الفضاء السردي وبناء المعنى في رواية " توأما سيدي مومن" ـ سعيد موزون

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

peinture abstraite-     الفعل القرائي للفضاء السردي:
       إن الهدف من أي مقاربة نقدية للنص الإبداعي، ليس هو إيجاد قراءة مطلقة وصيغةٍ نهائية للتلقي، تجعل الملفوظَ السرديَّ لا يقبل غير ممارسةٍ نصيةٍ واحدة تخضع لسلطة النص، وإنما الهدف من أي قراءة ومقاربة هو الاحتفاءُ بالنص الروائي واستنطاقُ مكوناته، ومحاورةُ العمل الأدبي ضمن مستويات التحليل والتأويل المختلفة، والوصول إلى رؤية" هي خلاصة الفهم الشامل للفعالية الإبداعية في نواحي النسج والبنية والدلالة والوظيفة"[1] سواءٌ تلك المرتبطةُ بالدلالةِ أو مستوياتِ القول أو الاستيتيقا أو التحليلِ البنائي أو السيميائيِّ أو الأسلوبي، فالنصُّ كما يقول أمبرتو إيكو:"كونٌ مفتوح"[2]، وفهمُ النص أو تأويلُه يكون حسب تعبير دريدا بـ"إعادة بناء الدلالة القصدية للنص"[3].وفي هذا الصدد سنشتغلُ على رواية "توأما سيدي مومن" لأحمد بوشيخي، والتي ترجمها ذ.عبد الرحيم كلموني ترجمةً أضفتْ على النص جماليته ورونقه ولذته، نُقاربُ فيها أهمية الفضاء السردي في بناء المعنى وتوليد الدلالة، الذي يُعدُّ عنصراً سرديا أساساً في البناء العام للمحكي، وكذا المحركَ البؤريَّ للمتخيَّل السردي في الرواية، "فللمكان قدرة على التأثير في تصوير الأشخاص، وحبك الحوادث، مثلما للشخصيات أثر في صياغة المبنى الحكائي للرواية"[4] .

والفضاءُ في الرواية المغربية المعاصرة لم يعد فضاءً كلاسيكيا يتتبع فيه السارد العليم دقائقَ الأمكنة ويصفُها وصفا مُسهِباً ومُطوَّلاً، ويتحرّى التلقين كما كانت الرواية التقليدية في مرحلة التأسيس وما قبل التأسيس، بل إن الفضاء المكاني أصبح يشكل في بعض الأعمال الروائية البؤرة الدلالية للحدث، ويولّد نسيجا من الفضاءات المتناسلة المنفتحة على حمولات دلالية تكشف تناقضات الواقع و ترصد ذبذباته، وتسهم في تطور العالم التخييلي للمحكي وديناميتِه وتشكِّلُه"تشكيلا يتكامل مع باقي العناصر البنائية الأخرى في إنتاج نص مكثف قائم على الاقتصاد والتعدد والتعقيد"[5]."لقد تطور بناء النص الروائي المعاصر و "دخلت الرواية العربية مرحلة جديدة من مراحل تطورها، عبر نجاحها في استلهام كل الممكنات الفنية المتاحة"[6]، والاهتمامُ بالفضاء في السرد المغربي خاصة، بات أمرا ملفتا للنظر في الخطاب الروائي المغربي المعاصر الذي أصبح مسكونا بـ"التحول وبالبحث عن الخصوصية والمغايرة"[7]، ولعل الفضاء السردي من أبرز مظاهر هذا التحول والتجديد.فكيف يشتغل الفضاء داخل النص الروائي"توأما سيدي مومن" ؟ وما هي الفضاءات التي ينبني عليها المتخيَّل الروائي لتوليد المعنى والدلالة؟
- دلالة التقاطبات المكانية الثقافية: لعل أول ما يستوقفنا في قرائتنا للنص، وتوغّلِنا في مادته الحكائية هو التقاطبات المكانية الثقافية.تبحث هذه التقاطبات عن العلاقة بين الأمكنة وامتداداتِها في المجتمع ونُظُمِه وقيمِه السلوكية والثقافية والسياسية والإيديولوجية، وما ينشأ عنها من توتر وصراع سوسيوثقافي.وهذا التقاطب يكون بين"الرفيع والوضيع، بين أعلى الهرم الاجتماعي وأسفله، وفي الدين نجد التقاطب بين الأرض والسماء، بين أهل اليمين وأهل الشمال، وفي المجال الأخلاقي نجد التقاطب بين السمو والتدني"[8]، يقول باختين:"يكون القصد الأخلاقي في الرواية ملموسا في قلب بناء كل جزئية من الجزئيات، فهو يشكل بالنسبة لمضمون الرواية، وحتى في أدق تفاصيلها عنصرا فعالا في تشييد العمل الأدبي"[9].لقد تمظهرت هذه التقاطبات في النص بشكل كبير على مستويات متعددة، وفي فضاءات هي:
- فضاء كاريان السكويلة والأكواخ: هو فضاء المهمشين والمقصيّين، وكذا العيش غير السويّ، يتميز بكونه: (+مغارة) (- ماء) (-كهرباء) (-مرحاض) (+الروائح الكريهة) (-إنساني) (-كرامة) (+الدونيّة) (+القذارة) (+الأمراض النفسية) (+الضيق المطلق) (+القلق الوجوديّ) (+وكر المخدرات) (+الجريمة) (+موت أم الحسن والحسين وأبيهما) (+تبخر الأحلام)، يمثل الطبقة الكادحة في المجتمع البيضاوي، والتناقض الصارخ بينه وبين الفيلات المجاورة له، وقد كشفت التقاطبات المكانية الثقافية للفئات الاجتماعية المتباينة عن جدلية أعلى الهرم وأسفله والصراع الحقيقي بين الأغنياء والفقراء، حينما استعملت السلطة القواتِ المساعدةَ لهدم الأكواخ بأمر من "شخصية سامية ذات نفوذ قوي يجعلهم لا يجرؤون على ذكر اسمها، تطالب بجزء من الأراضي التي نبتت عليها البراكات مثل فطر سامة، مستندة إلى رسوم عقارية مطابقة للقانون حكمت المحكمة لصالحها"(ص:43)، وقد تجسد بشكل كبير هذا العداء والتوتر والصراع بين رأس الهرم الاجتماعي وأسفله، في صراع الحسن والحسين مع السلطة واستماتتهما لحظة هدم الأكواخ، وغضبهما الشديد بسبب تعرض والدهما للضرب وكشف عورة أمهما.من جانب آخر فهو فضاء القذارة والتيه والأوحال والمستنقعات والمعاناة الأبدية من تقلبات المناخ وسيول الأمطار"فقد غزت الأمطار الطوفانية التي انهمرت على الكاريان البيوت الصفيحية وجعلتها تغرق في الوحل" (ص:75)
- فضاء مطارح النفايات والمزابل القذِرة:"كان الشقيقان يمضيان سحابة يومهما باحثيْن في فضلات المطرح الذي تُودَعُ فيه النفايات المنزلية للأحياء الراقية المجاورة.كانا يجدان في الكثير من الأحيان بقايا طعام ثمينة"(ص:29.) يرمز لأحلام الطفولة المحرومة والافتقار لفضاءات اللعب والاستجمام، فدل فضاء المزابل والنفايات على الحرمان والبؤس المدقع وكذا على متنفس اللعب الطفولي (لعبة الدركي واللص بين الحسن والحسين ص:30).
- فضاء السلطة: تشييد البلدية سور إسمنتي على حدود الكاريان، وممارسة القهر والتعسف على سكان الكاريان، حتى في أقذر ما يملكون، فاعتبر الكاريان فضاء للسلطة حينما تقبل على مشروع يهمها أو يهم جهة عليا.
