لعبة السرد ورهان التناص : دراسة في رواية شباك الهوى لمحسن أخريف ـ عبدالسلام ناس عبدالكريم

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

chirak-akherifeالسرد بالمخاطب: لم يعرف السرد بالمخاطب إلا متأخرا مع بروز تيار الرواية الجديدة،  وبالذات من خلال أعمال الرواد المؤسسين لهذا المذهب في أوروبا منذ رواية التعديل لميشيل بوتور، وروايتي (الثمار الذهبية) و(الحياة والموت)  لناتالي ساروت . ثم تطور هذا المذهب السردي بعد ذلك على يد كتاب زاوجوا بين كتابة الرواية وإنتاج السينما من أمثال جورج بيريك صاحب رواية الرجل الذي لاينام. ثم برز بعد ذلك في أدب أمريكا اللاتينية ممثلا في بعض أعمال الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس. وأما في الأدب العربي فبرز مع رواية (سماء نائية) للروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل  و(صوت الكهف) للأكاديمي  الجزائري عبد الملك مرتاض، ورواية (الخيوط) للناقد الفلسطيني وليد أبوبكر. وفي المغرب فاجأنا الشاعر محسن أخريف مؤخرا من خلال روايته شراك الهوى، باعتماده هذا الملمح المميز، في سياق ما عرف عنه من حس إبداعي مغامر.  فباستثناء اسماعيل فهد اسماعيل الذي انصرف للكتابة الروائية على نحو مكثف، نرى غيره من هذه الفئة اتجهوا إلى ترويض حدوس الإبداع عبر تجريب كتابة الرواية. وقد ترك ذلك أثرا بالغا في التعبير السردي ومن بين مظاهره البارزة توظيف تقنية الضمير المخاطب. ومن  الفرضيات التي قد تصاغ للأفق الإدلالي  لهذه التقنية النصية، فرضية السخرية القاتمة وفرضية التطهيرالنفسي الموصولة بالمونولوج الأوتوبيوغرافي.


وذلك لأن السرد بالمخاطب هو في حدّ ذاته يحمل وظيفة كشفية موصولة بحقيقة تنأى بتعقيداتها عن التجربة الإنسانية المباشرة. ومن مجليات الأمر ما يفسره بول ريكور في كتابه الموسوم حول الهوية السردية: الأنا كما الآخرsoi même comme un autre  ، حيث يقرّر أن الهوية الشخصية في عوالم الإبداع معطى مؤقت يتعلق برهان الزمن. وهي فرضية فلسفية تلامس مفهوم تناسخ الأرواح وتطور مفهوم التوحد في التعدد أو التعدد في التوحد، على نحو ما فسّر به الفيلسوف جون لوك الماهية  أو الجوهر في علاقته بالهوية. فإن شخصا واحدا يمكن أن يرتبط بماهيات مختلفة، كما أنه بعكس ذلك يمكن لأشخاص متعددين أن يرتبطوا بجوهر واحد. وممّا يقوّي هذه الفرضية في رواية الضمير المخاطب أن السارد يحقق وظيفة التعدد والتحوّل المهَوي، فتتضاءل جرّاء ذلك العلاقة السيرـ ذاتية المباشرة بالكاتب، ويتم تصعيد عملية التسريد إلى أفق ملحمي تتخاطب فيه الأرواح من برزخها العلوي الذي شيّدته عبر مسار التجربة الإنسانية بعذاباتها وأفراحها وأشواقها السديمية التي لا تنتهي. ويسعدنا أن تكون رواية شراك الهوى للمبدع المتألق محسن أخريف إحدى التجارب الروائية التي تعكس هذا التحول النوعي في المنظور السردي بالمغرب والعالم العربي.

بصدد الرواية وصاحبها: صدرت هذه الرواية في موسم 2013 عن اتحاد كتاب المغرب كتتويج للجائزة التي منحتها المؤسسة لإبداعات الشباب .وذلك ما يجعل الحديث عنها في باب النقد والقراءة مرتهنا بالبحث الموضوعي المبني، وبالتحرّز من إصدار الأحكام الانطباعية التي قد تتوالى عليها منذ النظرة الأولى، ولاسيما أنها أول نص روائي يكتبه صاحبها الشاعر محسن أخريف الذي أسس سمته الفني باقتدار من خلال دوواينه الثلاثة: ترانيم للرحيل2001.حصانان خاسران، 2009.ترويض الأحلام الجامحة، 2012

عتبة العنوان: اختار كاتب الرواية هذا الملفوظ الاستعاري شراك الهوى عنوانا   لنصه، وهو كما ترى عنوان ماكر يخفي وراء الثنائية المعجمية المتضايفة إحساسا بالشدّ الاختناق بحبال الشراك، سواء أكانت حبالا عادية مفتولة من قتاد تدمي الضلوع، أم كانت  حبالا حريرية رخوة تحيط بالضحية وتغويها بالنعومة حتى تتمكن منها فتكبلها وتجعلها رهينة الأسر والذبول. أما مدار الأحبولة فهو الهوى وهو نزوع عاطفي إنساني يؤثر في سلوك الإنسان فيبعده عن سيطرة العقل والمنطق، وربّما جعله ذلك يخبط ويلوي دون أن يعقد للوجهة أيّما حساب، فيكون مآله الخسران والضياع. ومن ثم تعيّن هنا التمييز بين هوى النفس الموصول بالنزوع خيره وشرّه وهوى القلب الموصول بالوجد والهيام، وكلاهما قد يكون معنيّا في النصّ بذات المعنى والصّفات.

السّردي بين إبدالات الواقع الافتراضي ورهانات الرقمي: من المعلوم أن أنظمة الأنواع موسومة بالتطور أو الاختفاء بحسب طبيعة التشكيلات السوسيوخطابية والممارسات المقرونة بها. ويعلل باختين هذا المنحى بأنّ الأنشطة الإنسانية تحتوي على ربتوار / سجل بأنواع الكلام تتنوع وتتضاعف لكي تتنامى وتشكل لنفسها ذاكرة معطاة من. وتعد نظرية الأنواع théorie de genres وعلم السرد la narratologie منذ شعرية أرسطو وبلاغته ملمحا مائزا لهذا التحول. وقد مكننا ذلك أن نميز في الراهن بين أصناف متعددة من السرد كل منها يعكس نظاما معينا من رؤية الواقع لعل أبرزها صنفان أساسان هما السرد المؤطر récit encloitré والسرد الحواري/ الديالوجي récit de conversation. فأما الصنف الأول (المؤطر) فهو الشائع  في  الرواية الكلاسية ، وهو الخطاب الذي يؤسسه كتاب الليالي (ألف ليلة وليلة)وفق وجهة الإبدال الموسومة بسمت الواقعي وعنف التراجيدي  المتخفر خلف متع الخيال . وأما الصنف الديالوجي فهو يتغيى وجهة مغايرة تقوم على الشك والانزياح عن الواقعي إلى الافتراضي، ومن ثم فقد اكتست إبدالاته السردية سمة التعقيد، لأن حديث السارد لم يعد ينطوي على ضمانة كاملة بقول الحقيقة . حتى أضحى إبدالا افتراضيا مرادفا لواقع افتراضي. وقد برز هذا البعد الافتراضي في العصر التكنلوجي بأبعاد تقنية موسومة عبر محكيات السينما. ثم تعمّق أكثر في العصر الرقمي أو العصر الذري للمعلومة  الموصولة بالحاسب الآلي، بما يمثله من ثورة تقنية بدأت تعكس الظلال على صعيد الفكر والوجدان ، وتخلق معادلا غريبا بين ظاهرة العزلة الفردية والانطواء خلف الجهاز، وبين ظاهرة التواصل الافتراضي الميسّر عبر ممكنات التواصل المتعددة التي توفرها الشبكة العنكبوتية لأشكال الاتصال بالكتابة أو بالصوت أو بالصورة أو بجماع ذلك كلّه.ولعل النمط الذي بات يعرف برواية الواقعية الرقمية يندرج ضمن هذا المظهر الافتراضي للواقع المنقول الذي يتضافر في توصيفه وتشكيله أكثر من ذات واحدة أو مقام مفرد.ومن ثم فقد احتمل هذا الصنف تعدد المبدعين والمشاركين في معمار السّرد، وهو احتمال يقوم على توظيف لعبة الخطاب و التناص،  كما تحدد في العنوان.
لعبة الخطاب في هذا النص الروائي موجهة نحو المخاطب على غير العادة مما عليه الحال في سرود الرواية . فلم يعرف عن كتاب هذا الصنف حفاوتهم بهذا المسلك إلا ما عرف عن استعماله غير المسبوق من طرف ميشيل بوتور أحد أسماء الرواية الجديدة التي انطلقت في أواسط القرن الماضي ، ثم تابعه البعض على هذه الخلفية من التجديد سواء في الغرب أو في المشرق. وبلاغة (الأنت) هاته،  تفوق بلاغة الضمير المتكلم كما تتفوق على (الهو) أيضا، لأنها محمّلة بشحنة الإبلاغ المضاعف: الإبلاغ عن وجهة نظر السّارد ، ثم الإبلاغ عن حدوس واقع افتراضي يصاحب هذا المقام العيني ويشكل إزاءه موقفا موسوما بالسخرية الممزوجة بلون المأساة وجدل الحياة والوجود على ما يقتضيه الموقف التلفظي من رهان. فبين الذات الحاكية والذات المحكية تقاطعات وقواسم مشتركة يتعين استحضارها في السياق. وليس من الضروري في هذه الحال أن يكون تقاطع الكاتب مع ذاته، لأن هذه المهمة موكولة لأدب السيرة الذاتية، وليس من المهمّ أيضا أن يكون تقاطع السارد العارف بخفايا المسرود، لأن هذه أيضا منوطة في السيرة الغيرية بالواقعية التسجيلية. وإنما هو تقاطع بين الذات كتجربة خطية متحصلة في الزّمن النّسبي  وبين أبعادها الافتراضية  الممتدة عبر مطلق الزمن.
هناك إذن مسافة يتعين قطعها وتجاوزها بسرعتين متجاورتين، سرعة السرد وسرعة الحوار. وهناك أيضا شرخ، هوة عميقة تفصل بينهما وتعمق أثر الحوار على السّرد كي يفصح  عن سرّ متخفّ في  الثنايا يأبى إلا أن يطرق أبواب السؤال. محكيّ هذه الرواية ستناول قصة شابّ أعزب يعمل تقنيّا بشركة إعلانات، فيكسبه عمله هذا فائضا من الوقت لربط علاقات افتراضية مع صديقات الويب. وسرعان ما تتطوّر بعض هذه الصداقات إلى علاقات واقعية موسومة بالرغبة الحسّية العابرة وباللامبالاة والفتور العاطفي من جهة البطل تجاه ضحاياه اللائي يدخلن التجربة من باب التهتك والانحلال ويغادرنها كما دخلن.حتى يكون اللقاء بوفاء الكلداني الطالبة بمعهد تكوين المدرسين، والأنثى الوحيدة التي اقتحمت وجدان البطل من نافذة خلفية، وجعلته يستشعر وجودها ويستحضر أثرها في حياته برغم ما يخفيه من استخفافه المعهود بالأنثى وبالأثر الذي ستتركه. فلما أزفت لحظة الرّحيل بادرها بالترحاب كنهاية طبيعية للقاء الصدفة. وكان في اعتقاده أن يظلّ اللقاء ساريا على طبيعته الأولى عبر رسائل الويب الموصولة بالعبث الافتراضي، لكنه لم ينل من ذلك سؤلاً إلاّ أن ينتفض أناه الفحوليّ محتجّا على الإقصاء المرير، ثم يعود كي يغوص في غفوة الاستيهام الذي  لا يشفي للنفس عليلا.
 
رواية الواقعية الرقمية: إن الكتابة مغامرة كما هي الحياة والروائي مغامر تماما كما هو الإنسان،وكما يختلف البشر تختلف الكتابة .فالإنسان القانع الراضي بما ترميه الحياة من فتات لن يكون مبدعا ولا خلاقا . ذلك لأن الإبداع دخول في المجهول في الغامض واللامحدود.ومن ثم يعلن جيتس عملاق الواقعية الرقمية أن أسلوبا جديدا في الحياة صار مهيمنا هو أسلوب حياة الشبكة Web life style وأسلوب عمل الشبكة . وهما مصطلحان جديدان تماما على أدبيات التقنية اخترعهما جيتس ليعبر بهما عن الحياة القادمة. وينشأ عن ذلك أن الأدب القادم سيصب في هذا الاتجاه، فيجعل الخيال  خيالين: متصل ومنفصل.فالأول سيكلوجيّ وهو أداةٌ إنسانية للإدراك والمعرفة، وأما الثاني فوجوديّ بأبعاد فلسفية.وبتعبير العصر الرقمي فإن الخيال المتصل هو الواقع الحقيقي والخيال المنفصل هو الواقع الافتراضي. الأول يذهب بذهاب المتخيل والثاني حضرة ذاتية قابلة دائما للمعاني. في هذا المجلى الثاني تصوغ رواية شراك الهوى رهانها الافتراضي موصولا بمناصات العشق والهوى، ومآسي العاشقين مجسدة في تجربة الواله المجنون المفصول عن ليلاه  بقوة الأعراف.ثم تضعها بعد ذلك في ضوء نصّ افتراضي يفسّر الظاهرة من زاوية نظر نسائية همها أن تسدّ الطريق على كل مظاهر الأنا الفحولي التي طالما قامت باحتكار العشق واعتساف الهوى.

ثنائية الحب النرجسي والحب الافتراضي: الحبّ النّرجسي اصطلاح يتلبّس حرص  الذات المغرمة على امتلاك زمام الغرام عبر مقامات تقوم على أوجه ثلاثة: أولها أن الذات  نزاعة إلى الشريك المثالي الذي يلبي صفة النموذج . والثاني أنها تنزع للشريك المرآوي لسدّ نواقصها  من خلال شرط التماهي والمماثلة.وأما الثالث فهو ما يتم التواضع عليه بعقدة الممرضة le complexe de l’infirmière.والمهمّ فيه أن  الشّريك يمثل للذات حضورا ضروريا في الحياة لا يمكن الاستغناء عنه.
ولكن حينما يقع الفراق والشريكان على وشك اللقاء فحينئذ يمكن الحديث عن شراك الحب الافتراضي. لأنّ الذات  تحسّ بعد ذلك  بفقدانها للآخر الذي تراه جزءا من كينونتها. ويزيد هذا جلاء سمات هذا الصنف ما بات معروفا في عصر الرقمنة بظاهرة الحب المثلثl’amour triangulaire  وفيه يتجلى حضور لعنصر ثالث بجانب الشريكين قد يكون شخصا آخر أو نشاطا يستحوذ على اهتمام أحدهما  فيباعد اللقاء بينهما إلى مدى قد يقصر أو يطول. وقد يشكل في النهاية واحدا من بين أسباب المعاناة التي تتضاعف بالفراق.  وتلك الظاهرة موسومة برغم ما يبدو من مجلاها الحداثي في تراثنا الشعري عبر أمثلة منها هذا الدليل الغزلي للأعشى صناجة العرب:

عُلّقْتُهَا عَرَضـاً ، وَعُلّقَـتْ رَجُـلاً
                               غَيرِي، وَعُلّقَ أُخرَى غَيرَهَا الرَّجـلُ
                                       وَعُلّقَتْـهُ فَـتَـاةٌ مَـا يُحَـاوِلُهَـا                 
                                                     مِنْ أهلِها مَيّتٌ يَهْـذِي بِهَـا وَهـلُ
                                    وَعُلّقَتْنِـي أُخَيْـرَى مَـا تُلائِمُنِـي 
                                                            فَاجتَمَعَ الحُـبّ حُبًّـا كُلّـهُ تَبِـلُ
                                    فَكُلّنَـا مُغْـرَمٌ يَهْـذِي بِصَـاحِبِـه  
                                                         نَــاءٍ وَدَانٍ ، وَمَحْبُـولٌ وَمُحْتَبِـلُ

  أما مؤشرات هذا الحب الافتراضي في رواية شراك الهوى فتبدو ماثلة من كل الجوانب والجهات، فتراها هنا موصولة بالتغريد على جهاز الحاسب الرقمي الذي يفجر كل ينابيع الاستيهام، وتراها هنالك بارزة من خلال أبخرة الحلم الذي يتولد من ترسبات الألم والإحساس بالفقد والضياع وتلاشي الكينونة. ثم تجدها تسعى جاهدة لدرء الشبهات وردع دواعي الصدّ والهجران. ومنها أن المبرر الافتراضي لغياب  وفاء الكلداني وصمتها القاتم لا يمكن تفسيرهما إلاّ بانشغالها الموصول بداء السرطان!    
وأجدني من خلال ذلك أتقبل مما سبق  فرضية تطويع  الخطاب الروائي  لتناصّ الرواية من خلال هجرة تراجيديا الحب عبر عوالمها الرحيبة ومخيالها الخصيب، ثم لميتَناصّ الشعر من خلال تعالقات تجارب العشق لدى الشعراء. ومن ثمّ يغدو منطق الصفاء النوعي للرواية  كجنس لاغيا بالضرورة أمام هذا الغنى الموسوم من تعالق محكيات الغرام وتجارب العشق والهوى. ومن تداعيات الأمر أن صارت تجارب الشعراء والكتاب تتطور في عوالم موصولة بتجارب غيرهم، وأضحت الكلمات مسكونة بهسيس غيرها من أصوات الكلام.  
من هنا نصل إلى بيت القصيد وإلى الخيط الفني الناظم لهذا النص .إنه تلك الحوارية الشعرية التي تتوالى بين الأنا والأنت، بين ذاتين إحداهما يُتوسّم منها أن تكون أنا السارد حتى نراها معلقة بملمح المبدع الكاتب/الشاعر، والأخرى يُطلب منها أن تعبّر عن بطل الرّواية فإذا بها تحور أيضا إلى الالتفاف بالسارد و التماهي معه باعتبارها محكيا لها وحاكية في آن. فمهما قيل في تفسيرو تأويل الخلفيات بالنسبة لهذا لأنا  الذي يوجّه الخطاب، فلن يحيد الفهم عن ربطه بخلفية السارد صاحب وجهة النظر الذي يلصق عادة وبدون تردد  بشخص الكاتب، بيد أن تفسيره من خارج هذه اللعبة قد يخلق الصدمة والدهشة، وهو ما يسري على هذه الرواية فساردها الخلفي هذا الذي يستضمر وجهة النظر، لاهو بالسارد المحض ولا بالكاتب المحض ولا بالشاعر المحض ولا بالذكر ولا بالأنثى. إنه شيطان الإبداع الذي يحرك لعبة التناص الخلاق الذي يسري بالعنفوان والقوة فيمتدَّ عبر نياط الفكر والتأمل،  وينال من تصاريف الوعي والتدبّر كل مأخذ. ولن يتسنّى هذا التأويل إلا بعد إنهاء قراءة الرواية، إذذاك سترى بأن ما بدا لك في البدء أنا فحوليا يتحكم في الخطاب إنما يمرّر الأصداء لأنا أنثوي تسلّم وفق منطق الحكي الزمام والقياد.أو لنقل إنه ظل العنقاء التي حوّلها الحكي بالتدريج إلى رماد، فانبعثت من رمادها كي تمنحَ الحكي جذوة النيران. إنها العنقاء التي تطفو فوق أجواء النص لتتخذ فيه بعدا افتراضيا موصولا بوفاء الكلداني بطلة الرواية التي أقامت للهوى شراكا قويا يتخطى بعد الهوى العابر.أما  المعنى الذي أقامته القراءة حولها  فهو أنثى متمرّدة  تلقي بظلال موقفها عبر حوارية الأنت والأنا التي يتوق دليل القراءة من خلالها إلى  تمرير خطاب الإدانة الأنثوي موصولا  بردّ الكرامة والرغبة في الاقتصاص من لوثة الأنا الفحولي. وما عسى أن تكون هذه الأنثى الافتراضية غير الضمير الشعري الخصيب الذي تتحلى به كينونة الشاعر أخريف.  فالشاعر إذن هو حاضر بقوة الأثر وحضوره الشعري هذا رهين بتمزيق خيوط  الشراك ونزع حبال الفرقة بينه وبين ماهيته الشّعرية الصافية ..
 ودليل الأمر يقيمه ميتانصّ عابر فوق سطح الذاكرة الشّعرية. إنه صوت الشاعرة غادة السمان من خلال قصيدها الذي اتخذته أيضا عنوانا لديوانها الموسوم:  ( الحبيب الافتراضي). فهي عبارة يستدعيها منطق هذه الرواية ليكسر من خلالها جدار الصمت ويُعلن: إنّ الأنثى هي الأخرى قادرة على التحدي لا بمجرد الصدّ والهجران أوبمجرد الخنوع والصّمت كما يوهم ظاهرالنص، وإنّما  بقوّة المواجهة ورفع الحيف وردّ الصاع . تقول الشاعرة:
  حبّك موتي الافتراضي
حذار من حكايا الحب القديم
لغم في لحم الذاكرة لا يمكن لخبير تعطيله
حذار من الذكريات فهي حرف جر إلى التكرار
حذار من حبيب لا يزيده الزمن إلا نضارة في القلب...
لم تزل ليلى بعيني طفلة، لم تزد عن أمس إلا أصبعا
 حذار من زين الشباب أيتها البومة المتوقدة كطفل على باب ميتم...
اهربي بجرحك إلى وكرك
داوي نفسك بجرعات كبيرة من اليأس
 حذار من سم الأمل
حذار
 فكلّ رجل يقتل من يحب
يحقن في الشريان من سم الأمل
وسيظل يطاردك حتى الأبديةليقتلك بعد الموت مرات...
فلقد أحبك مرة ونجوت منه
حبيبك اللامنسي
إنه عدوك  الحقيقي
ما من رجل يغفر لامرأة لم يفلح في قتلها! ( غادة السمان، الحبيب الافتراضي ص15)
وعلى امتداد هذا التعالق بين الافتراضي والواقعي تعالج الرواية ثنائية الحب والهوى. من باب أوسع مما تشي به هذه الثنائية على مستوى الدليل الرقمي الذي سطرته فرضيات إبداع وقراءة هذا النص. إنها ثنائية وجودية أرحب تستبدل الافتراضي  بالمثالي والحقيقي بالواقعي عبر منحى جدلي رافض لما يمكن أن يفهم من قابلية تراجع الماهية تحت سلطة التقنية الآلية التي أخذت تستبدل أعراف الرقابة بأعراف التحرر المطلق الذي أخذ يفهم منه الإعلان عن إفلاس الكائن العاطفي وتراجعه لصالح الكائن الآلي الربوط. تحت تأثير سلطة البرمجة الرقمية الرهيبة التي تلغي من حساباتها كل نواميس الحياة وعلى رأسها ناموس الزمان والمكان. فأضحى أسلوب الحياة الجديد كما يؤطره غيتس هو أسلوب حياة الشبكة Web life style وأسلوب عمل الشبكة . ولذلك جاءت هذه الرواية في العمق لا لترسخ الشكل المائع لهذا النمط المفترضة لأزمنة زئبقية منفلتة، بل لتعيد المصداقية للجوهر الإنساني الذي أضحى بدوره منفلتا لما يلاقيه من عنت التمييع والابتذال. ومن ثم كان على الرواية أن تفرز هذا الفرق الدقيق بين الهوى وشراك الهوى. بين نزوة الحب العابرة ومعاناة الحب الراسخة. بين ما يجرّ إليه أسلوب حياة الشبكة وما سطره ناموس العواطف الإنسانية الخالدة. وعليه، يبقى الحب جوهرا فردا تحرسه الأعراف ويبرزه الحرمان. وفيما زاد عن ذلك فهو الهوى، تيه يرحل في المكان وفي الزمان.  

                                كتبها: عبدالسلام ناس عبدالكريم

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة