هناك خاصية أسلوبية لدى مظفر النواب هي خاصية غير مسبوقة تتمثل في (التوكيد) . أي عدم الاكتفاء بذكر الصفة المناسبة للموصوف ، فردا أو حالة ، سلبا أو إيجابا ، لمرة واحدة أو لتثنية وصفية كما كان يحصل سابقا ، ولكن بالطَرق على أوجه التركيب الوصفي المختلفة . يمكننا الإحالة هنا إلى وصف خراب روح الراوي – الأنثى في (حجام البريس) التي لا يعلن الشاعر عن هويتها كـ ( اسعيده ) ولكنه يخز قدرتنا الإدراكية عبر حركات محسوبة لتستنتج هوية الراوي الأخير الذي سيأتي مركّبا مثلما أثاره من التباس مقصود في صفحات القصيدة الأولى , ويمكننا أيضا الإحالة إلى ما قلناه عن الإمعان في تحطيم مهابة الشرطة كأنموذج للسلطة الغادرة ، ويمكننا.... ويمكننا ... ويمكننا ذكر عشرات الاستشهادات ليس من هذه القصيدة حسب بل من أغلب نصوص مظفر .
إنه ما يمكن أن نطلق عليه ( التوكيد الشعري التوليدي - اللغوي والدلالي والصوري ) ، بمعنى أن الشاعر لكي يوصل أكثر الصور الشعرية رهبة أو جمالا عن وضع معين فإنه لا يكتفي بتشكيل صورة محددة عن هذا الوضع ولا تقليبه على وجوهه المختلفة كما أشرنا في موضع سابق لكنه يوغل في استيلاد الصور- على طريقة " نعوم شومسكي " في نحوه التوليدي – GENERATIVE GRAMMER . لغويا ، يمكننا أن نتوقف عند التلاعب بمعاني مفردة العين ، و دلاليا نستطيع ملاحظة التعامل مع الموت كما سنرى قريبا ، و صوريا يتجلى ذلك في هذا الموقف الذي جعل فيه اسعيده ، على الأكثر ، تتحدث عن حطام روحها بعد غياب حچام وأحبائها . هذا الخراب الذي كان الشاعر القديم يعبر عنه في القصيدة الواحدة بشكل محدد ، يمضي النواب في فعله التهويلي لتضخيم أبعاده ، هذا التهويل الذي يضعنا أمام صور متصاعدة لخراب لا يقف عند حد ، لا ينتهي ، يفتح أمام خيالاتنا مديات عذاب لا حدود لها . والغاية النهائية المقدسة جماليا تتمثل في التماهي النهائي - من شدة الالحاح والطرق والانوخاذ - الذي يصل درجة تبرير كل فعل مفرط وكأنه فعل نابع من ذات المتلقي . تبدأ اسعيده بتصوير حال روحها التي عثها الليل - وحشرة العث والليل يشتركان في الفعل الظلامي في ممرات وأحشاء المادة " الجامدة أو الحيوية ، البعيدة عن النور ، وكلاهما " يقرض " ؛ العثة تقرض مواد بيوتنا ومنشآتنا التي يقوم عليها وجودنا الحياتي اليومي ، والليل يقرض سنوات عمرنا والتي لا " مادة " لدينا غيرها وبخلافها نصبح هدفا يبقيه " سواد " الموت - وهذا كامن في المغزى الفلسفي الغائر - مهانة أخيرة نستقصيها بخيالاتنا وبشعرنا ولا ملاذ غير ذلك : ( وأگلگم روحي عثها الليل
واختنگت عگبكم بيها عطابة ) وإذا لاحظنا التواشج بين الفعل الظلامي للعثة وفعل الليل الحالك وتأثير العطّابة (أي مادة تحرق جزئيا فلا تصدر غير الدخان ) المؤرثة التي تخنق الأنفاس فسنجد أنها كلها تتفق في - أو تتوهم أو تأمل أو تتعمد ، لا فرق في الشعر - إنها تعبيرات رمزية جزئية عن سطوة المثكل - الموت ، الموت الذي هو في الواقع " الحي الذي لا يموت " . لكن الشاعر يبدأ بالاستيلاد الصوري واللغوي والدلالي فيوغل عميقا في السواد .. يذهب بعيدا في القتامة والتراب : ( امضغبرة ..
