات أو تقابلات، وفُتنوا بالتقابل الثنائي وأوهمونا أنهم عثروا على نظام العمل الأدبي المؤلف من هذه الأزواج المفترضة.."[8].
البنيوية وعلمية الأدب: structuralisme et la science de la litterature
ربما تكون وجهة النظر هذه أو بالأحرى هذا الانطباع صحيحا، ولكنه في واقع الحال ليس صحيحا، لأن البنيوية إذ تعلن للمشتغلين بالنقد والتلقي أولوية أدبية الأدبLa litterarité على أدب السوسيولوجيا وسوسيولوجيا الأدب، فهي تؤسس لعلمية الأدب La science de la litterature، وتعتبر "النص الأدبي هو قبل كل شيء إبداع لغوي"[9]، وتنظّر لممارسة نقدية علمية، وترفض أن يصير الأدب بقرة حلوباً لأوهام الإيديولوجيا، وتريد أن تعتق الأدب من رِبْقَة المجتمع وحرفة التسول الإيديولوجي والخلفيات القبلية الجاهزة التي يشتغل بها أرباب النقد الإيديولوجي الماركسيّين والفينومينولوجيّين والنفسانيّين والوجوديّين ويلصقونها بالأدب قسرا وتعسفا، وتحرر كذلك النص الأدبي من أَسْرِهِ وخَنْقِه كوثيقة اجتماعية والتي -حسب أنصار السوسيولوجيا النصية- وجبَ أن تعكس الواقع، وكذا هي تفرّ من معنى الأدب ووظيفته ومن اعتبار المنجز النصي بضاعةً في سوق تُباع وتشترى(كما نجد مثلا لدى اسكاربيت في كتاب: Le Litteraire et Le Social)، بالإضافة إلى سعيها إلى اجتثاث الأدب من قضية الالتزام التي تجني على الأدب وتئدُه (مثلما كادت تجني على تودوروف في بلغاريا لما كانت مخنوقة بذلكم الالتزام.قال تودوروف يحكي معاناته مع سيف الإيديولوجيا المسلّط على الأدب:" كانت بلغاريا آنئذ جزءً من الكتلة الشيوعية ودراسة الآداب القديمة توجد في قبضة الإيديولوجيا الرسمية.كان نصف دروس الأدب علما متعمقا والنصف الآخر دعاية .. لن أعرف أبدا كيف كانت ستستمر لعبة القطّ والفأر هذه- ليس بالضرورة لمصلحتي.عرضت لي فرصة الذهاب لمدة سنة إلى أوربا كما كنا نقول في ذلك العهد، أي إلى الجهة الأخرى من "الستار الحديدي"(صورة لم نكن نجد فيها أي مبالغة، لأن اجتيازه يكاد يكون مستحيلا)اخترت باريس ..منفلتا بذلك من الفُصام الجماعي الذي يفرضه النظام الكلياني البلغاري)[10] ، وهذا حال الأدب الإيديولوجي مع الأدباء وكأني بكل الأعمال الأدبية- من عصور ما قبل الميلاد والفلسفة اليونانية إلى يومنا هذا- مَلئى عن آخرها بذلكم الالتزام، ونَشْوى عن بكرة أبيها بالوعي الطبقي للفرد، ولا حديث فيها إلا عن أدب الالتزام والانتماء الطبقي حتى قبْل مجيء القدّيسَيْن/ ماركس وسارتر! ولو غاب دلوٌ في بحرٍ من بحار العالم في أقصى الأرض لقال السوسيولوجيون إن السبب في غيابه هو المجتمع ووعي الدلوِ بانتمائه الطبقي!! والواقع إن أعمالا أدبية كثيرة معاصرة -لاسيما التجريبية منها- (سيما المتعلقة بالماكروقص، والميكروقص والمسرح، والشعر..) قد لا ترتبط بالمجتمع، ولا يهمها المجتمع في شيء لا في العير ولا في النفير، وقد تتأسس على موضوعات أخرى تُصَعّر خدها بشكل مطلق للأدب البروليتاري، ولجدل البنية الفوقية/ الثقافة والإيديولوجيا، والبنية التحتية المرتبطة بالاقتصاد، ولا خيط يربطها بالمجتمع سيما مثلا بعض الأعمال الأدبية كالمسرح الفردي أو اللا-روايةAnti Roman [11] أوبعض روايات الحب أو الأشعار الرومانسية.. أو حتى الأدب القديم كشعر الصعلكة والشعر الجاهلي الذي ورد فيه شعر ذاتيّ أكثر مما هو مجتمعي، قال شكري فيصل:" إن كثيرا من النقاد يلمحون في الشعر الجاهلي صفته الاجتماعية، ويلحون على القول أنه كان صورة اجتماعية لحياة الناس، وأن الشاعر كان سجل حياة القبيلة ومجمع مآثرها وكان لسانها الذي يعبر عنها، والواقع أننا يجب ألا نغفل – في غمار هذه الصفة الاجتماعية للشعر العربي- أنه كان قبل ذلك أو إلى جانب ذلك شعرا فرديا، وأن هذه الصفة الذاتية فيه تكاد تغلب ما سواها، وأن الشاعر لم يكن لسان القبيلة فحسب ولكنه كان لسانا معبرا عن وجوده النفسي وعواطفه الخاصة"[12]، فمثل هذه النماذج الشعرية القديمة قد لا تخضع لمنهج السوسيولوجيا مادامت موضوعاتها نفسية خالصة، فيكون تحليلها سيكولوجياً أولى من السوسيولوجيا، وقد لا تحتاج على الإطلاق إلى أدوات ماركس وبليخانوف وأنجلز الجِراحية لنخضع نصوصها بقسوةٍ لِمَا لم تَقُلْ، ونجعلها بالقوة والتعسف-وأحيانا بالقراءة الماكرة- ماديةً جدليةً اجتماعية أو نتوهم أنها كذلك وهي بعيدة عن كل ذلك، أو نُسحر أعين المتلقّين ونَسترهبَهم ونُوهمهم مثلا أن نصا كنص"العجوز والبحر" لأرنست هيمنغواي هو أدب اجتماعيّ محض والحال إن النص يتحدث فقط عن صراع نفسي لبحّار مع البحر وقروشه، أضف إلى ذلك أشياء وأشياء.. فأين ما يموج به المجتمع من تدافعٍ غريبٍ قاسٍ ها هنا؟ وهل النصوص/كل النصوص قابلة لمجهر التحليل الاجتماعي ومختبر سوسيولوجيا الأدب سيما إذا كانت سوريالية أو غير اجتماعية ولا مادية جدلية ؟
ثم إن البنيوية في تحليلها للنصوص منذ الخمسينات كانت قد اكتسحت جميع النصوص حتى المقدسة منها، نظرا لمنهجيتها العلمية الصارمة، ولأدواتها التحليلية التي تحلل عضوية النص الأدبي، ولرفضها لأحكام القيمة وتوظيف الأدب لِنُصُبِ الالتزام وأصنام السوسيولوجيا، ولتعاملها مع أدبية النص ومكونه اللغوي حين تراهن على الكشف عن الدلالات والاستنطاقات والاستقصاءات الممكنة للنص، وتسعى إلى علمية النقد الأدبي بأدواتها الإجرائية اللغوية والبنيوية، وترابطِ نسيج العلاقات اللغوية فيها من بنية إلى بنية ومن نسق إلى نسق ومن نظام إلى نظام، وتروم مساءلة النص في خصوصياته الأدبية كبنية معزولة عن أحلام الإيديولوجيا الجاهزة، وتسعى إلى تشكيل نظرية علمية للنص الأدبي وأدبية الأدب[13] في إطار متسق من التحليل والكشف عن إمكانات اللغة اللامتناهية في استقراء النصوص ودراسة مستواها السطحي والعميق. وهذا الاهتمام اللغوي البنيوي لا يعني هربا من المسؤولية أو عجزا من مواجهة اللغة في نشاطها الحيوي، وإنما هو انفتاح نقدي يسمح بحرية التعامل مع النص في إطار نظام كلي يكشف عن تأويلات ومقاربات متعددة لبُنى النص ووحداته، يقول أمبرتو إيكو:" النص كون مفتوح (open-end) بإمكان المؤول أن يكتشف داخله سلسلة من الروابط اللانهائية"[14].
