سؤال الحداثة : سؤال الأسئلة ـ أبو إسماعيل أعبو

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

3abbouبقدر ما ينوء مفهوم الحداثة في وضعنا العربي، بتلابس بين بنيته الاصطلاحية ومقاصده الدلالية، تنبهم حدوده، ويغدو مطية لمحامل دلالية متباينة ومتنافرة، تعوق الباحث عن تناوله من موقع المقاربة وإرهاف السمع لقضاياه، ما لم يبدد تلابسه ويرأب تصدعه.
إن هذا التلابس الذي يحرف الحداثة عن سويتها الحقيقية، ويأخذ بمخنقها إلى المدى الذي تفقد فيه كينونتها ودلالتها، ترتب عن عدم الاستيعاب الوجيه لسؤال الحداثة.
فماذا يراد بهذا السؤال؟


إنه السؤال الذي ينفك عن عقال الطقسي، ويتخلص من المراوحة في المكان، جانحا حيال صيرورة تصاعدية، ينشطر إثرها إلى أسئلة لا تلبث أن تستولد أخرى محفزة على الحوار، والعدول عن المطرد والمألوف، وتأسيس معرفة مغايرة، لا تقر البتة بالثوابت، أو بالبعد الواحد الذي يستوقف انسيابها، ويعقم أسئلتها، ويصير بها إلى عكسها.
إنه السؤال الذي بقدرما يستثير الأسئلة يستثير في الآن ذاته احتمالات التفكير المنشرعة على المستحدث، الذي  يدل على النظرة الوجودية الشمولية التي تساوق دوما الصيرورة الزمنية، وتتطلع إلى ما يواكبها من تلك الكتابات الريادية المغايرة، التي لا تقصر ذاتها على أنساق نمذجية مسبقة، وتلغي تلك الصيرورة.
بهذا وذاك، فهو السؤال الذي يصادر في مقام الحداثة على الصيرورة "الهرقلطيسية"، التي بفضلها يسن شرعة الحداثي، ويُدب نشاط التزييح في مجراه، ماثلا أمامنا مثول مشروع ريادة، لا يني يمارس الاختلاف على ما انقطع عنه، فيؤول بذلك إلى سؤال اللامركز واللاوصول، الذي لا يستقر في خطاب واحد ووحيد، وإنما يؤسس في كل مرة خطابا جديدا، ينزاح عن سابقه مفجرا حركية التحول، بوضع الكتابة موضع تساؤل مستمر، ومثار بحث واكتناه دائمين.
وإذ يتخذ السؤال هذا المسعى، يهب للحداثة انفتاحها اللانهائي ولا محدوديتها، ويمدها بنبضات حية في سعيها إلى المتعدد النسبي، الذي يمارس السفر عبر تلك الأسئلة المتناسلة، التي لا تكتسب وجودها الحداثي، إلا عبر لعبة الانبجاس والحوار،الذي يستحيل نتيجته حصرها في صيغة جاهزة.
فإذا ما تبين لنا هذا المعطى الخصوصي، أمكننا أن نقر بأن الحداثة تولدت باعتبارها إحساسا حادا بالطابع الحتمي للصيرورة التاريخية، وإحساسا متحررا من التقليد، والتعقل الأحادي، ذلك أنها تشف عن انفتاح  على الصيرورة الزمنية في استرسالها المكاني، وهو انفتاح دائم مستمر التوهج، لا يروم الحصول على أجوبة نهائية، ما دام يفتنه قلق التساؤل المستمر، وحمى البحث.
بعد هاته الاستيضاحات هل للحداثة من شرعية وجود، إن لم ترتبط بهذا السؤال؟
إن الحداثة لا ترى بدا منه، وهو قد تنزل في نصابه في سياق استرسال الكتابات العربية الحداثية، بعدما تعضد بمبادئ كفلت جدلية المثاقفة والانشراع على الصيرورة المجتمعية، انشراعا دعا إلى تغيير استراتيجية الكتابات، و استشراف آفاقها الرحبة.
فما هي هاته المبادئ؟
أولا، مبدأ الانفتاح: حيث الحداثة، إذ تتعارض مع النمذجي بآعتباره تجسيدا لضديدها السلطوي، تنفتح على أمداء لم تلامسها من قبل، فيصبح النص الحداثي انسلاخا عن تبعية التواتر النصي  المألوف، وتمايزا عن الواقع، وانفصاما عن الآخر الغربي، بعد تمثله ومحاورته محاورة تظل محافظة دوما على شروط تميزها.
ثانيا، مبدأ الحوار، أو منطق السؤال والجواب/ المعضلة والحل: حيث الانفتاح لا يكون مهيأ لآشتراع أفق حداثي، يتخلص من إسار المسبق والجاهز، إلا إذا تعضد بالحوار، كما أن هذا الحوار لا تنقدح شرارته، إلا إذا تعضد بالانفتاح مما يجعل لا غنى للواحد منهما عن الآخر.
إن هذا الحوار، الذي يتأسس على وعي انتقادي يسائل الواقع والكتابة، يحد حسب الناقد جابر عصفور ب"الفعل الذي لا يعرف النهايات المغلقة، ولا ينتج الإجابات الجاهزة، ويرفض المسلمات المطلقة، إنه الفعل الذي ينطوي على تحول مستمر صاعد لا يكف عن توليد السؤال من الإجابة، والانتقال من جمود التقليد إلى توهج الرغبة في الاكتشاف، وتوتر العقل الذي لا يكف عن السؤال، وتوتر المعرفة التي لا تعي لنفسها ضفافا تحدها".
 ثالثا، مبدأ الحرية: حيث الحداثة تجعل منها المبدأ والمنتهى، والباعث والهدف، وفضاء مشرعا على الحوار الانتقادي، الذي يضع السلطوي في المجال الإبداعي وغيره، موضع التساؤل المستمر، ويختط للكتابة مسالك احتمالية عدة، تجعل من حريتها شرطا وجوديا تتم فيه الحركة، التي تنزاح بها عن المتواتر السردي.
إن هاته المبادئ الثلاثة المترابطة عضويا، بحيث لا يتغير مبدأ إلا انجر عن تغيره المبدآن الآخران، تنتظم في صلب الكتابة الإبداعية الحداثية العربية انتظاما، يؤشر على افق سردي مفتوح، يقترن بأسئلة انزياحية ثلاث، تولدت عن سؤال الحداثة:
أولا، سؤال الكينونة الروائية، الذي يرتهن بعلاقة الرواية بذاتها النصية، أي باشتغال بناها الحكائية، وبالتالي بعلاقتها بالأدب، الذي لم يعد ينظر إليه باعتباره ثوابت تثبته على نمذجة جنسية قارة، وإنما ينظر إليه باعتباره متغيرات احتمالية لأنساق تركيبية ودلالية جمالية، لها طواعية اشتراع  سيرورة لا متناهية من الكتابات الحوارية، التي تتحاور تلقائيا بشأن هذا الأدب، وتصوغ له في المحصلة تصورات احتمالية، تساوق حركية الصيرورة الزمنية، التي طالما "قيدتها" كتابات، إذ رأته في جوهره معياريا، يصادر على تجنيس الكتابة طبقا لآقتضاءات جنسية ما قبلية.
ثانيا، سؤال التخييلي والواقعي، الذي يرتهن بعلاقة الرواية بالأوضاع الحياتية، والظروف التاريخية التي تصدر عنها. ويبعث على النظر إلى الواقع المعيش باعتباره متعددا، وتحريك النص على مستويات مختلفة منه، تتحدد في واقع الحياة،  وواقع النص، وواقع المتلقي، والواقع المترتب عن التفاعل بين تصوري المتلقي  والنص، وبالتالي التأكيد على أن ذاك الواقع ليس واحدا، إنه متعدد وملتصق بجدلية الصيرورة المجتمعية، التصاقا يحتم تغيير أفق الكتابة.
ثالثا، سؤال التلقي، الذي يرتهن بعلاقة الرواية بثالوث:
أ‌.    المتعاليات النصية: التي تتمثل في كل النصوص التي تتناص مع الرواية، وتمت بصلة حوارية إليها مشكلة نسيجها النصي الناظم.
ب. المتلقي، الذي  تحفزه قراءة الرواية على آستثارة آحتمالاتها، وإعادة تخليقها لآستيحاء منها ذاك البعد الواقعي، الذي سرعان ما يتغير إثر كل قراءة، ويستحيل تمازجا بين النص والتخيل.
ج. النقد، الذي يتمثل في وعي إجرائي يعتد بالنسبية، ويسائل من منطلقها الرواية اعتمادا على خلفية منهجية، وأدوات إجرائية متجانسة معها، فيكون نقدا يتحدث مع موضوعه بدل التحدث عنه، ويصوغ منه في المحصلة، موضوعا جديدا هو نتيجة الحوار المتكافئ.
إن هاته الأسئلة، التي يتأسس على مهادها أفق الكتابة بشتى تجلياته، ، تبلورت في سياق اتباع الرواية العربية ثلاثة مسارب كتابية:
أولا، مسرب الاقتباس من التراث العربي، وانتقاء صيغه السردية، بغية خلق وعي بالذات الثقافية العربية في مواجهة تيار التغريب.
ثانيا، مسرب إعادة تفكيك ما هو كائن، بغرض بلورة كتابة مغايرة، ومتفاعلة مع الصيرورة المجتمعية ومستحدثاتها.
ثالثا، مسرب جلب عناصر ثقافية خارجية، بغية مساءلتها من منطلق بلوغ الخصوصية المميزة.
وإذ تتبع الرواية هاته المسارب، تؤشر على رغبتها في تحقيق تفاعل جدلي مع لحظتها الحضارية من جهة، ومع ما تواتر من كتابات سردية من جهة أخرى، بغية تأسيس أفق كتابة حداثية مغايرة، تراجع سؤال الخصوصية الذي يتغافل كونية الآداب، منغلقا على ذاته الثقافية، وتجعله سؤالا منفتحا على التجارب العالمية وفق الصيغة التالية: كيف أوظف هاته التجارب لإنتاج أدب يحمل ملامحنا وأسئلتنا الخاصة؟

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة