إذا كانت السينما في عمومياتها فنا جميلا فإن السينما المغربية في السنوات الأخيرة، مع استثناءات قليلة، أضحت قُبْحا وتشويها وتسْفِيها وصَلَفًا، وباتت تسعى للنمطية المبتذلة التي تنبني على العري والجنس والتسكع في الحانات ومصاحبة البغايا؛ حتى غدت الأفلام المنتجة، في الآونة الأخيرة، تنتج وفقا لمقاييس "فنية" مملاة من شركات لا تهمها لا ثقافة البلد ولا أعراف سكانه، لذلك تلفيها يبحث عن أشباه المخرجين وما هم بمخرجي شيء، الذين لا علاقة لهم بثقافة هذا الوطن ولا بهموم أناسه، لأنه لو كانت لهم ذرة حياء لما أنتجوا المسخ المبين باسم الفن، والفن منهم براء، لماذا كل هذا ليصبح السيد المخرج هو بدر زمانه.، كي يمشي على البساط الأحمر...
السينما فن راق يقارب مفهوم الجمال في معناه الهيجيلي، ويلامس الواقع في مختلف جوانبه للوقوف على كل خباياه وأعطابه، بلغة واصفة، رصينة، موضوعية، تلمح أكثر مما تلوح بعيدا عن الغوغائية الفارغة ودونما الاتكاء على لغة سوقية منحطة أو مواقف تَنِمُّ عن تقشف فكري وخواء معرفي. كثير ما تطرح مسألة الحرية عند السنيمائين في ارتباط مع مقاربة لدروب المواخير والعري والجنس والمخدرات وكأن الحرية والمواقف الجريئة لا تقوم لها قائمة إلا في أحضان البغايا ومواخير السكارى. فمن العبث الاستهتار بمشاعر الناس والصدود عن همومهم اليومية وتسويق الوهم ومخاطبة الأحلام المريضة.
من هذا المنظور سأعمل على أبداء بعض الملاحظات بصدد فيلم «بيع الموت» ومقاربة بعض جوانبه سواء على مستوى الطرح، وإن كنت أن أشك أن للفيلم أطروحة أصلا، أو على المستوى الفني، فيما يتعلق بالضرورة الفنية واللغة السينمائية.
عتبة العنوان:
لقد عنون السيد فوزي بنسعيدي فيلمه بـ «بيع الموت» والعنوان عادة ما يكون مرآة للفيلم ولما يرغب المخرج في إيصاله لمتلقيه في علاقة مع أطروحة الفيلم. فمن خلال مشاهدتي للفيلم حاولت عبتا أن أجد ما يربط العنوان بالفيلم أو الفيلم بالعنوان المثبت في الملصق والجينيريك، من هنا أُساءل السيد المخرج: أين يتجلى هذا البيع الفريد من نوعه؟ كيف يمكننا أن نبيع الموت؟ ما المؤشرات الفنية والسينمائية التي تقربنا من هذه الصورة الفانستيكية\ العجائبية التي "اتحفتنا بها"، وتجعلنا ننخرط في وهم هذا النوع من البُيُوع؟ أو بلغة بسيطة ما المقصود ببيع الموت على المستوى البلاغي في الفيلم، والتي لم يتسنى لي كمتلقي أن أصل إليها؟
أين يتمثل بيع الموت في فيلم سي بنسعيدي؟ أفي انتحار أخت مالك أم في مقتل علال أم في دناءة مالك وهو يشي بزوج أمه مرة وبصديقه مرة أخرى أم في فرار دنيا بمسروقات مالك، أم في ردة سفيان ؟ أم في تحول مالك إلى مرشد للبوليس؟...
العنوان الذي ارتضاه المخرج لفلمه باللغة العربية لا يستقيم مع الترجمة التي اقترحها له: فبيع الموت لا تستقيم ترجمته بـ Mort à vendre وعلى هذا الأساس فأيهما عنوان الفيلم أذاك المكتوب بلغة الضاد أم الذي خط بلغة موليير؟..
وَهْمُ الحكاية وحكاية الوَهْم:
تقوم أحداث الفيلم، حتى لا أقول الحكاية، على ثلاثة شخوص، هم: مالك، علال وسفيان الجامع بينهم هو الجنوح نحو السرقة وتعاطي المخدرات، لتتفثق عبقريتهم على السطو على محل مجوهرات في ملكية أحد المسحيين المقيم في المدينة (تطوان، حيث تجري أحداث الفيلم)، وذلك بغية تصريف الذهب والمجوهرات المفترض سرقتها للاتجار، بالمال المحصل جراء ذلك، في المخدرات، على اعتبار أن أغلب تجار المخدرات قد سجنوا جراء عمليات التمشيط التي قامت بها السلطات المغربية.. ونتعرف من خلال هذه الشخوص على واقعهم المعيش، فمالك، وهو الشخصية الرئيسية، يعيش مع أمه وزوجها وأخت له، زوج الأم يدير مخبزة في ملكية الأسرة ويتاجر في المخدرات، الأخت تشتغل في معمل للخياطة وتقوم بسرقة بطاقات تحمل الاسم التجاري لذلك المعمل بمباركة الأم وزوجها، ومشاركة مالك الذي يتكفل ببيع المسروق، أما علال وسفيان فلا نعرف عنهما أي شيء. وفي تقاطع مع هذه الشخوص نجد دنيا بنت ليل، لا عائلة ولا تاريخ لها، تدخل في علاقة غرامية مع مالك..
هذه التوليفة من الأحداث هي المدار الذي اصطنعه المخرج لنفسه وجعلها إطارا أراد لنا أن نتقبله كصورة لواقع مترد هو المسؤول عن أفعال تلك النماذج البشرية.
يصور الفيلم الضياع، ولكن عن أي ضياع يتحدث المخرج\ السناريست\ الممثل؟ هل هو ضياع الفتية الذين اختارهم فوزي بنسعيدي شخوصا لفلمه، إن ضياع هؤلاء هو ضياع مفتعل اختاره المخرج ليصرف صورا نمطية تعشش في خياله. من هنا أرى أن الضياع المقصود في الفيلم هو ضياع المخرج نفسه وتيهه بين أكثر من موضوع..
لم تنبني الأحداث في الفيلم على موضوعة أو أطروحة محبوكة تهدف تشريح الواقع المجتمعي المتردي كما يتوهم المخرج أنه قد فعل، فآفة الفيلم التي أَغْرَقَ المخرج فيها فيلمه فغرق بدوره في مستنقعها، تتمثل فيما يلي:
أ- مجانية اللقطات المغرقة في الجنس؛
ب- الجمع بين المتناقضات (التدين السرقة...)؛
ت- الإساءة إلى مجموعة من القيم المغربية بشكل مجاني( المدرسة، الأمن الوطني، الأسرة عموما).
أـ المجانية سيمة الفيلم
إذ احتسبنا المدة الزمنية التي تتناول اللقطات الساخنة نجدها تشكل ثلثي مدة الفيلم أم الثلث الناجي فيخصصه السيد المخرج مناصفة بين جلسات خمرية موزعة بين الحانات أو في الفندق أو في الغابة، كما هو حال التلاميذ، وبين المطاردة: مطاردة التلاميذ لسفيان عندما سرق محفظة زميلتهم أمام باب المؤسسة التعليمية، مطاردة علال ومالك لسفيان بعدما استقطبته الجماعة المتطرفة، مطاردة عصابة الغابة لمجموعة من التلميذات والتلاميذ وأخيرا مطاردة الشرطة لعلال وصديقيه، وبالمناسبة كان من الأجدر بالمخرج أن يعنون فيلمه بالمطاردة أو الجري، أو بلغة الشارع مادام السيد المخرج متخصصا فيها بـ التَّــعْلاقْ(باللغة الدارجة، ما دامت هي لغة الفيلم).
لا تنضب جعبة المخرج وهوسه باللقطات الجنسية الساخنة، وبلقطات تنم عن جهل تام بآليات التوظيف الفني للجنس، من قبل ممارسة الجنس في السيارة بالقرب من الشاطئ، وهي لقطات مقحمة لا تسمن الفيلم ولا تغنيه في شيء..
ب – مشاهدة الفيلم تعطي الانطباع أن السيد المخرج لم يرد تفويت الفرصة، لذلك نجده يرغب في تناول أكثر من موضوع (التطرف الديني، الاتجار في المخدرات، حياة الليل..) دونما أن يوفق في أي واحد منهم، إذ وقع لصاحبنا ما وقع للذئب مع الجرادتين، لما أراد اصطيادهما في وقت واحد، وعندما نط عليهما طارتا فسقط على الأرض؛
ت – في نظري المتواضع، أرى أن الفيلم يستحق جائزة الاستهتار بالمؤسسات: الأسرة، حيث صورها هي أس الداء دونما تبرير، في حين أن الأسرة المغربية أعطت أعلاما في الثقافة والفكر والسياسة لم يسجل عليهم يوما أنهم كانوا يسعون لشهرة زائفة. وقد طالت يد السيد المخرج تلاميذ المؤسسات التعليمية وتصويره لانحراف مجاني مقحم في الفيلم: ما الضرورة الفنية لتعليق سفيان في الغابة؟ ما ضرورة اللقطة التي يقبل فيها التلميذ زميلته أو صديقته أمام أصدقائه في نفس الغابة؟ ما الغاية من تصوير مجموعة من التلاميذ وهم يشربون الجعة؟
الأنكى من ذلك هو عندما حول السيد المخرج سيارة الشرطة إلى وكر للدعارة، إذ جعل مالك يقبل دنيا أمام مفتش الشرطة،
لغة الفيلم
اللغة المستعملة في الحوار لغة بئيسة تمتح من الواقع الذي يتناوله المخرج ولكنها تغرف من قاموس سوقي مبتذل ونثن تزكم رائحته الأنوف. ألأن هذه اللغة تتعامل بها شريحة معينة، وهي على كل حال فئة وضيعة، لأن من يستعمل تلك اللغة ومفرداتها ، فهو يعبر بالضرورة عما يعوج بداخله، لذلك لا ينبغي أن نجعلها لغة فنية، و نرقيها إلى مستوى الإبداع. متى كان القبح جميلا؟
خاتمة
لقد طرح السيد المخرج أفكارا مغلوطة عن هذا البلد، ومستفزة لثقافته ولقيمه وأعرافه؛ صحيح أن هناك انحلالا خلقيا وتفسخا عائليا و إجراما مستشريا وأمراضا اجتماعية عديدة، ولكن السيد المخرج لم يوفق للأسف في تناوله لهذه المواضيع، لذلك أرى، في من يريد تناول هذه المواضيع، ضرورة التسلح بالعلم وقراءة الواقع المغربي، من مختلف جوانبه السياسية والثقافية والسوسيولوجية والإثنوغرافية..، لا أن يتسلح بقنينات البيرة وحمالات الأثداء.
فيلم من إخراج فوزي بنسعيدي، وإنتاج شركة Entre chiens et loup, Agora Film production (2011) ،
سيناريو فوزي بنسعيدي
تشخيص فوزي بنسعيدي، محسن ماليزي، نزهة رحيل، إيمان مشرافي، فهد بنشمسي، فؤاد لبيض
مدة الفيلم 1H 57