إن ما دفعني لمشاهدة فيلم "عاشقة من الريف" لمخرجته السيدة نرجس النجار هو عنوان الفيلم، خاصة وأن السيدة المخرجة جمعت بين اصطلاحين: العشق، باعتباره سموا عاطفيا، من جهة، والريف، كمنطقة تقع في شمال المغرب، من ناحية ثانية، إذ يكفي أن يتلفظ المرء بلفظة "الريف" حتى تتفجر أمامه ينابيع شتى: معركة أنوال، محمد بن عبد الكريم الخطابي، جمهورية الريف، الغازات السامة، ملحمة 1958...، كيف لا والمخرجة قد جمعت بين الحسنيين (العشق- الريف) في شخص امرأة عاشقة تَنْتَسِبُ لمنطقة الريف.
هذا ما تبادر لذهني وأنا أطالع ملصق الفيلم، لكن خيبتي كانت كبيرة وأنا أشاهد فيلما تحاول صاحبته العزف على الوتر الذي لا تجيد سواه، نشاز الجنس المبتذل عبر ممثلات نكرات، كل هَمُّهُنَّ هو اللًّهاث نحو الشهرة الزائفة والتكالب على مكاسب واهية.
وأنا أشاهد الفيلم، في ارتباط بعنوانه، كنت أتساءل إن سبق للسيدة نرجس النجار إن تصفحت قاموسا ما، على كثرتها، لتعرف معنى كلمة "عشق" ودلالتها المعجمية والاصطلاحية؟
اعلمي سيدتي أن" العِشْقُ: عُجْب المُحِبِّ بالمحبوب، يكون في عفاف الحب ودعارته. عشِقَه عِشْقا، وعَشَقا، وتعشَّقه. وقيل العِشْق: الاسم، والعَشَقُ: المصدر. ورجل عاشق من قوم عُشَّاق. وعِشِّيق: كثير العِشْق. وامرأة عاشق وعاشقة"[2]
وإن كنت لا تعلمي فاعلمي، أيضا، أن العشق" آخر مرتبة المحبة، والمحبة أول درجة العشق.. وقيل هو عبارة عن إفراط المحبة وشِدَّتِها. وقيل نار تقع في القلب فتحرق ما سوى المحبوب. وقيل هو بحر البلاء. وقيل هو إحراق وقتل وبعده بعطاء الله تعالى حياة لا فناء له. وقيل جنون إلاهي رفض بناء العقل. وقيل قيام القلب مع المعشوق بلا واسطة"[3]،
وعليه، فالعشق يرتقي بالجسد ويجعله يترفع عندما يحب ويتسامى بوصفه قيمة دلالية.
من هنا يتبين أن السيدة المخرجة لا تعرف قَبِيلاً من دَبِـير وأنها، كما تقول العرب: لا دَرَتْ ولاَ تَلَتْ.
أظن أن السيدة المخرجة أرادت الحديث عن العُهْرِ، فحسبت العشق مرادفا له. وإلا أين يتجلى العشق وعاشقتك في الفيلم؟ أ في السجائر التي لا تخمد شعلتها؟ أم في كلام العجائز، اللاَّتي أقحمْتِهِنَّ رَغْمًا عنهن، وجعلتهن يَتَفَوَّهْنَ بكلام ماسخ، على شاكلة عملك المسمى فيلما؟ أم في عري بطلتك، والبطولة منها براء؟ أم في البحث عن رتق غشاء البكارة؟ أم في متاجرة الأخ في عرض أخته وقوادتها، أم في ماذا..؟ أهذه هي علامات للعشق؟ كان من الأولى أن تسمي فيلمك بـ " عاشِقَةُ سِفَاح"
أتعلمين سيدتي أن التهانوي قد جعل للعِشْق "خمس درجات: فقدان القلب، تأسف العاشق، الوجد، عدم الصبر والصبابة"[4]. فأين العشق في فيلمك، ياصحبة العشق؟
كيف لفَاقِدِ الشَّيْءِ أن يعطيه فبِالأَحْرى أن يتحدث عنه، فَبِمَا أن السيدة المخرجة لا تعي دلالات كلمة "العشق" لا معجميا ولا اصطلاحا، فكيف تسنى لها الكتابة عن العشق فنيا. لقد اختلطت عليها الكلمات لذلك وجدناها تضرب أخماسا في أسداس، بل الأنكى من ذلك، أن كل ما هَمَّ السيدة المخرجة، و ما أكثر المخرجين في السنين الأخيرة، هو العزف، على وترها المفضل والمحبب لنفسيتها، وتر الجنس والمخدرات والانحلال، وكأنها بارتمائها في براثين هذه المستنقعات النَّتِنَة تعالج مشاكل هذه البلاد.
تدور أحداث الفيلم حول أسرة مكونة من الأم والأخوين وأخت ثالثة، في حين أن الأب هاجر للديار الإسبانية، الأخ الأكبر تاجر مخدرات، في حين أن الثاني انقطع عن الدراسة، جعلته المخرجة في الطرف المناقض لأخيه، حيث يقيم الشعائر الدينية، فصورته وهو يقيم شعيرة الصلاة، أما الأخت، فيدفع بها الأخ الأكبر للدعارة وتقديمها هدية لأحد بارونات المخدرات كمقابل لأرض تمكنه من زراعة القنب الهندي، فَيُزَجُّ بهذه الفتاة، واسمها" آية" في السجن بسبب جريمة قتل، حينها تصور المخرجة عالم السجن، في لقطات سريالية ومشاهد هستيرية نسخة مشوهة لسينيما العنف الهوليودية، وبعد خروجها من السجن تنتحر... باختصار هذه هي أحداث الفيلم في مجملها.
تبدأ حكاية الفيلم عبر حكي "آية" وهي تدخن لتنهي حكايتها بالانتحار، بعدما جعلت السيارة تسير بها في منحدر جبلي، بعدما مارست الجنس مع بارون المخدرات، المعشوق المفترض، والسيدة المخرجة تخبرنا على أن آية العاشقة وأن عاشقها هو بارون المخدرات، وأن انتحارها غير المبرر فنيا، هو فداء للمحبوب. انتهت الحدوثة....
صحيح أن العشق يرتبط بالموت في أغلب قصص العشق، " قيل لأعرابي: من أنت؟ فقال: من قوم إذا أحبوا ماتوا"[5] ، إلا أن المخرجة لم تُوَفَّق حينما جعلت عاشقتها تقبل على الموت/ الانتحار، غير أنها صورت العشق عهرا، وشتان بين العشق والعهر....
إن هوس السيدة نرجس النجار بالجسد وبالعري، يجعلها تلهت وراء مواضيع لا قيمة فنية لها، ولا تقدم جديدا للسينما المغربية، التي هي بالأحرى في حاجة لمخرجين أذكياء. فتناولها لموضوع الجنس كتيمة تنقصه آليات التحليل، فكل ما فعلت هو التصوير المجاني والفَجّ، البعيد عن تقديم أي منظور هادف، وحتى نضع القارئ في الصورة، أُورِد الأمثلة التالية:
- مشهد آية في السجن: تطلب السَجَّانة من آية نزع ملابسها لتظهر في صورة تملأ الشاشة وهي عارية النصف الأعلى من جسدها، حيث يظهر نهداها، ثم تأمرها السجانة، بعد ذلك، بالانحناء معرضة مؤخرتها للشاشة؛ والغريب أن الممثلة العارية اعتبرت فعلها ذلك عملا عظيما، أقول لها أنك تحرقين أوراقك بشكل مجاني، وقد سبقتك للعري "سعيدة باعدي" في فيلم "ريزوس Rhésus" فما الذي ربحت؟وما الذي استفادته؟ لاشيء. يقول الشاعر:
كَدُودَةِ الْقَزِّ مَا تَبْنِيهِ يَهدمها ¤ وغيرها بالذي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعَ
- مشهد السِّحاق، وهي لقطات عجفاء، تنم عن نُضوب فكري وَشُحٍّ تخييلي؛
ما القيمة الفنية لهذه اللقطات، وما الذي تريد السيدة المخرجة نقله للمتلقي، وقد غاب عني فهمه؟
- مشهد دخول الأم الحمام: تدخل الأم الحمام لتخرج ولدها الأكبر وهو عاري الجسد، فتخاطبه بكلام لا يصدر عن أم، حيث تخاطبه " أتظن أنك صرت رجلا بالإثني عشر سنتيمترا التي بين فخذيك؟" أيعقل أن تكون هذه لغة أم مغربية، وريفية بالخصوص، المرأة الريفية التي أنجبت محمد بن عبد الكريم الخطابي، عبد الخالق الطريس...، وكل أحرار الشمال المغربي...
- مشهد الأم والمحامي: تقف الأم مع محامي ابنتها الذي أخبرها أن ابنتها ستغادر السجن بعد خمسة عشر يوم، لتركع أمامه وهي تفتح سرواله في محاولة لممارسة الجنس الفموي، متى كان هذا السلوك المرضي، الذي يخالج السيدة المخرجة، مقابلا أو أجر مهمة الدفاع عن متهمة؟ ما المسوِّغ الفني لهذه اللقطات؟
لا أرى لانجراف المخرجة نحو هذه الدَّناءة والصَّلَف والانحدار الرخيص صوب الغرائز الحيوانية باسم الفن إلا أحد أمرين:
. الأمر الأول، التكالب على أموال الشركات المانحة، وهو شيء أكيد، إذ يكفي الرجوع إلى جنيريك الفيلم للتأكد من ذلك، فهذه المؤسسات لا تقدم فلسا واحدا بشكل مجاني، إلا إذا تنازل المخرج عن نفسه وعن تاريخه وأخلاقه، فهي لا ترضى إلا بنشر الرّذيلة تحث يافطة الفن، والفن منك براء، سيدتي المخرجة؛
. الأمر الثاني، أن جل أعمال السيدة المخرجة تعمل على التنقيص من المرأة، حيث دأبت على تقديمها في مواقف لا تسر عدوا ولا صديق، وهي غالبا ما تسكت ألفا وتنطق خَلْفاً.
إن السيدة المخرجة تقوم بالتعويض، فهي تعوض عما يَعُجُّ في نفسيتها المهوسة بالجنس عن طريق ممثلاتها النكرات. أي فن هذا... إنه الاستهتار والسفاهة.
السيدة المخرجة تخاطب النفوس المريضة، وتحاول إلغاء عقل المتلقي، ومصادرة ذاكرته وثقافته، وحشوها بالمبتذل من القيم المريضة التي، وإن وجدت، فلا سبيل لجعلها موضوعا نمطيا. لذلك نجدها تجعل من جسد الأنثى مجرد موضوع جنسي، يحيل الأنثى إلى "كائن فَرْجِي عديم العقل وليس له من قيمة معنوية أو حسية سوى ذلك الموقع الصغير الذي صار غاية اللذة الرجولية"[6]، والأمثلة على ذلك، نجملها في الآتي:
- قوادة الأخ لأخته؛
- محاولة رتق غشاء البكارة؛
- محاولة الأم ممارسة الجنس الفموي مع المحامي؛
- السِّحاق؛
- ممارسة الجنس في أماكن عمومية.
وفي الختام أرى أن الفيلم نموذج لثقافة الجهل والرداءة الفكرية والإنشائية السينمائية، والسعي لتكريس الاحتفاء بالجهل والجهالة وتسويقها. من هنا لا يسعني إلا أن أقول إن هذا العمل من قبيل أُفٍّ وتُفٍّ.
[1] - فيلم من إنتاج نرجس النجار، لسنة 2011.
[2] - ابن سيده، علي بن إسماعيل، المحكم والمحيط الأعظم، تحقيق مصطفى السقا وحسين نصار، معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية، الطبعة الأولى، 1958، الجزء الأول، الصفحة 58.
[3] - التهانوي، محمد على، كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تحقيق، على دحروج، مكتبة لبنان ناشرون، الطبعة الأولى،1996، الجزء الثاني، مادة : العشق، الصفحة، 1181.
[4] - نفسه، الصفحة 1182 .
[5] - ابن قتيبة، الشعر والشعراء، منشورات بريل، ليدن، 1904، الصفحة 260.
[6] - الغذامي، عبد الله محمد، المرأة واللغة - 2- ثقافة الوهم، مقاربة حول المرأة والجسد واللغة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1998، الصفحة 26.