يريد هذا العنوان أن يجعل من التشابه بين تجربة عساف بطل رواية النهايات لعبد الرحمن منيف وتجربة كل من سقراط والمسيح ، مدخلا لقراءة هذه الرواية. ورغم أنه يضع على قدم المساواة ثلاث شخصيات قادمة من عوالم مختلفة (الرواية، الفلسفة والدين)، فإنه يستند إلى مجموعة من القواسم المشتركة بينها(2). لقد خاضت هذه الشخصيات صراعا مع مجتمعاتها من أجل تكريس قيم جديدة على أنقاض قيم تقادمت وأضحت عائقا أمام التطور، لكنها اصطدمت بعقلية تحجرت واستكانت للمألوف. وقد انتهت تجاربهم جميعا بالموت على يد الجماعة نفسها التي ضحوا من أجلها. وإذا كان النجاح قد تحقق لدعوة كل من سقراط والمسيح سنوات بعد موتهما، فإن نجاح دعوة عساف بعد موته كان محدودا كما سنرى.
إننا أمام شخصيات عاشت حياة بسيطة أقرب إلى الفقر، لكنها دعت إلى قيم سامية جديدة، وناضلت عمليا من أجلها، وماتت ظلما في سبيلها ميتة بطولية بوأتها بعد موتها مكانة عظيمة.
لقد رفض سقراط ضلال أهل أثينا، واستسلامهم لمعتقدات شائعة متوارثة يسلمون بها دون نقد أو تفكير. ودعاهم في المقابل إلى استخدام العقل وتمحيص الأفكار قبل اعتناقها. وكان مصيره أن اتهم بتضليل الشباب والإساءة للآلهة.... وحكم عليه بالإعدام. ورغم أن تلامذته هيأوا له فرصة الهروب، فقد قبل حكم المدينة بكبرياء، وظل مخلصا للقوانين. وقد خلد أفلاطون دعوته حين أسس الأكاديمية التي أعطت المصداقية لموقف أستاذه، وأعلت من شأن العقل في الفكر الفلسفي عامة منذ ذلك التاريخ.
وكذلك شأن المسيح الذي جاء إلى بني إسرائيل بدعوة تخالف ما كانوا يتوقعون. لقد كانوا ينتظرون نبيا قويا مثل داوود يدافع عن "شعب الله المختار"، ويعيد إليه مجده، ويخلصه من بطش الرومان، فإذا بهم أمام نبي متواضع، يخاطب اليهود وغير اليهود، ويدعو إلى السلم والمساواة... وقد اعتقل وحكم عليه بالإعدام. إلا أن دعوته قد انتشرت في ربوع الإمبراطورية التي حكمت عليه، بل أصبحت المسيحية ديانة رسمية لهذه الإمبراطورية.
وعاش عساف مع أهل قريته تجربة مماثلة إذ تمرد على سلبيتهم وامتثالهم الأعمى للأعراف، ورفض رضوخهم لإرادة الضيوف الذين جاؤوا لممارسة صيد عشوائي لم يعد مقبولا في ظل قحط استثنائي وتحول بيئي ينذر بالفناء. لكن أهل الطيبة لم يستجيبوا لصوت العقل الذي يمثله عساف. واحتراما لإرادة الجماعة ، وافق عساف على مرافقة الضيوف في رحلة الصيد، إلا أنه قضى في هذه الرحلة نتيجة اندفاع الضيوف وسلبية أهل الطيبة. ولم يدرك أهل الطيبة صواب رأي عساف إلا بعد موته. لكن الرواية انتهت دون أن يتحول هذا الإدراك إلى فعل.
وقد قدمت حكاية عساف مع جماعته من خلال عالم روائي تشكلت عناصره كالتالي:
I – الحكاية(3) :
1 – القحط "لا يترك بيتا دون أن يدخله"
تستهل رواية "النهايات" بخمسة فصول خصصت كلها للطيبة وأهلها تحت ظل القحط. ويكاد القحط أن يكون الفاعل الرئيسي في هذه الفصول. إنه يقدم كحدث له سطوة مطلقة على ما عداه، ويشمل بتأثيره الإنسان والحيوان والجماد.
يؤثر القحط على جميع الناس، إذ "لا يترك بيتا دون أن يدخله" (ص 7)، يؤثر على الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، يؤثر في النفوس فتصبح مستعدة للغضب، وفي سلوك الناس وعلاقاتهم الاجتماعية . فالأزواج "لا يترددون في أن يصرخوا ويضربوا لأتفه الأسباب" ( ص12)، والذين تعودوا على المرح "يصبحون أكثر الناس شتيمة" (ص13). وتتحول هذه النفوس أيضا إلى فريسة لليأس وللمخاوف والأحزان التي تغدو "شبحا مرعبا تظهر آثاره في وجوه الصغار ، وفي سهوم الرجال...وفي دموع النسوة التي تتساقط دون أسباب واضحة" (ص 8).
ويؤثر القحط على الأجسام وعلى الحالة الصحية إلى حد الموت: " ومع القحط تأتي الأمراض الغامضة وتعقبها الوفيات" (ص10). ولا يهدد القحط الحياة بصورة مباشرة فقط، بل يعوق أسباب الحياة واستمرارية النوع إذ يحول دون إقامة الزيجات والأعراس (ص12).
كذلك يؤثر القحط على النشاط الاقتصادي، فتتغير علاقة أهل القرية بالمدينة، وبدل أن يحملوا إلى المدينة بعض منتوجاتهم ويبالغون في سعرها كما كانوا يفعلون، فإنهم يصبحون في حالة ذل وتوسل وضعف، لا يبيعون شيئا، ويحاولون أن يشتروا بنقودهم القليلة أكثر ما يمكن من مواد غذائية. بل إنهم يصبحون عرضة لابتزاز التجار الذين يساومونهم على أراضيهم مقابل القرض (ص 8-9).
ولا يقتصر أثر القحط على الإنسان فقط، بل يمتد إلى الحيوانات التي تصبح "شديدة الجفلة ، كثيرة الحركة... ثم تتحول إلى الشراسة والعناد، فتبدو هائجة، ويمكن أن تتصرف بجموح يصل حد الأذى" (ص28). وكما يوحد القحط الإنسان والحيوان في رد الفعل المشترك ( الانفعال والعنف)، كذلك يشركهما في نفس المصير: الهزال والمرض ثم الموت ( ص 9، 28).
وللقحط أثر على النبات والجماد أيضا حيث تتشقق الأرض، يندر الماء: "فحين يبدأ النبع يتراخى، والساقية تضمر، ثم تجف، يصبح المجرى مثل حية ماتت لتوها...وفي هذه الأوقات تبدأ الأشجار بالذبول...تبدأ عواصف الرمال، وتتكاثر أفواج الذباب والغربان" (ص 27)
هذه حال القحط كلما حل بالطيبة. ولكنه يشكل هذه السنة استثناء، وينذر بعواقب أوخم. فهل تهيأ له أهل الطبية ، أم استراحوا لرد فعلهم المألوف؟
2 – أهل الطيبة "الصبر والانتظار"
يمثل أهل الطيبة جماعة نمطية، ويقدمون في الفصول الخمسة الأولى كمجموعة تقليدية ، أفرادها متشابهون، يسلكون نفس السلوك، تقع عليهم نفس الأحداث ويرددون نفس الكلام. ومن هنا فإنهم لا يقدمون إلا في صيغة الجمع: "تتولد في النفوس..."، "ترتفع الوجوه..."، "المسنون تعودوا..."، "فالكثيرون لا يقدرون..." ( ص 7). "وكانوا يرددون إذا سئلوا عن المواسم.. "؛ "كانوا يختصرون كل شيء بالكلمات التالية..." (ص 11). هذه الطريقة تقدم أهل الطيبة وكأنهم لا يستطيعون أن يوجدوا أو يتصرفوا أو يتحدثوا إلا ضمن الجماعة. وفي هذا السياق، نلاحظ أن السارد لم يقدم أبدا أي واحد من أهل الطيبة في حالة عزلة أو في وضع حميمي خاص، كأن يقدم في بيته مثلا. فمجالس السمر والأحاديث ترد دون إطار مكاني يحتضنها، الشيء الذي يذوب هذه الوقائع في عالم جماعي عام ومشترك. ومن ثمة يشكل سكان الطيبة مجتمعا تقليديا يندمج أفراده ضمن الكل، ولا يسمح لهم بأي استقلالية أو تميز أو خصوصية.
ومجتمع الطيبة مجتمع خال من أي تراتبية أو تنوع في النشاط الاقتصادي يدل على درجة ما من التطور. والتمايز البارز هو التمايز التقليدي الذي يسم المجتمعات البدائية، تمايز السن ( الشيوخ والشباب والأطفال)، والجنس ( الرجال، النساء).
هذا التجانس المهيمن على مجتمع الطيبة يعززه انتقال الموروث الثقافي من جيل إلى آخر بواسطة التلقين والترديد: "وكان الذين لا يحسنون المشاركة في أحاديث من هذا النوع، لا يلبثون أن يصبحوا بشرا مختلفين إذا وجدوا بين أناس آخرين، عندئذ يبدؤون بإعادة ما سمعوا، ويرددون القصص التي رويت في الطيبة" (ص16)؛ "كان الصغار بشكل خاص أكثر قدرة على الإصغاء، ولربما رددوا في ما بينهم أو في أنفسهم ما سمعوا مرات كثيرة حتى تترسخ الأشياء في الذاكرة، فلا تضيع ولا تنسى" (ص17).
هذه النمطية ، وهذه السلطة التي تمارسها الجماعة على الفرد عامل من عوامل الخمول المهيمن، والعجز عن ابتكار حلول جديدة لمواجهة واقع القحط. وهي أيضا عامل من عوامل النفور من كل جديد ومختلف. يتجلى ذلك في ما تقابل به غرابة عساف وشذوذه من سخرية ونعت بالجنون: (ص37؛ ص 38) ( لا تعدم الجماعة المتحجرة التهم التي تبرر معاقبة الفرد الحامل لقيم جديدة تخلخل ما تعودت عليه. وقد واجه سقراط والمسيح تهما مماثلة).
يقدم السارد أهل الطيبة في هذه الفصول وهم في حالة سلبية شبه مطلقة. إنهم لا يفعلون شيئا، ولا يقومون بأي فعل لمواجهة قحط استثنائي. لقد "تعودوا الصبر والانتظار" (ص 11)، انتظار ما تجود به الطبيعة عليهم. إنهم يعيشون عادة على الجني والرعي والزراعة والصيد. وكلها أنشطة بدائية تقتصر على الاقتصاد المعاشي، وتقل فيها فاعلية الإنسان وقدرته على الابتكار، ويزداد اعتماده على الطبيعة. وإذا تجاوز أهل الطيبة هذه الأنشطة إلى نشاط متطور نسبيا ( المبادلة التجارية مع المدينة)، فإنه لا يعدو كونه نشاطا فرديا بسيطا مفتقدا للتراكم الذي يساهم في تحسين مستوى العيش.
يعيش أهل الطيبة تحت رحمة الطبيعة ليس على مستوى نشاطهم الاقتصادي المعيشي فقط، ولكن على مستوى شخصيتهم وطريقة تصرفهم أيضا. وبالفعل فإن شخصيتهم تتشكل بواسطة البيئة والمحيط تماما مثل بقية الكائنات، فيبدون خاضعين للطبيعة، مفتقرين للحرية والفاعلية الإنسانية إزاءها. فحتى طريقة حديثهم ودرجة أصواتهم حددتها البيئة، ولا دخل لثقافتهم فيها: "الطيبة لها أشياؤها التي تفتخر بها. لا تبدو هذه الأشياء ... ذات أهمية بالنسبة لأماكن أخرى، لكنها بالنسبة للطيبة جزء من الملامح التي تميزها... والتي تكونت بفعل الزمن، وبفعل الطبيعة القاسية، كما لم يحصل في أماكن أخرى. الأصوات عالية الجرس، صلبة المخارج...نظرا للمسافات التي تفصل الناس عن بعضهم في الحقول.."، "هذه الأسباب خلقت طبيعة معينة، وجعلت الناس في الطيبة يتكلمون بطريقة خاصة"، (ص 15).
هذه التبعية المفرطة للطبيعة تقرب أهل الطيبة من تبعية الحيوان أيضا. وتتكرر في النص فعلا قواسم مشتركة ملفتة بين الإنسان والحيوان. فجميعهم يعيشون على ما تجود به الطبيعة؛ ويحدث فيهم القحط جميعا نفس الأثر ( المرض والموت)؛ ويثير فيهم نفس ردود الفعل (الغضب، العنف، الانفعال..)؛ وكلهم يعيشون في فضاء فقير لا تؤثته أشياء مبتكرة سوى ما توفره الطبيعة(4). وبذلك يشكل أهل الطيبة مجتمعا ناقصا يتكون من مجموعة من الأفراد، لكنه يفتقر إلى مجموعة من الأشياء المادية والثقافية التي يتفاعل من خلالها هؤلاء الأفراد، والتي تحدد علاقاتهم ودرجة تطورهم.
ومن تجليات سلبية أهل الطيبة أنهم لا يتوفرون على مشروع معين، أو موضوع يرغبون في حيازته فيحفزهم على العمل. إنهم لا يمتلكون برنامجا سرديا ( بلغة السيميائيات)(5) . ومن هنا لا يشكلون ذاتا فاعلة، بل موضوعا منفعلا.
الفعل البارز الذي يقوم به أهل الطيبة هو إرسال خطابات. لكن السارد وهو ينقل هذه الخطابات، لا ينسبها إلى فرد معين، وإنما ينسبها للجماعة، فتبدو كلاما متكررا يمكن لأي فرد أن يتلفظ به.: "وحين يهز الشباب رؤوسهم، كان يضيف بعض المسنين: إذا جاءت المصائب فإنها تجيء مرة واحدة" (ص 31)، "ومثلما أحس المسنون... بدأت تتسرب من أفواههم كلمات التحذير.. وفي وقت لاحق قالوا .. : ستكون هذه السنة من أصعب السنين التي مرت على الطيبة" (ص45). إنها خطابات متبادلة بين أشخاص متماثلين يرددون نفس الكلام. فكلامهم إذن كالصمت، لا يساهم في إثارة نقاش أو تغيير رأي أو تطوير حدث. بل إنه كلام يصل أحيانا حد الابتذال حين يتحول إلى اغتياب وسخرية: "إن الطيبة مثل كل القرى من حيث القسوة والسخرية ورغبة التندر واختلاق بعض الأكاذيب، وفي اغتياب الناس أيضا" (ص38)
وربما كان رد الفعل الإيجابي الوحيد تجاه القحط هو سلوك التضامن الذي يفرض نفسه خلال مواسم القحط (ص 55). لكن فاعلية هذا السلوك محدودة ، ولا تساهم في تغيير كبير للوضعية التي تعيشها الطيبة. فالتضامن، رغم إيجابيته، يظل فعلا موجها إلى داخل الجماعة يعزز تماسكها وقوتها، وليس فعلا موجها إلى المحيط الخارجي الطبيعي للتأثير فيه والعمل على تغييره.
وبدل الاهتمام بالحاضر، فإن اهتمام أهل الطيبة مشدود إلى الماضي. فهو موضوع أساسي في أحاديثهم، يحنون إليه، ويضفون عليه طابعا أسطوريا إذ يقدمونه كجنة مفقودة: "... الحديث الذي تعوده أهل الطيبة.. حيث يسرفون في رواية القصص والتاريخ.." (ص16)؛ "وإذا كان الناس يفضلون في بعض الأوقات تذكر الأيام الجميلة الماضية، فإن الأيام القاسية يصبح لها جمال من نوع خاص.." (ص20)؛ "قبل سنين، كانت الجبال المحيطة بالطيبة خضراء مثل البساتين.." (ص23)؛ "أبناء الطيبة الذين سمعوا هذه الأحاديث مرات كثيرة، يلذ لهم أن يسمعوها من جديد، فتبدو ... مليئة بالبطولة والعبر: كنا نأكل الأعشاب وجذور النباتات، كنا نأكل الجرابيع..." (ص25). هذا الانشداد إلى الماضي يحول بينهم وبين إدراك الحاضر وخطورته، ويمنعهم من ابتكار الوسائل لمواجهته.
لقد راكم المسنون بحكم سنهم خبرة طويلة مع الطبيعة، واكتسبوا من خلالها معرفة بحالات المواسم الخصبة والمواسم الجافة: "ومثلما توقع المسنون، حصلت الأمور بعد ذلك" (ص44)؛ "لكن المسنين الذين خبروا دورات الطبيعة، وعرفوا بشائر الخير من نذر القحط، دخل الخوف قلوبهم" (ص41). إلا أن هذه المعرفة لن تتحول إلى إبداع لطرق جديدة للعيش تعفيهم من البقاء تحت رحمة الطبيعة. ولم تستطع هذه المعرفة أن تقوي مواقفهم في وجه طيش الشباب: "والمسنون الذين صرخوا بغضب، واعتبروا هذا الهوس (بالصيد) نوعا من الفتنة أو الجنون لا يليق بالرجال في مثل هذه المحنة القاسية، ما لبثوا أن تراجعوا.." (ص30).
3 - عساف : الاستثناء الذي "لا يعرف التعب أو التوقف"
إذا كان أهل الطيبة يمثلون جماعة تستقطب أفرادها استقطابا شبه كلي، فإن عساف يمثل استثناء يشذ عن القاعدة. ويتجلى اختلافه عن الآخرين منذ ظهوره على مسرح الأحداث على عدة مستويات:
لقد تميز عساف عن أقرانه منذ طفولته: "منذ كان صغيرا شغلته قضية الصيد" (ص34)؛ "لم يعد يكتفي بما يفعله الصغار، كان يقلد الكبار ويذهب حيث يذهبون" (ص34). تكرس هذا التميز بفضل اليتم الذي جعله أكثر استقلالية من أقرانه. "فحين مات أبوه، استغرق في لعبة الصيد الخطرة" (ص 34)؛ وحين "ماتت أمه، تغيرت طباعه أكثر من قبل" (ص34). لقد أفلت بفضل اليتم، وبفضل العزوبة أيضا، من العائلة كمؤسسة اجتماعية تمارس على الفرد سلطة التوجيه والتدجين.
وقد خلق عساف لنفسه عالمه الخاص، بعيدا عن أهل الطيبة. فهو لا يجالسهم، ولا يشاركهم أحاديثهم: "قلما يراه أو يجلس معه أحد" (ص33)؛ "اكتسب عادات خاصة أقرب إلى الغرابة. كان يقضي وقته في البساتين. بدأ التدخين في سن مبكرة. أصبح كثير التفكير والتأمل في ما حوله من طبيعة وبشر وحيوانات. وكان أغلب الأحيان بعيدا عن الناس. أما حين يكون بينهم فالصمت سلاحه الوحيد" (ص34). يقدم السارد هنا المقومات التي تؤهل عساف للتميز والاختلاف. الصمت سلاحه حين يكون معهم، وكأن صمته جواب بليغ عن حديثهم الذي يشبه الصمت ويجتر الماضي أو يغتاب الناس. وفي مقابل ثرثرة أهل الطيبة، يميل عساف إلى التأمل والتفكير. وهي مقومات توحي بسمو اهتماماته وانشغاله بالقضايا الإنسانية الهامة (الطبيعة، البشر، الحيوان).
ومن الطبيعي أن يكون عساف شخصية غامضة في نظر أهل الطيبة ما دام يعيش في عالمه الخاص بعيدا عن عالم الجماعة. فمنذ البداية، حمل سمات الشخصية الحديثة، الغامضة والمركبة. إن أهل قبيلته يختلفون حول عزوبته، حول حكايته مع الكلب، حول مهارته في الصيد (ص 33، 38). وإذا كان أهل الطيبة قد تعودوا على الاتفاق حول كل الأمور وترديد نفس الكلام بشأنها ، فإن شخصية عساف قد شكلت حافزا للاختلاف والتأويل. وفي ذلك دلالة على سمة إيجابية في هذه الشخصية التي كان غموضها دافعا للتفكير بين أناس تعودوا على الاجترار.
ويصر عساف على تميزه من خلال مخالفته للمألوف. إنه يقوم ببعض التصرفات الغريبة والبسيطة في ظاهرها، لكنها مشحونة بالإيحاء، وتدل على استقلال شخصيته وعدم امتثاله لما تعود عليه الناس. كان يدخل تعديلات على الحذاء الجديد قبل أن يستعمله.. (ص35) ولا يغير مظهره في أيام الأعياد كما يفعل بقية الناس (ص 36).
هذه الاستقلالية عن الجماعة هي التي جعلت منه شخصية نامية: " ظل يتطور بهذا الشكل... تغيرت طباعه.." (ص34). لقد صنع عساف لنفسه تاريخه الخاص من خلال التجارب التي راكمها مع الصيد ، وكون على أساسها معرفة حاول اقتسامها مع أهله بسخاء...إن عساف حصيلة تطور تاريخي، وقد صنعته ظروفه، ولم يظهر فجأة (وهذه إحدى السمات التي يتميز بها عساف عن كل من سقراط والمسيح. إن طفولة المسيح غامضة ويشوبها نقص في المعلومات، لهذا يبرز فجأة ككل الأنبياء الذين لا يظهرون نتيجة تطور تاريخي وإنما نتيجة إرادة ربانية ووحي سماوي... وكذلك سقراط، فإننا لا نعرف الكثير عن طفولته، وهو مثل المسيح أيضا لم ينج من تدخل العامل الميتافيزيقي في حياته ، إذ تقول سيرته إنه طلب مشورة كاهنة نقلت إليه جوابا إلهيا عن تساؤلاته (6). أما عساف فيعيش في عالم دون آلهة، شأن كل أبطال الرواية الحديثة).
وعساف شخص مبدع، فاعل إيجابي في محيطه. ويبدو منذ ظهوره ذاتا فاعلة، لها برنامجها التي تعمل على تحقيقه، وتنجح غالبا في ذلك: يبتدع عساف وسائل جديدة للصيد (ص34)، يدرب الكلب ويحوله إلى عامل مساعد ( ص 37، 39) ، يخرج إلى الصيد ويحصل على ما يريد من طرائد (يحقق برنامجا سرديا أول)، ثم يوزع ما اقتنصه على المحتاجين (يحقق برنامجا سرديا ثانيا متولدا عن الأول). وهكذا تتوالد البرامج على يده فتغني حياته، وتضفي عليها ملمسا إنسانيا يتمثل في الفاعلية والإبداع. وهو مبدع في سلوكه أيضا حين دعا أهل بلدته إلى التصرف بحكمة مع الصيد حتى يحافظوا عن وسائل بقائهم...
وهو أيضا شخص دينامي لا يكف عن الحركة والنشاط إلا لضرورة النوم: "وحالما ينتهي من هذه المهمة، وعلى ضوء فانوس صغير، يبدأ بتحضير خرطوش اليوم التالي. يبدأ مهمة لا تعرف التعب أو التوقف..." (ص 47). وهو كذلك شخص منظم في تعامله مع الوقت: "كانت له ساعة في داخله لا تخطئ..." (ص48).
ويراكم السارد السمات الإيجابية المتعلقة بهذه الشخصية. فعساف أيضا شخص متخلق. ومن مظاهر تخلقه أنه لا يشارك في أحاديث النميمة أو السخرية من الآخرين كما يفعل أهل الطيبة؛ يسلك سلوكا تضامنيا مع المحتاجين أيام القحط؛ يستعمل لغة مؤدبة حين يقدم المساعدة؛ ويؤثر على نفسه ولو كانت به خصاصة: "في هذا الغم الذي يلف الطيبة... كان عساف لا يهدأ ولا يستريح، إذ ما يكاد يعود بعد الغروب، حاملا معه عشرات الطيور حتى يبدأ يدق بعض الأبواب ... كانت الكلمات التي يطلقها عساف في الهواء وقبل أن يفتح له الباب: أنا عساف ، جئت لأمسي عليكم. وقبل أن يسمع الكلمات تنهال عليه، يكون قد ألقى بعض الطيور ومشى. كان يفعل ذلك كل ليلة، ولا يبقي لنفسه إلا طيرا. وبعض الأحيان لا يبقي لنفسه شيئا" (ص47).
ومن سماته الخلقية صراحته وقوة شخصيته. فحين طلب منه أهل الطيبة مرافقة الضيوف الذين جاؤوا للتسلية بالصيد، عبر عن موقفه بقوة وقدم لأهله درسا عميقا حول كيفية التعامل مع واقعهم: "... هل تظنون أن هذه السنة مثل السنين القاسية التي مرت عليكم؟ هل تظنون أنكم ستواصلون العيش حتى تأتي الأمطار مرة أخرى؟ إن من يظن ذلك أقرب إلى الجنون... قلت لكم ألف مرة : لم يبق بيننا وبين الموت إلا ذراع. وهذه الذراع هي الصيد الذي نستطيع أن نوفره حتى تأتي الأمطار مرة أخرى... قلت لكم: اتركوا إناث الحجل للسنوات القادمة، إنها رزقنا الباقي. قلت لكم وفروا الخرطوش... لكنكم تزدادون عنادا.. واليوم تأتون بهؤلاء الأفندية، وتتظاهرون بالكرم...كان الحجل يصل إلى أبواب البيوت، كانت الغزلان والأرانب تملأ السهل كله... هكذا كان الأمر في الأوقات السابقة، وأهل الطيبة، بدل أن يحافظوا على هذه النعمة، لم يــتــركوا أي ابـن عاهرة ... إلا ودلوه على الطيبة...وهؤلاء الذين يأتون لا يعرفون سوى شيء واحد: القتل". (ص 69 -71).
هذا الموقف لم يعبر عن قوة الشخصية فقط، وإنما يعكس أيضا درجة عالية من الوعي الذي لم يتوفر لأهل الطيبة. فرغم صغر سنه ، فقد أكسبته تجربته خبرة لا تقل عن خبرة الشيوخ... وإذا كانت خبرة الشيوخ قد توقفت عند مستوى سلبي لم يتحول إلى فعل، فإن خبرة عساف كانت أكثر تبلورا. لقد اكتسب بحكم هذه الخبرة فلسفة خاصة به: " إن له فلسفة خاصة تكونت مع الأيام ومن التجارب" (ص50). واكتسب معرفة تشمل الطبيعة وعالم الصيد والحيوان: "لا تقتلوا الإناث، إنها رزقنا الباقي ... الإناث، إناث الحجل صغيرة ولونها واضح" (ص49)؛ "حين طاردوا الغزلان وقــتلوها كلها، أصبحت الصحراء مثل قبر كبير.." (ص 52). وهي كذلك معرفة بالإنسان وبنفسيته:" يضطر عساف إلى قيادة الصيادين إلى أماكن الحجل، لكنه يلجأ إلى المكر أغلب الأحيان: كان يقودهم إلى الأماكن الصعبة، إلى الأماكن البعيدة والخطرة، وكان يعرف أن التعب أو الخوف إذا دخل قلب الصياد يفقده كثيرا من قسوته ويجعله رحيما" (ص50).
هذه المعرفة ولدت لدى عساف رؤية مستقبلية جعلته يتوقع الأشياء قبل حدوثها: "كان يقول بصوت مليء بالأسى: هذه الطيور لنا، اليوم أوغدا، وستبقى لنا إذا حافظنا عليها. أما إذا قتلناها كلها... فسوف تنتهي أو تبحث عن مكان آخر" (ص 49)؛ ( انظر أيضا ص 51،53 ، 72). يصدر هذا الموقف عن شخصية تدرك بعمق أن لا حل للطيبة إلا على يد أهلها. إن عساف على وعي بزيف العلاقة التي تربط بين البادية والمدينة، وهي علاقة قائمة على الانتهازية (أهل المدينة يتخذون البادية مكانا لممارسة هواية الصيد العشوائي)، وعلى الكذب (يدرك عساف أن وعود المسؤولين ببناء السد وعود كاذبة (ص 50)).
هذه الرؤية المستقبلية المستندة إلى وعي سليم، وهذه القدرة على اقتراح الحلول العملية تعني أن عساف بطل حقيقي دخل في صراع مع أهل قبيلته من أجل التأسيس لقيم جديدة وإيجابية من شأنها أن تنقذ حياة الجماعة. كذلك تعزز هذه الرؤية المستقبلية التعارض بين فرد متجه نحو المستقبل وجماعة ملتفتة إلى الماضي...
ورغم معارضة عساف لبعض تصرفات أهل الطيبة وعاداتهم، فإنه يظل متشبثا بانتمائه للجماعة. إنه يمتثل لقراراتها، ويقبل على مضض مرافقة الضيوف الذين جاؤوا للصيد بدافع التسلية. وقد قدم حياته ثمنا لاحترام قانون الجماعة مثلما فعل سقراط. (ص 91)
II – الخطاب
هذا التعارض بين عالمين (عالم الجماعة وعالم والفرد ) يجد صداه في الإجراءات الخطابية التي تحكمت في بناء العالم الروائي.
منذ مطلع الرواية يحدث توتر بين زمنين: الزمن الماضي والزمن الحاضر، وذلك من خلال طريقتين في تقديم الحدث هما الحكي المفردي le singulatif، والحكي الترددي l’itératif (7). الحكي المفردي هو الذي ينقل واقعة مفردة (حدثت مرة واحدة)، ويقدم السارد من خلاله هنا حدثا يقع في الحاضر هو القحط الذي ينذر بأنه سيكون استثنائيا؛ والحكي الترددي هو الذي يقدم حدثا وقع عدة مرات، ويستخدم هنا لنقل وقائع ماضية هي حالات القحط كما تكررت عدة مرات في السنوات الماضية.
تستهل الرواية بجملة تنقل حدثا مفردا حاضرا هو قحط هذه السنة: "إنه القحط، القحط مرة أخرى". ولكن سرعان ما تتلوها الجمل التالية: "وفي مواسم القحط تتغير الحياة والأشياء"؛ "وحين يجيء القحط لا يترك بيتا دون أن يدخله" (ص7). وهي جمل تتعلق بحكي ترددي ، يذكر مرة واحدة حدثا وقع عدة مرات، وتستعيد القحط المتكرر في الماضي. يمكن أن نستنتج من ذلك أن الماضي والحاضر يخوضان صراعا حول الحيز النصي الذي يحتله كل زمن. فقد فتحت الجملة الأولى مجالا للحاضر كي يعرض وينمو في صورته الاستثنائية، ولكن سرعان ما قاطعتها الجملة الثانية التي أقحمت الماضي بقوة في الحاضر، فأوقفته وشدته إلى الوراء وحالت دون نموه. لقد ذوبت الحدث الحاضر بخصوصيته في الأحداث الماضية المتكررة، وحالت دون ظهور ما يميزه. إن الحكي الترددي عامة تقنية تدمج مجموعة من الوقائع، وتوحد بينها، وتجعلها متشابهة، فتلغي خصوصيتها. وهي بذلك إفقار للمعرفة. وهذا الإفقار ينسجم مع رؤية أهل الطيبة للعالم، رؤيتهم السكونية الثابتة التي تقيس الحاضر بالماضي، ولا تهتم بما يميزه. هكذا نلاحظ أن الماضي ينافس الحاضر، ويحول دون نمو الحدث المفرد، بل ينمطه ويجعله على شاكلة حالات القحط الماضية، ومن ثمة يحول دون قيام معرفة جديدة بالحدث المفرد والمختلف.
ومثلما ينطبق هذا الحكم على الوقائع غير الكلامية، ينطبق كذلك على الوقائع الكلامية. فحديث أهل الطيبة ترددي متكرر: "كانوا يرددون إذا سئلوا:..."؛ "كانوا يختصرون كل شيء بالكلمات التالية:..." (ص11). ويوحي هذا التردد بالثبات والاجترار وغياب الجديد، لأنه كلام يستعيد نفس السياق، فيوحي بتوقف الزمن.
وحين ظهر عساف على مسرح الأحداث، توارى الحكي الترددي وتوارى معه الماضي ليفسحا المجال أمام هيمنة حكي مفردي وحاضر متميز ونام.... لقد أضفى عساف بظهوره دينامية على العالم الروائي مما يوحي بإيجابيته مقابل سلبية أهل الطيبة.
ومثلما تصارع الزمنان الماضي والحاضر حول الحيز النصي الذي يحتله كل زمن، كذلك نلاحظ أن خطاب الشخصيات يخوض نفس الصراع. فكلام عساف يفرض نفسه ويهيمن على حيز نصي لم يتح لكلام أي شخصية من شخصيات الرواية. إن كلام أهل الطيبة لا يعدو بضع جمل متكررة وفاقدة للقيمة بحكم تكرار مضامينها. أما كلام عساف فقد احتل حيزا تجاوز الصفحتين في لحظة تميزت بصراع حاد واختلاف في الرأي بينه وبين أهل قريته ( ص 72). هذا الامتداد النصي أضحى علامة على سلطة استطاع عساف أن يمارسها على جماعته.
هذه الهيمنة التي يمارسها كلام عساف ترجع إلى القيمة المعرفية التي يحملها. إنه يعكس درجة متقدمة من الوعي ودقة التحليل للوضع الذي تعيشه الطيبة. وهو خطاب حجاجي مقنع لم يستطع معه أهل الطيبة جوابا إذ لزموا الصمت أثناء حديث عساف، واعترفوا بينهم وبين أنفسهم بأنه يقول الحقيقة (ص72). وقد نقل بأسلوب مباشر يعكس بأمانة ما يتسم خطاب عساف من وعي وجدة وتماسك، ويتعارض مع كلام أهل الطيبة الذي يكرر بعضه بعضا، فلا يثير نقاشا ولا يساهم في خلق معرفة جديدة، ولا يمثل حوارا حقيقيا، لأنه ترديد لكلام مشترك يفتقد إلى التفاعل الإنساني وما يقتضيه من اختلاف وصراع إيجابيين.
حين ينقل السارد كلام أهل الطيبة، فإنه يستعمل ضمير الجماعة (هم). وهو ما يجعل كلامهم منسوبا إلى متكلم غير محدد، ومن ثمة لا يساهم في تشخيص فرد معين. إنه ليس خطابا تشخيصيا، ولا يساهم في تعيين شخصية محددة ومتميزة، ولا يمنح للفرد صوتا خاصا يميزه. إنه كلام منسوب للجميع، ومن ثمة يعكس شخصيات مفتقدة للخصوصية والحرية والاستقلال بالرأي: " وكانوا يرددون إذا سئلوا عن المواسم والزراعة: "المواسم لا تعني الأمطار ... " (ص11)؛ "يبدأ القادمون رغم صغر سنهم، يلومون الكبار: "قلنا لكم مئات المرات..." ( ص21) . وفي أقصى الأحوال يقول السارد دون تحديد للمتكلم حتى وإن كان فردا: "يتبرع أحد ويقول... ويقول آخر ... ويقول ثالث" ( ص 38)... فيبقى المتكلم ضمن خانة المجهول الذي لا يمتلك شخصية خاصة تميزه. وعلى العكس من ذلك كان خطاب عساف شخصيا ، متميزا، يعكس ذاتيته ورأيه الخاص، ويلعب دورا في بناء شخصية متميزة ومستقلة. وهنا تصبح لعبة الضمائر (التعارض بين المفرد والجماعة) دالة على حرية فرد واستقلالية شخصية من جهة، وعلى نمطية مجموعة وخضوع أفرادها للمألوف والشائع دون تفكير من جهة أخرى.
يتبنى السارد منظورا خارجيا إزاء أهل الطيبة يضع مسافة تفصله عنهم وتدل على أنه لا يقاسمهم منظومة قيمهم. فهو لم يستبطن شخصية محددة من هذه الشخصيات ليكشف عن عوالمها الشعورية... واكتفى أغلب الأحيان بنقل ما رآه وما سمعه منها، بينما نلاحظ أنه اقترب أحيانا من عساف للدلالة على التعاطف معه، وذلك عبر بعض الإجراءات الخطابية التي تلغي المسافة بين السارد والشخصية. فقد نقل كلامه بأسلوب غير مباشر حر يلغي الحدود بين كلام السارد وكلام الشخصية: "لا يتذكر أحداثا هامة سوى تلك التي لها علاقة بالصيد: أين ضرب الذئب وكيف ضربه؟ كم مرة اضطر للنوم في المغاور خوفا من الموت؟..." (ص34). واستخدم السارد تقنية الحكي السيكولوجي (psycho-récit)، لكن في الحدود التي تتيح له خلق ألفة بين الشخصية وبين المتلقي من خلال الاطلاع على مشاعرها الداخلية(8): "هذا النوع من البشر يتحول يوما بعد آخر إلى حالة من الغرابة والانطواء، ويصبح بطبيعته أميل إلى الابتعاد عن الناس أو الاهتمام بهم، كما أن له عالمه الخاص وهمومه التي لا يشاركه فيها الآخرون. أما طريقته في التعبير فتكون قاسية فظة، وقد تؤذي إذا لم تفهم ..." (ص 35). لكن هذه التقنية لم تمتد لتحلل نفسية الشخصية تحليلا مفصلا يسجنها ضمن سمات ثابتة منذ البداية ويحول بينها وبين التطور، ويخضعها للتفسيرات المختزلة التي تفقرها وتخضعها لقاعدة عامة. إن الامتناع عن تحليل شخصية عساف تحليلا نفسيا دقيقا، والإلحاح على عموضها وغرابتها، فيه إغناء لهذه الشخصية، ودلالة على انفتاحها على احتمالات متعددة. لقد بقي عساف نتيجة هذا الإجراء شخصية منفتحة على المستقبل، وهو ما لم يتحقق لأهل الطيبة الذين بدوا منذ البداية شخصيات مكتملة وثابتة لا تنبئ بتغيير في الفكر أو الموقف. وشكل حلم عساف أيضا تقنية مكنت السارد من التعبير عن تعاطفه مع عساف (ص48) ومن استكناه عوالمه اللاشعورية المسكونة بقيم اجتماعية إيجابية. وتجلى هذا التقارب أيضا في التدخل المباشر للسارد لتصحيح مواقف أهل الطيبة الخاطئة تجاه عساف، والانتصار الصريح لموقف هذا الأخير (ص 37، 39).
ومن العناصر الدالة في هذه الرواية على التمايز بين عالم الجماعة وعالم الفرد اختلاف ملحوظ في الأسلوب الذي كتبت به الفصول الخمسة الأولى المتعلقة بأهل الطيبة، والأسلوب الذي كتبت به بقية الفصول التي أصبح لعساف حضور بارز فيها.
لقد خضعت الفصول الأولى لأسلوب فقير style démuni يركز على ما يسميه بارث الوظائف الأساسية les fonctions cardinales (9)، وتقل فيه المؤشرات les indices والوظائف الثانوية les catalyses. وبذلك تقترب الفصول الأولى من الحكاية الشعبية ومن الملحمة حيث لا ينقل السارد إلا الأحداث التي تمثل أسبابا تؤدي إلى نتائج ( حلول القحط وما يتلوه من أمراض ووفيات...الخ). وما يعزز هذا الزعم أيضا أن الفصول الأولى تتمحور، كالملحمة، حول بطل جماعي، وحول مواجهة هذه الجماعة لقوى طبيعية هائلة لا يستطيع الأفراد مواجهتها.
أما القسم الثاني فقد قدم عالما ذا طابع روائي، تكثر فيه التفاصيل نسبيا، وتتمثل في حضور ملفت للمؤشرات المتعلقة بشخصية عساف ( تصرفاته المخالفة لتصرفات الجماعة، مكان عيشه، اكتسابه عادات غريبة : التدخين، التأمل والتفكير...). ثم إن الأحداث تتمحور حول بطل فردي، يصارع وحيدا في عالم دون إله. ومثل كل الأبطال الروائيين أيضا، فإن هذا الفرد يتعارض مع قيم الجماعة، ويبحث عن قيم أرقى، لكنه يصطدم بصخرة الواقع القوية. لقد دافع عساف فعلا عن قيم أصيلة تفتقد إليها الجماعة ، وعلى رأسها طريقة أصيلة في التعامل مع الطبيعة وفي ممارسة الصيد في حدود الحاجة والضرورة، أي أنه يريد أن يحافظ للصيد على قيمة استعماله valeur d’usage، وهي الأصل في كل استخدام للموارد من أجل تلبية حاجات الإنسان الحيوية، وعارض عساف بشدة ممارسة الضيوف للصيد كهواية تبعد هذا النشاط عن قيمته الأصلية.
ويصارع عساف قيم الجماعة المنحطة مسلحا بوعي أكبر من وعي المجتمع، وعي واسع تعجز قيم العالم المنحطة عن إشباعه. وفي ذلك يشبه فريدريك مورو مثلا، بطل رواية "التربية العاطفية" لفلوبير، ويختلف عن كل من دون كيخوطي دي لا مانتشا بطل رواية دون كيشوت لسرفانتيس، و جوليان سوريل بطل رواية الأحمر والأسود لستاندال اللذين يتميزان بوعي ساذج قاصر عن إدراك الواقع في تعقيده.
على سبيل الخاتمة : التحديث المجهض
صارع عساف من أجل ترسيخ قيم أصيلة بهدف الحفاظ على الجماعة وتوازنها. لكنه واجه عالما موسوما بالسلبية والاجترار وتقديس الأعراف. لقد توفر على بعض الجهات modalités التي تجعل منه بطلا: الإرادة، المعرفة، الرغبة (10). ولكنه افتقد لجهة القدرة، فكان ذلك سببا في نهايته المأساوية التي أنتجها تحجر المجتمع وعجزه عن فهم الرسالة الجديدة التي يحملها البطل.
ونلاحظ أن السارد لم يعرض هذا الصراع بشكل محايد، بل تعاطف مع عساف من خلال إجراءات تقنية مناسبة. فقد نقل كلامه بأسلوب غير مباشر حر، واستبطن شخصيته عن طريق الحلم، بل تدخل بشكل مباشر، وأسمع صوته بشكل صريح حين أعلن خطأ أهل الطيبة في حكمهم على عساف، وناصر بوضوح موقف هذا الأخير. وبذلك تتجلى منظومة القيم التي يحملها النص. إنه ينتصر لقيم العقل والاجتهاد والفعل الإنساني الإيجابي في المحيط، وقيم تحرر الفرد من جمود الجماعة ونمطيتها.
ويمكن أن نعتبر عساف صوتا لمقدمات جنينية لحداثة تطرق أبواب مجتمع الجزيرة العربية القبلي التقليدي، صوتا للفرد ومصداقية رأيه، واستعداده للتأثير في الجماعة، وقدرته الشخصية على تصحيح مسارها وتغيير قيمها الموروثة التي أضحت عائقا أمام تطورها. هذا لا يعني أن عساف يمثل إسقاطا للقيم الفردية الغربية على المجتمع العربي التقليدي. إن عساف ليس فردا يتمرد على الجماعة من خارجها، ولا يعتبرها عدوا تجب محاربته، كما دعت إلى ذلك النظريات الليبرالية الحديثة في الغرب ابتداء من القرن الثامن عشر(11)، وإنما يصارعها من داخلها ليصحح مسارها، ويجدد أفكارها بما يضمن توازنها واستمراريتها. لقد حاول عبد الرحمن منيف أن يصنع فردا أصيلا نابعا من بيئته، حاملا لأفكار أستقاها من تجربته الخاصة، ومن تاريخه الشخصي. ولعل أصالة هذه الأفكار وارتباطها ببيئة الطيبة هو ما يفسر المصادقة عليها من طرف الجماعة بعد موت عساف، وبعد أن فتحت صدمة الموت عيونهم على حقيقة كانت ماثلة أمامهم. وقد تجلى هذا الوعي بوضوح في الاعتراف التالي: "عساف لم يمت موتا طبيعيا. مات من أجل الطيبة. مات شهيدا" (ص 205). وتجلى هذا الوعي أيضا من خلال الحكايات التي ختمت الرواية، والتي حكيت ليلة تأبين عساف، وهي حكايات تعيد الاعتبار للحيوان، وتتضمن نقدا للوحشية التي يعامله بها الإنسان.
لقد حرك عساف بموقفه هذا فعلا المياه الآسنة، وخلخل وعيا كان راكدا . لكن الرواية انتهت ولا شيء يؤكد أن الأمور سوف تتحسن، بل تخبرنا مطولة "مدن الملح" بعد ذلك أنها ستسوء، وأن المجتمع التقليدي يواجه "نهايات" حقيقية، وأن جنون الصيد سيتلوه جنون النفط الذي سيخترقه اختراقا عنيفا ويحدث فيه شرخا كبيرا يفقده توازنه إلى غير رجعة. هذا يعني أن عساف كان يخوض صراعا ضد تحول تاريخي جارف سيهز أركان المجتمع التقليدي ويخلخل توازنه، ويقيم مقامه مجتمعا آخر قوامه الاستهلاك واستنزاف الثروة الطبيعية والوجود الزائف. وهي القيم التي مات عساف وهو يحاربها، ومات معه مشروع تحديث أصيل نابع من الواقع ومن تطوره الطبيعي التاريخي الخاص.
الهوامش :
(1) عبد الرحمن منيف، النهايات، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية عشرة، 2007.
(2) لا أهتم في هذا السياق بالحقيقة التاريخية في سيرتي سقراط والمسيح، ولا بما يعتريهما من نقص أو اختلاف. ذلك أن ما يهمني في هذه الشخصيات الثلاثة جميعها أنها موضوع لسير كتبت بعد موتهم. فهم إذن أبطال حكايات خضعت أحداثها بالضرورة للانتقاء والتأليف خدمة لفكرة موجهة يقصد إليها واضعو السيرة.
(3) أستعير هنا التمييز الذي اقترحه تودروف بين الحكاية والخطاب. انظر:
Tzvetan Todorov, les catégories du récit littéraire, in Communication n°8, Seuil, 1981, p.131
(4) يقول بلزاك: "يتوفر الحيوان على القليل من الأثاث، ولا يتوفر على فنون أو علوم. أما الإنسان، فإنه ينزع إلى تمثيل عاداته، أفكاره وحياته من خلال كل الأشياء التي يسخرها لتلبية حاجاته". عن:
Michel Butor, « Philosophie de l’ameublement » in. Essais sur le roman, Gallimard, p.65
(5) Joseph Courtés, Analyse sémiotique du discours, de l’énoncé à l’énonciation, Hachette, 1991.
(6) Christian Godin, la Philosophie pour les nuls, First éditions, p. 54
(7) Gérard Genette, Figures III, Seuil, 1972, p. 145.
(8) تقول دوريت كوهن :"إن شخصيات العالم المتخيل الأكثر أصالة، تلك التي تتمتع بدرجة أكثر من العمق هي تلك التي نعرفها بحميمية لا يتاح لنا مثلها مع شخصيات الواقع". انظر: Dorrit Cohn, la transparence intérieure, Seuil, 1981, p.17-18.
(9) Roland Barthes, introduction à l’analyse structurale des récits, in Communications n°8, Seuil, 1981, p. 14
(10) Joseph Courtés, op.cit.
(11) انظر الفصل الثاني بعنوان "حرية المحدثين" la liberté des modernes ، ضمن كتاب :
Catherine Audard, Qu’est-ce-que le libéralisme ? Gallimard, 2009, p.100