- فضاء السوق الشيطاني: يرمز للوضاعة والدّونية والعشوائية والارتجالية والسلع المسروقة، وهو فضاء للكادحين الذين يعانون من الفراغ والوهم والبؤس والفقر المدقع، هذا الفضاء غير القانونيّ الذي وُجد بشكل ارتجالي لعرض المسروقات (ساعات- محافظ يدوية-هواتف نقالة..) لا يعني السلطة في شيء إذا كثرت فيه الجريمة، لكنه سيصبح فضاءً مهما فقط حينما يُسرق الهاتف النقال للناطق الرسمي باسم الحكومة، فتشهد الكاريانات استنفارا أمنيا للقبض على السارق، (ص:56-57) فتحول السوق إلى فضاءٍ سياسيا حينما ارتبط حدث السرقة بالسلطة وأحد ممثليها.
- فضاء المقبرة: يرمز للتفاوت الاجتماعي واختلال المقاييس الاجتماعية حتى في المجال الذي يكون فيه الناس سواسية تحت التراب، لاسيما حينما توفيت أم الحسن والحسين فلم يجدا مكانا في المقبرة لدفنها. (ص:73)
-الفضاء والمشهد البانورامي: ينبني هذا المشهد على تكثيف الحدث من خلال رؤية واسعة للمكان بإشراك شخصيات متعددة في الحدث.وذلك في حديث السارد عن فلاحي الدار الحمراء في سهل الغرب الشاسع"كانوا يترقبون هطول الأمطار الأولى وأعينهم مشدودة إلى السماء الواسعة الخالية من الغيوم والغارقة في لوثة شمس جففت آخر منابع الأمل"[10] "كانت الآذان ملتصقة بأجهزة المذياع لسماع النشرات الجوية التي كانت تتتالى وتتشابه مقتضبة"[11] ، فالمشهد البانورامي يعطي صورة عامة حول فضاء الأحداث، ويكشف وضعية الشخصيات فيها.
     وقد يبدو أثناء قراءة الرواية وتتبع فضائها ومشاهدها البانورامية أن المسرود طغتْ عليه الرؤية من الخارج، لكن بتتبع المتواليات السردية المشكلة للمسرود والأفعال(الشخصيات بالمفهوم الكريماسي) والفضاءات يتضح أن السارد ليس مجرد سارد خارج-السرد بل داخل-السرد يتوغل أثناء ربط الشخوص بالفضاءات إلى دواخلها وأعماقها المنكسرة والحزينة"فالسارد هو في نفس الآن داخلي بالنسبة إلى شخصياته، لأنه يعلم كل ما يجري داخل أعماقها، وخارجي لأنه لا يتماهى أبدا مع هذه الشخصية أو تلك"[12].
-     الفضاء وبنية المغلق والمفتوح:
-      الفضاءات المغلقة:
     يشتغل الفضاء في الرواية على ثنائية المغلق والمفتوح، ولعل أبرز فضاء هو المستشفى وقسم المستعجلات، فهذا الفضاء من المفروض أن يكون مفتوحا لما يوفر للمريض من الأمن والاستقرار النفسي، لكنه لم يحقق ذلك بل كان على العكس فضاءً مغلقا، يقوم على الازدحام والعراك بالأيدي والتيه والحيرة، لاسيما ضحايا الرصاص والنار الذين يلتمسون العلاج"كانت ثمة فوضى في الممرات المكتظة بالعربات التي تتمد عليها أجساد نازفة" (ص:19)، وميلودة زوجة العربي"كانت ميلودة تتفطر ألما عند مدخل المراحيض العفنة"(ص:19)، هو فضاء للنفي والسجن واللاحرية ولتناسل الأسئلة، حول مصير الإنسان المقهور والمنبوذ من مركز المدينة القاسية إلى الهامش الأشد قسوة، وصعوبة حصول الإنسان البيضاوي على الخدمات الصحية، وهذا ما جعل بعض القوى الفاعلة (العربي) يسمي فضاء المستشفى مأوى المحتضرين (ص:20)
   * فضاء الصندوق الخلفي للسيارة: بالإضافة إلى المستشفى نجد الصندوق الخلفي للسيارة الذي وُضع فيه التوأمان الحسن والحسين، فوق غطاء مُسجّىً بالتبن وفضلات الماشية (ص:23) ، فهو فضاء التيه والتشرد الذي يصبح فيه الإنسان كالدابة، بلا كرامة، وخروج التوأمين للوجود في الصندوق كفضاء مغلق هو بمثابة نذير شؤم، ودليل على انغلاق الأفق والمستقبل الذي ينتظرهما، وهذا ما سيؤول إليه فعلا مصير الحسين فيما بعد.(حينما يخرج من السجن ثم يظل بلا مأوى ولا صديق حميم).( من ص:133إلى 138)
* فضاء مرآب الميكانيك بدوار طوما: فضاء مغلق يحيل على الشذوذ والحيوانية والرذيلة وانحطاط القيم وتفسخها، والعقلية الإيروسية والأبيقورية لصاحب الورشة الكهل العزب، الذي حاول الاعتداء جنسيا على لحسن، لكنه لقي ضربة قاضية من الحسين على رأسه، فلم يفلح في ذلك.(ص: 64-65)
* فضاء مقبرة رياض الصالحين: الذي يرمز للمجهول والمصير الغامض والصفقات التجارية حتى في الموت، والحزن والكآبة والتفاوت الطبقي، "تم دفن ميلودة في قبر كان تجار الموت وقد أعماهم الطمع قد أنكروا وجوده تماما" ص:73)
- الفضاءات المغلقة -المفتوحة:
   - مطرح النفايات: هو فضاء المنبوذين وبمثابة المتنفس الوحيد للحسن والحسين و"الفضاء المفتوح الوحيد الذي كانا ينطان فيه مثل مهريْين بريين، بعيدا عن جو الحي الخانق" (ص:30) ، لكنهما فيما بعد سيُحرمان من اللعب، وسيكون فضاءً مغلقا بسبب الجدار العازل الشبيه بالإسرائيلي، والذي شيدته البلدية هنا لـ"لحصر العدوى الزاحفة للبؤس" (ص:31)، فهو يمثل العزلة للبؤساء والوقاية للأثرياء من المرض الصفيحي.
- فضاء السينما: فضاء مفتوح بالنسبة للحسن والحسين وزملائهما، فهو متنفس للضحك والتسلية والمتعة ، ويجسد لهما غربة الجسد واللذة والشبق الإيروسي أثناء الاستمتاع بمشاهدة بطلات الأفلام.
- فضاء دوار السكويلة: بالإضافة إلى كونه فضاء الصراع والسرقة، فهو فضاء الأحلام المجهضَة والجنس واللذة والإيروسية والحب الفاشل بالنسبة للحسن والحسين اللذيْن أحبا زينب بنت الجيران، لكن سرعان ما تبخر هذا الحب، وانتهى نهاية تراجيدية بسبب الحسين الذي عبث بشرفها في فضاء مغلق "مكتظ بدواب الجر المربوطة بعربات: مكان غارق في ظلمات كثيفة موحل وزلِق، مكان لا يلوذ به سوى العاشقين واللصوص.. قضيا وطرهما فوق مرتبَّة من التبن ملقاة تحت عربة، كانت تفوح في كل هزة بعطونة الروث ممزوجة بأبخرة البول" (ص:51).
- فضاء كاريانات سيدي مومن: يشكل بؤرة الأحداث في الرواية، هو فضاء الفقر والبؤس والحرمان والتيه والانتظار، وهو كذلك فضاء لمداهمات السلطة والتمشيط والمطاردات البوليسية، لاسيما حينما هوجم الحسين من طرف متطرفي الكاريان فسلبوه السلاح والقيد.وهو أيضا فضاء النفاق الاجتماعي والخداع والضحك على الناس من طرف المسؤولين، لاسيما لحظة الموكب الملكي، فقد" كانت جدران الكاريان وقد طليت للتو بالجير، مزدانة بالرايات الخضراء والحمراء، وبدت أشجار النخيل ذات الأوراق الكثيفة وكأنها نبتتْ بفعل السحر فوق أرض واسعة اعتاد على التسكع فيها سابقا وسط النفايات المنزلية والنتانات العطنة"(ص:123).
- فضاء المقهى: هو فضاء لتزجية الوقت والتواصل الاجتماعي وعقد الجلسات الحميمية والصفقات، فهو مكان مفتوح رغم بنائه المغلق، بيد أنه يرمز للبؤس والشقاء والمرارة والأحلام المتبخرة بالنسبة لبعض الشخوص، كالمدني الجالس في"مقهى الفردوس، المقهى الأكثر بؤسا بسيدي مومن ...زفَر المدني قبل أن يعب برشفة واحدة قهوته السوداء التي دأب على شربها بدون سكر، مُرّة كما هي الحياة في الكاريان" (ص: 62-63)
- الفضاء النفسي: مرتبط بنفسيات القوى الفاعلة داخل المحكي، يتمظهر في قو السارد:"كان فلاحو الدار الحمراء قرية صغيرة مدفونة في ثنايا سهل الغرب الشاسع، وتشرف عليها جهة الشمال تلال مبقعة، يفتقرون افتقارا شديدا إلى الماء، كانوا يترقبون هطول الأمطار الأولى وأعينهم مشدودة إلى السماء الواسعة الخالية من الغيوم، والغارقة في لوثة شمس جففت آخر منابع الأمل"[13] ،"كان بعضهم يعثر على جداول عكِرة تسكنها الضفادع، فيما كان آخرون يصادفون بركاً خضراء تتعفن في ظل نباتات داسية"[14] هذان المقطعان يكشف مظاهر الجفاف في فضاءات ترصد الصورة القاتمة لمجتمع الناس، والوضعية النفسية المتأزمة للقرويين وهم ينتظرون الغيث،وكذا فضاء المستنقعات والجثث العفنة والدواب التي تقتات على المزابل والأشواك. بالإضافة إلى المسجد الذي يمثل متنفسا نفسيا للشخصية، وملجأ روحيا للتطهر من قذارة المجتمع، والفرحة والتيمن، مثلما نجد في تسمية التوأمين بالحسن والحسين من طرف الفقيه السي رمضان، والدعاء لهما بالطمأنينة والأمان.(ص:26-27).
     وقد يمثل الفضاء في سياق آخر الضيقلاالنفسي للشخصية التي يئست من الفرج من الغم والحزن"كانت ميلودة وقد تمددت مباشرة على الأرض، بين موقد جمر مليء بالبخور تطارد نفثاته الملتفة الرائحة النتنة القادمة من الخارج عبثا، وماعون طيني كانت تتقيأ فيه أحشاءها" توأما سيدي مومن، ص:13.
     ويبرز كذلك فضاء مطرح نفايات في حي التشارك الذي يتخذه الشيوخ الإرهابيون الثلاثة مقرا للتداريب وتجريب المتفجرات لتبيان مدى مفعولياتها، فهذا الفضاء يرصد القلق والتوتر والارتباك والمجهول والتشظي الذي يهيمن على نفسية القوى الفاعلة/ العصابة ذات الفكر الأصولي المتطرف أثناء تجريب المتفجرات في المطرح "كانت قطرات العرق تترقرق فوق جباههم الموسومة بخاتم الورع الراسخ فيما كانت أنفاسهم تقطعها زفرات قلقة" (ص:97).ينضاف إلى هذه الأمكنة فضاء سجن عين برجة، وفضاء المحاكمة والاستنطاق الذي تعرض فيه الحسين للتعذيب الجسدي والنفسي، والألم "الذي يبري جسده من رأسه حتى أخمص قدميه"(ص:119)، يحضر هذا الفضاء ليضاعف الألم الاجتماعي والنفسي لدى الحسين، لاسيما حينما حكم عليه بالسجن خمس سنوات سجنا نافذا بدون استئناف ولا ظروف تخفيف.
 
- الفضاء الافتراضي: تمثله في الرواية الأنترنت التي كانت مرجعا قويا للأصوليين، يتعلمون فيها صناعة المتفجرات، فهي رمز للخراب والدمار والاستغلال البشع للتكنولوجيا الحديثة، يقول السارد:" فقد كان الأنترنت غاصا بالمواقع التي تتيح بنقرتين على الفأرة معلومات وفيرة ودقيقة، حول صناعة قنبلة يدوية" (ص:96).
- الفضاء اللامتناهي: هو المكان الذي لا يخضع لسلطة أحد، ويكون فارغا وغالبا خاليا من البشر، وقد جاء في الرواية في بدايتها في قول السارد:"على مرمى البصر، الأرض المغراء التي تنتأ منها هنا وهناك جذوعُ الأشجار البرية المحترقة"(ص:10)، هو فضاء يرمز للامتناهي في القحط والجفاف والبؤس الاجتماعي، بسبب ندرة الماء والعشب.
-الفضاء الإيديولوجي: يرمز هذا الفضاء للخلفية الإيديولوجية للشخوص، ويعكس الوضع الاجتماعي لكل شخصية تتحرك داخل المحكي السردي.لعل ما يعكس هذا الفضاء كاريان المنبوذين الذي تحول من فضاء للشقاء والبؤس الاجتماعي إلى فضاء للإيديولوجيات السياسية، لاسيما في فترة الانتخابات، فأصبح قبلة للمهراجانات الخطابية والحماسية، التي تُشهرُ الحملة الانتخابية، فهو فضاء يحيل على النفاق والزبونية والمحسوبية والدعاءات الجوفاء والوعود الكاذبة، والقيم الملوثة بالمصالح الشخصية، والإيديولوجيات الطارئة الموسمية على حساب الوضع الاجتماعي المزري لسكان الكاريان.قال السارد عن البرلماني الطارئ على الكاريان:"رجل أصلع ومتورم، وجنتاه مبقعتان بالنمش، ليثبت للسكان بصورة ملموسة بأنه أحد أبناء الشعب" (ص:36) .
- فضاء المسجد الصغير للحي: هو فضاء ديني للتربية السلوكية والروحية والدينية، لكنه حينما ارتبط ببعض القوى الفاعلة أصبح فضاءً إيديولوجيا لتمرير الخطاب الديني المتطرف، استغله بعض أعضاء جمعية خيرية ساعدت المنكوبين في فياضانات دوار السكويلة، فاتخذوه خلال رمضان مقرا لـ"هدي العقول الضالة إلى الصراط المستقيم مستعملين الترهيب بالنار والترغيب بالجنة"(ص:76).ومن جانب آخر يصبح المسجد مقرا لعقد لقاءات انتقائية للشباب العاطلين البائسين الذين سيخضعون للتدريب العسكري، من أجل ضرب مصالح مدنية أو مؤسسات تابعة للدولة، بواسطة بائعي الخضر والعشابين، الذين يعرضون سلعهم أمام المسجد.
-فضاء الفكر الديني المتطرف: يدل على الدمار والحروب والتشتت ومجابهة الحكومات العالمية والدول وإحداث الفوضى والخراب، مثل فضاء أفغانستان والجزائر ومخيم فاروق وحي وزير في شمال كابول.ترتبط هذه الفضاءات بالإيديولوجيا الراديكالية التي تتذرع بالدين لقضاء مآربها، والفتك بالأبرياء وغواية الشباب والمراهقين العاطلين واليائسين باسم الدين والجنة والنار.وارتباطا بذات الفضاء نجد فضاء غرفة اجتماع الشيوخ للتخطيط للعمليات التفجيرية، وهي"غرفة ضيقة مضاءة بنور شمعة، مكتظة بظلال شبحية متزاحمة مثل خفافيش في مغارة" (ص:98)، وفضاء آخر لنفس الهدف في أطراف دوار السكويلة "خرابة تغزوها القوارض تستعمل أحيانا لقضاء الحاجة"(ص:100).
بالإضافة إلى الفضاء اللفظي: الذي لا يرتبط بالفضاءات المرئية والمسموعة، وإنما هو"فضاء لا يوجد سوى من خلال الكلمات المطبوعة في الكتاب فهو يتشكل كموضوع للفكر الذي يخلقه الروائي بجميع أجزائه"[15] وهو يتجلى في الرواية ككل.
- فضاءات أخرى: وردت فضاءات أخرى لا تقل أهمية عن الفضاءات السالفة، مرتبطة بإجرام إسلاميّي أحياء صفيح سيدي مومن وسيدي البرنوصي وعين السبع، وأخرى بالعدالة والقانون والسلطة والمرافعات القضائية كالمحكمة التي حكمت على عصابة القلودي المعتدية على لحسن بسنة سجنا نافدا.(ص:88) ، بالإضافة إلى الفضاءات التي كانت مسرح الجريمة والتفجيرات والذبح واللاستقرار والرعب، وهي: نادي الطائفة اليهودية، وحي ساحة العرصة، ودار إسبانيا بشارع فايد خليفة، وخارج بناية مطعم بوزيطانو ، وشارع الجيش الملكي، وفندق فرح، والحي الحسني، والحي الصناعي، وعمارة في طور البناء، ومقهى أنترنت بحي الفرح، يصف السارد في هذا الفضاء حجم الدمار والخراب بسبب التفجيرات فيقول:"وسط الأنقاض المدخنة تكدست الأجساد المتفحمة بدون رؤوس، بدون أذرع أو سيقان" (ص: 106) ويقول:" دمرت زوبعة نارية كأنها نفثة من نفثات الجحيم واجهةَ البناية التي تناثرت في رمشة عين"(ص:107).
- الاتصال المكاني والانفصال المكاني:
     يقصد بالاتصال المكاني حسب النظريات السيميائية مصاحبة اتصال الممثل أو العامل-الذات للفضاء المكاني، والانفصال المكاني هو انفصال العامل-الذات عن الفضاء المكاني[16] انفصال سائق سيارة الإسعاف عن فضاء الكاريان حينما توسل العربي أبو الذهب إليه ليسرع في نجدة زوجته الحامل ميلودة ، واتصال العربي بالكاريان لما يمثل له من بؤرة اجتماعية توفر له المسكن والمأكل، بغض النظر عن انعدام الحياة الكريمة فيه، فهو يمثل له الحياة والعيش والأمل بغد مشرق مع المولود الذي ينتظره مع زوجته.
-       سائق سيارة الإسعاف          الكاريان = الانفصال المكاني (كاريان!لا.لا.لا قال السائق بازدراء.ص16)
-  العربي وزوجته ميلودة                 الكاريان = الاتصال المكاني ( كانت ثمة سعادة غامرة تقاسمها الزوجان في حميمية قصوى، في ذلك الكوخ الضيق الذي تحول فجأة إلى جنة واسعة ص: 27)  
-   العربي وزوجته ميلودة               مقصورة سيارة الإسعاف = الاتصال المكاني لأنها بمثابة بشارة خير والخلاص من محنة الحمل في ظل أزمة الحرب والأحداث الدموية في الدار البيضاء سنة 1981.(عندما رأى هلالا أحمر موشوما على يمين السيارة تألق وجهه فصاح متأوها: الحمد لله.ص16)  
-   سائق سيارة الإسعاف              سيارة الإسعاف = الانفصال المكاني، (إن هذه العربة الملعونة لا تصلح إلا للتحطيم.ص:17)      
تركيب:
  يكشف الفضاء في رواية"توأما سيدي مومن" عن المهمش والمنسي والمقصيّ والتشظي والسؤال الوجودي حول مصير الإنسان الصفيحيّ ووقساوة المناخ صيف وشتاءً والحب الفاشل والضائع وغربة الجسد الإيروسي في فضاءات الكاريانات المغلقة والصراع الأبدي من أجل البقاء ولو على الهامش الذي تعيشه فئات منسيّة من المجتمع المغربي، والتي قادتها أميتها وجهلها ووضعيتها الاجتماعية البائسة، لارتكاب جرائم في حق البشرية، بسبب الإيمان بإيديولوجيات تتمسح بالإسلام وهو منها براء، فالفضاء المكاني قد كشف عن تشظي الشخصية الروائية والمفارقات الساخرة والعجيبة للواقع الكارياني، في ظل قسرية المؤسسات والسلطة والواقع والجهل والفقر والبطالة، وقد تحقق ذلك بشخصانية الفضاء وتناسل المعنى والسؤال الوجودي وموقع الانسان الصفيحي، وكذلك تحقق بمعطى الترجمة والصياغة اللغوية والفنية للترجمة الممتعة التي قدمها الكاتب والمترجم عبد الرحيم الكلموني لهذه الرواية.


 
[1] - المتخيل السردي: مقاربات نقدية في التناص والرؤى والدلالة، عبد الله إبراهيم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط1، 1990، ص:5.
[2]- التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، أمبرتو إيكو ترجمة وتقديم: سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى،2000.، ص: 42.
[3] - من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة: دراسة تحليلية نقدية في النظريات الغربية الحديثة: عبد الكريم شرفي، الدار العربية للعلوم، ناشرون، لبنان، منشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى 2007، ص: 20.
[4] - بنية النص الروائي، إبراهيم خليل، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، دار الأمان، الرباط، منشورات الاختلاف، الجزائر،ط1، 2010،ص:131.)
[5]- بلاغة تكثيف المكان في روايتي الجنازة وعين الفرس، العلمي الدريوش، مقال في مجلة:" بلاغات"، ص: 127، رئيس التحرير: عبد الإله المويسي، العدد1، شتاء 2009، القصر الكبير.
[6] -   المغامرة الجمالية للنص الروائي، محمد صابر عيد، عالم الكتب الحديث، الأردن ط1، 2010، ص:181.
[7] - الرواية المغاربية: تحولات اللغة والخطاب، عبد الحميد عقار، شركة النشر والتوزيع، المدارس، الدار البيضاء، ط1، 2000، ص:173.
[8] - تحليل النص السردي:تقنيات ومفاهيم، محمد بوعزة، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، دار الأمان،الرباط، منشورات الاختلاف، الجزائر،ط1، 2010،ص:102.
[9] - نظرية الرواية، جورج لوكاتش، منشورات التل، الرباط، ط1، 1988، ص:67-68.
[10] - توأما سيدي مومن، أحمد البوشيخي، ترجمة:ذ عبد الرحيم كلموني، دار نشر سوماكرام، الدار البيضاء، 2011، ص: 9.
[11] - توأما سيدي مومن، ص:9.
[12] - التحليل البنيوي للسرد، رولان بارت، ترجمة: حسن بحراوي، بشير القمري، عبد الحميد عقار، ضمن كتاب: طرائق تحليل السرد الأدبي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، ط1، 1992 ص:26.
[13] - توأما سيدي مومن، ص:9.
[14] - توأما سيدي مومن، ص:10.
[15] - بنية الشكل الروائي، حسن بحراوي، المركز الثقافي العربي، بيروت،الدار البيضاء، الطبعة الأولى،1990، ص:27.                                     
[16] - انظر تجليات هذا الاتصال والانفصال مثلا في رواية "اللجنة" لصنع الله ابراهيم في كتاب: التحليل السيميائي للخطاب الروائي: البنيات الخطابية-التركيب-الدلالة، عبد المجيد نوسي، شركة النشر والتوزيع، المدارس، الدار البيضاء، ط1، 2002، ص: 19-20.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة