بين الثلاثي، توفيق زياد (1929-ـ1994)، وسميح القاسم (1938-2014)، ومحمود درويش (1941-2008)؛ الذين نُسبت إليهم، وبالتالي تحوّلوا إلى مرجعية نصّية ودراسية لتعريف، الحركة الشعرية التي سيطلق عليها العالم العربي مسمّى «شعر المقاومة الفلسطينية» تارة، و«شعراء الأرض المحتلة» طوراً؛ كان القاسم هو الأغزر نتاجاً: بالكاد بلغ الثلاثين، حين كان قد أصدر ستة أعمال شعرية، أوّلها «مواكب الشمس»، 1958، المجموعة التي ستطلق سيرورة تأليف جارفة جاوزت السبعين عملاً، بين شعر ونثر ومسرح و«سرديات».
أيضاً، بدا القاسم، أو هكذا بدأ في الواقع، الأكثر حميّة لتحميل القصيدة تلك النبرة الإيديولوجية الصارخة، الخطابية والمباشرة، التي لا تكتفي بإشباع حسّ المقاومة ضدّ المؤسسة الصهيونية، وتثبيت الهوية الفلسطينية، وامتداح أرض فلسطين، واستنطاق رموزها التاريخية والثقافية، كما كان ديدن قصائد زيّاد ودرويش. كان القاسم، في المقابل، لا يجد حرجاً فنياً، ولا غضاضة بالطبع، في أن يكتب قصيدة/ طلب انتساب إلى الحزب الشيوعي، فيمتدح ماير فلنر و«شيوعيين لا أعرف أسماءهم من أسيوط واللاذقية وفولغوغراد ومرسيليا ونيويورك وإزمير، ومن جميع المدن والقرى وأكواخ الصفيح والعرائش .. المتشبثة بكوكبنا .. بكرتنا الأرضية».
وكان ـ من جهة ثانية، وعلى خطّ انحياز سار، في تلك الأيام، على النقيض العقائدي من التبشير الشيوعي. يقول إنّ عبد الناصر هو «مدرّس النضال/ في مؤتمرات السلم، عملاقاً/ وفي مكائد القتال»؛ أو يجزم، متفاخراً ومتكئاً على بلاغة حماسية عالية، ولعلها تبسيطية أيضاً: « مثلما تُغرس في الصحراء نخلة/ مثلما تطبع أمي في جبيني الجهم قبلة/ مثلما يُلقي أبي عنه العباءة/ ويهجّي لأخي درس القراءة/ مثلما تمسح وجه العامل المجهد نسمة/ مثلما يبسم في ودّ غريب لغريب/ مثلما يحمل تلميذ حقيبة/ مثلما تعرف صحراء خصوبة/ هكذا تنبض في قلبي العروبة».
وثمة رأي يذهب إلى أنّ انغماس زيّاد في العمل السياسي المباشر، الحزبي أوّلاً، ومن قلب الكنيست الإسرائيلي ثانياً؛ وخروج درويش إلى مصر، ثمّ بيروت، حيث اتخذت تجربته الشعرية وجهة تطوير وتعميق مختلفة؛ قد دفع القاسم إلى مزيد من التعلّق بخياراته الأسلوبية هذه، فانكمش فيها وعليها، وبالتالي راوحت السوية الفنية لقصائده في مواقع ساكنة، لصالح النبرة الإيديولوجية والخطابية والسياسية. وثمة رأي آخر، أحمله شخصياً، يساجل بأنّ تطوير القصيدة، في الموضوعات كما في الأشكال (وشعر التفعيلة تحديداً، وحصرياً، للتذكير المفيد) لم يكن هاجس القاسم الأوّل، ولا حتى الثالث أغلب الظنّ؛ مقابل هواجس الذهاب أبعد، ورفع الصوت أعلى، وتشديد النبرة، في منسوب قصيدة سياسية مباشرة، آنية أو لحظية، تعلّق على حدث أو واقعة، وتهجو رئيساً أمريكياً مرّة، أو ترثي شخصية وطنية مرّة أخرى.
وهكذا ظلّت قصيدة القاسم عالقة في إسار وظيفي محدد، صار أيضاً محدوداً في محطات شعرية عديدة، يخدم السياسة، قبل أن يفي فنّ الشعر حقوقه الدنيا؛ ويزجّ بالقاموس الشعري، الذي كان يمتح من معين تعبيري خصب تماماً في الواقع، أسوة بزيّاد ودرويش، في شبكة دلالية ضيّقة وشبه قسرية، تقودها المترادفات التقليدية التي لا تطلق المعنى بقدر ما تثبّت الكليشيه. على سبيل المثال، حين شاء مارسيل خليفة (الذي لا تنقصه الحمية الإيديولوجية، غنيّ عن القول!) اختيار قصيدة القاسم الشهيرة «أمشي»، اضطرّ إلى تعديل السطر الثالث فيها (حيث الأصل يقول: «في كفّي قصفة زيتون وحمامة»)، فحذف «وحمامة»؛ ليس لأنها تعيق الجملة الموسيقية، على الأرجح، بل لأنّ الترادف بين الزيتون والحمامة لم يكن متوافقاً تماماً مع انتصاب القامة وارتفاع الهامة وحمل النعش على الكتف.
يبقى أنّ القاسم يرحل وقد صاغ، ويخلّف وراءه اليوم، ظاهرة شعرية وتأليفية خاصة، متميزة ومنفردة؛ الآن إذْ يلوح أنّ مآلات المشهد الشعري العربي المعاصر قد حسمت، ومنذ عقود ربما، ذلك الالتباس الكبير الذي اكتنف إطلاق مسمّى «شعر المقاومة». وشخصياً، لا أتردد في وضع هذه السطور، من القاسم، في عداد أصفى، وأرفع، ما أعطت القصيدة العربية منذ خمسينيات القرن الماضي:
أعطني إزميلك المسكوب من صلب المرارة
لم أعد أقوى بأظفاري
على هذي الوجوه المستعارة
هرّأتْ عظم أصابيعي النتوء الهمجية
في الوجوه الحجرية.