مقدمة:
محمد بوغالي أستاذ باحث مغربي في مجال العلوم الإنسانية. صدر له بالفرنسية سنة 1974 كتاب بعنوان "تمثل المجال عند المغربي الأمي". كان هذا العمل نتاج بحث تم إجراؤه في مراكش والجنوب الكبير بين 1969 و1971. ونظرا لكونه ظل بعيدا عن أفق معرفة قراء لغة الضاد، ارتأيت ترجمة مقدمته إليها خدمة لهم، والله هو المستعان.
"غالبا ما تم استعمال الإثنولوجيا المغربية وعلم النفس الاجتماعي من قبل كتاب مغرضين لتبرير أطروحات مشكوك فيها، ولا يمكن الدفاع عنها بشكل صريح، بحيث أن الاهتمام بها يصبح من قبيل المغامرة بالنسبة إلى المغربي. فعلا، لكونهما أوليا اهتماما خاصا بخلاصة الاستعمار فقد اكتسبا، في نظر الكثيرين، وضعا غامضا جدا، يخفي أحكاما مسبقة من كل نوع، ووضعا في نفس الوقت نصب عينهما أهدافا مشكوكا فيها. لهذا السبب يجد الوريث المباشر للمجتمع والتقليد المغربيين نفسه في وضع مريح قليلا، او في جميع الأحوال كمن نسميه "مفشي الأسرار".
من جهتي، أتقبل بصدر رحب اي تسمية من هذا النوع لأني ظللت مقتنعا بأن الإثنوغرافيا وعلم النفس الاجتماعي، رغم ما عرفاه من تجاوزات، ما زال يمكن لهما أن يكونا بمثابة طريق ملكية نحو استعادة بقايانا الدينامية من أجل تقويمها على نخو أفضل. نحن مقتنعون بأنه لاجل حقن مبحث نقدي وقابل للتآكل بالضرورة، مثل الإثنوغرافيا، بنسغ جديد فلا مناص من الاطلاع على تاريخه، أخطائه، وحتى تجاوزاته من أجل تقويمها. إن الاهتمام بذلك، بالنسبة إلى المغربي، يعني بالضرورة قلب الرؤى التقليدية والمعترف بها ضمنيا. هذا هو أفضل موقف سوسيولوجي بالنسبة إليه. وإذا كانت الإثنوغرافيا، في نظر كلايد كلوكهون، "هي في الغالب السبيل الأكثر قصرا للولوج إلى الذات"، فيجب عليها أن تكون بالنسبة إلينا الوسيلة الأكثر مباشرة التي نسترجع ونطالب بواسطتها بالصورة الاصلية لشعبنا لتطهيرها من النظريات والتصورات الأجنبية المغرضة. فإذا كانت قد استعملت، في كل مكان تقريبا بشمال إفريقيا، كحصان حرب وذرع تتعاطى خلفه لاستمتاعات مرضية من أجل تذوق راحة فكرية مضللة، تبقى مشاريع جرمين تيون، جاك بيرك وبيير بورديوه، لذكر الأقرب إلينا فقط، تشجيعا وضمانة حقيقية بالنسبة إلينا.
هنا، نسمح لنفسنا بوقفة منهجية سريعة نحبذها كتحذير من أعمال كثيرة تم إنجازها حول شعوب قيل إنها " بدون كتابة"، لاستعادة صيغة كانت في أصل عدد لا يستهان به من التجاوزات والخسائر في الإثنولوجيا. يجعل الكتاب ملخصات الأحداث الواقعية أكثر ثرثرة ولا يترددون ابدا في سحبها إلى المعنى الذي يريدون منها حقا أن تأخذه. لا تكفيهم بساطة المعطيات المعاشة فقط عندما يثقلونها بوفرة، سواء من أحكامهم المسبقة الخاصة، او بدلالات غريبة واجنبية في الغالب. أحيانا، وهم يتحيزون لا شعوريا إلى محاولة نظرية تبسيطية، يختزلون، ربما عن حسن نية، خصوصية الوقائع الاجتماعية المعاشة في خطاطات موضوعة عن سبق إصرار أو مرسومة سلفا.
من جهتنا، إذا فتحنا هذا القوس المنهجي الصغير، فلأجل أن نوضح أحسن قصدنا من هذا العمل حول المسألة المحددة التي تشغل بالنا. نحن لا نريد بأي حال تجريد الناس الذين ندرسهم من ثراثهم السوسيوثقافي الذي يشكل اللحمة الدينامية لحياتهم اليومية. إننا نرفض بشكل صريح كل طموح إلى اختزال معتقداتهم او ممارساتهم في خطاطات نظرية مبهرة ظاهريا. التعقد المتاهي للوقائع بخلاف ذلك له قدر من القوة أكبر من النظريات الاختزالية والشمولية مجتمعة. فكلما قمنا باللجوء إلى خطاطة معروفة، أو إلى منهج سبق وطبق في مكان آخر، فذلك فقط لأجل ادعاء مزيد من الوضوح. بعبارة أخرى، إذا اقترحنا أصولا ممكنة لمعتقدات وتمثلات المجال عند المغاربة الأميين، فأملا في فتح آفاق جديدة للمقاربة، دون أي دعوى شمولية.
تؤدي بنا التقلبات بين هذه الاعتبارات إلى طرح هذا السؤال الدقيق: لماذا، حقا، اخترت الموضوع الذي انتدبت نفسي لمعالجته في هذه المساهمة؟ اختياري ليس بريئا من افتراضات منهجية. بتناولها، يحدونا في ذات الوقت الأمل والقناعة في التمكن من توقع بعضها في المعطيات الأساسية للعقلية المغربية التقليدية بوسيلة نعتقد انها مفضلة. بالفعل، عبر التمثل متعدد الأبعاد للمجالات: المنزلي، الحضري والعالمي عند المغربي الأمي، نكتشف بالتدريج القيم الفاعلة التي ترتبط به، او حتى التي تشترطه. كل إنسان لا يتحدد ولا يتمثل في عالمه دون أن يعبئ، بمجلى أكثر أو أقل، تقنيات، معتقدات وقيم. كل تمثل ينهل معطياته وتنظيمه، ولو بشكل موجز، من سجلات دينامية خاصة. كما سوف نبين في مختلف فصول هذا العمل، الأمي ليس "متوحشا" ولا "بدائيا"، ولا إنسانا بسيطا. إذا احتفظنا في عنواننا بكلمة "أمي"، فلأجل الدلالة، مرة اخرى، على أن أبجدية الثقافة والحضارة الإنسانية لا تمر بالضرورة عبر معرفة كتابة محددة. في المجتمعات المسماة تقليدية، تتبنى بعض الجماعات طريقا مختلفا كليا لترجمة قيمهم، طموحاتهم، باختصار، نظرتهم إلى العالم. إحدى غاياتنا، هنا، هي إزالة الغموض قليلا عن الجانب الشمولي للكتابة، وكذا عن نزعة ثقافية مركزية ( بحسب الاصطلاح الجديد) تقحم فيها، والتذكير بأن أي جماعة بشرية تصنع وتتبنى أبجديتها الخاصة، أقل أو أكثر هيروغليفية، لإظهار مضامينها الثقافية. والحال أنه إذا كانت هناك منفعة نترجاها من الإثنوغرافيا، فهي أن تكشف لنا بتواضع اللغة الأصلية غير القابلة للاختزال لدى أشباهنا تماما كما تنبثق عن رؤيتهم الكونية (weltanschauung). لا يمكن لمشروع كهذا أن يكون خصبا ومضيئا إلا بقدر رفضه بشكل قاطع للميول الاختزالية أو الجامعة بطريقة متسرعة (هي في الغالب شمولية)، وإلا عندما تقوم بلا استئناف بتصفية الأحكام المسبقة المربكة.
كانت آذاننا صاغية للعقلية التقليدية المغربية خلال عدة سنوات لأجل استقبال هذه الرسائل وتشرب هذه الطرائق في الفهم، في التوجس، ولأجل إدراك معنى هذه القيم التحت أرضية. بهذا القصد قمنا بمضاعفة مسارات المقاربة، على قناعة بأن الحقيقة توجد في مفترق الطرق. ولهذا السبب كذلك قمنا بتعبئة كل وسائل البحث التي أغنتنا بها السوسيولوجيا، الإثنولوجيا، علم النفس الاجتماعي، التحليل النفسي والتاريخ. لم نتبع في ذلك ليفي ستروس عندما صرح، في موضع ما، بأنه رغم المساعدات التي يمكن لمثل هذه المباحث أن تقدمها أو تجلبها للباحث، تبقى مجرد أنشطة "هامشية". وبما أن من السهل التكهن به، صدر هذا التصريح عن باحث بنيوي كان يتمنى، بطرق ومضامين منهجية مغايرة، مسك البنيات الدينامية للوقائع البشرية. لا بد وأنه يعود بشكل محتمل إلى البدايات الحماسية للبنيوية، أي إلى تاريخ لم يكن فيه بعد واعيا بحدوده الخاصة. والحال أننا بقدر ما لا نشتغل وفق نفس المنظور، فلن يكون أبدا بإمكان فكرة كهاته أن تعرقلنا. في جميع الأحوال، قبول او رفض المنهج البنيوي لا يجب أن يشكلا مسألة عقيدة، بل نتاج تفكير ناضج - مشروع يتجاوز إطار قولنا. نحن لا نريد حصره في إطار سجال إيديولوجي أو ميثودولوجي محدد. إننا نريده تركيبيا على نحو متعمد. بهذا المعنى، قمنا بتعزيز محاولتنا فهم المصادر الدينامية والمسؤولة لتمثل المجال عند المغربي الأمي بتحليل خرائطي مكاني. وحتى لو أننا سوف نذكر في ما بعد سبب استعمال هذا الطريقة، فليس من الزائد عن الحاجة التشديد على ضرورته وتبريره منهجيا.
بالفعل، بقدر ما نحن مقتنعون بأن هذا التمثل المتعدد الأشكال لا يوجد كقطعة متراصة يكون من السهل الإحاطة بها سريعا، بل كومضات متبقية معلقة يجب إعادة تشكيلها بأناة، بقدر ما نسمح لنفسنا باللجوء إلى تحليل خرائطي. لا يعتبر دوره كمكمل زائد عن الحاجة طالما أنه فتح طريقا غير مشكوك فيها مكننا من الكشف عن بقايا التمثل التي أغنت فهمه. سوف يكون هذا أكثر قابلية للرؤية في الفصل حول تمثل الأمة.
في كتابه "الأنثروبولوجيا البنيوية" يسجل ليفي ستروس فكرة ذكية جدا تبدو منجدة لنا: "حتى ولو ظهرت السوسيولوجيا غير مبالية بالمجال، أو بنمط معين من المجال (كالمجال الحضري، عندما لم يكن مصمما)، كل شيء يحدث كما لو أن البنيات اللاواعية تستغل، إذا جاز التعبير، هذه اللامبالاة لاكتساح المجال الشاغر والإعلان فيه عن نفسها بطريقة رمزية أو واقعية، تقريبا مثلما الانشغالات اللاواعية تستغل "شغور" النوم لتعبر عن نفسها على شكل حلم، هذا ما علمنا إياه فرويد".
عندما دعونا مغربة أميين إلى أن يرسموا لنا خرائط عن المدينة، عن القرية، وعن العالم، كنا نتمنى إثارة وبالتالي تحقيق، في ذواتهم، بشكل لحظي، شغورا حقيقيا لشخصيتهم الباطنية. لا تكون طيات هذه الأخيرة في المتناول إلا بعد استعمال تقتيات دالة تثير بعمق ما تخفيه. خلال بحثنا، تفاجأنا بتسجيل استياء وأحيانا استنكار أرواح حزينة بشكل غير عادل تلومنا على (استعمال) أساليب غير مناسبة. كما نحيبهم، بلا مجاملات، بأننا لا نؤمن إطلاقا بالملكية الخاصة في مجال المناهج ضمن العلوم الإنسانية. انثروبولوجيا عامة أصيلة يتعين عليها أن تكون نتيجة استخدامات وتوليفات نزيهة ومتدرجة لمجهودات كل الباحثين. لنذكر أولئك الذين ينتقدون وهم نائمون مشروعنا بأنهم لم يتخلصوا بعد من قوقعة أحكامهم العنصرية. لا يوجد سبب لعدم إخضاع المغاربة الأميين لمناهج بحث تمت بلورتها تحت سماوات أخرى، شريطة تكييف نموذجها بدء باللغة المنعامل بها مع الأشخاص الذين يتناولهم الاختبار. لنشر كذلك إلى كورا دي بوا استخدم، بنجاح غير متوقع، اختبار رورشاخ عند الميلانيزيين. وبما أننا لم نر فائدة من اللجوء إلى هذه الطريقة، ما دام أن مقابلاتنا غير الموجهة غمرتنا بالندمعلومات، فقد آثرنا، كجورج بلاندييه في إفريقيا، أن نتركها تنام في أضابيرها.
بعد هذه الاستطرادات المنهجية التي نعتقد أنها ضرورية لإزالة أي سوء فهم ممكن، دعونا نشير إلى أن قراءتنا لمختلف أوجه تمثل المجال عند المغربي الأمي لم تكن في جميع مراحلها رحلة مريحة. كان لابد من الإبحار وسط الأرصفة الصخرية حتى نتمكن من استشراف، من بعيد، لوميض فهم ممكن. لم ندع ابدا تقديم نظاما محددا من المعتقدات او التمثلات. لا شيء أشد غرابة عندنا من إرادة سستمة ما وجدناه أو اكتشفناه في حالة بقايا. بالفعل، من الذي يستطيع أن يدعي، انطلاقا من عناصر متفرقة، مهما كانت حيوية، إعادة اكتشاف ما يمكن أن يكون نظامها الأصلي؟ قمنا عمدا بإزاحة السبل سريعة الإشارة حيث لا يسلط الضوء على الوقائع الماثلة إلا بادعاءات مشبوهة. من أجل تقليص إمكانات الوقوع في الأخطاء، أو الأحكام المسبقة، أعطيت الأهمية أولا للمعاش من حيث ما له من فورية وعدم القابلية للاختزال. بعبارة أخرى، لا نسعى أبدا إلى إسكات المعطيات المرئية لهذا التمثل ولهذه التجربة حول المجال لنتداعى إلى ثرثرة هادئة. أولئك الذين يريدون تكميم الوقائع البشرية، المعقدة أساسا، لأجل التعاطي لخطاب نظري عويص، ينسون أن هذا الذي يريدون إسكاته هو بخلاف ظنهم أكثر غنى ووحيا مما يستطيع أن تكونه ادعاءاتهم المختزلة (بكسر الزاي).
من جهتنا، لن نعطي لنفسنا الكلمة إلا عندما نصطدم بصمتىالوقائع المعاشة. ليس مطلقا من أجل تحديها نقوم باللجوء إلى بعض وسائل البحث كمثل لسوسيولوجيا، التحليل النفسي أو علم النفس الاجتماعي العام. كل وسائل البحث التي نلتجئ إليها لطلب مساعدتها تبقى مسارات ودعوات كثيرة إلى إثارة جوابها، أو من الأفضل، حقيقتها العميقة. بأحد المعاني، يمكن اعتبار مشروعنا كنوع من الحوار الأحادي مع معتقدات وقيم يفلت معناها الأصلي في الغالب من (قبضة) أولئك الذين يمارسونها. ليس من قبيل الصدفة الإتيان على ذكر إرادة الحوار هاته. فعلا، يتمثل احد أهداف هذا العمل في الوصول، عن طريق مسك شذرات متبقية من المعتقدات القديمة والقيم وكذا عن طريق المحاولة والخطإ، إلى التقرب أكثر من الأشخاص الذين نتحدث إليهم يوميا. وببذل هذا الجهد الحقيقي للذهاب نحوهم، بالبقاء منصتين لمعتقداتهم وخرافاتهم او قيمهم، نخرج من ذلك بفهم مزدوج. من جهة، يساعدنا ذلك على أن نعيش بذكاء مع أولئك الذين، قبل جيلنا، نهلوا من مصادر أقل اضطرابا بلا شك، أو أقل غموضا في كل الأحوال، للثقافة المغربية التقليدية. بدوره، هذا التبادل المرغوب فيه وبدون أحكام قبلية معهم سوف يسمح لنا من جهة أخرى بأن نكون الجديرين باستمراره. بعبارة أخرى، حتى ولو بقي حوارنا أحاديا، فسوف يساهم في جعلنا شفافين لبعضنا البعض، باعتبارنا جيل الالتحام. ونحن نتمنى الإمساك عن قرب بالتمثل العام للعالم عند الجيل الذي سبق جيلنا، بواسطة تمثل المجال، لا نطالب بأي حق كان في الاختلاف. هذا الهدف الأخير يفرض بالضرورة حكم قيمة نرفضه بققوة. إننا نريد إعادة التفكير عند ملتقى جذورنا بالثقافة الفربية التي نحن تقريبا، بحكم وضعنا التاريخي، ابتاؤها الطبيعيون. نكرر طواعية أن هؤلاء الأخيرين هم في الغالب كائنات ذكية على نحو خاص. هذا ما يجب على الجيل المغربي الراهن ادعاؤه، متقبلا، على حسابه، أن يكون مكان التقاء ثقافتين إحداهما نمطت بشكل متأخر دماغه، بينما الأخرى هي جذره الحقيقي."