«الناس تمر على الأشياء دون أن تلاحظ شيئا، الناس تحسب الحقيقة جامدة، تُلقَّن أو تُحفَظ.. الحقيقة اكتشاف دائم، هي مدى مطابقة فكرة للواقع.. في مساجلات سقراط، يحسب الناس الحقيقة ما سمعوا أو لُقنوا، فإذا أعملوا عقلهم ألفوا أن ما يعتقدون ليس الحقيقة. والمعتقدات هي الأفكار العامة التي يرتبط بها مجتمع، ولكنها ليست بالضرورة الأفكار التي يمكن أن يتقدم بها، بل قد تصبح وزرا تصده عن الحركة. المعتقدات تملكنا، والأفكار ملك لنا. أثقلت عليك أيها الحمار الفضي. هو عيب المهنة.. تفضل.. هنا بهذا الكهف أعيش، ليس به باب، ومزيته الكبرى هو أني أشرف على أليلي.. تبدو المدينة صغيرة من هنا، قضاياها كلها تبدو من هذا الكهف صغيرة...»[1]
* * *
وردت هذه الصورة في سياق محاورات الحكيم للحمار، التي انفتحت على موضوعات عدة، بدون ترتيب أو تنظيم، فجاءت كأنها خواطر عفوية ورؤى تلامس قضايا وجودية وهموما إنسانية عامة وخاصة. وواضح أن الصورة تتأرجح على عمودين متقاطعين كقطري دائرة، أحدهما يجسد تأرجحا بين التحامل والعتاب من جهة، والتوجيه والتعليم من جهة أخرى، والثاني يجسد تأرجحا آخر بين الحقيقة من جهة، والمعتقدات والزيف من جهة أخرى. فلا يخفى إيقاع التحامل على الناس بسبب أنهم يحسبون الحقيقة جامدة، وهو كلام يحيل على ما عاينه البطل أسنوس في مغامراته ومشاهداته، سواء لدى سكان أليلي الذين ركنوا إلى رواية السلطة حول مقتل أذربال وحول التلويح بمؤامرة وخطر يتربص بالمدينة، أو لدى بني سنوس وبني ييس الذين يعتقدون بالأساطير التي ينسجها أعيانهم ويقدمونها على أنها حقائق قطعية. ولا يخفى كذلك إيقاع التعليم والتوجيه في شرح الحقيقة من خلال قول الحكيم «الحقيقة اكتشاف دائم»، وهي عبارة تعني أن الحقيقة تكتشف بإعمال العقل والموازنة بين الفكر والواقع.
[1]ثم لا يخفى حجم الهجوم الذي تشنه الصورة على المعتقدات وتلقي بها في زوبعة من الشك والتمزيق، في مقابل إعلاء شأن العقل وتمجيد الأفكار التي هي بنات العقول.
ولعل وظيفة الصورة تصحيحية للحقيقة ومنابعها، ورغم أن الحكيم لم يشرح ولم يوضح هذه الحقيقة، فإنه ألمح وأشار إلى ضدها ونقيضها الذي هو الزيف؛ زيف المعتقدات وزيف السرد الذي يوجه حياة الإنسان، وكأن الصورة تقول؛ إن المعتقدات منابع جهل تلقن على أنها حقائق، أما الحقيقة فهي ثمرة تفكير تنكشف من منابع المعرفة في صفائها الروحي والعقلي.
إن بنية الصورة صراعية، تضع المعتقدات في مقابل الحقيقة، وتغربل مفهوم الحقيقة بعد أن تدنست بالزيف، فلا يظهر بريقها وجوهرها، لأن الناس ألفوا الركون إلى ما يقال لهم وما يُملى عليهم. وهذا المغزى يناوش ذهن المتلقي بقوة، إذ يخاطبه في الصميم ويُلفت انتباهه إلى الوضع الإنساني المختل.
بذلك تؤدي الصورة وظيفتين؛ وظيفة توتير الحدث الممتد، إذ أنها وردت في سياق محاورات الحكيم للحمار، تقصّد منها الراوي شحن البطل بمزيد من الطاقة والوعي لاستكمال مغامراته ورحلة بحثه عن ذاته، وهي وظيفة تدخل في النسيج الدرامي للحكاية. ووظيفة خارجية ممتدة توجه القارئ إلى تصحيح مفهوم الحقيقة وتكشف له مكامن الزيف الذي يطوق الحياة، حيث إن السياق التوجيهي لكلام الحكيم لا يستقر عند مخاطبة الحمار الفضي فحسب، بل يمتد ليصل إلى القارئ قبل أسنوس، بمنطق قانون الإزاحة، طالما أن الحديث في الصورة عن الناس والحقيقة والمعتقدات، في حين أن المخاطب حمار، بحسب وعي الشيخ. لذلك فالمنطق يقتضي أن الناس أولى بهذا الخطاب.
وإذا تأملنا الصورة مرة أخرى بعيدا عن ضغط تشكيلها، نجد أن مركزها تجسده عبارة «الحقيقة اكتشاف دائم»، بما يعني، وفق الحد اللغوي، أنها بيان. وقد سبق للراوي أن استعمل كلمة اكتشاف في مناسبة أخرى سابقة لهذه الصورة، في نفس سياق محاورات الحكيم للحمار، إذ نقرأ:
«هل لك أن تصحبني إلى مسكني في الكهف بحضن الجبل؟ لست أملك قصرا، ولا حتى بيتا فخما، وحتى لما كنت بأليلي كنت أسكن بيتا متواضعا. ألك أن تسمع قصتي؟ حكيتها للأشجار وللطيور وللصخور ولا ضير أن أحكيها لك. كل مرة أحكيها أكتشف جانبا منها. الحكي اكتشاف. هيا نمشي، لن أركبك ما دامت قدماي تحملاني..»[2]
تعبق هذه الصورة بأجواء أفلاطونية فيها جبل وكهف وكتاب الطبيعة المفتوح وحكمة، لكن الملفت فيها هو عبارة «الحكي اكتشاف»، بما يعني أنه بيان شأنه شأن الحقيقة. مما يدعونا إلى الانتشار في سياق الرواية للبحث عن ملامح الحقيقة وتجلياتها وعلاقتها بنفسها وبالحكي.
الواقع أن الحديث عن الحقيقة في «سيرة حمار» حديث شائك ومفارق، يزج بنا في متاهات فكرية يصعب مجاراتها، بحيث يمتزج فيها الفكري والفلسفي والتاريخي والإيديولوجي وحتى العلمي، ويتشاكل فيها المنطق التفاؤلي والمنطق التشاؤمي.
ومن خلال عودتنا إلى الرواية وسياقها الدرامي، نجد أنها تقدم وعدين بالحقيقة، الوعد الأول ورد خلال سرد البطل الراوي/ أذربال سيرته الإنسانية التي ركز فيها على مساره المعرفي، حيث نقرأ:
«كان أثر ما درست من فلسفة قد حوّل اهتمامي إلى البحث عن الحقيقة، وكان ذلك سعيا مني لإبقاء ذاكرة هيباتا وحبي لها»[3]
إن سرد البطل الراوي لمساره المعرفي والعلمي لم يكن حشوا أو نزوة سردية زائدة، إنما كان وظيفيا جدا في إضاءة كثير من الجوانب الغامضة من مقصدية النص وكذا تأهيل البطل إلى ما سيأتي من أحداث. وفي هذا المقطع السردي بعض من تلك الإضاءة. فالبطل السارد يعلن أنه يكرس معارفه الفلسفية من أجل البحث عن الحقيقة، غير أنه سرعان ما ارتمى في أحضان ثيوزيس، وتحول بعد ذلك إلى حمار دون أن يحقق وعد البحث عن الحقيقة. وفي ذلك إشارة ضمنية إلى أن الفلسفة التقليدية التي تشبَّع بها البطل لا تقود إلى نتائج مرجوة في بحث الحقيقة، على اعتبار أنها تقبل بسلطة التقاليد الفكرية الموروثة. وخلال السياق يتفتق منطق تشاؤمي واضح المعالم من خلال قول ثيوزيس أثناء تأمل الغروب صحبة أذربال:
«- كما أن جمال الشمس لا يتبدى إلا أثناء الغروب، فكذلك حياة الإنسان لا يبدو جمالها إلا ساعة الأفول»[4].
غير خفي ما تعكسه هذه الصورة من منطق تشاؤمي، اقترن بالفلسفة التقليدية على اعتبار أن ثيوزيس نتاج هذه الفلسفة وصدى لها في النص. مما يعزز كون إخفاق وعد الحقيقة راجع إلى عجز تعاليم الفلسفة التقليدية عن إدراك سبلها.
يكشف سياق الرواية أيضا، أن فشل الوعد الأول بالبحث عن الحقيقة لا يرتبط فقط بعجز تعاليم الفلسفة التقليدية، بل يرتبط كذلك بعدم تخلص البطل من الهوى، حيث نقرأ في صورة وردت أثناء قيام البطل/ أذربال بزيارة مُودِّع لبيت أهله قبل أن يذهب إلى بيت ثيوزيس ليتناول الشراب السحري الذي سيصير على إثره حمارا:
«لزمت والدتي ذاك النهار في حلقة البيت، وطلبت منها أن تحدثني ببعض قصص أهلنا من الأمازيغ، فأبت علي ذلك لأن القصص لا يكون إلا ليلا، وفضلت أن تمحضني بعض الحكم، وكان مما أذكره حكمة مفادها أن من أضلته جوارحه، يهديه فؤاده إن هو تطهر من أدران الهوى...»[5].
هذه الصورة تكشف عن العلة الثانية التي كانت سببا في الإخفاق في الوصول إلى الحقيقة، وهي أن البطل لم يتطهر من أدران الهوى، فسقط في براثن الانحدار إلى مراتب الحيوانية دون أن يحقق وعده بالبحث عن الحقيقة. ويظهر هذا المعنى بشكل شبه صريح في قول البطل الراوي: «بل إن كثيرا من الحماقات مصدرها العقل حين يخضع للهوى نُحكّمه لتسويغ ما تهوى النفس وتبريره...»[6].
أما الوعد الثاني فقد ورد بعد أن تحول أذربال إلى أسنوس، حين احتج بالنهيق على زيف كلمتي النعي اللتين ألقاهما كل من حاكم المدينة ورجل مجهول، فجاء إليه حارس وضربه ضربا مبرحا حتى فقد الوعي، ومن خارج الوعي رأى نفسه في صورته الإنسانية يخاطب قومه. ومما جاء في الخطبة:
«... لذلك صدفت عن ذلك كله لأقول لكم الحقيقة، وقد تكون مرة، وهي أن أذكركم بما أنتم»[7].
واضح أن وعد الحقيقة هذه المرة يختلف عن الوعد الأول في شيء، هو أن الحقيقة هنا لم تعد مجردة، بل تحمل في ثناياها بعض التحديد؛ «أن أذكركم بما أنتم»، حيث صارت الحقيقة معلومة نسبيا، رغم أنها تنفتح على تعويم الضمير بين المخاطب الضمني في الحكاية وبين القارئ بوصفه مخاطبا من خارج النص.
إننا إذا تذكرنا أن هذا الكلام ورد بعد الاحتجاج عل الزيف في خطبة الحاكم وكلمة الناعي المجهول، أدركنا أن وعد قول الحقيقة صدر هذه المرة عن تجربة وملاحظة وليس عن أحلام طوباوية كما كان أمر الوعد الأول. هذا المنحى القائم على الحواس والملاحظة يكشف عنه سياق النص من خلال كلام فيه كثير من القصدية حين قال الراوي: «كنت أصيخ السمع وقد غدا سمعي مرهفا، وألقي بصري وقد عاد حديدا»[8].
هذا الكلام فيه تغريض بأن الحقيقة كانت خلاصة حواس وملاحظة، علاوة على الحدس العقلي الذي تجلت معالمه من خلال مناقشة وانتقاد البطل السارد للزيف والسير الرسمية الكاذبة وإشاعة الأباطيل وتفسير دوافعها والغرض منها. وبذلك تتشكل الحقيقة على أساس موقف ديكارت الذي أعلن أن الإنسان لا يحتاج إلى تعاليم مسبقة كي يصل إلى الحقيقة، لأن كل إنسان يملك في نفسه منابع المعرفة سواء عن طريق حواسه التي يلاحظ بها، أو بقوة الحدس العقلي الذي يستعمله ليفرق بين الحقيقة والزيف.[9]
يمكن أن نتبين، إذاً، أن تحول أذربال إلى أسنوس لم يكن جسديا فحسب، بل امتد إلى منهج تلمس الحقيقة، حيث انتقل البطل الراوي من النزعة الفلسفية التقليدية والأحلام الطوباوية إلى النزعة العلمية التجريبية والعقلانية النقدية التي بدت واضحة في ثنايا الخطبة، وكذا على امتداد مغامرات أسنوس الذي انتقد واقع الإنسان وهاجم عدم إعمال العقل ومزق المعتقدات في صور سردية كثيرة في النص. كما انتقل البطل من الهوى والدرن إلى المعاناة بوصفها عقابا وكفارة، بحسب ما يخبرنا به السياق: «ألا يكون فيما قاسيت كفارة لي»[10]، إلى التطهير.
بذلك تظهر معالم أن الحقيقة بيان، أي أنها تكشف نفسها لمن خلصت نيته من الهوى وأراد إدراك الحقيقة. ولنا أن نتذكر في هذا الصدد حكمة الأم التي أغفلها أذربال فنزل إلى الحضيض، ولنا أن نتذكر أيضا الاغتسال في العين وما حايَثَها من دلالات التطهير الكثيرة التي حدثنا عنها الراوي في إشارة إلى التخلص من الدرن والهوى الذي هو أصل السقوط والانحدار.
على هذا النحو تنمو الحقيقة في «سيرة حمار»، حيث سيخوض أسنوس رحلة فيها ملاحظة وتأمل عقلي وحدس، بلورها الكاتب بعناية لغوية فائقة فيها تغريض سياقي متوازن وموحٍ، إذ تصادفنا كثيرا ألفاظ من قبيل (رأيت- تفكرت- قدّرتُ...)، وهي تحيل، على التوالي، على الملاحظة والعقل والحدس. ووقف الراوي مليا على منابع الزيف والأكاذيب والطقوس والمعتقدات، التي صنعت الوهم واختلقت آلهة من البشر، يتحكمون في مصائر الناس ومعاشهم وأرواحهم، وخلَّل الراوي ذلك بكثير من الشرح والتأمل والنقد العقلاني على مذهب سقراط، كل ذلك يبرز ويبين أن مبدأ «الحقيقة بيان» يحتاج إلى فضح الزيف، ولعل سياق النص يكشف أن الراوي رصد كثيرا من مظاهر الزيف التي غَرّبت الحقيقة، كما كشف كيف غابت الحرية والحكمة والحب والعدل والإنسانية، وحال الهوى والقوى الشريرة، التي تقدم منابع الجهل على أنها حقائق، دون الوصول إلى النبع الصافي للحقيقة الإنسانية والوجودية. مما يقودنا إلى أن مبدأ الحقيقة بيان أو اكتشاف، على حد تعبير الراوي، مبدأ ليبيرالي يؤمن بأن يسود القانون والعدالة الاجتماعية في المجتمع الحر، كما يؤمن بقدرة الإنسان على طلب المعرفة والبحث عن الحقيقة[11].
إن هذا المغزى الليبرالي سيتجلى بوضوح أكبر في النص، في صورة فيها تحاور صامت من الحمار إلى صاحب السيرك، يبدو فيها الراوي وقد اكتشف حقيقة ما، وينتشي فيها بتحرره، إذ نقرأ:
«أهذه حقيقتك يا صاحب السيرك، أردت القضاء علي دون أن تحمل نفسك هذه الفعلة الشنعاء، ألقيت بي في أتون المعركة مع سبع أهوج وأنت تُقدّر أنه سيمزقني شر ممزق، ولم تتوقع أني أستطيع أن أنتصر، وليس النصر بالنسبة إلي إلا الإبقاء على الحياة. لسوف تسعى أن تسحب هذا النصر إليك، وتزعم أن الحمار حمارك، ولكني أعرف طويتك. ولم أعد منذ اليوم حمارك، روضت الأسد والفيل والقرد، وتخلصت منها بسهولة وأردت التخلص مني بذكاء يعفيك من المسؤولية. ها أنا لا أزال حيا يا صاحب السيرك، ها أنا حر يا صاحب السيرك.. حرّ رغم جراحي ورغم ندوبي»[12].
تبدأ الصورة باستفهام استنكاري فاضح لحقيقة صاحب السيرك، حقيقة قوامها الاستغلال والظلم والتزييف والتخلص المجزي الذي يجعل الربح غاية مهما كانت الوسائل. كما تحمل الصورة تمردا صامتا وانتشاء انفعاليا غاضبا بالحرية والتحرر. فلا تهم الجراح والندوب، بحسب مشاعر الصورة، إنما المهم هو الحرية التي تكرر ذكرها مرتين من خلال كلمة «حرّ». مما يعزز المنحى الليبرالي لهذه اللقطة السردية وللنص برمته، وهو منحى يحضر كمقابل للسخرة والظلم والاستغلال وسرقة الإنجاز والتضحية بالآخر والتنصل من المسؤولية، كما يعزز مبدأ أن الحقيقة اكتشاف أو بيان. وهو المبدأ الذي قام عليه سؤال الحقيقة في الرواية.
إن الحقيقة في «سيرة حمار» تم تناولها بالارتكاز على فكرة أن يتعلم الإنسان لكي يتحرر، وقد ظهر ذلك في هذه الصورة كما في صورة الانطلاق، وكذا من خلال محاورات الحكيم وفي كل فصول مغامرات أسنوس، مما يعزز الطابع التعليمي للنص. غير أن السياق يبرزبشكل تشاؤمي أن قلة من الناس من يدركون:
«ألا ما أظلم الإنسان وما أعماه عن الحق، فهو لا يحكم إلا بالهوى، عدا فئة قليلة، وشأن هذه الفئة أن تبتلى وتُسام الخسف»[13].
هكذا فإن رؤى كهوف الرواية تشبه فكرة أفلاطون في الكهف، إذ يقرر أن الحقيقة لا تظهر إلا للنخبة، وأن الحقيقة التي تظهر هي الحقيقة التي تفضح الزيف في عالم تكبله المعتقدات ويحاصره الزيف.
إن المبدأ الذي تقوم عليه الفلسفة التفاؤلية، والمتمثل في أن يتعلم الإنسان كي يتحرر، يجد صداه في النص، حيث تعلم أسنوس من مغامراته ومن محاورات الحكيم، وتعلم أيضا من المصارع الذي هزم الأسد بإعمال عقله، فانتصر بدوره على الأسد، إذ ذاك تحرر وخاض رحلة الأوبة إلى سيرته الإنسانية، لكن دون أن يكشف لنا حقيقة ماثلة، ذلك لأن مفتاح الحقيقة ليس بيد الحواس ولا العقل، إنما هو بيد المخيلة والحس العقلي. فالحقيقة تكمن في الأعماق، وقد سبر البطل الأعماق، وخاض سفرا في الذات والمجتمع، ومع ذلك لم تبد حقيقة بالمعنى الملموس، لأن لا معيار للحقيقة، إلا أنه كشف نقيضها، أي الزيف. وهذا أقصى ما يمكن أن ينتهي إليه البحث عن الحقيقة.
لقد تقلبت الحقيقة على أبعاد ومعتركات اجتماعية وإنسانية وتاريخية وثقافية وسياسية، بل وامتدت إلى العرق كذلك. وهو أمر طبيعي طالما أن الصلة بين الرواية والحقيقة، هي صلة الكشف عن انتماء الفرد إلى العرق وانتماء العرق إلى الجنس البشري عامة[14]. وفي خطبة البطل الراوي التي ألقاها من خارج الوعي، نتذوق هذا المعنى، إذ يقول:
«ساكنة أليلي وكل أرجاء موريتانيا الطنجية، بل كل بقعة من أرض الأمازيغ:
لقد طوفت أرجاء عدة لأقول لكم إخوتي إنا تأثرنا بحضارات عدة مثلما أثرنا فيها، وأن لا خطر يتهدد شخصيتنا العميقة من خلال هذا التفاعل. إن الخطر كل الخطر أن نختزل تلك الشخصية في جانب ونصدف عن التجربة الإنسانية التي أتيحت لنا من الحضارة الفرعونية فالإغريقية والرومانية وقبلها الفينيقية. إخوتي إننا لسنا طارئين على هذا الرصيد الإنساني، لسنا متسولين، هو جزء منا ونحن جزء منه...» [15]
غير خفي أن جوهر الصورة يتصل بالعرق، وحول العرق يحوم جزء من حقيقة النص، بل ومن غايته المتعالية. فالخطبة جاءت في شكل من التداعي الحر، إذ أنها صادرة من خارج الوعي، لكن سردها بغير سند سياقي واضح، يعبر عن قصد يتجاوز محاورة الراوي لإخوته الأمازيغ إلى مخاطب آخر. كما أن الإصرار على حكي خطاب اللاوعي ينطوي على كثير من الوعي، فقد أوهمنا الراوي بأن الخطبة أشبه بحلم، لكنه حلم مقصود، إذ يحتوي على معظم المعنى والغاية المتعالية للنص، وهي غاية تروم تصحيح التاريخ الأمازيغي وتلمح إلى ضرورة استحضار العرق الأمازيغي في التوازنات الاجتماعية.
إن الحقيقة في رواية «سيرة حمار» تبلورت عبر الحس العقلي، وكذا عبر المخيلة، واكتست دلالات اجتماعية وإنسانية وتاريخية وحضارية وسياسية وثقافية وأسطورية وغيرها، مما صعَّب على القارئ القبض على الخيط الذي يحيك الحقيقة ويوثقها، فهي تحوم حول نفسها وحول المحكي في النص، والراوي الضمني يخبرنا بأنه يقتفي أثرها، وهو في الآن نفسه يشرحها ويفسرها عبر فصول الحكاية.
هكذا يمكن القول؛ إن الحقيقة الضائعة والهاربة هي الحكاية نفسها. وفي النص ما يبرر ذلك، خصوصا إذا تأملنا العبارتين اللتين وردتا في صورتين سابقتين: «الحكي اكتشاف» و«الحقيقة اكتشاف»، حيث إننا إذا اختزلنا كلمة «اكتشاف» تبقى لدينا معادلة أن الحكي هو الحقيقة، بحيث يتحاور الحكي والحقيقة تحاور الصورة والمرآة، وتضعنا الرواية أمام حقيقة الحقيقة؛ أي الوضع الإنساني الرهيب الذي تصوره وتحكيه.
* * *
لقد حاور الراوي الحقيقة بمنطق تفاؤلي وبمنطق تشاؤمي، كما سبق أن رأينا، ومن حق القارئ أن يتلمس المنطقين أيضا، فيقول بمنطق تفاؤلي؛ إن النص يفسر "نظرية الحقيقة بيان"، وبمنطق تشاؤمي يمكنه القول؛ إن النص يفسر "نظرية السلطة المطلقة".
(*) هذه المقالة محور من دراسة نقدية ما زالت مخطوطة بعنوان (المتن والحاشية في "سيرة حمار" لحسن أوريد- تأليف: البشير البقالي).
[1]- حسن أوريد، سيرة حمار، منشورات دار الأمان- الرباط، الطبعة 3- 2015، ص 74 .
[2] - نفسه، ص 72.
[3] - نفسه، ص 11.
[4] - نفسه ص 15.
[5] - نفسه، ص 19.
[6] - نفسه، ص 18.
[7] - نفسه،ص 39.
[8] - نفسه، ص 24.
[9] - كارل بوبر، حول منابع العلم ومنابع الجهل، عن محي الدين صبحي، النقد الأدبي الحديث بين الأسطورة والعلم، الدار العربية للكتاب- 1988، ص19.
[10] - سيرة حمار، سابق، ص 106.
[11] - كارل بوبر، عن محي الدين صبحي، سابق، ص 19.
[12] - سيرة حمار، ص 104 .
[13] - نفسه، ص64.
[14] - محي الدين صبحي، سابق، ص 14.
[15] - سيرة حمار، ص37.