مع مجيء كل صيف يحل المهاجرون يبن ظهرانينا مثقلين بمكبوت سيكولوجي عاطفي ناتج عن ألم الغربة، وبمكبوت اجتماعي فيه حنين إلى الحضن الأول، أي إلى مجتمعهم الأصلي الذي يختزله الضمير الجمعي الذي يسكن كل فرد منهم. لذا تلفيهم ينفسون عما يكون قد عانوا منه في بلاد المهجر، من فصام بيئي وقيمي، ونقص في الاعتبار الاجتماعي داخل المجتمعات المستقبلة، بأن يشعروك أنك دونهم ماداموا بالعمل قد حصلوا أثره، ويطبعوا داخلة نفسك بإحساس أنهم يعيشون في فردوس أرضي حقيقي، بينما تكتوي أنت في بلدك بنيران العوز والفاقة، وانسداد أفق الحراك الاجتماعي، ويحوزك يأس من أن تتغير حالك، وتتسلق مع المتسلقين أو القابعين في الدرج الهنيئة. وفي جملة واحدة، هناك إحساس بفقدان الاعتبار وسط أفراد الساكنة المستضيفة، ورغبة في رد الاعتبار بين من هم أهل المهاجر وخلانه، وفي مجتمعه الأصلي عموما.
وفي تنغير، الطقوس ذاتها والهموم ذاتها، هي التي تلفي لها مستقرا بعودة كل مهاجر، وكل عائلة مهاجرة إلى ديارها. فكلما عادوا ليقضوا عطلة الصيف بيننا، إلا وأذكيت أفكار سوق " الحريك " بلغة العامة بين صفوف الشباب التائه في دروب تنجيهم من شراك العطالة، أمام انعدام فرص الشغل الكفيلة بتأمين المستقبل لهم ولذويهم.
وأمام السحر المارد الذي يتذوقه الشباب من أهل المنطقة، وهم يرون نماذج ناجحة في نظرهم، ممن كانوا بالأمس القريب جدا، يوقعون مكرهين على صك من يرفل في الجحيم، في زمن العطالة، قد تغربوا عاما أو عامين، وهاهم ينثرون غبار الشوارع والأزقة على المارة بسياراتهم الفارهة.
إنه جو يشعر الكثيرين بالغثيان، ويعبر أكثر من ذلك، عن عبث اجتماعي يجعل من الحياة فاقدة كل معنى، يعين على فهم كيف يمكن لأناس أن يعيشوا في النعيم، بينما البعض الآخر تصيبه حرقة التفقير. فكيف لا يفكر مثل هؤلاء الذين إن ظلوا يشتغلون في قطاع البناء، والأعمال الشاقة " المؤبدة " بأثمان زهيدة، ولساعات طويلة تكد أجسادهم، تحت أشعة شمس لافحة وقساوة برد قارس، فإنهم سيورثون لامحالة الفقر لفلذات أكبادهم في المستقبل؟ كيف إذن لا يفكر هؤلاء في البحث بشتى الطرق، وكيفما كانت الوسائل، عن عمل يرى أي منهم ثمرته جلية واضحة على حياته وعائلته، وهذا أمر لا يتأتى في أغلب الأحيان إلا في مملكة البابا اليسوعي؟
بتنغير، تتعدد الطرق والغاية واحدة: أوروبا. فكلما سدت في أوجههم طريق إلا وانطلقوا انطلاقة من بعث من جديد انبعاث العنقاء، نحو آليات أخرى يبدعونها تمكنهم من نيل المراد. فقد كان الطلبة يخفون نياتهم في اتقاء شر مغرب لم يعد قادرا على تأمين الشغل لجميع خريجي الجامعات، والمعاهد، والمدارس العليا، بتأمين حياة أفضل بأوروبا، فكانت حيلتهم في ذلك، التذرع بالرغبة في إتمام دراساتهم العليا بالخارج، أو لمجرد السياحة وزيارة الأقارب. ومنذ أن شددت القنصليات الممثلة لبلدان المهجر من إجراءات الهجرة، وشروط قبول طلبات الراغبين فيها، إلا وانفرجت آفاق أخرى كان احدها ابتياع عقود العمل من دكاكين لامرئية لسماسرة هم أيضا مثل أصحاب القوارب المائية يتعيشون من أمال اليائسين، عقود يتراوح ثمنها بين تسعة ملايين و12 مليون سنتيم للعقد الواحد، وتكون وجهة هؤلاء غالبا هي اسبانيا أو ايطاليا، نظرا لحاجتهما معا ليد عاملة في قطاع الفلاحة والبناء على وجه الخصوص.
أما الطرق الأخرى التي يسلكها اليائسون من السياسة التنموية المتبعة بالمنطقة، فهي الهجرة عبر القوارب التي اصطلح عليها في أدبيات اللغة الصحافية ب" قوارب الموت "، أو الاختباء في داخل إحدى السيارات العائدة إلى بلاد المهجر.
لكن، هناك إلى جانب ذلك طريق ملكية أخرى نحو الضفة الأخرى وهي الزواج بمغربية مهاجرة أو بأجنبية حتى ولو كان عمرها أو عمره يتجاوز الحد المعقول الذي يسنح بإمكانية تحصيل فارق زمني يغني تجربة الحياة الزوجية الجديدة. غير أن ما يحدث على وجه التحديد، هو أن تلاقي المصالح يحرض على توقيع صكوك زيجات لو واتتها ظروف أخرى تنشرط بها لما تمت. فالشاب الذي عدم عذرا قانونيا يبلغه شاطئ الفاتيكان دون أي يزج بنفسه في متاهات لا يقدرها حق تقديرها، يلجأ أخيرا إلى وضع موطئ قدم بالمهجر، بالتنقيب عن مغربية مهاجرة، يبحث لها أبويها أيضا عن مستقر لمصيرها، بعدما أنهت دراستها أو خرجت إلى العمل. لكن الطقوس الذي ينفرض بها عقد القران تشوبه شائبة، أو بالأحرى شوائب عدة. فالسرعة التي يتم بها توقيع الزيجة دون أن تكون هناك وقت كاف يستكشف كل منهما دواخل الآخر، في ميوله، وانفعالاته، وقناعاته الشخصية الحميمة، ودون أن تكون هناك قواسم مشتركة يفسحان لها المجال لتنير مناطق الظل في شخصيتيهما معا، هذه السرعة تحيل السعادة الموعودة لكليهما إلى ما يشبه الجحيم.
وبعبارة أخرى، قد يعني زواج الشاب لاسيما من أجنبية طاعنة في السن تشرف على الموت انتحارا تراجيديا للذات، لأنه أخطر بكثير من ركوب قارب وهو على علم مسبق بمصيرين الموت أو الحياة، لكن في هذه الزيجة يغدو الموت من الداخل هو المصير الوحيد المنتظر، ولو على نحو مقنع. فحين لا تتوافق القيم الفحولية التي يقنع بها الشاب( وبين القيم السارترية) التي تشربتها المغربية أو الأجنبية( الحرية والاستقلالية الذاتية في التموقف والتصرف داخل البيت أو خارجه)، يفرض على أحد الطرفين أن ينسحب من دائرة الفعل واتخاذ القرار ويتخذ مكانا ركينا في الظل يندب فيه حظه العكر، هذا إذا افترضنا أن التصدعات التي أصابت بناء الزيجة في بدايتها لم تفلح في انفصالهما عن بعضهما البعض. وإذا تمخض عنها أولاد، فإن المصيبة تتضاعف، لاسيما في حال زواجه بأجنبية لا تشاطره قيمه، ومثله، وعوائد مجتمعه، في التربية والتنشئة الاجتماعية.
وهكذا يراهن بعض الشباب، ممن يوقع على مثل هذه الزيجات، على بعض المظاهر المادية المغرية، والتي بمجرد أن يبلغوها، ويشبعوا ميلهم فيها، حتى يستبد بهم إحساس شوبنهاوري بعبث الوجود الذي يحيونه؛ فهاهي السيارة الفاخرة، وهاهي النقود الكثيرة مكدسة بالمصارف المالية، وهاهي البقعة الأرضية قد اقتنيت وبني عليها منزل فخم ومزركش من الداخل، لكن ماذا بعد؟ أين الإحساس بالاستقرار الذي هو شرط كل سعادة وهناء؟ وأين الإحساس بنشوة الشباب التي يريد كل وحد منهم أن يستنفذ كل ملذاته؟ ألا يكون إحسان عبد القدوس صادقا إذن إذا قال( في روايته أين عمري): " قد تكون في سن العشرين وتحس أنك في الستين " ؟
هناك إذن تعسف يمارس بقطبيه المادي والرمزي على علاقات من هذا القبيل، وعلى مستويات عدة تتقاطع كلها في كون من يدفع ضريبته هم الفاعلون أنفسهم، سواء كانوا مهاجرين أو سكان محليين، ولاسيما حين يتعلق الأمر بتمثلات كل منهما للآخر ولهامش التسامح الذي يقدر الأنا على التضحية به إزاء الآخر. يقول الناس حين يلمحون أحد أبناء المهاجرين يتجول مترجلا أو راكبا سيارة يسوقها بسرعة جنونية: " ﹶهاﹶناﹾيتﹾ ﹶتشوﹾرتينﹾ! "، أي هاهم أصحاب السراويل القصيرة، وهو تعبير يدل على صورة نمطية ترسخت في أذهانهم عن هؤلاء تمتعض من طريقة لباسهم وتصرفاتهم الهجينة، وغدا من المسلم به لدى الساكنة المحلية أن حدثا يلخص في المجمل شخصية كل واحد منهم وهو حدث يتندرون به يروي أن مهاجرا وقف أمام خضار في السوق الأسبوعي وهو يوم الاثنين بالنسبة للتنغيريين وطلب منه أن يختار أكبر بطيخة حمراء لديه(دلاحة بلغة العامة) و يزنها ويحدد ثمنها، فلما وزنها هذا الأخير وأعلن عن ثمنها، بدا للمهاجر أن الخضار غالى وزاد في الثمن، فندت عن شفتيه كلمة استنكار: "طبعا، لا تربحون إلا إذا أتيناكم ". ولأن الخضار فهم العبارة حق فهمها، إذ زكمت أنفه رائحة من يمن عليه دوام رزقه، ويغش فيما يبيعه، فقد أمسك بالبطيخة، ورفعها بكلتا يديه إلى أعلى، فالقاها على الأرض، فتشتت، وتناثرت أشلاؤها الحمراء، وحباتها السوداء. فقال الخضار عندئذ: " لعنة الله على رزق يأتيني من طرفك، إن كان أمثالك هم من يرزقونني ". أما المهاجرون فيعتبرون أنفسهم منعشين لعدد من القطاعات والمهن التي تكاد تحتضر في غير فصل الصيف، كالبناء والتجارة، والنجارة، والخياطة، والملابس، والخضر، والفواكه. ويعتقد هؤلاء المهاجرون أن البناءون، والتجار، وغيرهم، يتكالبون عليهم، ويتواطؤون على سرقة مالهم، واستغلال "سذاجتهم البينة" في المعاملات.
إن هجرة في القيم أضحت هي سبب الخلخلة التي أضحت المنطقة تعيشها، وهذه الهجرة هي نفسها نتيجة لعوائق، ترسبت ككوابح تبطئ من هامش التنمية الذي كان من الممكن، أن تستفيد منه المنطقة أكثر، لو أن هذه العوائق أزيلت بالكامل، أو على الأقل تم التخفيف من حجم تأثيرها السلبي على المنطقة، وهي عوائق تتعلق بدور الدولة وأجهزتها التي رفعت يدها منذ زمن على سبل ترقية الإنسان والمجال إلى مستوى يباركه المقيم والمهاجر. ونظرا لإحساس الأغلبية من الشباب المعطل، بانسداد آفاق خلاص جماعي تؤمنه الدولة بالذات، مادام الحق في التشغيل حقا إنسانيا مدسترا تكفله بقوانينها، فقد أضحت الحلول الفردية هي السائدة، وهي في الأغلب الأعم حلول تضحي بمصير الفرد مقابل تأمين مصير الأسرة. وهذا البحث الحثيث عن الخلاص، يشي في كثير من الأحيان، بنزوع فردي وجماعي دائم إلى الهروب من المواجهة، أي مواجهة السلطات المحلية، ومطالبتها بإحقاق حقوق الساكنة في تجهيز المنطقة بالبنيات الأساسية، وتشغيل شبابها المعطلين، وحماية إرثها الثقافي الجماعي من الاندثار.
تنغير الآن تحتاج لهجرة أخرى تسير في اتجاه آخر يمنح الأولوية للإنسان وللمجال الذي يحيط بهذا الإنسان. تحتاج تنغير فعلا إلى هجرة تبنيها بقيم أنوارية، تحفظ للإنسان كرامته، وللمنطقة عزها النضالي، وهي مسئولية تقتسم أطرافها أجهزة الدولة، وجمعيات المجتمع المدني، والساكنة ككل.
أما الطرق الأخرى التي يسلكها اليائسون من السياسة التنموية المتبعة بالمنطقة، فهي الهجرة عبر القوارب التي اصطلح عليها في أدبيات اللغة الصحافية ب" قوارب الموت "، أو الاختباء في داخل إحدى السيارات العائدة إلى بلاد المهجر.
لكن، هناك إلى جانب ذلك طريق ملكية أخرى نحو الضفة الأخرى وهي الزواج بمغربية مهاجرة أو بأجنبية حتى ولو كان عمرها أو عمره يتجاوز الحد المعقول الذي يسنح بإمكانية تحصيل فارق زمني يغني تجربة الحياة الزوجية الجديدة. غير أن ما يحدث على وجه التحديد، هو أن تلاقي المصالح يحرض على توقيع صكوك زيجات لو واتتها ظروف أخرى تنشرط بها لما تمت. فالشاب الذي عدم عذرا قانونيا يبلغه شاطئ الفاتيكان دون أي يزج بنفسه في متاهات لا يقدرها حق تقديرها، يلجأ أخيرا إلى وضع موطئ قدم بالمهجر، بالتنقيب عن مغربية مهاجرة، يبحث لها أبويها أيضا عن مستقر لمصيرها، بعدما أنهت دراستها أو خرجت إلى العمل. لكن الطقوس الذي ينفرض بها عقد القران تشوبه شائبة، أو بالأحرى شوائب عدة. فالسرعة التي يتم بها توقيع الزيجة دون أن تكون هناك وقت كاف يستكشف كل منهما دواخل الآخر، في ميوله، وانفعالاته، وقناعاته الشخصية الحميمة، ودون أن تكون هناك قواسم مشتركة يفسحان لها المجال لتنير مناطق الظل في شخصيتيهما معا، هذه السرعة تحيل السعادة الموعودة لكليهما إلى ما يشبه الجحيم.
وبعبارة أخرى، قد يعني زواج الشاب لاسيما من أجنبية طاعنة في السن تشرف على الموت انتحارا تراجيديا للذات، لأنه أخطر بكثير من ركوب قارب وهو على علم مسبق بمصيرين الموت أو الحياة، لكن في هذه الزيجة يغدو الموت من الداخل هو المصير الوحيد المنتظر، ولو على نحو مقنع. فحين لا تتوافق القيم الفحولية التي يقنع بها الشاب( وبين القيم السارترية) التي تشربتها المغربية أو الأجنبية( الحرية والاستقلالية الذاتية في التموقف والتصرف داخل البيت أو خارجه)، يفرض على أحد الطرفين أن ينسحب من دائرة الفعل واتخاذ القرار ويتخذ مكانا ركينا في الظل يندب فيه حظه العكر، هذا إذا افترضنا أن التصدعات التي أصابت بناء الزيجة في بدايتها لم تفلح في انفصالهما عن بعضهما البعض. وإذا تمخض عنها أولاد، فإن المصيبة تتضاعف، لاسيما في حال زواجه بأجنبية لا تشاطره قيمه، ومثله، وعوائد مجتمعه، في التربية والتنشئة الاجتماعية.
وهكذا يراهن بعض الشباب، ممن يوقع على مثل هذه الزيجات، على بعض المظاهر المادية المغرية، والتي بمجرد أن يبلغوها، ويشبعوا ميلهم فيها، حتى يستبد بهم إحساس شوبنهاوري بعبث الوجود الذي يحيونه؛ فهاهي السيارة الفاخرة، وهاهي النقود الكثيرة مكدسة بالمصارف المالية، وهاهي البقعة الأرضية قد اقتنيت وبني عليها منزل فخم ومزركش من الداخل، لكن ماذا بعد؟ أين الإحساس بالاستقرار الذي هو شرط كل سعادة وهناء؟ وأين الإحساس بنشوة الشباب التي يريد كل وحد منهم أن يستنفذ كل ملذاته؟ ألا يكون إحسان عبد القدوس صادقا إذن إذا قال( في روايته أين عمري): " قد تكون في سن العشرين وتحس أنك في الستين " ؟
هناك إذن تعسف يمارس بقطبيه المادي والرمزي على علاقات من هذا القبيل، وعلى مستويات عدة تتقاطع كلها في كون من يدفع ضريبته هم الفاعلون أنفسهم، سواء كانوا مهاجرين أو سكان محليين، ولاسيما حين يتعلق الأمر بتمثلات كل منهما للآخر ولهامش التسامح الذي يقدر الأنا على التضحية به إزاء الآخر. يقول الناس حين يلمحون أحد أبناء المهاجرين يتجول مترجلا أو راكبا سيارة يسوقها بسرعة جنونية: " ﹶهاﹶناﹾيتﹾ ﹶتشوﹾرتينﹾ! "، أي هاهم أصحاب السراويل القصيرة، وهو تعبير يدل على صورة نمطية ترسخت في أذهانهم عن هؤلاء تمتعض من طريقة لباسهم وتصرفاتهم الهجينة، وغدا من المسلم به لدى الساكنة المحلية أن حدثا يلخص في المجمل شخصية كل واحد منهم وهو حدث يتندرون به يروي أن مهاجرا وقف أمام خضار في السوق الأسبوعي وهو يوم الاثنين بالنسبة للتنغيريين وطلب منه أن يختار أكبر بطيخة حمراء لديه(دلاحة بلغة العامة) و يزنها ويحدد ثمنها، فلما وزنها هذا الأخير وأعلن عن ثمنها، بدا للمهاجر أن الخضار غالى وزاد في الثمن، فندت عن شفتيه كلمة استنكار: "طبعا، لا تربحون إلا إذا أتيناكم ". ولأن الخضار فهم العبارة حق فهمها، إذ زكمت أنفه رائحة من يمن عليه دوام رزقه، ويغش فيما يبيعه، فقد أمسك بالبطيخة، ورفعها بكلتا يديه إلى أعلى، فالقاها على الأرض، فتشتت، وتناثرت أشلاؤها الحمراء، وحباتها السوداء. فقال الخضار عندئذ: " لعنة الله على رزق يأتيني من طرفك، إن كان أمثالك هم من يرزقونني ". أما المهاجرون فيعتبرون أنفسهم منعشين لعدد من القطاعات والمهن التي تكاد تحتضر في غير فصل الصيف، كالبناء والتجارة، والنجارة، والخياطة، والملابس، والخضر، والفواكه. ويعتقد هؤلاء المهاجرون أن البناءون، والتجار، وغيرهم، يتكالبون عليهم، ويتواطؤون على سرقة مالهم، واستغلال "سذاجتهم البينة" في المعاملات.
إن هجرة في القيم أضحت هي سبب الخلخلة التي أضحت المنطقة تعيشها، وهذه الهجرة هي نفسها نتيجة لعوائق، ترسبت ككوابح تبطئ من هامش التنمية الذي كان من الممكن، أن تستفيد منه المنطقة أكثر، لو أن هذه العوائق أزيلت بالكامل، أو على الأقل تم التخفيف من حجم تأثيرها السلبي على المنطقة، وهي عوائق تتعلق بدور الدولة وأجهزتها التي رفعت يدها منذ زمن على سبل ترقية الإنسان والمجال إلى مستوى يباركه المقيم والمهاجر. ونظرا لإحساس الأغلبية من الشباب المعطل، بانسداد آفاق خلاص جماعي تؤمنه الدولة بالذات، مادام الحق في التشغيل حقا إنسانيا مدسترا تكفله بقوانينها، فقد أضحت الحلول الفردية هي السائدة، وهي في الأغلب الأعم حلول تضحي بمصير الفرد مقابل تأمين مصير الأسرة. وهذا البحث الحثيث عن الخلاص، يشي في كثير من الأحيان، بنزوع فردي وجماعي دائم إلى الهروب من المواجهة، أي مواجهة السلطات المحلية، ومطالبتها بإحقاق حقوق الساكنة في تجهيز المنطقة بالبنيات الأساسية، وتشغيل شبابها المعطلين، وحماية إرثها الثقافي الجماعي من الاندثار.
تنغير الآن تحتاج لهجرة أخرى تسير في اتجاه آخر يمنح الأولوية للإنسان وللمجال الذي يحيط بهذا الإنسان. تحتاج تنغير فعلا إلى هجرة تبنيها بقيم أنوارية، تحفظ للإنسان كرامته، وللمنطقة عزها النضالي، وهي مسئولية تقتسم أطرافها أجهزة الدولة، وجمعيات المجتمع المدني، والساكنة ككل.
منير كوبي
أستاذ الفلسفة/ تنغير- المغرب
تنغير : مدينة بالجنوب الشرقي للمغرب
أستاذ الفلسفة/ تنغير- المغرب
تنغير : مدينة بالجنوب الشرقي للمغرب