نقد مفهوم الانزياح ـ إسماعيل شكري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse08044يمر نقدنا لمفهوم الانزياح عبر تبني الاستراتيجية التالية:
1 ـ اعتماد النظرية التفاعلية-التشييدية بمعناها العام، وتفسير الخطاب الأدبي انطلاقا من مفهوم "صيغة العنونة" (Addressing mode) في الذكاء الاصطناعي بشكل خاص.
2 ـ نقد تصورات البنيوية الشعرية التي تعزل الخطاب الأدبي عن مختلف الخطابات ضمن ما تدعوه الخصائص المميزة.
3 ـ دمج الخطاب الأدبي في إطار نظرية الخطاب وفق مبادئ البلاغة العامة.
4 ـ تشييد نموذج للجهة البلاغية (Rhetoric aspect) تتفاعل فيه مكونات معرفية ولغوية وبلاغية، ويمثل التشاكل فيه، مبادئ التأويل وإعادة التقدير البلاغية.
ومن ثم، نتحقق في هذا البحث من الفرضية القائلة بأن الوجه البلاغي في الخطاب ناتج عن كثافة بلاغية (Rhetoric intensity)، أي يتوفر على خصائص صوتية وتركيبية ودلالية بواسطة التوسيع مثل الأوجه البلاغية الخاصة بالإيقاع أو المجاز (القافية والاستعارة)، أو بواسطة القلب كما هو وارد في بعض الأوجه البلاغية التركيبية مثل التقديم والتأخير. وقد تكون القواعد التداولية مصدرا مباشرا للكثافة البلاغية كقاعدة الاستلزام الحواري التي تجعل من الاستفهام في بعض السياقات وجها بلاغيا. وبذلك، يمكن تجاوز مفاهيم من قبيل "الانزياح" (أو الخرق) و"الأدبية" باعتبار الكثافة البلاغية خاصية معرفية-دلالية ممكنة التحيين في كل خطاب، سواء أكان خطابا أدبيا أم تاريخيا أو سياسيا…
1 ـ الانزياح:(L’écart)

يعتبر مفهوم الانزياح إطارا نظريا أساسيا لمعرفة تصورات البنيوية الشعرية المتعلقة بالأوجه البلاغية. ذلك أن هذا المفهوم يحضر في أدبيات الشعرية الحديثة بشكل صريح وبؤري (جون كوهن)، أو بشكل مضمر وراء مفاهيم موازية مثل "الوظيفة الشعرية" (ياكبسون)، و"الشفافية" (تودروف). وقد كان الباعث على الاهتمام بمفهوم الانزياح البحث عن "خصائص مميزة" للغة الأدبية، مما كان له أثره البالغ على مسار البحث البلاغي الحديث، حيث كاد أن يتجه، في مجموعه، وجهة مغايرة لروح البلاغة القديمة، أي وجهة بلاغة خاصة، هي بالأساس بلاغة الشعر أو بالأحرى بلاغة النص الأدبي. بيد أن هذا المفهوم، قد اعترضته مشوشات نظرية وتطبيقية، من قبيل صعوبة بناء المعيار، وكيفية تقليص الانزياح وتأويله، ناهيك عن معضلة التوفيق بين وظيفته والوظيفة التواصلية. ومن ثم، حرصنا على استبعاده –بعد نقده- لأنه لا يلائم استراتيجيتنا في تشييد نموذج للجهة البلاغية، يقوم على أساس مفهوم تفاعلي مدمج لمكونات لغوية ومعرفية وبلاغية، هو مفهوم "العنونة". وإذا كانت مؤلفات جون كوهن (1966 و1970 و1979)، الممثل الأنسب لمفهوم الانزياح لدى المدرسة البنيوية الشعرية، فإننا سنركز على عرض أطروحاتها النظرية لنخلص، في الختام، إلى نقد المفهوم وإبراز قصوره النظري والإجرائي.
هكذا يرى كوهن، أن الشرط الأساسي والضروري لحدوث الشعرية هو حصول الانزياح، باعتباره خرقا للنظام اللغوي المعتاد، وممارسة استيطيقية. ولإبراز هذا التصور، عمد الباحث إلى التمييز بين زمنين اثنين. الأول تكون فيه عملية خرق النظام اللغوي مدمرة للمعنى، وفي الثاني يتم تقليص الانزياح من أجل إعادة المعقولية اللغوية. ومن ثم، فالأمر يتعلق "بمقابلة الشعر بالنثر الذي، بما أنه اللغة السائدة، يمكن أن نتخذه معيارا، وأن نعتبر الشعر بمثابة انزياح عنه"(1).
يترتب عن هذا، أن اللغة الشعرية تستثمر، بكثافة، العناصر الصوتية والدلالية للغة، الشيء الذي يسمح ببعض التمييزات مثل الشعر المنثور، والشعر الكامل، والنثر الكامل(2)…الخ.
ويطور كوهن منظوره للانزياح في إطار تصور منطقي-دلالي لنظرية الوجه البلاغي(3).
فالمماثلة –في نظره- ممكنة في البحث اللساني والبحث المنطقي، لأجل ربط علاقة جديدة بين غريماس وبلانشي، تؤشر على جعل المنطق شكلا للمحتوى، وجعل الدلالة محتوى للشكل. وبذلك، فإن مفهوم الانزياح ذاته يمتلك دلالة منطقية، إذ نحصل على ازدواجية الانزياح اللغوي والانزياح المنطقي، التي تمكن من بناء نموذج منطقي للأوجه البلاغية الشعرية(4). ومن ثم، فالأوجه الدلالية تخرق مبدأ عدم التناقض المنطقي الذي يمنع أن نربط القضية بنفي القضية: 1- ق. قَ.
إن التناقض الوارد في هذه الأوجه البلاغية، يتخذ شكل تقابلات تختلف من حيث درجة التقابل والتنافر. فهناك درجة تناقض قوية، وأخرى ضعيفة، أو محايدة. فعلى سبيل المثال، يشكل المحمول "صغير"، نفيا قويا للمحمول "كبير"، بينما "متوسط"، هي النفي الضعيف لهما معا.
وهكذا، يندرج الوجه البلاغي "المناقضة" (L’oxymore) في إطار الدرجة العالية للتناقض. ومثاله: 2 – L’obscure clarté
فعلاقة التضاد بين قطبي الجملة(2)، ناتجة عن درجة نفي قوية، إذ أن "الظلام" نفي "للنور"، والعكس صحيح. أما نفيهما الضعيف (لا نور/لا ظلام)، فتترتب عنه حالة وسطى، هي "باهت" التي يمكن أن ينبثق عنها وجه بلاغي آخر على شاكلة المثال(3): La lumière blafarde.
يترتب عن هذا الطرح، ثلاثة أنماط من العلاقات التي تمثل بنيات منطقية للأوجه البلاغية؛ علاقة التناقض القوي بين قطبين (أوي)، والعلاقة المحايدة ح، ثم العلاقة المركبة م الناتجة عن نفي العلاقة الثانية. وهذا ما يوضحه النموذج السداسي لبلونشي:
م
تناقض قوي
أ ي
تناقض ضعيف
لا ي لا أ
 
ح
الشكل(1): علاقة التناقض
ويرى كوهن، بأن العناصر القطبية-القصوى في هذا النموذج يمكن تجاوزها بواسطة عناصر أكثر تطرفا، مثل التقابل بين محرق/مثلج الذي يتجاوز التقابل: حار/بارد. وهذا ما يخول في بعض التعابير استعمال الوجه البلاغي "المبالغة" (Hyperbole).
فإذا كان العنصر الأقصى لا يلائم الذات التي يصفها، تحقق هذا الوجه البلاغي، كما هو بين في المثال(4) المأخوذ عن دومارسي: 4 – Il va plus vite que le vent.
ذلك أن المبالغة متوفرة، لأن سرعة الإنسان الطبيعية أقل بكثير من سرعة الريح، أو الإعصار، وبالتالي فإن "حركة الإنسان" بما تتضمنه من سرعة، غير ملائمة لسرعة الريح. ومن ثم نحصل على التمثيل التالي: 5 – س ß ص.ص +
حيث إن س: الذات-الإنسان، وص: سرعة الإنسان الطبيعية، وص+: السرعة العالية، أما السهم ß ، فهو مؤشر على الافتراض.
لا شك إذن، أن مفهوم الانزياح، في النظرية الشعرية عند كوهن (1966 و1970)، قد اتخذ صيغتين أساسيتين؛ الأولى صيغة الانزياح الخارجي، حيث حدد المعيار في النثر العلمي، والثانية صيغة الانزياح الدلالي-المنطقي. وهكذا، تعرضت الصيغة الأولى لمجموعة من الانتقادات من طرف بعض رواد الشعرية والأسلوبية أنفسهم. ذلك أن تودروف، مثلا، يرى عدم مصداقية تحديد الشعر عن طريق مقابلته النثر، لأنهما يملكان نصيبا مشتركا، هو الأدب. أما دانييل دولاس، فإنه ينتقد المفهوم قائلا: "كيفما كانت قيمة وعلم المشتغلين بهذا المنهج الذي يدعونه بنيوية في تحليل الأسلوب, فصدقونا, إنه ينطوي على بعض العيوب في مبدئه، ذاته. ذلك أنه يعوض غياب نمذجة علمية للأجناس والسجلات، بثنائية ترهن المطلوب، وتنعت خطأ بكونها بسيطة وإجرائية (نثر، شعر مثلا). وهذا ما يؤدي في آخر المطاف إلى التخلي عن المقاربة اللسانية، وإرجاع مهمة اقتراح أطر الدراسة إلى الأدب، وإلى تاريخ الأدب"(5).
ومن هنا، فمسألة البحث عن معيار، تمثل صعوبة في ذاتها خاصة إزاء المنحى البلاغي العام للبلاغة الغربية الذي يؤكد توفر اللغة العادية على الأوجه البلاغية. كما أن تزايد الاهتمام في الدراسات النقدية الحديثة بالمقاربات اللسانية، مؤشر قوي على افتقار مفهوم الانزياح للبعد الإجرائي، وعلى ضرورة وضع نظرية الأدب في إطار النظرية البلاغية العامة. وهذا ما ينسجم مع مباحث علم النفس المعرفي وعلم النفس اللساني التي ما فتئت تؤكد على البعد المعرفي للأوجه البلاغية، كالاستعارة والكناية والحكي(6).
وإذا كان كوهن (1970) قد نقل مفهوم الانزياح إلى الحيز الوصفي الدلالي-المنطقي، فإنه مع ذلك، لم يتخلص من منظور "الانزياح الخارجي"، حيث ظل يبحث عن التناقض في الأوجه البلاغية الشعرية، ويحدد، بالتالي، البنيات المنطقية للانزياح الشعري. وما يفسر هذا، اختياره لبعض الأوجه البلاغية السائدة، حسب قوله، في الشعر المعاصر. ومن هنا، لم يستبعد كوهن في تحليله المنطقي-الدلالي مبدأ الانزياح عن الاستعمال العادي، بدليل تأكيده على أن الانزياح المقصود انزياح لغوي ومنطقي. لكن المفارقة الواردة في هذا السياق أنه رجع إلى البلاغة الكلاسيكية العامة لاستعارة الأمثلة عن دومارسي وفونطانيي. ثم إن مظاهر القصور المنهجي لمفهوم الانزياح أنه لا يتجاوز المرحلة الوصفية إلى المرحلة التأويلية، حيث يمكن رفع التناقض وتأويله. كما أن المفهوم في صيغته الدلالية-المنطقية عند كوهن، يفتقر إلى الشمولية، إذ لا يشمل الأوجه البلاغية الصوتية، ولا يستثمر آليات التشاكل إلا في حدود ضيقة، ناهيك عن اعتبارنا هذا التناقض الظاهري "لا تشاكلا" (Allotopie ) منتجا للتشاكل. إضافة إلى ما سبق، نجد من بين المؤشرات التي تضع أطروحة الشعرية في الانزياح موضع الشك، كون نظرية التوازي عند ياكبسون ظلت تعاني من معضلة أساسية، هي: كيف نميز بين التوازي الشعري والتوازي غير الشعري'
ثم إن محاولة لوتمان (1970) إدماج الشعرية في سيميائيات الفن مؤشر قوي على المأزق النظري للمدارس البنيوية الشعرية التي لم تستطع، بالرغم من تبنيها مفهوم الانزياح، التخلي عن مفهوم الوظيفة التواصلية للشعر. ومن هنا، أعتقد بأن تنظيرات ياكبسون لم تقرأ جيدا من طرف الشعريين أنفسهم. ذلك أنه أكد منذ سنة 1963 على القول التالي: "كل محاولة لحصر مجال الوظيفة الشعرية في الشعر أو قصر الشعر على الوظيفة الشعرية لن يصل إلا إلى تبسيط مجحف وخادع"(7). وبذلك جاءت أطروحاته منسجمة واعتباره الشعرية جزءا لا ينفصل عن اللسانيات. مثال ذلك، بحثه المتميز في البناء الصوتي للغة(1980).
وقد كان لاعتماد مفهوم الانزياح من لدن بعض الباحثين العرب، (محمد العمري 1990)، خاصة في قراءتهم للتراث البلاغي العربي، نتائج من الصعب التسليم بها مثل اعتبار القرآن الكريم معيارا للانزياحات الصوتية في الشعر، والمماثلة بين المدارس الشعرية الحديثة والبلاغة العربية القديمة.
بيد أن نقد الانزياح، بالنسبة لنا لا يقف عند هذه الحدود الكاشفة عن قصوره النظري، بل نقدم تفسيرا وتأويلا تفاعليين للوجه البلاغي، ينطلقان من اعتباره ظاهرة معرفية-دلالية. ووسيلتنا إلى ذلك، مفهوما "العنونة" و"التشاكل".
2 ـ من الانزياح إلى الكثافة البلاغية (Rhetoric intensity)
نعتبر الوجه البلاغي "كثافة بلاغية" ناتجة عن تفاعل ثلاثة أنماط من "صيغة العنونة" (Addressing mode) التي يقصد بها في الذكاء الاصطناعي طريقة خزن المعطيات في "الذاكرة المركزية"(M.Centrale) واسترجاعها منها. وهكذا، للكثافة البلاغية ثلاثة أوضاع:
أ ـ العنونة غير المباشرة (Indirect addressing):
وتمثل الأساس الفلسفي-المعرفي للكثافة البلاغية، الذي يحوي مدخرات الإنسان المقولية والثقافية والأنثروبولوجية باعتبارها حصيلة تفاعله مع العالم الخارجي… ذلك أن آلية الإطناب (Redondance)، مثلا، قبل أن تترجم إلى اللغة، أي الأساس اللغوي (أو العنونة النسبية)، لها عنوان في العالم الحسي-التجريبي للإنسان. ذلك أن جورهان (1965)(8) يؤكد بأن الفعل الإنساني أقل إبداعا للآلة وأكثر إبداعا للزمان والفضاء الإنسانيين الشيء الذي يفسر ملاءمة المنازل الأولى الإنسانية للتقديمات الأولى الإيقاعية، إذ يمثل هذا التدجين الرمزي-التخييلي انتقالا من الإيقاعية الطبيعية للفصول والأيام ومسافات المشي إلى إيقاعية مشروطة منظمة داخل الرموز الميقاتية والمترية. ومن ثم، فالزمن الدائري باعتباره خطا منغلقا على نفسه يحيل على تصورات العود الأبدي الموجودة منذ أقدم الحضارات الشرقية أو اليونانية. كما أن الاستعارات دفعت بالإنسان منذ البدء إلى مقارنة حياته (ولادة، كهولة، شيخوخة) بالدائرة الشمسية اليومية (فجور، ظهيرة، مساء…الخ) أو بالدائرة السنوية للفصول.
ولعل التفسير المعرفي-الدلالي لهذا الوعي الثقافي في العنونة غير المباشرة المتعلقة بالأوجه البلاغية، نجده في مفهومي المقولة والتأطير (Categorization and Schematization) لدى المدافعين عن المعرفة التجربانية، (أمثل لاكوف 87 و88)، الذين ينظرون إلى المعنى باعتباره إسقاطا تخييليا يستخدم إواليات مجردة(9). ومن ثم، تعتبر تلك البنيات التخييلية أطرا يكمن فيها أساسا واقعنا الثقافي الخاص، وهو ما تؤكده الأنثربولوجيا المعرفية المعاصرة.
ب ـ العنونة النسبية (Relative addressing)
تمثل العنونة النسبية طريقة يقسم العنوان فيها إلى قسمين: القاعدة والانتقال. فيرتبط الانتقال مباشرة بالتعليمة، وتشكل القاعدة "المرجع الأساس" الذي يجب العودة إليه في كل مرة. وبذلك، فهذا النمط من العنونة لا يقصد المنطقة الموجودة في الذاكرة بقدر ما يضعها بموازاة مع عنوان المرجع، إذ يضاف "العنوان النسبي" (الانتقال) إلى "عنوان الأساس" (أي عنوان المرجع) لتحديد موضع الخزن أو الادخار.
وهكذا، تمثل العنونة النسبية، الأساس اللغوي للكثافة البلاغية، حيث نجد القاعدة ذات بعد لغوي للوجه البلاغي، بينما يعتبر الانتقال توسيعا، أي بعدا بلاغيا لهذا الوجه. وبذلك، فالعلاقة بين القاعدة والانتقال علاقة إضافة في النموذج البلاغي. ونمثل لهذه العنونة، بالانتقال من مفهوم "الجهة النحوية" إلى مفهوم "الجهة البلاغية" الذي اجتهدنا لصياغته ضمن نموذج بلاغي تفاعلي. غير أن القاعدة اللغوية ترتبط بدورها بمرجع أساس مناسب لها، يشكل بالنسبة للرتبة اللغوية، مثلا الرتبة الرياضية، بينما يشكل التقديم والتأخير البلاغيين الانتقال أو التوسيع في الكثافة البلاغية. ونلاحظ أن البعد الرياضي يربط البعد اللغوي بالأساس الفلسفي المعرفي في العنونة غير المباشرة. وهذا ما يؤكده الفاسي الفهري(1988)، إذ يرى بأنه لا يوجد مانع من تصور اللغة موضوعا رياضيا، "إذ قد نعتبر أن الدراسة اللسانية جزء من الرياضيات، وهذا هو موقف مونطكيو بالفعل"(10).
ج ـ العنونة المباشرة (Direct addressing )
يقترن العنوان في العنونة المباشرة مباشرة بالوضع المادي لكل خلية من خلايا الذاكرة، أي أن هذه الصيغة يتم فيها تحديد عنوان موقع الخزن الذي يحتوي على المعطيات التابعة لتعليمة معينة. وتحديد العنوان في هذه الحالة، يكون في التعليمة ذاتها.
وهكذا يمثل هذا النمط الأساس البلاغي للكثافة البلاغية بحيث يخول المطابقة بين إشكالات المباحث البلاغية والأوجه البلاغية. فالأساس البلاغي لمقولات مثل التكرار والإطناب… يطابق مباشرة الأوجه البلاغية الإيقاعية (القافية، التشاكل الصوتي..الخ).
وبناء على ما سبق، نعتبر الكثافة البلاغية حصيلة تفاعل الأسس الثلاثة؛ الأساس الفلسفي-المعرفي والأساس اللغوي والأساس البلاغي، وهي ممكنة التحيين في كل خطاب شرط توفر مقصدية الإنتاج لدى منتج هذا الخطاب. غير أننا نفترض بالنسبة لنمطية ورود الكثافة البلاغية في الخطاب الأدبي، حدوث ما نسميه "درجة الكثافة العالية" أي الدرجة القصوى للتشاكل مع توفر مقصدية إنتاج النص الأدبي بطبيعة الحال(11). وإذا كانت الكثافة البلاغية تعتمد مجموعة من القيود، مثل قيد التوسيع و"التعدد المعنوي" (Polysémie) فإن القيد الأساس للأوجه البلاغية، هو قيد "اللاتشاكل" (Allotopie) المنتج للتشاكل كما هو وارد في "المناقضة" (L’oxymore) أو الاستعارة. ولذلك، فإن ما تدعوه الشعرية البنيوية "انزياحا" ما هو إلا تحيين للاتشاكل المنتج للتشاكل حفاظا على انسجام الرسالة بواسطة إعادة التقدير أو التأويل. ومن ثم، يحصل التشاكل المزدوج أو المتعدد. وهذا ما نبرزه من خلال تحليل بعض المعطيات.
3 ـ التشاكل المتعدد: مواطئ الجهة البلاغية:
إن تعدد التشاكل ناتج عن تشاكلين أو أكثر، ويؤشر على توفر الوحدات الدلالية (Sémèmes) على مقومات ضمن إطار عدة ميادين أو عدة أبعاد. ولا يعني تعدد التشاكل غموض الرسالة أو فقدانها لخاصية الانسجام، إذ ترتبط هذه التشاكلات المتعددة بعلاقة انفصال (تناقض أو تنافر…). وهي العلاقة التي نعتها كوهن "بالانزياح الدلالي"، أو بعلاقة اتصال أو بعلاقة تضمن… فإذا كانت المقومات المحققة للتشاكل أو المتكررة مرتبطة بعلاقة الانفصال، فإنها تكون التشاكل المتعدد بالمعنى الدقيق للكلمة(12). أما إذا كانت مرتبطة بعلاقة اتصال أو تضمن فإنها تكون مجموعة تشاكلات أو شبكة من التشاكلات. وفي كل الحالات، فإن النواة الأساس هي "اللاتشاكل" (L’allotopie) التي ينطلق منها المؤول ضمن استراتيجية لإعادة تقدير الوحدات الدلالية، أي ضمن منظور بناء التشاكل بواسطة التصحيح. ومن هنا، نقترح التمييز بين جهات التشاكل المتعدد التالية:
3-1-الجهة المتراكبة (Superposed):
وهي التي تؤشر على "زمن التراكب" بين التشاكلات المحتلة لنفس الوضع والمبنية بواسطة التعدد المعنوي. وبذلك نميز بين نمطين اثنين:
أ ـ الجهة المتراكبة الأحادية: ونقصد بها الجهة التي تبني تشاكلاتها بواسطة التصحيح الأحادي الاتجاه (رجعي أو تقدمي)، كما هو الحال في الوجه البلاغي "المناقضة" (L’oxymore) الذي يخضع كذلك لقيد انتقاء الموضوع لمقومات المحمول، ومثاله الجملة(6):
ـ (6) نهاري ليل.
حسب كوهن، فإن البنية العميقة لهذه الجملة هي علاقة "التناقض القوي"، إذ أن نفي النهار نتج عنه الليل. لكن، وفق منظورنا، الجملة(6) حاملة لتناقض ظاهري هو "اللاتشاكل" بين وحدتين دلاليتين تنتمي كل واحدة منها، على الأقل، إلى استبدال أدنى مخالف للآخر، أي لكل وحدة دلالية حقل معجمي (taxème)، يتوفر على مقومات خاصة (Sèmes spécifiques)، مثل [+نور] بالنسبة للوحدة الدلالية "نهار"، و[+ظلام ] بالنسبة للوحدة الدلالية "ليل" مع وجود مقوم عام (Sème générique) مشترك بينهما [+زمان ]. بيد أن إعادة التقدير لبناء التشاكل تخضع لقيد انتقاء الموضوع لمقومات المحمول ما دامت العلاقة بين الوحدتين الدلاليتين هي علاقة "التناقض"، وبالتالي فإن التصحيح يكون أحادي الاتجاه، بحيث نعيد تأويل "نهار" (الموضوع) بانتقاء مقومات "ليل" (المحمول) ولا يجوز العكس. ومن ثم، فالتأويل هنا رجعي (Rétrospective)؛ أي ننطلق من الوحدة الثانية في اتجاه الأولى: إن ضمير المتكلم اللصيق بـ"نهار" مؤشر على الذاتية في الجملة(6)، مما يقود التأويل إلى اختيار سياقات ذاتية مختلفة كما يلي:
6-1-سياق السجن: الانتقاء من المقوم الجوهري إلى م.العرضي.
ـ أ' ـ |"زنزانتي"| ـ ب' ـ |"مظلمة"|
 
ـ أ ـ "نهاري" ـ ب ـ "ليل"
حيث إن أَ وبَ وحدتان غير ممعجمتين، وحيث إن أَ تنتقي المقوم [+ظلام ] باعتباره مقوما عرضيا-إيحائيا فيها، ومقوما جوهريا في الوحدة الدلالية بَ.
6-2-سياق الأعمى: الانتقاء من المقوم الجوهري إلى م.الجوهري.
ـ أ' ـ |"حياتي"| ـ ب' ـ |"مظلمة"|
 
ـ أ ـ "نهاري" ـ ب ـ "لـــيـــــل"
حيث إن أَ وبَ وحدتان غير ممعجمتين، وحيث إن أَ تنتقي المقوم [+ظلام ] باعتباره مقوما جوهريا في حياة الأعمى وجوهريا كذلك في بَ.
6-3-سياق الحزن: الانتقاء من المقوم العرضي إلى م.العرضي.
ـ أ' ـ |"حياتي"| ـ ب' ـ |"مظلمة"|
 
ـ أ ـ "نهاري" ـ ب ـ "لــيــــل"
حيث إن أَ بَ وحدتان غير ممعجمتين، وحيث إن أَ تنتقي المقوم [+كآبة] باعتباره عرضيا فيها وفي ب′ كذلك. وبذلك شيد تأويلنا الرجعي انطلاقا من اللاتشاكل بين "ليل" و"نهار" تشاكلات متعددة في الجهة المتراكبة التي تأخذ الشكل(2).
أ' ب'
 
زمن التراكب
 
أ ب
الشكل (2): الجهة المتراكبة
بيد أن الجهة المتراكبة ليست دائما أحادية الاتجاه التأويلي، إذ قد تتعدد اتجاهات التصحيح للملفوظ الواحد بين التأويل الرجعي والتأويل التقدمي. وهذا حال –ب- الجهة المتراكبة والمزدوجة المستخلصة من الجملة (7) المشهورة في أدبيات كريماص:
(7) ـ كلب الضابط ينبح.
ذلك أن اختيار سياق الإنسان لبناء التشاكل يؤدي إلى تصحيح الوحدة الدلالية "كلب" (تصحيح رجعي) ثم إلى تصحيح الوحدة "ينبح" (تصحيح تقدمي) ونقطة الانطلاق في التصحيحين هي الوحدة الدلالية "الضابط":
(8) ـ أَ ـ |"مساعد"| بَ ـ "الضابط" جَ ـ |"يصرخ"|
تصحيح مزدوج
أ ـ "كلب" ب ـ "الضابط" ج ـ "ينبــح"
لكن يمكن أن نعتبر هذا التأويل إثباتا لمقوم عرضي إيحائي في كل هذه الوحدات الدلالية وهو [+ سخرية].
وننتقل إلى تحليل معطيات من الخطاب الشعري حيث يتعدد التشاكل ضمن نمطين آخرين من أنماط الجهة البلاغية وهما: -الجهة الخطية (Linear aspect)- والجهة المتشابكة (Interlaced aspect). يقول أبو القاسم الشابي في قصيدة بعنوان أيها الليل (ديوان أبي القاسم الشابي 1988، ص137):
(9) ـ أيها الليل, يا أبا البؤس والهو ل، أيا هيكل الحياة الرهيب!
فيك تجثو عرائس الأمـل العذ ب تصلي بصوتها المحبــوب
في هذين البيتين يمكن بناء جهة خطية متعددة التشاكل، تحافظ فيها الوحدات الدلالية المشكلة لكل تشاكل، على التتابع الزمني وذلك كما يلي:
*التشاكل 1: متوالية البيت الأول:
ومقوم هذا التشاكل: [+ خوف ] الذي تؤشر عليه الوحدات الدلالية المتتالية:
(10) ـ "الليل" + "البؤس" + "الهول" + "الرهيب"
فقد أسقطنا هذا المقوم على الوحدة "البؤس" لتراكمه في الوحدتين المتتاليتين، ونظرا لعلاقة الاستدعاء بين "البؤس" و"الهول" و|"الخوف"|. ثم إن نواة هذا التشاكل الأول، اللاتشاكل في العبارة-11- "الليل أو الهول". ذلك أن التعارض وارد بين مقوم "الليل" [+ زمان ] ومقوم "الأب" [+ إنسان ]، لكن العلاقة وطيدة بينهما إذ كلاهما |"منتج"| و|"مؤثر"|، ومن ثم يمكن رفع التعارض بتصحيح الوحدة الدلالية "أبو" (تصحيح تقدمي) كما هو واضح في البنية (12):
12 ـ أ'ـ "الليل" ب' ـ |"باعث على"| ج' ـ |"الخوف"|
أ ـ "الليل" ب ـ "أبــــــو" ج ـ "الهــول"
*التشاكل 2: متوالية البيت الثاني:
المقوم العام لهذا التشاكل هو [+ فرح ] الذي تؤشر عليه الوحدات الدلالية المتتالية:
13 ـ "عرائس" + "الأمل" + "العذب" + "المحبوب"…، وانطلاقا في صياغته من اللاتشاكل في العبارة.
14 ـ عرائس الأمل العذب…
فالتصحيح ممكن على الشكل الآتي:
15 ـ أ' ـ |"بشائر"| ب' ـ "الأمل" ج' ـ |"المفرحة"|…
أ ـ "عرائس" ب ـ "الأمل" ج ـ "العذب"…
ويمكن تمثيل الجهة الخطية المتضمنة للتشاكلين المتتاليين في علاقات للتقابل يبرزها الشكل(3).
أ' ب' ج' د'
 
أ ب د
ج
الشكل(3): الجهة الخطية
نلاحظ أن وحدات التشاكل (2) تحتل أوضاعها حيث تنتهي سيرورة وحدات التشاكل(1). ومن ثم، فالتقابل وارد بين وحدات التشاكلين، بحيث تقابل الوحدة الدلالية أ: "الليل" الوحدة الدلالية أَ : "عرائس".. وهما معا وحدتان ممعجمتان. لكن قد نجد بعض الوحدات غير الممعجمة تربط نفس علاقة التقابل بوحدات مثلها أو بوحدات ممعجمة. فمثلا يمكن أن نقابل الوحدة ج "الهول" في التشاكل الأول بوحدة دلالية غير ممعجمة هي جَ : |"المفرحة"| انطلاقا من الوحدة الدلالية "عرائس" أو "العذب" الممعجمة في التشاكل الثاني فنحصل على جهة متراكبة ضمن الجهة الخطية من قبيل العلاقة ج ج':
ج'
ج
وهذا يؤكد أن الجهة المتراكبة جهة نووية في كل الجهات انطلاقا من إعادة تصحيح وحدات التشاكل الواحد، وانطلاقا من إعادة تصحيح العلاقة بين وحدات التشاكلات المتتالية أو المتشاكلة. ولتظهير ذلك نحلل بيتين شعريين يمثلان بناء الجهة المتشابكة التي تنظم تشاكلين أو أكثر لا تتموضع فيها الوحدات الدلالية المكونة لكل تشاكل بواسطة التتابع، وإنما نجد ثغرات زمنية (temporal gapes) تقطع توالي الوحدات الممثلة للتشاكل الواحد، مما يجعل هذه الجهة جهة الزمن الفوضوي (chaotic tense). يقول أبو القاسم الشابي في قصيدة "أيها الحب" (ص54 – الديوان):
16 ـ يا سلاف الفؤاد يا سم نفسي في حياتي يا شدتي يا رخائي
ألهيب يثور في روضة النفـس فيطغى أم أنت نور السمــــاء'
إن وحدات التشاكل الأول موزعة بين متوالية البيت الأول ومتوالية البيت الشعري الثاني بدون أي توال زمني. فالمقوم العام في التشاكل الأول هو [+ رخاء] الذي تؤشر عليه الوحدات الدلالية: "سلاف"، "رخائي"، "روضة"، "نور السماء"… أما المقوم العام في التشاكل الثاني فهو [+ شدة] الذي تؤشر عليه الوحدات الدلالية: "سم"، "شدتي"، "لهيب"، "يثور"، "يطغى"… ولكل تشاكل نواته أو نموذجه الأمثل (Prototype)؛ بالنسبة لتشاكل الرخاء نواته العبارة(17):
17 ـ يا سلاف الفؤاد!…
وبالنسبة لتشاكل الشدة فإن نواته العبارة (18):
18 ـ يا سم نفسي!
ومن ثم، يمكن تصحيح اللاتشاكل الوارد في العبارتين تصحيحا تقدميا بتعميم مقومات الوحدة الدلالية "سلاف" على التشاكل الأول، فنحصل على العبارة(19): يا متعة الحياة!. وبتعميم مقومات الوحدة الدلالية "سم" على التشاكل الثاني فنحصل على العبارة(20) يا عذاب الحياة!
وهكذا ينتمي هذا التصحيح إلى الجهة المتراكبة التي تظل مضمرة في العلاقة المتشابكة بين التشاكلين كما هو واضح في الشكل(4):
أ' ب' ج' د'
 
أ ب ج د
الشكل (4): الجهة المتشابكة
حيث إن أ في التشاكل 1، هي الوحدة الدلالية "سلاف" المقابلة للوحدة أَ: "سم" في التشاكل الثاني. غير أن بَ "شدتي" الممعجمة تقابل الوحدة ب غير الممعجمة في التشاكل الأول، وهي |"متعتي"| بناء على العلاقة التراكبية بينها وبين الوحدة "رخائي". وحيث إن الوحدة الدلالية ج: "روضة" تقابل الوحدة غير الممعجمة جَ في التشاكل الثاني، وهي "خراب" بناء على العلاقة التراكبية بينهما وبين الوحدة "لهيب". ثم إن الوحدة د: |"الرحمة"| المتراكبة عن الوحدة "نور السماء" تقابل وحدة غير ممعجمة مثلها وهي دَ : |"القساوة"| بناء على علاقتها المتراكبة مع الوحدتين: "يثور" و"يطغى".
والملاحظ أن علاقة التراكب، إما أن تكون علاقة تماثل، مثل العلاقة بين |"متعتي"| و"رخائي" أو أن تمثل التقابل مثل العلاقة بين "روضة" و|"خراب"|. كما نلاحظ أن البياضات الفاصلة بين الوحدات الدلالية تؤشر على الثغرات الزمنية التي قد تطول أو تقصر.
قدمنا، إذن، نقدا نظريا وآخر تطبيقيا لمفهوم الانزياح، بالنظر إلى مفهومين أساسيين: العنونة والتشاكل، حيث يقود الأول إلى الكثافة البلاغية باعتبارها ليست خاصية مميزة لخطاب دون آخر، وحيث يقود الثاني إلى إعادة تقدير اللاتشاكلات. ومن ثم، يمكن إدراج النص الأدبي ضمن نظرية عامة للخطاب تأخذ بعين الاعتبار حضور الكثافة البلاغية في هذا النص انطلاقا من درجة التشاكل العاليةn
 

هوامش
 (1) Cohen (Jean) 1966, Structure du langage poétique, Ed. Flammarion, Paris, p13.
(2)  المرجع نفسه، ص10.
(3) Cohen (Jean) 1970, « Théorie de la figure », in Communications, n°16.
(4)  المرجع نفسه، ص4.
(5)  دانييل دولاس في مقدمة كتاب:
Riffaterre (Michael) 1971, Essais de stylistique structurale, Flammarion, Paris, pp11-12.
(6) راجع على سبيل المثال:
  -Gibbs Jr (Raymond. W) 1994, The poetics of mind, Cambridge University press.
  -Lakoff G., 1987, Women, Fire, and dangerous things, University of chicago press, Chicago.
(7) Jakobson R., 1963, Essais de linguistique générale, Traduit par Nicolas Ruwel, Minuit, p218.
(8)  Voir Groupe µ (1977), Rhétorique de la poésie, Ed. Complexe, pp125-128.
(9)  Lakoff G., 1988, « Cognitive semantics », in meaning and mental representations, U.Eco, M.Santambrogio and P.Violi (eds), Indiana University Press, p121.
(10)  د.الفهري الفاسي، "ملاحظات حول الكتابة اللسانية" في اللسانيات واللسانيات العربية، عيون، ص9، 1988.
(11) راجع مفهوم المقصدية في ابحاث د.محمد مفتاح (1985 و1990)، وفي بحثنا: شكري إسماعيل 1998، "تعيين التغير وتعيين المقصدية (مدخل إلى تحليل معرفي للسيناريوهات الممكنة)" في مجلة دراسات مغاربية عدد 7 مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات والعلوم الإنسانية، البيضاء.
(12)  Rastier F., 1987, Sémantique interprétative, PUF, Paris, p115.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة