كتاب صدرت طبعته السادسة في العام 1994 عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، من تأليف محمد عابد الجابري (1935 – 2010)، الفيلسوف والمفكر المغربي، صاحب مشروع "نقد العقل العربي"، والذي تناول في مؤلفه هذا النتاج الفكري لأحد أهم أعلام الفكر في التاريخ العربي الإسلامي، ألا وهو ابن خلدون (1332 – 1406)، المؤرخ ومؤسس "علم العمران". ويضيء الجابري في الصفحات الأولى من مؤلفه على الحقبة التاريخية التي عايشها صاحب كتاب "المقدمة" في القرن الرابع عشر (م)، والموسوم ببداية أفول شمس الحضارة الإسلامية (من مظاهر ذلك الانحطاط يمكن أن نشير إلى الاضطرابات السياسية، والجمود الفكري، فضلا عن انتشار التفكير الخرافي... إلخ)، حيث انكب ابن خلدون على سبر أغوار وخلفيات ذلك التقهقر الحضاري انطلاقًا من منهجه التاريخي المميز، والذي لا يقتصر على رصد ظاهر الأحداث، بمقدار ما ينصرف إلى التنقيب في بواطنها، ومن ثم الكشف عن العوامل المستترة والخفية التي تؤثر في تعاقب الدول وأحوال العمران، طبقا لنظريته الشهيرة حول "العصبية". فما الذي يعنيه ابن خلدون بمفهوم العصبية؟ وكيف يفسر تعاقب الدول وتطورها استنادا إلى تصوره لذلك المفهوم؟
مفهوم العصبية من منظور ابن خلدون
إن العصبية كلفظ كان شائعا ومتداولا قبل أن يبدع ابن خلدون نظريته الشهيرة، لا سيما في أعقاب مجيء الإسلام، والذي أضفى عليها معنى خاصا، إذ أضحت تحيل إلى "الفرقة والتنازع والاعتداد المفرط بالأنساب" (وهو ما تجسمه أقوال مأثورة في الثقافة الشعبية، مثل "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، أو "أنا وأخي على ابن عمي...").
وفي رأي صاحب "المقدمة"، فإن العصبية تتعرف أساسًا في كونها "رابطة دفاع"، إذ لا يَبرز دورها إلا حين يتعرض أهل البدو خصوصًا لعدوان خارجي، فتنتصب كمحرك أساسي لرد ومدافعة ذلك الهجوم، على عكس العدوان الذي يتعرض له أهل المدن والحواضر، بحيث تتكفل الدولة بصده بما تحوزه من قوة عسكرية (أسوار، حامية... إلخ)، مما جعل ابن خلدون يخلص إلى أن العصبية ظاهرة بدوية قَبَلية بامتياز، وأن العمران البدوي هو أساس العمران الحضري.
وفي تقدير مكتشف علم العمران، تقوم العصبية على جملة من الأسس والمرتكزات الضرورية، والتي لا تشمل النسب فحسب، نظرًا إلى ما قد يشوبه من مخالطة لاستحالة وجود نسب نقي وخالص، بقدر ما تنهض على مقومات أخرى من أبرزها الملازَمة وطول الصحبة والعشرة. غير أن الأساس الحقيقي لأي عصبية، وفقا لنظرية ابن خلدون، يظل هو المصلحة الدائمة المشتركة التي تؤلف بين أعضائها، ذلك أن العصبية هي بمنزلة رابطة معنوية يغلب فيها الأنا العصبي للجماعة على الأنا الشخصي للأعضاء المنتسبين إليها.
أما فيما يخص العوامل التي تفسر سعي العصبيات للحصول على السلطة السياسية عن طريق الثورة على العصبية الحاكمة والإطاحة بها، فيبرز العامل الاقتصادي كمعطى ضروري في التفسير، ولا سيما العصبيات البدوية، التي تعتمد على الزراعة من حيث هي مصدر أساسي لعيشها، الشيء الذي يملي نوعا من التكاتف والتعاون بين أعضائها، كنتيجة طبيعية لنمط الإنتاج الجماعي، الذي تنعدم فيه الملكية الخاصة. وهكذا فإن الباعث الأساسي على السعي وراء السلطة عند هذا الصنف الأول، هو ما قد تواجهه من قساوة الطبيعة (موجات قحط وجفاف... إلخ)، بخاصة إذا تَرافق ذلك مع فرض الضرائب والمغارم الثقيلة من لدن السلطة المركزية، مما يضطرها، بالتالي، إلى الطمع في الحكم وما يستتبعه من رخاء وسَعة في العيش.
غير أن العامل الاقتصادي لا يكفي وحده لتفسير سعي العصبيات إلى السلطة، إذ نصادف اعتبارات موضوعية أخرى لعل أهمها الدعوة الدينية، لا سيما إذا تعلق الأمر بأهل البدو الرحل من "العرب وما شابههم"، فهم قوم، بحسب ابن خلدون، لا تستهويهم رفاهية المدن وحياة الترف، لفرط ما ألفوا قساوة الطبيعة وشظف العيش. وعليه فإن ظهور دعوة دينية هو العامل القمين بتوحيد عصبياتهم ولم شملهم، الأمر الذي يستحثهم على طلب السلطة السياسية. ومثلما تتغذى العصبية من الدين، فإن الدعوة الدينية من دون عصبية قوية تسندها لا تجد سبيلها إلى النجاح.
الدولة وتطورها في علاقة بالعصبية
إن الدولة، وفقا لنظرية ابن خلدون، تحيل إلى "الفترة الزمنية التي يمتد فيها حكم عصبية ما". فهو يعتبر بأن الدولة، كما الأشخاص، تمر بمرحلة الطفولة (طور التأسيس)، ثم الشباب (طور القوة والعظمة)، فالكهولة والشيخوخة (طور الهرم). وتبعا لذلك، فإن العصبية هي سر نشأة وقوة وضَعف الدول، والمقصود هنا بقوة العصبية ليس كثرتها من حيث العدد، بل مدى تلاحمها وانسجام العناصر المكونة لها.
وفيما يخص الطور الأول للدولة، أي مرحلة النشأة والتأسيس، وبالنظر إلى قرب عهد العصبية الحاكمة من حياة البداوة، فهو يتسم بتغليب المصلحة العامة للعصبة الحاكمة على المصالح الخاصة، إذ لا تفرط العصبية في وحدتها وتماسكها، ويَعد الحاكم نفسه مجرد خادم لها. كما تتميز السياسة المالية للدولة - في هذا الطور - بالاقتصاد في النفقات وعدم مجاوزة الحد المعقول في فرض الضرائب والتكاليف المالية على الرعية، مما ينجم عنه كسب رضى الرعية وتوافر المال في خزينة الدولة بفعل عدم الإسراف في النفقات.
وكنتيجة لذلك، تدخل الدولة في طورها الثاني، طور القوة والعظمة، بحيث تلوح بوادر حياة الرفاهية لدى مختلف الفئات الحاكمة والمحكومة، فتسود رقة الحضارة ونعيمها بدلا من خشونة البداوة وبساطتها، والاستبداد بالحكم والمجد من لدن الحاكم وبطانته عوضا عن مشاركة مجموع العصبية، إذ يلجأ الحاكم إلى الاستعانة بالموالي والمرتزقة لتثبيت سلطته، فتعظم بذلك الحاجة إلى الإنفاق نتيجة للإكثار من الاعتماد على الجند، ناهيك بحياة البذخ والترف لدى الخاصة، بما يفضي إلى الزيادة في المغارم والتكاليف المالية على الرعية من عامة الناس وفلاحين وتجار (ضرائب، مكوس...)، مما يولد لديهم الشعور بالنقمة على حكامهم، فتدخل الدولة طورها الثالث، طور الهرم والشيخوخة، والذي يؤذن بزوال وتفسخ العصبية الحاكمة.
وبما أن العصبية والمال هما قوام الدولة (بالمفهوم الخلدوني)، فإن الأخيرة تهرم وتتداعى حين تفسد إحدى تينك الدعامتين، وهنا يبرز تأثير العامل الاقتصادي في بلوغ الدولة طورها الأخير، حين تقع في ضائقة اقتصادية خانقة ناتجة عن زيادة النفقات مقارنة بالمداخيل، فتعجز الدولة ماليًا عن تغطية الحاجات المتعاظمة المتولدة عن حياة الترف والرفاهية، كما تَفسد العصبية الحاكمة بفقدانها لتلاحمها بما هو سر قوتها. وهنا ينتهي ابن خلدون إلى أن الحضارة مفسدة للعمران (يعني بذلك عمران العصبية الحاكمة على وجه الخصوص)، في حين يَقصد بلفظ "حضارة" ذلك النمط من العيش والاستهلاك، القائم على البذخ والترف لدى الفئة الأرستقراطية الحاكمة ومن يدور في فلكها من الموالي والموظفين.