ومن جانب آخر فإن لوم البنيوية في فتحها اللغوي العظيم يعني تكنيس النقد الأدبي ليس من البنيوية وحدها فقط بل حتى جميع العلوم أو المباحث والاتجاهات النقدية المعاصرة التي تدرس الأدب بكونه استعمالا نوعيا للغة :كالسيميائيات واللسانيات والتداولية والشعرية والأسلوبية والشكلانية، والأدب قبل أن يكون معنى أو دلالة فهو بنية لغوية تتآلف في نسق مركب لتشكل النص، والنقد كذلك يقوم على اللغة، قال جيرار جنيت في هذا الصدد:" لم يقم النقد ربما بأي شيء، ولا يمكنه أن يقوم بأي شيء، ما دام لم يقرر أن النتاج الأدبي هو نص لغوي أولا وقبل كل شيء"[15].
[1] - انظر التوطئة النقدية للفصل الأول لكتاب :"النص والمنهج"، محمد أديوان، منشورات دار الأمان، الرباط، الطبعة الأولى 2006.
[2] - انظر: " السيميائيات: مفاهيمها وتطبيقاتها"، سعيد بنكراد، منشورات الزمن، طبعة 2003. وانظر كذلك:
- "السيمياء العامة وسيمياء الأدب"، عبد الواحد المرابط، الدار العربية للعلوم ناشرون(بيروت)،منشورات الاختلاف)الجزائر)، دار الأمان، (الرباط)، الطبعة الأولى :2010.
- "سيميائية اللغة"، جوزف كورتس، ترجمة: جمال حضري، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،بيروت، الطبعة الأولى 2010.
[3] - انظر:"رومان ياكبسن أو البنيوية الظاهراتية"، إلمارهولنشتاين، ترجمة: عبد الجليل الأزدي، تانسيفت، الطبعة الأولى، 1999.
[4] - انظر:التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، أمبرتو إيكو ترجمة وتقديم: سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى،2000.
[5] - انظر:" تشريح النقد"، نورثروب فراي، ترجمة وتقديم: محيي الدين صبحي، الدار العربية للكتاب، طبعة 1991.
[6] - انظر: " الشعرية"، تزفيطان تودوروف، ترجمة: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، 1987.
[7] - انظر: "الأسلوب والأسلوبية"، بيير جيرو، ترجمة: منذر عياشي، مركز الإنماء القومي، بيروت.وكذلك: "الأسلوبية والأسلوب" عبد السلام المسدي"، الدار العربية للكتاب، الطبعة الثالثة 1982.
[8] - اللغة والتفسير والتواصل، مصطفى ناصف، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1995، ص:250،251.
[9] - مقدمة عبد الكبير الشرقاوي لكتاب: التحليل النصي، رولان بارت، منشورات الزمن،الرباط، الكتاب الثاني، طبعة 2001، ص:5.
[10] - الأدب في خطر، تزفيطان تودوروف، تر: عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2007، ص ص6 -7.(بتصرف)
[11] - هي رواية تقحم القارئ في حوار ذهني من غير تركيز على الوظيفة الإيهامية، انظر:"المصطلحات الأدبية المعاصرة"،سعيد علوش،منشورات المكتبة الجامعية، الدار البيضاء، 1984، ص:62.
[12] - "تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام"، شكري فيصل، دار العلم للملايين، بيروت،الطبعة الرابعة، (دت)، ص:27.
[13] - انظر كتاب " ماهي البنيوية؟ . Qu’est ce que le structuralisme? لتودوروف.
[14] - التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، أمبرتو إيكو ترجمة وتقديم: سعيد بنكراد، مرجع سابق، ص: 42.
[15] - السيمياء العامة وسيمياء الأدب، عبد الواحد المرابط، مرجع سابق، ص: 10، نقلا عن:Gerard Genette:Figure ll.Ed.Seuil,Paris 1969,p.53