وأچول من الچول
وگامت بيها وحشة ليل وترابة .. )
إن مفردة ( امضغبرة ) التي عبرناها سريعا سابقا هي مفردة تعبّر عن أقصى الاختلاط والغبرة المشوشة - لاحظ أن سمة الـ (امضغبرة) قد تعيدك جناسيا إلى سمة "الغبرة" التي خص بها الليالي التي أقسم بها مظفر في البداية بعد أن حلف بالشطر الأحمر ، كما أنه تصريف غير موجود في النحو العربي مطلقا ، هي صفة حال الدنيا التي يجتمع فيها الاختناق والتراب وسوء الرؤية ووحشة القتامة ودوامات الغبار المدوخة ، والأكثر من ذلك ضراوة المدى المدوّخ بقساوة انفتاحه الخاوي اللانهائي : الـ (أچول من الچول) . وللنواب طريقة أخرى في التوكيد على الفعل خصوصا قد لا يلتفت إليها المتلقي وتتمثل في استثمار القدرة التوكيدية لحرف النون وإلحاقه بالفعل كما في : أموتن ، أگولن ، أفزّن .. وغيرها . في بعض المواضع يستطيع الشاعر رفع النون من الفعل دون أن يتأثر تماسك البيت الموسيقي والمعنوي . لكن المبدع يدرك أهمية هذه النون التي تعبر بالفعل إلى ما بعد حدوده التقليدية لتضعه في حالة شديدة الوقع . كأن النون في الفعل " أموتن " تؤكد حصول الموت مع سبق الإصرار والترصد كما يقال في التوصيفات القانونية من ناحية النوايا من جانب ، وسعة الفعل وقوته من جانب آخر . لكن النواب (مُخرِج) شديد الاقتدار في تصوير الحدث الدرامي ، وهذا أمر غير مستثمر سابقا وبدراية لمصلحة المناخ العام في القصيدة وخدمة حدثها المركزي . يرصد الشاعر موقفا سلوكيا لشخوصه فـ (يصوّره) في لقطات وتقوم على الحركة من جانب وعلى النظرة الكلية ( المشهدية ) للموقف ، تلك النظرة التي تحيط بمكونات المكان بأدق تفاصيلها من جانب آخر : ( والتاف
وشبگ گلبه
وزحف حدر الگصب والطين
ما مش للرصاص أخبار مشتاگين ) ثم يعود إلى ترديد الجانب الصوتي الذي يحذّر حچام من العدو الخائن - وهذا الصوت هو صوت أناه الأعلى ، سلطته الرقابية - ويدعوه إلى أن يلتحم بالقصب ويجعله دليله في ظلمات الهور المدلهمة ، ليواصل الحركة المتوترة حين ينادي حچام بأعلى صوته ويردد الهور نداءه فيحرّك الشاعر زاوية النظر ليقدم لقطة جديدة لمشهد علاقة حچام بقلبه وهو يهم بالمواجهة المميتة :
( صاح النوب ، صاح الهور ، كل الهور ، صاح وياه
يا هور الغموگة و گام
- يا حچام .. يا حچام .. يا حچام
والتاف اعله گلبه
وشاوره بحسّه الخشن :
يا گلبي رص ظهري .. )
وقبل النواب كانت مثل هذه "الشخصنة – personification" التي تجعل القلب شخصا يلتفت إليه حچام ويحتضنه أو يطلب منه أن يسند ظهره ، تبدو عموما كنوع من الهذيان . لكن هكذا تتناوب لقطات حركة الانفعال الداخلي مع لقطات حركة الموجودات الخارجية متعاقبة مع حركة " المؤثرات الصوتية " إذا جاز التعبير النابعة من المونولوج الداخلي من ناحية أو من صوت السارد الذي يشبه صوت "المعلّق" على المشاهد السينمائية التي تجري بلا حوار : ( الوحيد العارچ بطوله
ايتحدّه ، وما يعرف الموت
ولا ينضام
تگلّط مني يا گلبي !!..)
وصوت الراوي الذي يعود لتذكيرنا بما تبقّى من وقائع القصة – القصيدة ، يمثل واحدا من أهم انجازات الثورة النوابية . فلأول مرّة يُدخل شاعر عامي صوت الحكّاء – السارد بتمظهراته المتنوعة في بنية القصيدة الشعبية .في قصيدة " حچام البريس" هذه و "حسن الشموس"وغيرهما الكثير يدشن النواب بدء مرحلة البناء القصصي في القصيدة العامية . قبل النواب كان الشعراء العاميون " يسولفون " في بعض قصائدهم لكنهم لم يكونوا يعرفون شيئا عن فن السرد الحكائي عندما تتحول الأحداث إلى شعر . ولم يكونوا مسلحين بالمعرفة التي تتيح لهم إمكانية رسم الأحداث وتصعيدها وتحديد نقاط الذروة ومسار التوتر الصراعي الموصل إليها واللحظات المدروسة التي يتدخل فيها الراوي بذاته على مسرح الأحداث والقدر الذي يتخفى به الشاعر - الحكّاء الأساسي خلف شخوصه . خذ مثلا أن الشاعر قد أعلن مضمون قصته عندما قال : ( سالوفتنه عن فلّاح مثل كل الفلح .. واخته اسمها اسعيده ...الخ ) ثم قطع شوطا طويلا في عرض مشاهد حركة وحوارات شخصيه الأساسيين في قصته - قصيدته : حچام واسعيده ، وصلة انفعالاتهما بحركة مكونات البيئة واستجاباتها وتأملات الصوت الداخلي وغيرها حتى نكاد تفلت الثيمة المركزية من أيدي انتباهتنا ، ويضيع تركيزنا وسط الصور الشعرية المتلاحقة فيقطع الشاعر سلسلة مشاهده في وقفة محسوبة ليرتفع صوت السارد ليذكرنا بالقول : ( قصتنه بعدهي بأول القصة
وراها گرون وشياطين .. )
فيعود الشاعر إلى فسحة شعرية تأملية طويلة نسبيا عن الغربة والمنفى وعذاباتهما والفارق الهائل بين من يموت في أرض الغير غريبا وحيدا ويدفن هناك مثل ( العرج ) وبين من يلتحم بأرضه ويموت على ثراها فتحتضنه ويتجدد وجوده الحي مثل القمح الذي تمتد ( عروگه – عروقه ) إلى تربة صدره ويجدد الحياة في عروقه الماء المنعش . ويكون المدخل هنا - من جديد ، ووفق صنعة – رؤية الشاعر المحكمة المتفردة – من أبواب عين الطين : ( يا وحشة الوحده يظل عدل
والطينته من الطين
يا طينة بلدنه .. يا أصل كل طين
بيها نعيش .. بيها نموت
وبيها يخضر من عيونه البربين ..)
وهنا ستستدعي ذاكرة المتلقي صلة أخرى مركزية تدور حول بؤرة عين الطين مادام كل مظهر للنماء في هذا الكون نشأ وينشأ من الطين : " من التراب أتيت وإلى التراب تعود " ، سنستدعي " باعوني عليها وخَضْرَت عيوني بدمعها ، و ماني بايعها " التي ستتمظهر في التعبير الرائع الجديد : " بيها يخضر من عيونه البربين " . كل حركة الطبيعة البهية .. حركة النماء والخصب .. حركة الأرض المعطاء .. تصل ذروتها في هذا الرسم التشكيلي حيث النمو والتفتح الذي يتم في "ماء" العين . إن البنية المائية هي المتسيدة في عالم القصيدة من البداية حتى النهاية . وحين أرى أن الروح الاحترافية العالية لدى النواب هي التي أثرت القصيدة العامية – ولأول مرة في تاريخها - بهذه التقنيات المدروسة والعجيبة ، فذلك لأن من الغريب والعجيب - وهذا فارق مذهل يميز النواب حتى عن شعراء الحداثة السيابية - أن يشتغل الشاعر على مفردة ليس من أجل جانبها التعبيري والبلاغي في البيت الشعري أو الصورة الشعرية التي يرسمها ليتحول نحو بناء بيت تال أو رسم صورة جديدة كما كان يفعل الشاعر القديم - في العامية أو الفصحى على حد سواء – ولكن من أجل أن يؤسس ركائز تمسك حلقات القصيدة وتنشط تداعيات ذاكرة المتلقي جيئة وذهابا لتوثيق صلات وحدة غريبة لكنها مؤثرة تماما وركيزتها التوليد والتوكيد : اللغوي والدلالي والصوري ، المؤسس على تفجير طاقات المفردة واللعب الماهر- والماكر - على إيحاءاتها الشعرية ورسمها الحروفي أحيانا والمراهنة على وجودها " المادي " حينا آخر . فحين نعود قليلا إلى الوراء ونركز على الاستعمال الأول لمفردة " چبير" التي تتواشج اشتقاقيا مع مفردة " چثير " سنجد أن اسعيده قد وصفت أخاها حچام بـ "چبير الهور" و"ابن الشلب" وقد ردد الهور صدى ندائها باعتداد ذاتي حسب امتيازاته الوجودية والنفسية فنادى حچام بصفة مركبة هي "چبير الشلب" . لكن الشاعر لا يشبع من لعبة واحدة .. عين الشاعر نهمة وهي تترصد احتمالات وطاقات لم تستنفد بعد ، فيعود - أو " يتقدم " ، وهذا هو الوصف الدقيق ، ليستثمرها - فنجده يقول : ( يصح ردّوا
وازامط بيهم الله
وشرطة الزرگة !!
