غواية الأسيل ... قراءة في قصة : جلد رقيق ناعم ـ المصطفى سلام

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

sellameabstraراكمت التجربة القصصية العربية إنتاجات عديدة ومتنوعة : رؤية وتشكيلا وتقنية الشيء الذي يؤكد التمايز والاختلاف بين النصوص ذاتها وبين القصاصين أنفسهم . والمتأمل في هذا اللون الادبي يدرك قدرته على الترميز والإيحاء والتمثيل والتخييل أو الإيهام .. كما يدرك أيضا أن هذا الإنتاج ليس في نفس المقام من الجودة أو الفنية... ورغم بعد القصر أو صغر الحجم إلا أن القصة القصيرة أرحب وأفسح وأعمق[1] ، ومن بين النصوص القصصية التي تأملنا عالمها الافتراضي أو الإمكاني قصة : جلد رقيق ناعم[2] .
معالم النص البنائية :
1- المتواليات السردية :
 يخضع هذا النص في بنائه إلى متواليات سردية ، شكلت في تعالقها  دينامية النص، في البداية يصف السارد المرأة الصاعدة إلى الحافلة وعنده رغبه دفينة في أن تجلس جانبه ، وتحققت أمنيته ، فبدأت محاولات منه بغاية الاقتراب منها ، هذه المحاولات يحد منها الحذر والحيطة . ونتيجة المحاولات الأولى أقنعت السارد بأن يقتحم عالم المرأة عن طريق الضغط فينتشي لذلك ، غير أنه اكتشف في النهاية أن ما كان يظنه رابطا ووسيطا بينه وبين المرأة " فخذها " كان عازلا وحائلا .


يكشف هذا البناء عن التسلسل والتتابع كمبدأ انتظم سيرورة الأحداث في القصة ، وهذا البناء تقليدي حاضر في السردية العربية عامة ، حيث حدث يؤدي إلى حدث ، أو وضعية تؤدي إلى أخرى ، وهكذا إلى نهاية المسار السردي .
2- البنية العاملية في النص :
تنجز البنية العاملية كما صاغتها السيميائيات السردية وظيفة محورية تتمثل في الإمساك بعامل الحكاية، حيث يضبط القارئ بسيرورة الأحداث وشبكة العلاقات بين الشخصيات ، ويمكن أن نحدد أهم عناصر هذه الخطاطة في النص :
 
 
 
العامل المرسل                                 عامل الموضوع                               العامل المرسل إليه
الرغبة                                                    يرغب                        
العامل المساعد               يساعد              عامل الذات                  يعاكس            العامل المعاكس
اللمس                                                  السارد                                           الحقيبة الجلدية
- تكشف هذه البنية عن العلاقات المحورية التالية:
أ – علاقة الرغبة وتتحقق بين عامل الذات وعامل الموضوع، فالذات السارد ذكر رجل ، فحل يرغب في موضوع أي امرأة تتمتع بصفات : الجمال والرشاقة والحسن ... هذه القيم الثمينة هي التي حركت الرغبة عند السارد وهي حافز ايروتيكي .
ب- علاقة المواجهة: تحققت بين العامل المساعد والعامل المعاكس. إن ما يقدم العون والمساعدة للذات لامتلاك موضوع رغبتها وحيازته هو اللمس، في حين كان الجلد جلد الحقيبة هو المعيق لهذا الانجاز . والمفارقة أن اللمس والجلد من نفس الدائرة ، بمعنى أن الجلد كمادة تدرك باللمس فيتم تحديد طبيعة ونوعية الجلد : الخشونة أو الليونة ... ويتأكد البعد المفارق للناعم / الجلد أنه عازل وموصل في نفس الوقت . مخاتل أو مخادع وصريح، فاضح وساتر ...
ج – علاقة التواصل : تتجلى في النموذج أعلاه بين العامل المرسل والمرسل إليه ، أي بين الرغبة وهي هنا رغبة ايروتيكية تقتضى الإشباع وبين صاحب الرغبة . وإذا كان الحسي أو اللمسي غامضا ومخاتلا في العلاقة الثانية ، فإن الرغبة دال ملتبس[3] ، تظهر وتختفي ، تشتعل وتنطفئ ، تحتر وتبرد ، تحيا وتموت... إلا أن أهم ما يميزها في التجربة الإنسانية الكمون أو القابلية للكبت والكبت غير الموت. الرغبة تحفز عامل الذات فيبدأ في التخطيط والبرمجة للاستجابة ، والرغبة لا تحضر أو تحرك إلا إذا تحقق شرطها الأساسي : المرأة / الأنثى ، وليس الأمر في أي أنثى بل أنثى جميلة رشيقة حسناء تستطيع أن تبعث برسائلها عبر وسائط : الشم والسمع والنظر ... إن الرغبة دفينة ، داخلية ، غامضة ، بمجرد ما يتلقى الرجل/ الذكر رسائل من المرأة ، بوعي منها أو دون وعي : عطرها ، لباسها ، قدها أناقتها ، شعرها ، جواهرها، كلامها ، إيقاع حذائها ، ألوانها ، حركاتها ... تنبعث الرغبة، وتكشف التجربة الإنسانية اختلاف صور الانبعاث وبالتالي اختلاف الرغبة وبالتالي اختلاف صور الاستجابة : التلصص ، التحرش ، عرض دعوى أو استدعاء ...
لقد كانت محاولات السارد شبهة بمحاولات اللص أو السارق ، حيث يسعى إلى امتلاك أو الحصول على ما يرغب بحذر شديد ، لقد اتخذ السارد كثيرا من الحذر وكأنه يسرق أو يختلس إنه يختلس ويسرق اللذة من امرأة دون رضاها أو موافقتها ، غير أنه خاب في النهاية .
- الوضع المفارق للفضاء في النص :
يقوم السرد في القصة أو النص السردي عامة على اقتراض فضاء تجرى فيه الوقائع وتتنوع فيه المسارات ، وهو فضاء متخيل يوحي بواقعية المغامرة عبر نوع من الانعكاس المجازي الذي يلغي شك القارئ [4]، من خلال مؤشرات فضائية ترسم المعالم وتضبط الحدود وتشكل الحافلة فضاء محوريا في القصة ، وهو فضاء مغلق ومتحرك . ولا نعثر في النص على وصف دقيق لمحتوياته أو شكله أو حجمه...بل اكتفى السارد بذكر بعضها فقط : المقاعد والركاب والنافذة ، كما ركز على المرأة التي جلست إلى جانبه ، لم يقصد المكان في القصة لذاته بل لوظيفته ، حيث شكل حيزا وخلفية للأحداث ، والحافلة مكان رغم انغلاقه فهو منفتح عبر نوافذه ، وهي جسر للعبور من مكان إلى آخر ، من مدينة إلى أخرى ، فضاء للالتقاء والتنوع إذ يلتقي في الحافلة أخلاط من الناس مختلفي الذهنيات والوضعيات الاجتماعية والثقافية والفكرية ، متبايني الأعمار : صغار ، شباب ، شيوخ ، رجال ، نساء ، أصحاء ، مرضى ...[5] .  إن الحافلة بهذا الوضع المفارق ، فضاء يتيح ويساعد السارد على الظفر بموضوع رغبته واقتناصه وكأنه مجال للصيد أو القنص ... وقد كان قنص السارد سرقة إذ لم يحترم أدبيات القنص بقدر ما استجاب لأدبيات السرقة والاختلاس .
- الزمن في النص :
يكشف التنظيم الزمني في التخييل القصصي عن الصيرورة أو المسار الذي انتظم الوقائع أو الأحداث ، من البداية إلى النهاية ، عبر التداخل أو الخطية ، وذلك من خلال التقنيات الزمنية المعروفة في هذا المجال . واستناد إلى المؤشرات الزمنية الواردة في القصة ، وهي عبارة عن أفعال : تصعد ، أتزحزح ، تنطلق اقترب ، انظر ، ادفع ، أحس + أضغط ... نلاحظ أن زمن القصة هو زمن الحاضر عامة ، ينحصر منذ صعود المرأة وجلوسها قرب السارد إلى اكتشاف حقيقة العازل .
يتوزع زمن القصة إلى :
- زمن الرغبة الممتد والكامن في لا وعي الشخصية ، إنها معطى تابت وقار في لا شعور السارد .
- زمن الاستجابة للرغبة ويتخذ بداية له : ظهور المرأة الحسناء في عالم السارد ، وقد تحقق هذا الزمن من خلال محاولات السارد للظفر بنعومة جلد المرأة " الفخذ " وينتهي هذا الزمن باكتشاف حقيقة الجلد الرقيق الناعم .
تتكثف الأفعال التي قام بها السارد في اللمس .. لقد حاول الاقتراب دون إثارة ، والاقتحام بعد أن لم يصدر عن المرأة أي اعتراض أو قبول ، فكان الإحساس بالغبطة من طرف السارد وأخير اكتشاف زيف هذا الإحساس .
لقد كانت استجابة السارد لرغبته في كليتها هي صيرورة القصة السردية ، وهي صيرورة ناتجة عن تنامي كمية أو حجم الإثارة عند السارد ، من خلال : النظرة ، الجسد ،اللباس ، الاحتكاك وانتهاء بتقلص هذه الكمية باكتشاف طبيعة الموضوع الملموس .
