تندرج دراسة الباحث أحمد المديني الموسومة بـ ''الكتابة السردية في الأدب المغربي الحديث- التكوين والرؤية'' (مكتبة المعارف، الرباط - 2000) ضمن أفق تحليلي يروم بناء معرفة دقيقة ومتعمقة بالمنجز الذي راكمه المبدعون المغاربة في مجال الإنتاج السردي في الفترة الزمنية الممتدة بين 1956-1980.
تكشف ملابسات السياق التاريخي والثقافي الذي اشتبكت معه أسئلة الكتاب وانبثقت عنه ظروف التأليف أن الباحث رمى من تخصيص أطروحته الجامعية لفحص خصائص ومميزات الظاهرة السردية في المغرب إلى دراسة الإنتاج القصصي والروائي المغربي بوصفه حقلا نصيا ذا امتياز بغية حصر إشكالاته الأساس واختبار الإوليات المتحكمة فيه (ص5).
يمكن إجمال إشكال البحث في محاولة تتبع واستقصاء حضور البعد الواقعي في المتن المدروس من أجل الاستدلال على هيمنة الرؤية الواقعية التي تحضر في نصوص السرد المغربي بصورة لافتة حيث يكشف النظر إلى نصوص السرد المغربي منذ فترات التشكل إلى مرحلة التبلور أن الواقعية مثلث نمطا مهيمنا إلى درجة تدفع إلى التساؤل عن نصيب التخييل داخل المنجز السردي المغربي. ويصبح هذا الإشكال أكثر إلحاحا عندما نستحضر خصوصية التشكيل النوعي في العمل السردي الذي يتحدد من الناحية الإجناسية باعتباره نوعا أدبيا منضويا ضمن ''التخييل'' مهما تجذر في الواقع ومهما أعلن انتسابه إليه.
يمكن تلمس العوامل المفسرة للهيمنة التي فرضتها الرؤية الواقعية على المتن السردي المغربي في ملابسات السياق الثقافي والاجتماعي الذي أحاط بتشكيل الظاهرة السردية في المغرب. لقد ارتبط جانب كبير من الإنتاج السردي في فترة الاستعمار بالإيديولوجيا النضالية التي تشبعت بها الحركة الوطنية. ولذلك وجد كثير من الكتاب في النمط الواقعي أداة نافعة مكنتهم من توصيل رسالة الخطاب الوطني. ومع بداية الاستقلال ستظهر الحاجة ماسة إلى التعبير عن الحقيقة الاجتماعية عبر التمثيل السردي باعتباره الوسيلة المثلى لوصف أحوال وأوضاع مجتمع تعتمل داخله جملة من التصورات السياسية والتوجهات الإيديولوجية المتعارضة.
لقد كان مفهوم الأدب، كما تبلور عند كتاب هذه الفترة، يقوم على تصور أساسه التزام الكاتب كليا بقضايا مجتمعه ووطنه " لقد عاش الكاتب المغربي وخرج نتاجه من أعطاف حركة اجتماعية وسياسية أرادت، باسم إيديولوجية وطنية ذات مكونات عقيدية وثقافية وسياسية، أن تخضع كتابته لتصور معين عن التغيير. وما كان المحيط السوسيوثقافي ليعترف للكاتب بوضع مستقل، وبالتالي بعالم ومتخيل خاصين به'' (ص64). وقد اقتضى هذا الوضع تسخير الكتابة السردية، التي شكلت القسم الأوفى من الإنتاج الأدبي في هذه الفترة، لخدمة قضايا سياسية وثقافية واجتماعية هدفت بالأساس إلى إقرار الديمقراطية ومناهضة الظلم الاجتماعي الذي عانت منه شريحة واسعة من المجتمع.
لقد شكلت هذه المعطيات إطارا ملائما لمناقشة النمط الواقعي الذي فرض هيمنته على الإنتاج السردي المغربي بسبب ارتباطه الوثيق والمباشر في كثير من المناحي، بالالتزام الاجتماعي، حيث توخى الكاتب من هذه المناقشة لوضع الخطاب النقدي وعلاقته بالإنتاج السردي المغربي أن يبرهن على فكرة مركزية مثلث عصب البحث وركنه الأساس. يتعلق الأمر بمحاولة رصد وتشخيص صعود تيار تجديدي ثقافي وأدبي في فترة الأربعينات موازيا لحركة يقظة وطنية عامة (ص5) مثل سياقا مناسبا لانتماء المنجز الأدبي والنقدي في تلك المرحلة إلى تصور يندرج ضمن إطار عام عرف بالأدب الواقعي الملتزم. وقد نجم عن هذا الوضع أن غدت مختلف أشكال الكتابة الأدبية وسيلة ملائمة لإنتاج قيم اجتماعية لا تنفصل عن الوعي الذي تستلزمه القضية الوطني. ولذلك طغى على الأنواع الأدبية في هذه الفترة البعد الوظيفي الذي فرض هيمنة واضحة للرؤية الواقعية التي مثلث أداة نافعة مكنت كتاب السرد في هذه المرحلة من توصيل المضمون الاجتماعي والسياسي وبث الوعي بخصوصية اللحظة التاريخية ومعالم الهوية الوطنية.
وبذلك يغدو الإنتاج الأدبي وما يوازيه من تنظير نقدي سبيلا للتفكير في القضايا التي يثيرها التأمل في نشأة الأنواع الأدبية ومحاولة تفسير الحاجة التي استدعت صعود أشكال بعينها حظيت باهتمام جماعة التلقي التي تعمل من خلال الاستجابة لما يقترحه النوع من جماليات على تكريسه وترسيخه لكونه يستجيب للذوق الأدبي السائد. فقد أشار جورج لوكاتش إلى أن نشأة الأنواع لا تنفصل عن السياقات الثقافية والتاريخية التي تتفاعل معها وتنبثق عنها، حيث فسر ظهور الرواية بأنها استجابة لحاجة البورجوازية الأوربية الصاعدة. إنها ملحمة البورجوازية مثلما ظهرت الملحمة في العصور القديمة استجابة لاهتمامات وحاجات قراء تلك الفترة. ومن هنا يمكن تفسير احتلال الكتابة السردية لمركز الإنتاج الأدبي المغربي في هذه الفترة بملاءمة هذا الشكل التعبيري لتوصيل المضمون الاجتماعي الموجه من قبل الرؤية الواقعية؛ فالسرد كما هو معروف يمثل الإطار المناسب لأدب الالتزام في حين يظل الشعر بسبب خصائصه النوعية وطبيعته التكوينية بعيدا عن النهوض بالفعل التحريضي على نحو مباشر.
لقد اختار الباحث من أجل تمحيص فرضيات البحث متنا سرديا تمثيليا يتكون من نصوص تنتسب إلى جنسين أدبيين هما القصة القصيرة والرواية متوخيا من ذلك استخلاص أهم المبادئ التي ميزت الكتابة السردية في المغرب وتحكمت في إنتاجها، حيث تكشف المعاينة الدقيقة لمتن الدراسة أن الباحث معني بمحاولة استخلاص خصائص الكتابة السردية في المغرب من خلال تتبع واستقصاء عنصرين مترابطين ومتلازمين أولهما مفهوم "التكوين" الذي يعتني ببحث شروط نشأة الأنواع الأدبية وظروف تشكلها. أما الثاني فيتعلق بمفهوم "الرؤية" الذي ينشغل بفحص العلاقة الصريحة أو الضمنية التي يمكن تصل بين المتون السردية من جهة وبين الواقع الاجتماعي والثقافي الذي تحاوره وتتجادل معه من جهة ثانية. ولذلك مثلت الدراسة مراوحة منهجية بين هذين المفهومين (التكوين والرؤية) من أجل الاستدلال على الفرض المنهجي الذي انطلق منه البحث ممثلا في هيمنة الرؤية الواقعية على الكتابة السردية المغربية قياسا إلى باقي التيارات والصيغ الأدبية الأخرى. إذ صرح الباحث أنه اعتمد في دراسة الظاهرة السردية منهجا يقوم على ''المقاربة المباشرة للنص السردي بتحليل ودرس نشأته وتركيبه الفني، والعناصر الدالة المعبرة عن المبتغى الواقعي فيه'' (ص83). ولا يعني التركيز على الجوانب الواقعية إهمال الأبعاد الجمالية في النصوص السردية المدروسة. فقد ذكر الباحث أن ''إبراز القيم الجمالية لهو في قلب مسالة الواقعية ونحن على وعي كامل بما يشكله طرح مماثل في تكون الرؤية الواقعية في مضمار الكتابة السردية'' (ص59) ولذلك اعتنى بإبراز المكونات التحديثية في السرد المغربي انطلاقا من وعي نقدي يؤمن بأن التركيز على الجانبين المضموني والدلالي ليس كافيا لوحده، لأن الظاهرة الأدبية تتوفر على عناصر أخرى تمنحها فرادتها التعبيرية وتعين لها هويتها الإبداعية. الأمر الذي يستوجب إخضاع الكتابة السردية في المغرب لتأمل نقدي يمكن من ''تشخيص هويته الحقيقية المتجاوزة لمجرد معاينة وجوده، في هذا الاتجاه يصبح الكلام عن الأدب المغربي الحديث بمثابة النظر إليه ككيان نصي ينتمي إلى فلك التحديث؛ أي إلى أفق جديد للكتابة مع كل ما ينطوي عليه هذا الوضع ويستلزم من قطائع وتخطيات بالقياس إلى قواعد ومفاهيم جاهزة مسبقا'' (ص55).
لقد تمكن الإنتاج السردي مع توالي التجارب والأجيال من بلورة وعي إبداعي أتاح له تجاوز الكتابة الأدبية المشروطة بالالتزام الاجتماعي إلى كتابة تطمح إلى استشراف آفاق الحداثة الأدبية. وبذلك بات الأفق الإبداعي لا ينحصر في الرؤية الواقعية أو الإطار المرجعي الذي يمثل ''خارج النص'' ولكنه أصبح يتجسد نصيا عبر جملة من العناصر والصيغ الأدبية مثل التقنية السردية والطرائق الأسلوبية والرؤية الإبداعية للكاتب.
تتبع الباحث تجليات الرؤية الواقعية في عدد من الأعمال السردية المغربية. وقد تجسد ذلك بشكل واضح في النصوص التي تلوذ بالوقائع التاريخية من أجل تشييد محتملها الإبداعي، حيث لجأ كثير من كتاب القصة في هذه الفترة إلى استدعاء المادة التاريخية وإعادة تكييفها بما يتلاءم مع شروط ومتطلبات الزمن الحاضر. وإذا كان هذا النمط من السرد حافلا بالإشارات التاريخية المؤطرة للمحكى، فالنظر الدقيق يكشف أن المتن التاريخي مسخر في هذه النصوص من أجل خدمة غايات محددة تمثلت في تمجيد قيم الماضي كما هي الحال في "وزير غرناطة" لعبد الهادي بوطالب، والتعبير عن قصص غرامية مشوقة ومن نماذجها ''الجاسوسة المقنعة'' و''غادة أصيلة'' لعبد العزيز بن عبد الله. وفي مجال الرواية تجسدت الرواية الواقعية في جملة من الأعمال المنضوية ضمن الميثاق السيرذاتي الذي اعتبره الباحث تيارا غالبا على الكتابة السردية المغربية لدرجة أمكن معها القول إن قسما كبيرا من الإنتاج الروائي المغربي لا يعدو أن يكون عند التحقيق تنويعا على الإيقاع الأوتوبيوغرافي. ومن النماذج التي توقف عندها الباحث من أجل الاستدلال على هذه الفكرة نصوص عبد المجيد بنجلون وعبد الكريم غلاب ومحمد الحبابي.
لقد أثارت دراسة المديني طائفة من الأسئلة النقدية التي يستدعيها الفحص المتأني للأفق الإبداعي الذي اجترحته الكتابة السردية في المغرب خاصة ما تعلق منها باستقصاء ظروف النشأة والتطور ومحاولة تفسير العوامل التي فرضت هيمنة الرؤية الواقعية على نصوص الفترة المدروسة.