أـ في العنوان.
يطل الروائي عبد النبي بزاز ، أيقونة البوح ، على القارئ عبر كوة السؤال ؛ هل سأعود يوما ؟ وللسؤال ثقافته .
عندما يصبح للسؤال سلطة ، يُرتهن توهج النص . فضلا عن وضعه للمتلقي أمام خارطة تلقي الخطاب . إن الكاتب، من هذا المنظور، يريد من عاشقيه أن يكونوا في الحدث، مستكملين دورة الإبداع. عن طريق ملئهم الحفر التي تركها الروائي خلفه ، عبر تقنيات السرد المعروفة ؛ يتخطى الزمن ، يلخبط الكرونولوجيا ، يثب إلى الأمام ، يستدعي الحلم عن طريق الفيد باك . كلها تقنيات عجَّ بها النص الروائي .
ـ "هل" من حروف الاستفهام، تفيد التصديق. بما هو إثبات النسبة بين شيئين. لذا يُنتظر من المتلقي الإجابة بالنفي أو الإثبات. ويؤسس الكاتب ، بذلك ، جسور التواصل مع القارئ ؛ كي يرتفع منسوب التفاعل ، بما هو أقنوم الإبداع و الغاية منه.
ـ من الصورة المصاحبة و العنوان " العودة " ظلال المعاني و إيحاءاتها .
إن العودة تشي بالهجرة بما هي رحلة من... إلى ... سواء داخل الوطن أو خارجه. يتغير معها المكان ، يتغير معها الهواء ، تتبدل معها السلوكات . فالهجرة سفر وجودي تتحقق فيها الذات . تفضح وتعري واقعا هشا أو مزيفا أو أنانيا أو مكيافليا . فالهجرة الوسيلة و الأداة التي وُظفت واستعملت بطريقة ذكية ؛ لفضخ الاختلالات و اللاتوازنات بين عالمين متناقضين . عرى الكاتب شراسة الإدارات العمومية تجاه المواطن ، و رفع الستار عن مصاصي الدماء ، الذين عاثوا في البلاد فسادا ، يقول :" الله يرحم والديك خاصني نمشي للبلدية ... طفق يتأمله كأنه يراه لأول مرة... " ص.28
ب ـ في تتبع الحدث.
في محطات متعددة من خلال مسار إبداعي كثيف و منتظم ، نجد عبد النبي بزاز حاضرا ضمن مجال التأليف ، حيث أصبح متنفسا حقيقيا يلامس من خلاله قضايا و هموم القارئ . فعبر أهم مؤلفاته رحلة طويلة صُحبة الكلمة و الحكي . و بهما يجترح مظان قرائه من خلال روايته الممتعة " هل سأعود يوما ؟ " .
تحكي الرواية عن بطلها " المختار " الذي تقلب في أعمال متعددة قبل أن يعانق حلم الهجرة إلى فرنسا؛ بلد العمل و الكرامة. إلا أن أواصره العائلية ترغمه على العودة بين الفينة والأخرى ليتفقد أحوال أسرته. وبعد أن أظهر على علو كعبه و تفانيه في عمله كبناء، تسلق أدراج الرقي؛ لتتحسن بعد ذلك أحواله المادية. بالمقابل، وكسائر المهاجرين، فكر في تحسين أوضاعه أولا، ثم عائلته ثانيا، عن طريق استكمال بناء البيت، التي تقطنه أسرته في المغرب.
واستكمالا لدورة الحياة و الحكي ، فكر في الارتباط ب"حسيبة " الجزائرية صاحبة المطعم بجوار ورشة البناء التي أصبح يديرها المختار . وبها أصبحنا نطل على الجيل الثاني، الذي يختلف عن الجيل الأول ثقافة و سلوكا و مظهرا.
ج ـ في أفق تلقي رواية " هل سأعود يوما ؟ "
ما استطاع الكاتب عبد النبي بزاز الإفلات من عقال الإيديولوجية.
ما استطاع عبد النبي بزاز أن يكون محايدا في حكيه و سرده.
هذا ما سطره الراحل تزيفطان تودوروف ، في كتابه " الأدب في خطر " ، بخصوص حرفة الأدب.
إن بمجرد الشروع و الإذعان لروحانية الكتابة ، بما هي طقس التفاعل و الإنصات ، إلا وتكون رديفة الإيديولوجية ؛ وذلك من خلال توظيف لمفردات ذات حساسيات معينة من جهة و تناول أحداث ذات بعد سياسي ـ اجتماعي من جهة ثانية. فطقوس الإنصات إلى نبضات المجتمع، الذي يعيشه الكاتب ، من أكبر دوافع الإيديولوجية . وبها يعبر الكاتب عن مواقفه و انتقاداته . علاوة على أنها أكبر مجال يظهر مدى إخلاص الكاتب لقرائه.
في العودة إشارة واضحة إلى الفرق الحاصل بين عالمين متناقضين يفصل بينهما الحلم والعمل و الكرامة الإنسانية . فالبطل الروائي المختار خلق من معدن خاص ميسمه الإلحاح و الصبر و العزيمة الفولاذية، استطاع بحمولته الإيجابية؛ الأخلاقية و السلوكية، أن يميط اللثام عن مجتمع موبوء قبل أن يعانقه طيف الهجرة. فضلا عن ارتباطه بالجزائرية " حسيبة " المرأة المطلقة ، جعل الكاتب منها لحمة بين جارين تجمعهما وحدة الدين و اللغة والتاريخ المشترك ؛ وتفرقهما السياسة. هذا القران استغله بزاز باحترافية ؛ ليتسلل خلسة إلى القوانين ، التي تحول دون فتح الحدود ، و تسهيل تنقل الأشخاص و البضائع بين الجارين .
فالمختار كان من جيل المهاجرين، المرتبطين عضويا بالوطن من خلال عدة مواقف وسلوكات يعج بها المتن الروائي . فالعودة ، كسؤال بينصي ، لا تخص البطل بقدر ما تخص الجيل الثاني ؛ (جيل الأبناء ) أو(جيل الفروع) ، بحمولة فكرية و إيديولوجية تختلف عن حمولة جيل الأصول.
بالعمل يحقق البطل وجوده و شخصيته . فالهجرة من العالم الثالث إلى عالم الأنوار استغل تاريخيا من أجل بناء أوطان الدول الإمبريالية .فما كان المختار ، إلا كسائر المهاجرين ، أيقونة تاريخية شاهدة على هذا الحدث ،علاوة على أنه ينتمي إلى الأسافل الفاقدة للبوصلة، و الباحثة عن تحقيق الذات.
فما ساورنا شك أن رواية " هل سأعود يوما " ليست مبوصلة بمنهاج و خطاطات قبل أن يباشر الكاتب رحلة الحكي، بما هما ـ أي المنهاج و الخطاطات ـ قد أرقوه و أخذوا من وقته زمنا ليس باليسير ؛ فالبناء الداخلي له لحمة خاصة ومنسجم تمام الانسجام ، إلى حد التناغم مع أحداث الرواية في وفاق تام . فضلا عن ظهور بوليفونية ، بين الفينة و الأخرى ، تذوب وتنصهر خلالها كل الأصوات ، مشكلة كورالا واحدا ينشد الأزمة و حل الأزمة.
فالبعد الإيديولوجي، إذن ، حاضر في كتابات بزاز من خلال إبداعاته و انتظاماتها ، غير أنه يكون ملفوفا في لباس قطني صاف كالحليب و رحيم ... يلف قارئه و يغطيه ... ويمنحه دفء الأدب و فنونه .
الكتاب : هل سأعود يوما ؟ (رواية)
الكاتب : عبد النبي بزاز
مطبعة البوغازـ مكناس / 2017