من وحشية الرغبة إلى غواية الأسيل :
تحدد الرغبة في بعدها الايروتيكي الجنسي هدفا لها ، وهو عبارة عن موضوعات متنوعة تمثل المرأة في القصة واحدا منها. وقد يكون هذا الموضوع ممنوعا أو مسموحا ، محرما أو مباحا ، يسهل الوصول إليه أو تصعب حيازته في الواقع ... لكن بالإمكان الاستجابة لحافز الرغبة عبر الاستيهام Fantasme  أو حلم اليقظة مثلا ، وعندما يختار الراغب مرغوبه ويحصل عليه يتحرر من الأوهام ومن أسر وضغط رغبته عليه . لقد اعتقد أو توهم السارد أن المرأة ، عبر لمسها والاحتكاك بها ستحرر رغبته ويخفف بالتالي من التوتر لديه ، غير أن الموضوع في القصة تقنع بموضوع آخر "الحقيبة " ، فكانت حماية للمرأة ووقاية لها. لقد احتمت المرأة بحقيبة جلد ناعم ، وتشارك المرأة الحقيبة في النعومة والرقة والطراوة ، هذه الصفات تساعد على إخراج الرغبة وتجليها وتنفيذها . إن الأسيل المتحقق في الملابس والحقائب والأفرشة والأغطية والعطور والورود والكلام " اللمسات والوشوشات ..." يساعد على تحقيق الرغبة في بعدها الجنسي/  الايروتيكي إنه الطريق الملكي للاستجابة وتخفيف مدة التوتر عند صاحب الرغبة وخاصة من انبعثت عنده بحدة .
يحفل النص بالأسيل [6]  كقيمة مهيمنة ،حيث الناعم والرقيق والطري والعذب واللين والأملس واللطيف: صفات حاضرة بقوة في لغة السارد أو في حركاته أو موصوفاتها، كما أنها تتكاثف في موضوع رغبته . وتحكم المفارقة الأسيل في النص ؛ إذ هو في نظر السارد مساعد على التحقيق والاستجابة لدافع الرغبة، بينما الخشن أو الغليظ أو العنيف يجعل الرغبة تكبت وتنكص . لقد اعتقد السارد أن تنوع الأسيل واستجابته هو السبب في انبعاث الرغبة لديه، غير أنه اكتشف في النهاية مخاتلة الناعم وخداعه، أي أن السادر انخدع لنعومة الحقيبة وهي من مستلزمات أو أيقونات الأنوثة...
الأسيل تيار جارف يبعث الرغبة من مرقدها، غير أنه عازل في نفس اللحظة.  يزداد التوتر وتعظم الرغبة في حالة الإيحاء والإيهام في حين تخف وتفتر الرغبة، بعد الوصل والاستجابة. ورغم هشاشة الأسيل فهو يشبه الصخور الصلبة التي تتكسر عندها أعتى الأمواج ، حيث الرغبة الأيروتيكية الدفينة تشبه الأمواج في عتوها وشدة اندفاعها ، لها قوة تدميرية ، إذ من الممكن أن تدمر صاحبها خاصة في حالات الفقدان أو غياب موضوعها أو تمنعه ، مما يعرض صاحب الرغبة إلى ارتكاب بعض الحماقات أو التهور أو الانحرافات ( ظاهرة الاغتصاب أو نكاح المحرمات مثلا ... ) .
 
 
 
 
 
 
 
 

ملحق :
جلد رقيق ناعم
تصعد إلى الحافلة ، بقميص زهري مشدود على الصدر ، وشعر أشقر مرسل على الكتفين ، أتزحزح قليلا في مقعدي نحو النافذة ، أدير الطرف عنها ، اصطنع عدم الاهتمام ، كأني لا أراها ، وأنا أتمنى أن تقعد إلى جواري ، وتحط  بجانبي مثل حمامة وتنطلق الحافلة ، أتمنى لو تنعطف بسرعة أو لو تمر بحفرة ... الخديوي إسماعيل عندما شق الطريق إلى الهرم ، أوصى المهندس أن يجعل فيه منعطفا حاد الميل، كي تميل عليه ملكة انكلترة لدى زيارتها الأهرامات ، ولم لا تميل عليه هذه الحسناء .
بهدوء أتزحزح نحو اليمين ، اقترب بلطف شديد منها ، وأنا أنظر إلى النافذة عن يساري ، وتنعطف الحافلة ، اقترب بهدوء أكثر ، كأنني نملة تزحف على صخرة ملساء ، أريد لكل شيء أن يبدو عفويا وطبيعيا ، ويصل إلينا المفتش ، انتظر حتى تعرض هي عليه تذكرتها أولا وأميل نحوها قليلا ، وأمد يدي بتذكرتي ، ولكن هذا كله لا ينفع ، لابد إذن من الاقتحام ، أدفع برجلي اليمنى نحوها ، ولكن بهدوء ، أمس جلدا ناعما رقيقا ، أحس بالغبطة ، أتزحزح قليلا نحوها ، فخذي يمس الجلد الناعم، رقيق هو جدا وأملس ، اضغط بفخذي ، ينضغط الجلد ، أحس بطراوة ، أحس بانضغاط عذب ، كأني أضغط على مفاتيح بيانو ، وتنساب الموسيقى ، وتنعطف الحافلة ، وأضغط أكثر فأكثر ، والجلد الناعم الرقيق العذب يستجيب ، فينضغط ويرق ويلين ، لا تستاء ولا تتذمر ، تلتفت إلى الطرف الآخر ، لاشك أنها تصطنع هذا الالتفات حتى لا يحس أحد في الحافلة بما يجري ، كما التفت أنا إلى النافذة وأبعد عنها كتفي ، لا أريد أن يلتصق بكتفها، حتى لا يشعر بنا أحد، واستمر في الضغط ، وأنا هانئ بالليل والنعومة والرقة، يتوهج دمي ، ترتفع حرارتي، تشتعل عروقي ، لكن لا أكاد أحس بدفء جسدها ، هل رجلها مشلولة ؟ ألتفت بهدوء ناعم، وبطرف عيني أنظر نظرة خاطفة ، بيني وبينها حقيبة يد جلدية .
أحمد زياد محبك . جلد رقيق ناعم ، مجلة مجرة .
عدد 13 . خريف 2008.

شعرية الألم : قراءة في ديوان :" ياسمين فوق سرير الجمر "
يعد المرض اختلالا في الحاجيات والوظائف المترابطة عند الإنسان، والتي تشكل نظاما ووحدة عضوية، حيث يتعطل هذا النظام وتختل تلك الوحدة في حالة المرض. والمرض ظاهرة تقبل الوصف والتشخيص والعلاج واقتراح الأدوية ووصف الأعراض كما يقبل التأويل ، حيث يعطي الإنسان للمرض في شموليته وتنوعه تأويلات مختلفة . والإحساس بالمرض أو العيش معه وجها لوجه يجعل حضوره في ألوان من الفن : الشعر ، الرواية ، الفلسفة ، الرسم ، الموسيقى ... والمرض يستدعي لمقاربته علوما مختلفة : النفسية والاجتماعية ، والطبية والبيوكيماوية، والانثروبولوجية ...
يكشف حضور المرض في الإبداع الشعري أو الروائي نوعا من الوعي عند الشاعر أو الروائي، حيث يفكر في ذاته وما يقترن بها من حياة ووجود وعلاقات ومتع وموت ... إن المرض حالة وجودية تجعل المرء مبدعا كان أم لا ، يعيد التفكير في منطق الحياة ذاتها ولاسيما في حالات الأمراض المزمنة أو الفتاكة ...
وتكمن خصوصية المرض في مفارقته ، حيث يجمع الفردي والجماعي ، النفسي والعضوي ، الروحي والمادي ، بقدر ما يهدد الفرد يهدد الجماعة وبحجم معاناة المريض تكون معاناة محيطه والقريبين منه . يموت منه أحياء ويغتني منه آخرون . تتكفل به مؤسسات وهيئات ... كما تكمن مفارقته في كون التفكير فيه وتأويله أو تشكيل وعي خاص به ... هو في العمق خطاب علمي من جهة علم الطب ، ونفسي من جهة السيكولوجيا ، وسوسيولوجي بمنظور السوسيولوجيا ، وأنثروبولوجي ثقافي عام كما يذهب إلى ذلك مارك أوجيه Marc Augé [7]  يثير المرض مشاعر وأحاسيس مختلفة ، ويخلق تمثلات وتصورات ومواقف متباينة ، وتنجم عنه نتائج وردود أفعال متنوعة على مستويات : العلاج والتشخيص والتدبير المؤسساتي والتأويل ... تتجاوز العيادة والمختبر إلى المتخيل بغناه ... إن المرض تجربة وجودية أو قلق وجودي ذا تجليات وتمظهرات عند الشعراء [8]، فكيف تحقق ذلك في ديوان : ياسمين فوق سرير الجمر "؟ للشاعر  محمد عدناني.
يحفل الديوان بالألم ، وكأن المعاناة من المرض ، أو تجربة الاعتلال هي أهم موضوع في الديوان ككل ، وإن ظهرت بعض الموضوعات الأخرى مثل الحب والوطنية ... وتتيح القراءة كنشاط يمارسه القارئ ، ويعكس درجات تفاعله مع النصوص ، الإمساك بآثار المعنى وتتبع بصمات الدلالة والتي تتحقق في العلامات التالية :
سرير :
يشكل العنوان المركزي والعنوانين الفرعية عامة عتبات إلى المعنى أو علامات تحمل القارئ إلى تخوم الدلالة أو ضفافها إذ تكتفي هذه العلامات بالتلميح وتتجنب التصريح ، تلبس الغموض وتطرح الوضوح ... وهذه طبيعة العنوانين وخاصيتها .
يحفل العنوان : " ياسمين فوق سرير الجمر " بآثار دلالية ، تربط بين قصائد الديوان كافة ، وتتألف هذه العتبة من ثلاثة وحدات أساسية : الياسمين ثم السرير والجمر . وتحيل هذه الوحدات إلى دلالات متباينة ومفارقة : السرير مكان مفارق ، يحيل إلى النوم والراحة ، إلى الحلم والأمل ، إلى النشوة والغبطة ، كما يرمز إلى  المعاناة والألم أو المحنة والعذاب لا سيما في حالات المرض والاعتلال . وتقترن بالسرير كذلك مشاعر متباينة : الفرح ، الأمل ، اليأس ، الغربة ، القنوط ، الانتحار ... إنه مكان المتناقضات بامتياز .
تتنوع مادة السرير من الخشب إلى الحديد ومن الحجر إلى الألمنيوم، ومن القطن إلى الصوف ، قد يكون لهذه الطبيعة أثر في تلك المتناقضات ، لكن حالة ووضعية من في السرير هي الأساس ، وليس الأمر بالشكل الجمالي أو التقني ، ولكن الحالة الوجودية للذات هي الفارق : أسرة المصحات ، الفنادق، الإقامات، القصور، السجون ... الذات في الديوان تتخيل السرير جمرا ، إنه من النار ، فكيف له أن يتيح الشعور بالراحة أو المتعة ؟ الذات تتعذب وتحترق وتتألم . إن مكان الاضطجاع موقد من النار، يتقد جمرها ويشتعل !
يتأكد البعد المفارق للسرير كذلك ، في كون الياسمين أو السمسق ، النبات العطري ، ذي الرائحة الزكية والجذابة، واللون العنبري الغامض ، ذي الوظائف أو الاستخدامات المتباينة : علاجا ، تجميلا ، تطهيرا ، تدليكا .. يوجد فوق هذا السرير : هل يقاوم النار ؟ هل يمتنع عن الاحتراق ؟ هل يطفئ الجمر المتقد ؟ أم يحترق ويذبل ويتحول إلى رماد؟
الياسمين رمز للناعم والطيب والزكي ، رمز للأمل والحب ، للهش والرخو ... والجمر يرمز للعذاب والحرق والمحو في حين السرير بوثقة انصهارهما معا .
الذات تتعذب وتتألم في مكان يفترض فيه أن يتيح الراحة ، ويوفر السعادة ، وقد استعار الشاعر الياسمين لعدم قدرته على المقاومة من جهة ، ولسرعة ظهور آثار العذاب والألم من جهة ثانية ، ومن جهة ثالثة لإمكانية الانبعاث والتجدد. ويحيل هذا التعبير الفني إلى قصيدة " السرير " لأمل دنقل في ديوانه : أوراق الغرفة 8 [9] حيث يرصد المعاناة على سرير المرض في أيامه الأخيرة .
غرفة :
الغرف أمكنة أو فضاءات تحكمها أيضا المفارقة ، كما هو الأمر مع الأسرة ، قد تكون للمتعة أو العذاب ، للحرية أو الأسر ، للانطلاق أو الحبس ... ويؤكد هذا البعد ما رصده أدب السجون أو كتابة الاعتقال عامة[10]. لقد حفل هذا العمل برسم معالم هذا البعد المأساوي للغرفة ، في وضعيات متباينة : المصحة والمنزل .
 يحمل المريض إلى المصحات ، ويقيم لساعات أو أيام ، وأحيانا سنوات في إحدى الغرفات ، بين أطباء وممرضين وممرضات ، وبين أحبال وأدوات ، وبين إبر وآلات ، وبين خيوط وزجاجات . الحياة تبعث أو تقبر بين هذه الغرفة أو تلك . وعجيب لأمر الحياة تتراءى بين الهمسات والنظرات ، بين الأقراص الفوارة والنوبات، وأعجب لأمر المرض يقلق ويعذب، يظهر ويختفي ، يعلن عدوانيته أو يستسلم .. يقول الشاعر:
هنا يرقد قلب سليم
بين آلام نبض وحبائل ...( ص 11 )
يرقد المريض / الشاعر في غرفة ، يتلقى العلاج والزيارة ، فيها يتألم ويحلم ، فيها ينسى النوم ويسهر :
منذ شهور ، ما ذاق صاحبه لذة الكرى ... ( ص 8 )
وتشكل غرفة المرضى محطة انتظار لموت يأبى الحضور ويتمنع ، ولحياة زهدت هذا الجسد النحيل :
الانتظار في الأرض ما أقساه
بل ما أقسى رحلة السماء
والإبرة والقسطرة والرجاء ..( ص 55 ) .
ليل :
لليل تجليات وتمثلات في المتخيل الإنساني ، إذ له حضور في الميثولوجيا والدين والأدب ، في الشعر والرواية والموسيقى ... هو موضوع فني وأدبي أكثر منه عنصرا زمنيا . له في الخطاب الشعري العربي، قديمه وحديثه ، تمظهرات عديدة ، يقترن بعوالم سوداوية أكثر حيث الهم واليأس والخوف والتوثر والغربة علامات دالة في محور الليل الذي يتلون بأطياف من المعنى : نفسية وطبيعية وايروتيكية ورهابية ووجدانية ...[11]
يحضر الليل بصورة أقوى في ذاكرة من بات مريضا أو جائعا أو دون مأوى ... وكأنه يقترن بتجربة الفقدان والخصاص . وله عند المرضى طعما أخص ، وبالعودة إلى الديوان ، نجد هذا المكون الزمني له أكثر من تجل أو تمظهر ، يقول الشاعر :
هو ليل المعافين
عطر يصهل في الآفاق
وهمس الفحولة في أذن الأنثى ... ( ص 12 )
هنا يقترب بالمتعة واقتناص اللذة في وضعية شبقية ، تتكامل فيها وظائف وأدوار الأنوثة والفحولة ، بين مثيرات واستجابات .
والليل حيز زمني يتراوح بين الامتداد والقصر ، بين الرحمة والعذاب :
إلهي ! عبدك
أعياه امتداد الليل وطول السهاد ( ص 17 )
والامتداد هنا امتداد المستوى النفسي ، إذ كلما اشتد الألم وتجبر المرض ، وكانت المعاناة أقسى كان الليل أطول و الفجر سراب .
يا شوق روحي لفجر فيه الداء يطرح ... ( ص 20 )
وتتأكد عداوة الليل وضراوته عندما يحرم المريض من أبسط الحقوق : النوم فيكون الجزاء والمكافأة أسوأ: الأرق وتبديد الأحلام وتحول السرير إلى موقد من الجمر يصهر الحديد ويذيب الجلاميد السود فكيف لجسد أفناه المرض وتعب من المقاومة و الصبر :
يبدد الليل أحلامي
والداء يبقى
فر الفجر من أعيني
اسود الضحى ...( ص 21 )
قد يقطف الإنسان في الليل ما لد وطاب من متع ، سواء كانت ناتجة عن نشاط ايروتيكي شبقي أو حاصلة عن القراءة أو الصلاة والعبادة أو السمر مع الحبيب .. سواء نوما أو يقظة ... بينما لا يجني العليل سوى الأحزان والآلام:
أفيق
فإذا الليل أقطف
وإذا أحزاني  تساقط فرادي ... ( ص 25 )
لقد حكم الداء على العليل بالحرمان من النوم وبالتالي كان الشوق إلى الأحلام أمس من الشوق إلى الصحة والمعافاة . وفي حالات الأرق يمارس المريض أنشطة مثل القراءة والكتابة وكأنهما من الأدوية التي عساها تخفف من حدة الداء ... ومهما حاول الإنسان أن يجعل هذا الليل ممتعا ، صيفا أو شتاء ، ربيعا أو خريفا ، لاسيما في حالات الصحة والعافية ، فإنه في حالات المرض والاعتلال :
ليل برود وشات وقاس وبطيء ، ( ص 26 ) وسارق وباعث للوحشة :
تستوطنني وحدتي في الظلام
فتصير هدأة ليلي صراعا .. ( ص 44 )
هكذا ، تعاني الذات تقل الليل وشدة كلكله وطوله وامتداده ، قسوته وجوره ، مما يجعل الذات تقيم مشهدا جنائزيا تحمل فيه نعشها إلى مثواه الأخير:
حسب الليالي أن غررتني بالأماني
حسبها أن جعلتني ذبيحا أرقص على جثماني
أزغرد خلف الجمع ونعشي أمامي .. ( ص 67)
يوزع الموت دعواته ، ويبعث استدعاءاته ، ليشهد ضيوفه ( مرضاه ) رحيل بعضهم أو جميعهم ، إلى الآخرة ، ويجعلهم ينتظرون وحيدين أو رفقة آخرين ، في غرف وعلى أسرة صماء بكماء لا تستريح كما قال أمل دنقل إلى جسد دون آخر .
قلب :
في الميثولوجيا الرومانية ، يروى أن ( كوبيدون ) إله الحب يرشق نوعين من السهام بحنكة فائقة: سهام من ذهب تؤجج الحب ، وسهام من رصاص تحيل القلب جليدا ، هذا على مستوى العواطف ، لكن في الآونة الأخيرة ، غدا القلب يرشق بسهام المرض ، وهي سهام مميتة لكونها تحمل في رؤوسها سما قاتلا . وأصبحت أمراض القلب من أكثر الظواهر المرضية خطورة وتهديدا .
من الناحية العضوية ، القلب مضخة آلية للدم ، هو مضغة صنوبرية له مكانة مركزية داخل النسق العضوي عند الإنسان ، وله تجليات في المتخيل الإنساني : في الأسطوري والدين والشعر والرسم والأمثال والغناء والطب ... كما يقترن بالعواطف والأهواء الإنسانية .
تكشف قراءة الديوان وضعا متميزا للقلب ، حيث يسأل الشاعر على لسان الممرضة : أين العرق؟ أي النبض ؟ أي القلب ؟ ( ص8 ) وكأن المرض غيبه ، فغابت عناصره ، وأحدث به خللا فتعطلت وظائفه . هذا الوضع جعل القلب ينهل مصدر قوته من خارج لا من داخل :
قلب يمتص من زجاجة صفراء . (ص9 )
لقد أسر المرض القلب ، وكأن الأمر حرب : يرقد قلب سقيم
                                                    بين آلام نبض وحبائل وماء زجاجة وإبر صماء ( ص 11 )
نصب الداء كمينا محكما للقلب ، عزله عن الجسد ، عندما أصبح أسيرا لم يكتف المرض بالقبض ، ولم يحترم أخلاقيات الأسرى في الحروب ، إذ حاول سحق وعصر هذا العضو :
الألم يعصر قلبي
يسحق أحشائي ( ص 21 )
وحاول مضغه :
وحده الألم العاتي
يمضغ من القلب ما تبقى ( ص 44 )
وتأكيدا لعدوانية المرض ووحشيته وعتوه ، مارس أقسى و أبشع طرائق التعذيب ، وتفنن في صناعة الألم بالحرمان من النوم :
هذا الداء يأكل من قلبي يمنع المنام ( ص 50 )
وبالذبح :
والقلب يذبح بين الحبائل
والإبر الصماء هو قلب الشقاء
وبالسيف :
سيف يصافح قلبي
مثلما يسلخ الجلاد الذبيحة ( ص 57 )
وبالحرق بالنار :
أنا ما أنا
قلب رماد وبقايا جسد ( ص 61 )
وبالسم :
وحيدا أغازل الظلام ...
بقلب أشرب السقام ( ص 75 ) ...
يكشف هذا الأسر لهذا القلب ، طرائق التفنن في الإيلام أو صناعة الألم ، كما يفضح فداحة المرض وشراسته ، وقد وظف الشاعر معجما حربيا : فعلا وأداة ونتيجة : المضغ والسحق والعصر أفعال تقترن بالفم وعناصره أو شكله ، والسكين أو المدية والسيف أدوات مادية تقترن باليد ، في حين يمكن للنار والسم أن يصدرا عن الفم أو اليد... هكذا هو المرض محارب شرس وعدو فتاك والقلب أسير ضعيف : الذات تتقلب بين الصبر والشكوى ، بين الإيمان والكفر ، بين الأمل واليأس ... لقد اعتبر العليل الأمر ابتلاء ومكرمة إلهية تستحق الشكر والعرفان :
عدل ما ابتلي به القلب
فلا عتب ولا غضب ... ( ص 18 )
ويتعجب العليل لأسرار قلبه :
1- موطن للعشق والذكرى : من النسيان تأتين
                                  وفي القلب حبك ورجع صدى السنين ( ص39 )
2- موطن للمشاعر :        ما هزته غير الأشواق وارتعاش الحنين ( ص 39 )
3- أضعف جنود الذات وأكثرها عرضة للأسر : هنالك أضعت قلبي
                                                            وهنا صرت ذكرى مسروقة ...( ص 42 )
4- أكثر الأعضاء قربا من الموت وأبرزها فضحا له :
                    ما أقسى رحلة السماء           
..........
رحلة القلب العليل بين الاستفاقة والإغماء ( ص 55 )
5- أغلى ما يهدي العاشق لمعشوقه وأعز ما ينال المحب من محوبه:
آه قاتلتي ! لأجلك فقط
                       يصير قلب المقبرة روضا ... ( ص 66 )
       يا وليدة الغيب ماذا أهديك  ؟
أقلبي تودين ؟ ص : 88
هكذا ، كشفت هذه التصويرات التي اتخذت من القلب موضوعا لها ، عن وضعية هذا العضو ، جراء ما أصابه من علة ، وصورت حالاته المفارقة ومعاناته .
خاتمة :
يكشف إتباع الآثار الدلالية ، الخاصة بالسرير والليل والقلب والغرفة ... عن المعالم أو المفاتيح التي انتظمت قراءة الديوان ككل . والإمساك بمعانيها وتجلياتها هو إمساك بخريطة المعنى ومعمارية الدلالة . إن المرض مسبب والقلب موطن والسرير أو الغرفة فضاء ، في حين الليل زمن ... والذات تنشد إلى هذه العلامات ، تتصل وتنفصل ، تأمل وتتألم ...  كما أن أغلب قصائد الديوان ترتهن إلى هذه المعادلة، حيث دائما الداء مؤثر ومرعب ومقلق والقلب أكثر الأعضاء اعتلالا وإصابة ، بينما العليل على سرير المرض في غرفة بالمصحة أو غيرها وجها لوجه مع الداء ، إنهما مكان اعتقال أو أسر هذه الذات ، ويبقى الليل أشد الأوقات إحساسا بالمعاناة .
والمرض معطى ليس غريبا عن انطولوجيا الوجود الإنساني ، بل هذا الأخير مشدود إليه ، وكثيرا ما سبب القلق والتوثر إلى درجة تطرح فيها الذات أسئلة حارقة أو تتقلب بين مدارات الأمل والألم، الإيمان والكفر، السعادة والشقاء ولما لا الاغتراب في سوداويته خوفا من المرض .
هذا الشقاء الوجودي ، جعل الشعراء والروائيين والرسامين والفنانين والفلاسفة ... يبدعون أعمالا فنية ويخلفون آثارا جمالية رائعة عن الألم . ربما أكثر من جمالية القضاء على المرض ذاته ، حيث تخفي تلك الأعمال قساوة المرض أو عدوانيته بين ثنايا التعبير الجمالي في القصيدة أو اللوحة أو الرواية ... غير أن معاناة الذات وشكواها تظل تجربة وجودية بامتياز ، لا يعرف مرارتها وقسوتها أحد دون سواها ، وقراءة هذه الأعمال والإحساس بجماليتها شكل من أشكال التضامن مع هذه الذوات ومشاركة لها في المعاناة ...!         
 



[1] - يمكن العودة إلى المناقشة الرصينة للدكتور محمد أمنصور لقضية " القصر " في القصة القصيرة: شهوة القصص. دار الحرف . ط 1 . 2007.ص : 14.
[2] - أحمد زياد محبك : جلد رقيق ناعم ،مجلة مجرة ، خريف 2008 ، عدد 13 . ص ص 231 -232 .
[3] - أنظر : بول ريكور : في التفسير : محاولة في فرويد، ترجمة ، وجيه أسعد . ط 1. 2003. خاصة الجزء الأول .
[4] Henri Mitterrand : le discours du  roman. P.U.F. Paris . 1980 . P : 192.
[5] Marc Augé : Nom lieux … seuil . 1992.
حيث يحلل اللاأمكنة وهو مفهوم يحيل على الفضاءات المتبادلة بين الناس والجماعات البشرية ، حيث الإنسان يبقى مجهولا : مثل : وسائل النقل ، الفنادق + المطارات + الفضاءات التجارية + المخيمات ...
[6] - أنظر: لسان العرب وخاصة المواد : ( رقق + طرو + عذب + لطف + لين + ملس + نعم ) دار صادر ط 6. 2008.
[7] - Maroc Augé et claude Herzlich : le sens du mal : Anthoplologie , Histoire, sociologie de la maladie . Paris . 1984. P36.
[8] - محمد عدناني :" ياسمين فوق سرير الجمر " ديوان . دار القرويين . البيضاء . ط 1 . 2010 .
[9] - أمل دنقل : ديوان : الغرفة 8 وخاصة قصائد : السرير وضد من ثم زهور...
[10] - يمكن العودة إلى الإنتاج الروائي العربي الذي اقترن بتجربة السجن أو الاعتقال عامة ، كما يمكن الرجوع إلى بعض الأعمال الأدبية / النقدية التي رصدت ذلك.
[11]  - يكن العودة إلى دواوين بعض الشعراء أمثال : امرئ القسيس ، النابغة الذبياني المتنبي ، أبي فراس الحمداني ، عبد الوهاب البياتي ، يوسف الخال ، أمل دنقل ... حيث لليل تجليات وأبعاد مختلفة . 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة