بين تاريخ صدور بواكير دواوين محمد الطوبي، وصدور ديوانه: "غواية الأكاسيا"(1) ثلاثة عقود من الزمن تنقل فيها بين الهموم الذاتية، والهموم الوطنية بحكم تفتق وعي الذات المبدعة على ما كان يشغلها حينما كانت الآفاق مشرعة على المستقبل الحامل لبشارات الأضواء التي بدأ يخفت وميضها مع مرور الزمن، لتسلم الشاعر إلى نوع من الارتداد إلى هواجس الذات المهزومة التي تتجاذبها رغبات يومية بسيطة.
غير أن هموم هذه الذات المنهارة بحكم قساوة الواقع المر وفظاعته، لم تتخلص نهائيا من الأحلام التي كانت تؤرقه حين كان- مع رفاق له- يؤمنون بحتمية تحققها.
ومن ثم جاء ديوانه: "غواية الأكاسيا" نسيجا متساوقا مع هذه الأحلام.
وهي على بساطتها أحلام ثلاث.
1- أحلام الوطن المنزوع الهوية، الوطن المسروق.
2- أحلام الذات العاشقة لأطياف الأجساد المغسولة من صدإ النفاق والرياء الذي ملأ الدنيا.
3- أحلام التشرد والانصياع لغواية مملكة النبيذ.
والخيط الرابط بين هذه الأحلام الثلاثة التي تؤثث قصائد الديوان؛ هي الانخطاف تجاه سلطة العشق والغواية". فالحب في تصور الطوبي لازال ممكنا ولم تنطفئ ذؤاباته في الروح بعد. وهذا الإيمان بالعشق هو ما يدفع الشاعر إلى مقاومة الحزن واليأس.
" أنا أحببتكم
الحب لا يزال ممكنا
لم تنطفئ ذؤاباته في الروح بعد.
لكن فليكن انه لن يؤرقكم أكثر،
كم لا أريد أن أحزنكم بأشيائي"(2).
ويشكل هذا الإيمان بالعشق التيمة الكبرى المهيمنة على جل قصائد هذا الديوان كما سيتضح لاحقا.
1- أحلام الوطن المنزوع الهوية، الوطن المسروق:
"سطوة السؤال وأسطورة غيم الأقاليم، اسورة الفضة تحاكي لهجة بيروت حين رتلت سورة السكر لما سها السيف- أقمار ميلاد النيازك في شمس الظهيرة تكشف أن وهران الوقت أول خرافة رؤيا الحداد في ليل الدخان، ليل الأعزل المستحيل الشاحب المكتوي بنار الخرافة صباح الترنيمة، بين الرصافة والكرخ أقبل الشعراء ليهدوا وردة للشهيد المغربي ليل أورق الجلنار..."
هذه بعض من الظلال التي تلقي بأفيائها على قصائد محمد الطوبي الوطنية يرسم من خلالها مدى رسوخه في التربة المفضوضة للبلاد المنيعة التي لا تنبت إلا الحزن والقلق على حالها. ويحضر الهم الوطني بقوة في المتن الشعري لديوانه: "غواية الأكاسيا"، فبالإضافة إلى هذا التعلق الذي يكاد يكون بريئا بالوطن الذي آواه، وترسبت في وجدانه بيئاته وشموسه وظلاله الوارفة التي كان يستظل بها من رمضاء الزمن الأغبر العاقر؛ هناك بعد آخر للوطن/ الحلم، الوطن البديل الذي أرق أجيالا ممن انخرطت في حركات تصحيحية وثورية من أجل بناء وطن حر نام وواعد لجميع التطلعات المشروعة.
ويحرص محمد الطوبي على الخلط في القصيدة الواحدة بين الهم الذاتي والهم الوطني، عازفا على وتر العشق الذي تتلاشى فيه الحدود بين عشق المرأة/ الحبيبة، وعشق الأرض/الوطن. ففي قصيدة "وهران الوقت" يقول:
"إن غوى وطني المستحيل غويت مشيت
الذي شاء لي عاليا في ضواحي الهوى
عندليب جروحي"
...
لعينين عاشقتين تجلت بلادي
مرايا تجلت على ارجوان الحنين" (3)
ومن هذا المنطلق، ينتقل الشاعر إلى مستوى آخر في نسج علاقة العشق هذه بين المرأة/الوطن، المرأة/ المدنية. ليصل به المطاف إلى التشخيص النسوي لمدن هذا الوطن، حيث تبدو مشوهة ملعونة وبؤرا للخزي والعار لأنها استبدلت ملامحها، وتنكرت لشعرائها، وفتحت أذرعها للسواح والغرباء:
" فاحص كم مدن صلبت عاشقيها القدامى؟
فلنقل أنها مدن تشابه كالمعصية
فما اتعس الشعراء إذا احترقوا وحدهم داخل المدن
اللاتسمى ويصعب في وصفها الوصف والتسمية
وما أجمل الشعراء إذا عشقوا أطلقوا في شفيف النشيد
نيازك حتى تمر على جوسق الذهب امرأة كالخرافة والأحجية
مدن لا تزين إلا لسياحها كالبغايا التزاما
ولا تفتح الباب لله والحب أو مدن
تنجب الشوك والكسرة المخزيه
مدن تحبس الأفق في الأقبيه"(4).
أمام وضع المدن هذا الذي فقدت فيه كل مقومات كرامتها حينما سرق الدخلاء منها مواسم فرحها، يبدو الشاعر وكأنه لا يستطيع التخلص من زفرات التوجع والأسى التي تثير في نفسه رغبة الرثاء على أحوالها:
"مدن لانهمار المراثي مجهزة وصليل الصنوج
فلا تشعل الورد للشعراء مداما
ولا تشرع الصدر للأنبياء مقاما
ولكنها تتبرج مثل إمام القصور
ولا شيء يسمو بها إن سما غير
اسمنتها في سمو البروج" (5).
في مدن النفي والعسر والقهر، يرسم الطوبي ملامح الوطن المسبي، الوطن المستباح الهارب من نهار المرايا، وطن القمع والذبح والسطوة الكبرى :
"وطني لوعة النهار
وطني خصر شمس بتول
وطني صرخة الدم في صباح قتول
وطني وردة الشهداء"(6).
لقد أصبح الوطن معادلا للخزي والعار والهزيمة، وهذا ما يسلمه إلى رثاء حاله:
"وطني حاء ما يجمح العطر في منتهاه
وطني وهج عاشقة أشرعت لأنوثتها
شهوات البهاء
وطني زنبق العمر لما تضيء الملاحم
عرس الخيول
وطني صلوات فواخت سهدها
حلم أندلس جارح من مرايا وجمر
جرح أسطورة وطني"(7).
فالخيول لا تصاحبها السروج، والولائم لا تقام للصعاليك، والعشيقة لم تشعل زهو أيقونتها، ومن ثم يتوسد الشاعر رصيف حلم عشقه لوطنه المنهار ليعزف على أوتار الشجن معزوفات ملحمة العشاق:
"يا المتسكع بين مجاهدة الشنفرى
وبتاريخ رؤياك أي صباح ترى
لمديح الحمام وأنت الولوع بقمح المرايا
كأنك لا تشهر الحب إلا لتكتب ما يصطفيك
وما تتوجعه ذكريات القرى
وكأن وعول طفولتك اشتعلت طربا في نخيل الوصايا
لتأتيك أعراس منفاك أجراس عشقك في وطن
كم تمنيت لو لم تلجه خيول المغول ولا أمه
فقهاء الخطايا" (8).
ثم يعترف في الأخير بخيبة أمله تجاه الوطن وتجاه معشوقته معا، فلا حبه للوطن قاده إلى الشعور بالزهو على حاله، ولا المحبوبة أغذقت عليه من حنانها،
"كان جرحك فجر القرى لاغني بلادي
كان عشقك شمس النهار وذاكرتي لاغني بلادي
كان صوتك ينبوع أغنية من تباريح شيليا
كان حلمك أن يدخل العاشقون صباح البهاء البطيء براري بلادي
...
سيدتي ليس لي سلطة البدر إني المصاب برجس بدرك
شهيد مباهج عمرك
وعاشقك المغربي الذي خاض شهوة جمرك
...
من الخراب رسائلي وسنابلي اشتعلت
وكنت غوايتي القصوى
شمائلها المرايا والطيوب(9)
2- أحلام الذات العاشقة- لأجساد الفضة المغسولة بدموع الياقوت:
يبدو للمتأمل في قصائد ديوان "غواية الأكاسيا" أن الشاعر محمد الطوبي راهب في محراب الصبوة والعشق، يقدم فروض الطاعة والولاء لمن أحبهن كل هذا الحب الصوفي. فالعشق سيده ومولاه الذي استبد به ليسكن القلب ويفتك به:
" أسأل العشق: يا سيدي العشق كيف تشردني"
إنه يصلي من أجل عاشقة أدخلت البهجة على قلبه النازف منذ أضاع أربعة وثلاثين ربيعا في حانات الليل:
"وأنا صليت لبهجة عاشقة لما أوشك شكي أن يحصد أربعة وثلاثين ربيعا
ضاع على شهوات البرق وحانات الليل وفاكهة الأحزان.
...
عشقك سيدتي إنجيل المنفيين الغرباء
وصليب رصع من نور الصلوات
وأعراس النايات وقداس الأسماء
....
وأنا حرضت وعول السوسن حرضت
زغاريد الفضة فيك اخترت العشق القدوس القاسي"(10)
وللطوبي في وصف خليلاته جرأة ناذرة؛ إنهن الفاتنات الخلابات الميادات الصادحات الرشيقات، إنهن إيقونات العشق، الأميرات اللواتي تحرضن ملائكة الصبوة لاستدراجه لضواحي الفرح بغية الإيقاع به في حبائلهن التي لا يرجى منها فكاكا.
هذا هو محمد الطوبي، إنسان بقلب كبير مترع بالأسئلة التي لا تنتهي، فهو لا يهدأ له بال أبدا، إنه منشغل باستمرار، لقد سمي وأرّخ وآخى وصلى وحرّض وصوب" حتى تبدى له تاريخ الدالية وجرح الماء، ومن ثم انبرى ليكتب مزاميره لوليمة الدنيا في مملكة العشق الأسرة على إيقاع الصبوة والنشوة والجمر:
"أسمى هديل الروح برية طاووس الحنين فاكتب مزامير لنهار الأجراس وفوانيس للفصحى
وألقي خرافة جسد يمتلك نار الكون لضحكة طفل إله يلعب بكواكب النسيان
وشجر الوقت وأنا أسير صبوتي الأسطورية وسيوف الفرح تبايع سطوتك الزاهية الآسرة
يا المملكة الباهرة.
لغتي سكري وسبو هودج طيوب أيائل برق ومفاتنك القاسية أول البهاء"(11).
ويبدو الطوبي منجذبا لشهوة الجسد المغسول من صدإ الرياء والعواطف المزيفة لا يبغي عنه بدلا، كيف لا وهو الذي "قاد للخنجر شهوة الجرح، وحرض جسد الفضة المغسول بدموع الياقوت، وسرح مناديل البرق لقيامة الإيقونة ومجون النسرين". وهو بفعله هذا إنما يريد أن يحتفل الخراب بما أغذق عليه من غواية العشق على مدائح الصعلكة البهية.
لقد استبد العشق بالذات اذن، وانساقت هي لشهوته حتى أصبحت أسيرة لفوضاها، مسلوبة الإرادة:
" أنا الجارح الكاسح الحارق المارق العاشق الفوضوي،
أنا لو أشاء سلبت الردى سلطة الاستعارة كي أرتوي وسكنت عذوق
المرايا خطفت غزال انكساري
خبطت السؤال بنشوة ما يستقي صولجاني
وسويت أسماء مملكة سبايا الغواية
كان الذي سيكون مساري
كأن البداية لي والمشيئة لما تشائين ما شئت لي
وابتهال الدوالي مناري"(12).
وهو بإعلانه عن دخول مملكة الغواية يعترف أنه مصلوب ومعطوب الإرادة:
"أنت محفورة بالزبر جد مكتوبة بعطور الشراع المشاكس يا أنت ياخطو معجزتي
وصليبي الوثيق"(13).
والشاعر مصر على أن يتمادى في حبه لمعشوقته وإن أدى به إصراره هذا إلى المنفى والتشرد في فضاء سحيق:
"أحبك حتى أراني بلا وطن أو صديق
بلا ليلك في شرود الطريق
بلا خيمة في فضاء سحيق"(14).
وهو لن يتوب عن إعلان عشقه هذا والتزامه به حتى وإن قاده ذلك إلى الجنون:
"أنا قلق ومأساة واشرعة تحاربها الغيوب
أنا لا أتوب
من الجنون إلى الجنون أنا رخام العمر في وجعي أذوب" (15)
هكذا يعترف الشاعر صراحة بأنه منخطف باسـتمرار لنشـوة الصبـوة والـوله لأيقوناته اللواتي تحرضنه على ألا يبارح محرابهن، وتستدرجنه لوصف مفاتنهن وأطراف أجسادهن.
وهو وفي وصفه لهن حريص على رسم ملامحهن، وأعضائهن بدقة متناهية؛ "فالنهد أبهى النيازك من فضة" و"الشعر جامح المرايا" و"الجسد بأجمعه "يحرض الروح لتغتسل من فضة" والشعر جامح المرايا" والجسد بأجمعه" محرض الروح لتغتسل من جراحها" ويكتب صبوات الماء ويغسل جروح الروح بلوعة الشيح" و"يرقش شهوة الفضة بحنين الحنة" والشاعر باسترساله في أوصافه هذه، إنما يلتمس دخول عالم الصبوة كي يسبح في مملكة العشق ويحصي مفاتن البهاء:
"أنا الذي قاد للخنجر شهوة الجرح هدى للفخذين غواية التفاح
أهرق لموسيقى الساقين شبق الحرير وساق لسطوة النهدين
مرايا الورد أنا الذي لمق الحاء على جهات منسية لبزوغ
جلنار بهيج بخلاخيل الغزلان المعمدة بألق اللوتس"(16)
ويقول في قصيدة أخرى:
"فدعني قليلا لأحصي وحوش البهاء التي تحفر الموج
في جسمها المتصبب بالضوء والطيب"(17)
وفي مقطع آخر من قصيدة: "نيروز البهاء" يقول:
"حمام الجسد المفتون المبتهل يقيم قرابين الشهوة لنيروز السكر
حمام الجسد المسفوك بصنوج اللذة يقرأ مروج الزغاريد
الخلابة كلما ابتهج الطيب بشهيق الخصر أجهش بالفرح
النهد الشرس الأمير كلما سالت الحرائق بين الجلد وبكاء
الجلد شهد السرير الوجيع معركة جسدين يخرجان من
نشوة الرماد لضراعة الجمر الكريم وتباشير الفتك
ومناسك السهو الأولى في لوعة الإيقونة ما بعد ظهيرة ناي
وزغردة فخدين أرستقراطيين ينورزان عذارى الماء
الحاسمات هناك على طعنة بنفسج على شغف فضة بالشحارير
تحتل أقاليم الجسد الراضية المرضية للسُرَّة الأمارة بالتبجيل..."(18)
على هذا النحو ينطلق الشاعر دون توقف في إحصاء مفاتن معشوقاته، ووصف أعضائهن حتى ليبدو وكأنه أصيب بالهذيان أو الجنون.
نعم لقد أغذق دمه للعشق ليظل مسفوكا بأرق الغزلان وألم الشوق، وأنذر عمره لمملكة البهاء. كيف لا وهو المؤمن بالعشق الصوفي حينما يقول:
"بالعشق قد أسس الحلاج مملكة
على صليب ولم يسأل لما صُلبا؟" (19)
3- أحلام التشرد والانصياع لسلطة مملكة النبيذ"
يقول الطوبي في قصيدة: "أول العطر"
"أنا الغريب المارق المفتون في سكري وفي سهوي أسير إلى شكوكي
كلما سكنت شحارير الغواية مفرداتي أمتطي زهوي Francesca-Francesca
كأن العمر يهوي من مديح الماء والصبوات نحوي صوبت نخل الأساطير
الحمام أعاد ذاكرتي لمرمر مشتهاها والسنابل من يديك نهار أغنية وفتنتك البداية
في غبوق المستحيل لا صطفي جسدي المعمد بالخراب واصطفي شبق القرنفل كلما اشتعل السواد ووشح العمر الجموح" (20).
بهذه الطريقة، ينصاع الطوبى الشاعر لسلطة التوغل في خراب السكر، إنه المهووس بعالم الشعراء الصعاليك، يقتفي أثرهم، ويستعيد سير تسكعهم وجنونهم ومنافيهم، إنه السابح في أعراس مملكة النبيذ تحت سطوة عشق من نوع ثان هذه المرة، وفي هذا يقول:
"أنا الملعون والمسفوك والمجنون
لا مُلك لي إلا مواسم زوجتي سهد أقداحي
أنا المنفي في أعراس مملكة النبيذ" (21)
ومن هذا المنطلق، يتقمص الطوبى شخصية الصعلوك الغريب المنسي:
" تجلي كما وجعي علم الشعراء الصعاليك أن يصعدوا شهوة العندليب يتامى
وأن يدخلوا جنتي عاشقين."
تجلي كما أنت أراني غريب الحمى للغريب الغريب نسيب، فلا واحتي واحتي، لانعاس سريري ولا حانتي وطني في اغترابي الفسيح"(22)
هكذا ينطلق الشاعر في بحثه الدؤوب عمن يحرره من شجونه وقلقه وغربته، فتتراءى له شخصية الأمير الشريد امرؤ القيس الشاعر الذي أدمن أحلام الصعاليك المشردين على أرصفة النفي بعدما أضاع ملك أبيه، والمسفوكين بأرق الغزلان المسكونة بالنزق والرعب في دوامة الزمن الأغبر:
"أنا النبيذ وجرح شهوتي ملك مشرد في المرايا والنهار طفولتي على جلنار السهو تحترق
أنا النبيذ أعمد انتمائي بقداس القرنفل لما يكتب البرق ميلاد الأغاريد
أسند احتفال خرابي للنشيد.
أنا النبيذ فاتحتي ابتهال، سيف هديل وردة سكنت دفاتر الحلم"(23).
إن تقمص الشاعر لرموز الصعلكة إنما هو اختيار إرادي أمام ما يحاصره من هموم وأحزان، وما يشعر به من غربة وجودية في الزمن العصيب.
" لي ما تمنيت المنافي من بلادي
واشتهاء العندليب إلى التسكح بين أحزان
الصعاليك الذين أحب في الزمن العصيب
ولي صفاتي كلها وحدي أصوبها إلى وجعي
فيجهش بي صليبي لو أنا ضقت
وضقت بها الدروب."(24)
والشاعر لا يملك أمام سلطة الراح إلا أن ينقاذ لها بطواعية، فهو المفتون بالسكر يلجأ إليه كي يعمد جسده بالخراب الذي يحاصره، ومن ثم يعلنها صراحة:
"أنا النبيذ والنبيذ أنا" ويرتلها إذ يقول:
" أنا النبيذ وأحوالي مرتلة للعاشقين من الكشوف حتى وقوف الشك بين وضوح غامض وغموض جارح واضح أنا النبيذ ولا وضوح في أول الوضوح" (25).
وقد خصص الشاعر قصيدة بعنوان: "سورة السكر" يرسم فيها ملامح الذات العاشقة لسلطة النبيذ والمنخطفة لدهاليز الحانات يبدو فيها ذلك الناسك المبتهل في محراب نشوة الصبوح والعذوق والشمول، والمنقاذ باستمرار للمزيد من الارتواء عله يطفئ الجمر الذي يهدد يناعة الوطن المسروق، إلا أنه وهو في أقصى حالات الثمالة لا يرتوي، ولا يستطيع إطفاء نار الشهوة المتأججة في دواخله، وهذا ما يقوده إلى إعلان فروض السكر والتشرد في ملكوت البهاء:
" أشعل بالشهوات عذوق الأساطير لما أحبَّ وعبَّ شمول الحنين على أرق
ثمل العمر بين ضلوع المدينة أبهى سباياه مشطن بالسهد أشجانهن البهيجة
هذا الأمير المشاكس لما أحب توحد في سورة السكر واستبد بأبهة الصبوات القتول، فانتخبته شتول الغواية مبتهلا بين سيف القصيدة في غنجها ومرايا "أمينة" في وهجها وتشرد في ملكوت البهاء "البتول"(26).
إلا أن إعلانه لفروض الطاعة في مملكة السكر لن تقوده إلى مبتغاه، لقد بدأ اصطدام براءة الحلم بجهامة الواقع الذي لا يساعده على الانطلاق بحرية لتحقيق غوايته، ومن ثم أصبح يساوره الشك، وتنثال عليه الأسئلة:
" أي عشق كان لي حتى يكون الجرح دفلى؟
أي صعلوك شهى جسد الريح
وأعذق للعشاق ينبوع النبيذ الصب مثلي؟
أي سيف وثني شاء قتلي
...
يا أجراس روحي الشهل هلا
جئت من برق الخزامى
وسكنت السكر والحلم والصاعقة الولهى " (27)
ويسرح الحزن غيومه على الشاعر ولذلك تراه في القصائد التي يختم بها ديوانه:
"غواية الأكاسيا" كثير الارتداء إلى الذات المنكسرة المفجوعة المتبرمة، فها هو يمشي رصيف الجراح، ويسافر في منافي التشرد وكأنه اليتيم الذي غوى الفرح المستحيل ولم يحصد منه سوى زفرات الألم والأسى:
"يا السيد الناي، يا قمح تغريبة حاصرت في سطوع المواجع فوضاي فوضاك حتى صعود انتماء يتيم غوى فغوينا معا فرحا أعزلا وجعا عاليا يتزوج شمس المراثي" (28).
لقد أصبح يحكم القصيدة معجم شعري يساعد على شيوع الإحساس بمشاعر الإحباط، لأن شهوة الحلم اصطدمت بمرارة الواقع، ومن ثم بدأ اليقين يزحزح مكانه ليحتله الشك:
" لا امرؤا القيس أنت
ولا الوقت وقتك فاذهب إلى غسق الشك
وحدك سيفا صقيلا
ولا الملك ملكك لا تبك ملكا قتيلا
نبيا تشردت في سكرك الوثني فلا تنكس
وتصعلك طويلا
بأقصى المنافي الجميلة عمرك كان نخيلا
وحلمك أطلع من شهوات الشذا
قمرا مارقا وجميلا (29)
ويمكن القول بأن نزعة الشك هذه تسربت إلى أحلامه الثلاث وبدأت تحاصره بالأسئلة المؤرقة حول ماذا حقق منها؟
- فهل خاض تراب الأرض وأمسك بشهوة الحجر؟ وهل رتل غبطة الخضراء؟
- وهل عانق الفرحة وضم البهجة في ولهه بأيقونات العشق؟
- وهل ارتوى فعلا، وأطفأ الغلة التي طاردته عبر مسيرة انخطافه لغواية النبيذ؟
يمكن تلمس الإجابة بالنفي عن حصيلة أحلامه الثلاث هاته في هذه المقاطع الشعرية التي يقول الشاعر فيها:
"غريبا غريبا إلى وجع الورد تذهب لما تحب
لك النار من قدح يسفك السهد من وقت مملكة الماء تسطع شهوتك الملكة
غريبا غريبا تسافر صوب صباح غزال طوى المنتهى بتباريح ايقونة في
مرايا وطن نازفا بمواثيق منفاك تمضي و... لن
لن تطال مباهجه الوثنية لن تدركه" (30)
" تذكر وصايا جنونك
أو فتوسد سهام النهار قليلا
فكل الذي كان سوف يكون منافيك
لم يبق إلا مسار النبيذ يناديك
شهّي التراتيل لما حنين الأكاسيا يفيك
سهى السرى
لا تطلق كنائس شوقك إن أرقتك بروق التراتيل
صوب مروج القرى
لغبوق القصيدة والمشتهى وانتخب أقحوان المرايا خليلا" (31)
" أيها السيف القرمطي تركت العمر مجنون السكر
في العشق يقتل
أي سيف هذا الذي أشعل الوقت
وأغوى الحمام كي يكتب الورد لميعاد العطر
لوعة مشتل" (32)
وبهذه الطريقة ينساق الطوبي لاستشعار الغربة والنفي والتشرد والحزن السوداوي، فيستسلم لأوجاع الذات المتعبة الظامئة لدفء العشق والصبوة والوله في صقيع الزمن الجاحد، ومن ثم لا تبدو له في المقبل الآتي أية بارقة أمل، وهذا ما يدفعه إلى التمادي في تمسكه بوصايا جنونه الأولى، لمواصلة السير في خراب السكر عله يساعده على استمرار بوحه الشعري.
الهوامش:
1- محمد الطوبي: "غواية الأكاسيا: البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع القنيطرة 2007
2- محمد الطوبي: من قصيدة: "الكسندر بوشكين" ص 11
3- محمد الطوبي: من قصيدة: "وهران الوقت" ص 76.
4- محمد الطوبي: نفسه: ص 79.
5- محمد الطوبي: نفسه: ص 80.
6- محمد الطوبي: من قصيدة: "وردة لمقام مغربي" ص 111.
7- محمد الطوبي: نفسه: ص 109-110.
8- محمد الطوبي: نفسه: ص 93-94.
9- محمد الطوبي: من قصيدة: "وهران الوقت" ص 63.
10- محمد الطوبي: من قصيدة: "أقمار الميلاد" ص 61-62.
11- محمد الطوبي: من قصيدة: "نيروز البهاء" ص 15-16.
12- محمد الطوبي: من قصيدة: "أول العطر" ص 57.
13- محمد الطوبي: نفسه: ص 58.
14- محمد الطوبي: نفسه: ص 57.
15- محمد الطوبي: من قصيدة: "شحوب" ص 67-68.
16- محمد الطوبي: من قصيدة: "نيروز البهاء " ص 14.
17- محمد الطوبي: من قصيدة: "صحو العمر" ص 45.
18- محمد الطوبي: من قصيدة: "نيروز البهاء " ص 14-15.
19- محمد الطوبي: من قصيدة: "ترغلة" ص 30
20- محمد الطوبي: من قصيدة: "أول العطر" ص 53-54.
21- محمد الطوبي: من قصيدة: "نهار فاطمة" ص 12.
22- محمد الطوبي: من قصيدة: "كما أنت تجلي" ص 27-28.
23- محمد الطوبي: من قصيدة: " النبيذ ابتهال" ص 32.
24- محمد الطوبي: من قصيدة: "سحوب" ص 67.
25- محمد الطوبي: من قصيدة: "النبيذ ابتهال" ص 33.
26- محمد الطوبي: من قصيدة: "سورة السكر" ص 41.
27- محمد الطوبي: من قصيدة: " الرؤيا" ص 85.
28- محمد الطوبي: من قصيدة: "وردة لشهير مغربي، ص 113.
29- محمد الطوبي: من قصيدة: "ليل" ص 89.
30- محمد الطوبي: من قصيدة: "الحداد" ص 87.
31- محمد الطوبي: من قصيدة: "ليل" ص 89.
32- محمد الطوبي: من قصيدة: " صباح الترنيمة" ص 72.
د. امحمد برغوت أستاذ باحث في الأدب الحديث