يؤثث الروائي المغربي الميلودي شغموم متحفه السردي برواية جديدة تحت عنوان : ريالي المثقوب 1 . و يحفل النسق الروائي عنده بالحياة الاجتماعية المغربية في مختلف تجلياتها و أبعادها ، حيث يرسم الروائي تضاريس هذه الحياة و يعين معالمها عبر سيروراتها التاريخية ، و يصور آثار الواقع على الإنسان المغربي فردا و مجتمعا ؛ بتمثيل ذلك من خلال تلاوين حكائية و مصائر سردية .. و بهذه الصورة يصبح الخطاب الروائي تأويلا للعالم من جهة الروائي و نافذة ينظر من خلالها القارئ إلى تلك الحياة. في هذا النص الجديد، يرصد الروائي جانبا من الحياة الاجتماعية أو التاريخية للإنسان المغربي؛ يتعلق الأمر بالهجرة داخل الوطن، و ما لها من أبعاد و آثار نفسية و اجتماعية و ثقافية و اقتصادية... فقد تكون الهجرة اختيارا فرديا ، تحدث بمحض إرادة الذات و رغبة من الفرد في الانتفاع مما تحققه الهجرة من منافع مادية أو معنوية ...
و قد تأتي الهجرة اضطرارا أو قسرا ، حيث تكون هروبا من واقع مأزوم تعذرت معه الحياة أو كادت تستحيل .. في هذا الوضع تغدو الهجرة بحثا عن واقع جديد ، مغاير ، تتوفر فيه مقومات الحياة ؛ مما يدل أن الهجرة فعل مكمل للحرية و مكسر لأطواق الخضوع ، كيف ما كانت صور ذلك الخضوع : تقاليد ، ثقافة ، سلطة ، عائلة ، أو ظروفا قاهرة مثل الأوبئة و المجاعات و الحروب ...
في هذا النص الجديد، مثل الروائي لظاهرة الهجرة الفردية من خلال هجرة محمد بن محمد...الشلح ، من جنوب المغرب إلى مدينة البيضاء . و قد غطت هذه الهجرة فترة تاريخية من 1929 إلى 1956 و هذه علامة دالة في تاريخ المغرب الحديث ، كان المغرب إبانها مستعمرا و قادت الحركة الوطنية الصراع من أجل الاستقلال . و قد كانت للاستعمار آثار اقتصادية و ثقافية و سياسية و اجتماعية على الفرد و المجتمع المغربيين. لقد صورت الرواية ظاهرة هجرة المواطن المغربي داخل وطنه ، من خلال سيرة محمد بن محمد الشلح ، إذ يحكي في سيرته معاناته و ما تحقق له من آمال و ما جناه من خيبات ... إنه يحكي اغترابه داخل وطنه، و سنقف عند مظاهر هذا الاغتراب من خلال المحاور التالية2:
- دواعي الاغتراب و أسبابه
- اختبار الاغتراب كتجربة ذاتية
- نتائجه السلوكية
أولا : في دواعي الاغتراب
تبدأ محنة الذات في النص بموت الأب و الأم ( ص 7) و تولي الجدة تربية البطل رفقة أخته ، غير أن الوضع الصحي للجدة لا يسمح بذلك ، لتتولى زوجة العم ذلك (ص 7) ؛ غير أن الذات ستتضاعف محنتها جراء القسوة و الشطط من طرف الزوجة (ص18) و يتضاعف الأمر أكثر بعد أن أصبح البطل مكبلا في المسجد و مربوطا إلى الحائط (ص20) بتواطؤ العم و الفقيه ثم الزوجة . هذا الظلم الذي عاناه السارد كان بسبب رغبة الزوجة و العم في الاستيلاء على ممتلكاته. هذا الوضع خلق لديه إحساسا بالضيم فتضاعف لديه الهم و غدا يفكر في حلول و لو خياليا (ص42) حيث يسمح الخيال بالتحرر و الانعتاق من أسوأ الوضعيات التي لا يشعر فيها الفرد بالحرية. يضاف إلى اليتم ، كون البطل( زهريا )أي له علامات معينة في كفيه و عينيه و حاجبيه ، تساعد على استخراج الكنوز من تحث الأرض ، إنه يشبه الأضحية التي ستقدم للجن أو للكائنات الغيبية التي تحرس ذلك الكنز قصد استلطافها و تجنب أذاها