"كتاب اللاطمأنينة" نص نثري شذري يخلد يوميات عاشها الشاعر والكاتب البرتغالي فرناندو بيسوا المتوفى سنة 1935، قام بترجمة هذا الكتاب – مشكورا – الشاعر المغربي الشمالي المهدي أخريف وصدر ضمن منشورات وزارة الثقافة والاتصال في خريف 2001، لعل أول ما يقفز إلى ذهن القارئ ويلفت انتباهه هو أن ثمة تناقضا يسكن العنوان المقترح لهذه الورقة. إنها بالفعل مفارقة جلية بيم مملكة حلمية يفترض فيها الهدوء والسكينة والاطمئنان، وإلا لما كانت كذلك، وبين كتاب يسهب في تعليل دواعي اللاطمأنينة وبواعثها. لكن سرعان ما يتلاشى التناقض وتتبدد المفارقة إذا علم القارئ في حدود هذا الأثر الأدبي على الأقل، أن الكاتب يلوذ بمملكة الحلم هروبا من واقع مقرف ومحفوف بآفات القلق والضجر والقنوط والانكسار.
لكن غير كاف البتة الإشارة إلى المفارقة الكامنة في عنوان هذه الورقة دون الحديث، ولو باقتضاب، عن المنهج الذي يهيكلها. هكذا يمكن القيام بخطوتين اثنتين : في الخطوة الأولى، يحدد موقف بيسوا من فعل الكتابة ويعلل اختياره للنثر كشكل تعبيري صاغ به وعلى ضوئه يومياته، وفي الخطوة الثانية قراءة للمتن البيسووي الذي يتمحور حول تيمة الحلم، على أن تلي هاتين الخطوتين وقفة تنطوي على خلاصة حول ارتباط الحلم بالكتابة أو الكتابة بالحلم.
1- لعنة الكتابة...
تعني الكتابة عند بيسوا احتقار الذات، ومع ذلك فهو لايستطيع التخلي عنها. إنها مثل مخذر يثير اشمئزازه ومع ذلك يتناوله، مثل بلية يحتقرها ويحيى بها. وفي نفس الموضع، أي الصفحة 191، يعلن الكاتب أن الكتابة تعني فقدان الذات. وبما أن كل شيء فقدان أكيد، فهو يفقد ذاته بدون فرح، " لاكما يفقد النهرمجراه في المصب وهو ما من أجله وجد النهر، وإنما مثل البحيرة التي يخلفها المد البحري في الشاطئ بدون أن يعود ماؤها إلى البحر." وفي موضع آخر، أي الصفحة 198، يصادف القارئ موقفا عجيبا غريبا من الكتابة حيث يقول إنها أصبحت عديمة المتعة بالنسبة إليه وصار عنده فعل منح التعبير للانفعالات وتجويد العبارات أمرا مبتذلا يمارسه بدون حماس ولا تألق.
أما فيما يخص جوابه عن سؤال" لماذا يكتب؟ "، فهو لا يقل غرابة عن ذينك الموقفين إذ يقول في الصفحة 208: " لماذا أكتب؟ لأني أنا الداعي إلى التنازل والانسحاب لم أتعلم بعد ممارسة هذا التنازل على أتم وجه، لم أتعلم التخلي عن النزوع إلى الشعر والنثر. علي أن أكتب كما لو كنت أنفذ عقابا والعقاب الأكبر هو معرفتي بأن ما أكتبه باطل فاشل وغير يقيني."
لكنه في مكان سابق، صرح بأنه يحاول تحقيق ما يطمح إليه بواسطة الكتابة التي ينبغي ان تتم بشكل أفضل لأنه لا يجرؤ "على الصمت كمن يحترس من غرفة معتمة"(ص:191).
من أجل تبرير انتصاره للنثر وتفضيله على الشعر أثناء التفكير والشروع في كتابة يومياته، حرر بيسوا شذرة تمتد على على صفحة ونصف (37- 38)تحت عنوان "حديث النثر" وهو من وضع المترجم العربي. إنه يفضل النثر على الشعر لأن العالم يتركز في كليته بالكلمة الحرة التي توجد فيها، من جهة أخرى، الإمكانيةالكاملة لكي نعبر عنه ونفكر فيه. ثم يضيف قائلا: " في النثر نمنحه (العالم) اللون والشكل اللذين ليس بمقدور الرسم منحه إياهما إلا على نحو مباشر، وبدون أي بعد حميم، ونمنحه الإيقاع الذي لا تمنحه الموسيقى إلا مباشرة أيضا، وبدون شكل مجسدن ومجردا من ذلك الجسد الثاني الذي هو الفكرة. ونمنحه البنية التي إذا كان على المعماري أن يشكلها من مواد صلبة، معطاة وخارجية فإننا نصنعها من إيقاعات وترديدات، من متاليات وانسيابات، ثم نمنحه الواقعية التي على المثال أن يخلقها في العالم بلا ليونة ولا استحالة. وأخيرا نمنحه الشعر، الشعر الذي دور الشاعر فيه شبيه بدور المبتدئ في محفل سري، هو عبد، وإن طوعا، لمقامات وطقوس معينة." ولعل التأكيد على توفر شرط الشعر في النثر هو ما حذا بإدمون عمران المليح في تقديمه لكتب اللاطمأنينة إلى وصف الأسلوب البسيط المستثمر طيه بالنثر الشعري.
2- مملكة الحلم...
ليس المقصود هنا بالحلم تلك الصور اللاشعورية التي يراها الإنسان في منامه والتي اهتم بها ابن سيرين وفرويد كل حسب منهجيته ومرجعيته، وإنما المقصود به ذلك المعبر إلى الفضاء الشاسع المتاح للفرد الحالم السباحة فيه بدون قيد أو شرط. بهذا المعنى، يكون الحلم مرادفا للتخيل المطارد للواقع الذي لا يترك مجالا للإحساس بالحلم. هكذا يمكن للموظف البسيط، الذي كانه بيسوا في مكتب شارع ألدورادوريس، أن يتخيل أشياء كثيرة في حين أن الملك "محرم عليه أن يكون في الأحلام ملكا آخر مختلفا عن الملك الذي هو إياه"(ص : 75). لهذ، لا داعي للاستغراب من إعلان الكاتب عن كونه عاش تجربة انعتاقه بفضل الأحلام وذلك ضمن الشذرة التي عنونها المترجم ب " أحلام منتصف النهار" (ص :89).
إنها، إذن، أحلام اليقظة التي يوثرها على أحلام الغفوة. أن يحلم ماشيا في الشارع أحسن وألذ عنده من أن يحلم وهو نائم على سرير وتير. لننصت إلى اعترافه بهذا الصدد: "(...) عندما لا أكون مجبرا على مراقبة سيرورة خطواتي، لتفادي السيارات وعدم مضايقة المارة، عندما لا أكون مرغما على محادثة شخص ما، ولا مهتما بمدخل باب قريبة، حينئذ يحلو لي المضي عبر مياه الحلم مثل زويرق من ورق" (ص:71).
هكذا يكون الحلم جسرا إلى فضاء فسيح، إلى "جزر الجنوب وبلدان هند مستحيلة"، سيما وأن الكاتب يحب المشاهد الطبيعية المستحيلة والفيافي الشاسعة التي لن يطأها أبدا. وفضلا عن ذلك، الحلم فعل مضمون وراسخ بحيث لا تقوى الآلهة على تغييره واجتثاثه، ومثلما يكون الحلم المدرك بصيغة المتعدد هروبا إلى عوالم ممكنة أو متخيلة، فهو كذلك هروب إلى الذات مشوب بالعار.
لكن فعل الحلم الراسخ هذا قد يصاب بالهشاشة إذا تعرض للمس المصنف من قبل كاتب اليوميات ضمن الحواس العامية والجسدية باستثناء حاستي البصر والسمع. لهذا ينصح صاحبنا قارئه بعدم الاحتكاك بالمرأة عن طريق اللمس وإلا توقفت عن أن تكون " منبعا جيدا للأحلام" (ص:231).
بماذا يبرر هذا الموقف الشاذ من المرأة؟ هل يبرر بامتلاك الكاتب لسائر المقومات الروحية للبوهيمي، تلك التي تدع الحياة تسير كشيء ينفلت من اليد في نفس الوقت الذي تظل فيه إشارة امتلاك الحياة راقدة في مجرد فكرة إبداء الإششارة؟
مما لاشك فيه أن ثمة تبريرات أخرى لهذا الموقف مبثوثة هنا وهناك في تنايا الكتاب، لذا يستحسن إيراد أكثرها إقناعا وإمعانا في التفلسف وهي أن الحب يبغي التملك لكنه لا يعرف ما هو التملك.
إذا لم يكن الرجل يملك ذلته فكيف سيمكن للمرأة أن تكون له؟ إن كان لا يملك كينونته الخاصة فكيف له أن يمتلك كينونة غيرية؟ إذا كان مختلفا مع ذاك الذي هو تام التطابق معه فمن أين له أن يكون متطابقا تماما مع ذلك الذي هو مختلف عنه؟
3- الحلم والكتابة...
بفضل الكتابة يصبح الحلم أكثر نضجا واكتمالا من الواقع.لقد تنبه بيسوا في أحايين كثيرة إلى أن شخوصا روائية متخيلة أو محلوم بها تمتلك قدرة على التعبير ليس في مقدور معارفنا وأصدقائنا الواقعيين امتلاكها. إن سر نجاح الشخوص الروائية في مجال التعبير والتحاور كامن في أن الكاتب الراوي جعل حلمه ينطلق من إرادته ووعيه وليس من لاوعيه.
أخيرا، لا ينبغي أن نعتقد أن الكاتب (بيسوا) يكتب لغرض النشر، أو يكتب لأجل الكتابة، لأجل ابتكار فن من الفنون. إنه لا يكتب لكي يجعل النثر يتألق ويرتعش ولا حتى لكي يستمتع بهذا النثر، وإنما لكي يمنح برانية كاملة لما هو جواني ولكي ينجز ما لم يتم إنجازه، مصرفا المتناقضات وواهبا الحلم الخارجي أقصى طاقة على الحلم الخاص.