يصح رد الچبير النوگف ابابه ؟
چثير الهله ، يا يابه
چثير الهله
من غبتو التفگ ملهاش خطّابه ) و : ( جرحنه چبير مالمته ديرة ناس
ولا نامت عليه الگاع .. ) و : (لو خرخشت گصبة ليل
أفزّن يا چبير البيت )
و : ( ويگولولك احنه نموت
احنه نموت
وابنك واگف محزم عله الدنية .. چبير التوت )
وحين نتأمل عميقا المواضع التي تكرّرت فيها مفردتا "چبير " و"چثير" ونضعها في موقعها الملائم ضمن الإطار الكلي للقصيدة فسنجد أنها جزء من بنية " تكثير " تسيطر على القصيدة من استهلالها حتى خاتمتها . وهذا التكثير لا يتم فقط من خلال المضاعفة الكمية ؛ العددية ( چانوا الحوشية والشرطة 1000) ، والحجمية ( وابنك واگف محزم عله الدنيه .. چبير التوت ) ، والزمنية ( وخيّمت ليلة حزن ؛ سنتين ) ، ولكن من خلال ضراوة الصورة الشعرية أيضا . تمتزج هذه المسارات في المقطع الأخير من القصيدة – الحركة الختامية حين تتوهم اسعيده عودة شقيقها بريس الشهيد ورفاقه الغائبين حيث تفتتح هذه الحركة بنداء تكثيري ( أگلّچ چني أسمع ليل يام عشره ... وزمر زركه ) : ( ويگولولك احنه نموت
وابنك واگف محزم عله الدنيه ، چبير التوت
ويگولولك احنه نموت
هاي بيوتنه وذولاك أهلنه
والچواير گطه
ودخان المعامل واصل التالي الشلب
والشلب ناهبله گصيبه من الشمس
گبل الصبح
بسكوت )
إن تأمّل الصورة التشكيلية – والنواب رسّام تشكيلي مجيد كما يعرف عنه – لانتشار "الچواير" مثل أسراب القطا على وجه الأرض يضخم حالة التكثير بدرجة صادمة يزيد دقتها التماثل اللوني والكتلي للجانبين . ويتعزّز انفتاح الصورة الهائل في منظر الدخان المنطلق من مداخن المعامل والذي يصل إلى نهايات حقول الشلب المترامية الأطراف . هذا الشلب الذي نهب ظفيرة ذهبية مدهشة من شعر الشمس ، فيحصل تضاد لوني لافت يبهر البصر بين سماء سوداء أو رصاصية وأرضية صفراء أو ذهبية . وهنا تتجلى أيضا الرؤية في حرية انتقاء الفعل المناسب الذي يطابق حالة التكثير ويثريها . كان بإمكان الشاعر أن يقول : ( والشلب بايگله گصيبة من الشمس ) . كان الخيار مفتوحا أمامه بين الفعلين : "نهب " و" باگ – سرق " . وفي الخيار الثاني " بايگله " لن يختل البيت عروضيا أولا وسيعطي المعنى المقصود نفسه ثانيا ، لكن هذا الخيار لن يمنح الصورة ضراوتها المطلوبة حيث يفوق النهب حالة السرقة بمراحل من حيث شدة التعدّي العدواني من ناحية ومن حيث الرهبة النفسية التي يسببها حجم الغنيمة المتخيل من ناحية أخرى ، لأن وقوع الفعل قبل الصباح وبصمت خلال إغفاءة الشمس المهيبة يعني الرهاوة في الكمية المستولى عليها . السرقة عمل عدواني لكن النهب عمل عدواني وعنيف ؛ لكن أي عنف ؛ إنه العنف النوّابي الآسر المحبب الذي وسم الثورة النوابية كما قلنا آنفا .