أو غضبها (ص 63) . و بعد أن تيقن الخصوم، بعد الفشل في تنفيذ العملية، من كون البطل لم تكتمل زهريته، ستعمل الجدة على تحريره بعد أن دبرت حيلة لفك قيده و الهرب ليلا بعيدا عن القرية. و قد شكل الهروب ميلادا جديدا تحرر فيه من ظلم ذويه الذين كان يفترض فيهم نقيض ذلك . يضاف إلى ما سبق غياب فرص العمل؛ حيث العمل يعيد الاعتبار للذات و يسمح لها بأن تستجيب لمقتضيات الحياة ، كما أن العمل يمنح اعتبارا اجتماعيا للفرد ، و يعفيه من التسول و مد يده لغيره ، إضافة إلى المسؤولية و ارتفاع معنوياته ، و ربما أهم ما يمنحه العمل للذات الحد من تأثير الاغتراب (ص78) . ويتمثل العامل الأخير في سلسلة الأسباب ، في المرأة و لا سيما بعد أن تغيرت علاقته بكاترين (ص175) حيث ولد لديه غيابها إحساسا بالقرف و الخوف من المجهول (ص184).
ثانيا : في اختبار الاغتراب
عاشت الذات اغترابها لوجود أسباب لذلك ، مما جعلها تختبر اغترابها و تمتحن في غربتها نفسيا و فكريا .. و يبدأ هذا الاختبار بالاغتراب داخل الاسم ، حيث سيأخذ اسما غير مطابق لهويته " الشلح" حيث هذا اللقب له حمولته التمييزية و التصنيفية ؛ حيث يطلق هذا اللقب على كل من حل بالمدينة مهاجرا من سوس أو من الأطلس ... كما يعيش البطل اغترابا نوعيا ممثلا في احتجاج الصبي و إلحاحه على الذات الراشدة في أن تكتب سيرته وفق الشكل و الصيغة التي يريد، إذ في هذا انقلاب للمراتب و المواقع ... و كأن الصبي هو الذي عانى محنة الغربة و بالتالي فهو الجدير بالحكي عنها ، ولما لم يكن يملك أو يعرف طقوس و مقتضيات الكتابة وضع ميثاقا للكتابة يخضع وفقه الراشد لبنوده . و يفضي العيش تحت القهر المادي و المعنوي بالذات إلى التفكير في الموت كحل أو خلاص سيحررها من المعاناة بعد أن سدت في وجهها كل آمال الانعتاق و التحرر (ص17) و قد تقبل الذات في ظل هذا الوضع بعض التمثلات و التفسيرات لحالته مثل الاعتقاد بكونه مسحورا أو منذورا لكائنات غيبية (ص18) . و رغبة في التحرر قد تلجأ الذات إلى التنازل أو التخلي عن الذي كان سببا في عذابه أو مأساته، و هذا ما حاول فعله البطل في الرواية غير أن جدته رفضت فكرته أو قراره (ص19) .لقد عانى البطل تحت تأثير الحصار الذي كان مضروبا عليه من تعذيب نفسي تمثل في سيطرة شبح معذبيه (عمه و زوجته) بعد أن غادر القرية (ص42) حيث كان يرى خيالهما ، مما يفيد أن الجانب النفسي هو الأكثر حساسية و هشاشة في مثل هذه الوضعيات ، الشيء الذي يجعل آثار المعاناة منقوشة و يصعب التحرر منها . و كما يتأثر النفسي و الباطني تظهر على الذات علامات و آثار مثل الاتساخ و قزازة المنظر أو بشاعته (ص93)، و ذلك لأن الأساسي لدى الباحث عن الحرية أو الهارب من معاقل التعذيب هو الإحساس بالأمان ثم بعد ذلك يستجيب لمتطلبات الحياة من نظافة و مأكل و ملبس و مأوى ... إذ الضروري لديه هو الشعور بالأمن من عدوه. و يعكس النص في الأخير أهم مظهر من مظاهر اختبار الاغتراب، يتعلق الأمر بامتهان النظافة في مقهى، إذ نوع الوظيفة و ترتيبها في سلم الوظائف يحدد طبيعة تأثيرها النفسي و الاجتماعي ثم المادي...(ص121) رغم أن العمل في المقهى كان النافذة التي أطل منه البطل على العالم و تعرف إلى الوجه الآخر للحياة...
ثالثا :النتائج السلوكية للاغتراب
بعد أن أحس البطل بالأمان بين أصدقاء جدد ، و بين أحضان فضاء جديد ، و بعد أن اطمأن بالبعد عن معذبيه ، و تعرف إلى عالم جديد ، و أقام علاقة حب مع كاترين ، كل هذه الممارسات جاءت نتيجة واقعه الجديد ، و بديلا عن واقعه القديم ، كما تعلم اللغة الفرنسية و عبارات المجاملة (ص122) إضافة إلى الكتابة و القراءة باللغتين العربية و الفرنسية (ص123) و تعلم الموسيقى في جمعية مسيحية ، و ساعده الاحتكاك مع الأجانب تعلم إتيكيت الحياة : أدب المعاشرة و الأكل و الشارع ... و قد شكل له الحب وطنا و أهلا محتملين بدلا عن السابقين ؛ وطن فيه الحرية و التعبير عن الذات و الإحساس المفعم بالحياة ، وطن أدرك فيه ذاته . إن تجربته مع كاترين و العلاقات الجديدة التي أقامها بالبيضاء أسست لديه رؤية جديدة للوجود (ص129) وشكلت القراءة لديه نشاطا ذهنيا و ممارسة عقلية اختبر فيها ما لديه من تمثلات و أفكار عن نفسه. هكذا حققت القراءة و الكتابة و العلاقات الجديدة للذات المغتربة أمرين :
- الإحساس بقيمة الذات و إعادة الاعتبار لها من جديد بعد أن كادت تمتحن مرارة الموت .
- معرفة و إدراك سر" رياله المثقوب " أو سر قوة الريال الذهبي الذي كان يقايضه عند تاجر يهودي، وأنه سبب وضعه الجديد الذي مكنه من الاستقلال و امتلاك مقهى و شقة في النهاية.
خاتمة:
اتخذت الرواية من هجرة محمد بن محمد الشلح مدارا سرديا لها ، و قد أنبنى عالم الرواية عبر إجراءات سردية معروفة في ميدان الحكي مثل الانفتاح و التوسع و الانعراج ، التمطيط و الاختزال ، التلخيص والبيان . و قد اتخذ المدار من الهجرة داخل الوطن واقعة حقيقية ، حيث بالنظر إلى الواقع نجد لهذه الهجرة تحققات و تجليات ، بينما الشخصية المهاجرة في النص محتملة ومتوقعة ، و في هذا اختلاف الرواية عن الكتابة التاريخية حيث الفعل و الشخصية واقعيين أو تاريخيين ، بينما في الرواية محتملين .
الهوامش:
1 – الميلودي شغموم :ريالي المثقوب . دار العين للنشر .ط: 1 .2011
2 – الدكتور حليم بركات : الاغتراب في الثقافة العربية ، متاهات الإنسان بين الحلم و الواقع . مركز دراسات الوحدة العربية . ط: 1 . 2006 .