المختار السعيدي الشاعر الذي يستنطق أزيز الصمت من خلال لغة القوافـي ـ سعيدة الرغيوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

peintuer-abstraiteعندما ننسلخ عن العالم الطوباوي، ونلتصق بجدار الواقع ونأبى إلا أن نمسك بانفلاتاته وصوره المتنوعة والمتابينة، يكون صوت الشاعر المكبل بقضايا أمته وبمحيطه أقرب إلى استنطاقه بريشة مبدع،وعين مصور فني،وحرف يصدح في سماء الصمت ليقتل ارتباكات الوقت الذي تبدو مرآته في الغالب خادعة كاذبة.

أَزيزُ الصًمْتِ

عندما يستحث الشاعر الصمت على الكلام والبوح ويُدبجُ لوحاته بأبهى الحُلل، وينقش حروفه رغم كل المحن،وينفلت من قبضة الصمت أزيز بحجم الجبال،وينطق شعرا فصيحا يرتحل بين المعري والمتنبي وأبو تمام وصولا إلى بلاغة الواسطي،نشد رحالنا بدورنا للرحيل في عرصات الشعر مع الشاعر المغربي المُختار السعيدي*، من خلال حروفه المضمخة برائحة العشق حينا والصراخ والزئير حينا آخر من خلال ديوانه الشعري" أَزيزُ الصمت"**.

والعرصات الشعرية هي لوحات من هنا وهناك،إذ اللوحة الشعرية الأولى موسومة بعنوان:" الأمل المذبوح"،حيث يسترجع الشاعر ذكرى ملغومة،باستدعائه الأمل الذبيح، فيعزف على لغة الاستعارة لتنبري له الكلمات سلسة طائعة، يروضها كما يشتهي.إذ وَسْمُ الأمل بالذبح ينم عن خيبة أمل، أما على مستوى اللغة فيمكن أن نرصد حضور اللغة الإيحائية المجازية كما ألمعنا إلى ذلك آنفا في هذه العرصة الشعرية بقوة مثل: (الحس يمشي/ أخيط من صمتي،أعزف الأمل..).
أما اللوحة الثانية والتي اجترح لها عنوان:" أزيز الصمت"، والذي هو عنوان الديوان الشعري، فمن خلالها نستشرف عالم الأحاسيس الدفين، حيث الشاعر يحاول الانفلات من ظلمة الأنفاق (نفق الهوى) ،فيتحول صمت الأعماق إلى نداء من أجل الحياة والحب، وهذا ما يشي به المعجم المهيمن في النص الشعري.
وهنا أمكننا القول أيضا أنه نص يناجي من خلاله الشاعر الصمت بتساؤله عن كُنْهِ الحياة في ظل الأنفاق،حيث نرصد المفرادات المعبرة عن الظلمة: ( نفق/ الأنفاق/ موجة الاغراق،الأعماق...).

وانتقالا إلى العرصة الثالثة"نحيا كراما أو نموت كِراما" يتصاعد صوت الكرامة، في نص حماسي.
وفي قصيدة:" عانقته والموت قبله"، تتضح لنا ملامح القصيدة الوجدانية ،إذ كان الشاعر بليغا في تصوير رحيل الطفولة وقتلها بيد الغدر.
وكما احتفى الشاعر بالكرامة وروح الإباء يحتفي أيضا بالذين أفنوا حياتهم لأجل تعليم ناشئتنا "الأساتذة المقبلين على التقاعد في قصيدته:" ستون قطرة من العمر"وهو اعتراف لهاته الشريحة المجتمعية بجهودها في محاربة جحافل الجهل والأمية وإنارة وإذكاء شموع العلم في كل الربوع.
وككل عربي أبي يستحث الإنسان العربي ويدعوه إلى الاستفاقة من الصمت، للاستجابة لمدينة غزة الفلسطينية ،غزة النسيان العربي،الأرض التي استبيحت من قبل العدو الإسرائيلي الغاشم.
وهي قصيدة حماسية أيضا هيمن عليها أسلوب الأمر والنداء الموجه إلى العربي الصامت ليُغادر أدراج صمته وانهزاميته، ويعلن عن إبائه وعزته، فيخرج من دوامة الخوف والخنوع الملغومة، وغزة هاهنا رمز للجلد والإباء والحرية وحقوق الإنسان.
وكما يتبدى لنا من خلال المعجم الدلالي المهيمن على القصيدة -جاز لنا القول- ،أنها قصيدة استنهاض للهمم بدلالة حضور أسلوبي الأمر والشرط :
(( أيها العربي اخلع نعليك
فالشمس ستشرق من حاجبيك
حين تفتح ،إنء شئت ،عينيك...)).
وكما استهل قصيدته بالأمر يُنْهيها بقوله:
اِخْلعْ نعليك أيها العربي.
ومن هنا نستشف أن الشاعر يطرق قضايا مصيرية للإنسان العربي الذي يُمسك بجدار الصمت ولا يحرك ساكنا.
وفي قصيدة "رسالة صدام قُبَيْلَ الاعدام،"يصور لنا الشاعر سعي صدام إلى الموت بكل إقدام،إذ لم يخش الرًّدى لأن اسمه سيدونه التاريخ بلون الإباء، وهو نص يشي أيضا بالكثير من الرموز،بخنوع العرب وصمتهم على إهانة أمريكا.
هو إذن،الصمت يغلف كلمات القصيدة.
وفي رسالة أخرى إلى مدينة سرت الليبية، يكشف لنا الشاعر مرة أخرى عن حال العرب، إذ غطى الصقيع والجليد قمتهم في وقت هم أحوج فيه إلى ثورة من لَهب.
وبتجوالنا بين النصوص نلمس تنوع المواضيع التي طرقها الشاعر،إذ بعيدا عن لغة استنهاض الهمم والزئير يدخل الشاعر في حوار مع البلاغة يُعرب من خلالها عن اعتزازه وتأثره بأستاذه "محمد الواسطي".
الذي كان له بليغ الأثر في رسم معالم شعريته وبلاغته وبيانه...
خاتمة "أزيز الصمت" قصيدة اجترح لها الشاعر عنوان:" إنني راحل"، وهي قصيدة مغموسة بلون الشجن والوجد، يبدو فيها االشاعر مسكونا بلغة القوافي ويُعْلن من خلالها عن رحيله عن عالم الشعر في قوله:ص/ 73 من الديوان الشعري:
إنني راحل إلى عالم قد
يغتدي فيه الشعر أمرا مُحالا
إنني راحل عن الحرف يادمعة قلبي
فاستقبلي الزلزالا
وهو رحيل شعري جميل..إذ الشاعر يهيم بالحرف لدرجة أنه أعلن عن اكتئابه جراء رحيله عن عالمه الشعري.
لاغرو أن تلقي النصوص الشعرية يحتاج منا لآليات كثيرة،نظرا لأن السياقات الشعرية والتداولية التي ارتهن إليها الشاعر المختار السعيدي تتعدد،وحسبي هاهنا أنني أوجزت في قراءتي المتواضعة لنصوصه التي تستلزم وقفات وقراءات عدة.وخير ما أختم به، الإشارة إلى أن ديوان "أزيز الصمت" صُدِّر بإهداء جميل:
وهو الآتي :
 
للقابضين على جمار الصمت
عزْما،في جِنَان الثرثرةْ،
لِلْمُبْحِرِينَ،دُجى، تُجاه الموت،
يَرْتَشفُونَ مَوْجَ المجزرةْ،
صَيرتُ حِسي أَحْرُفا من منْغَنِيزْ
وَبِعَزْمِكُمْ
اَنْضَجْتُهَا شِعْرا،
لأُهْدِيَكُمْ ضُحى هَذا الأزِِيزْ.
--------------------------------------------------

*- المختار السعيدي، شاعر مغربي باحث في التراث الشعري.
**- "أزيز الصمت": ديوان شعر، للشاعر مختار السعيدي عن دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2012.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة