قراءة تأليفية لمسألة التراث: نماذج في مواقف بعض المفكرين العرب - جعفر حسين

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
anfasse.orgنماذج في مواقف بعض المفكرين العرب(عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، عبد الإله بلقزيز)
تمهيد: تحتل مسألة التراث في الفكر العربي و الإسلامي مكانة هامة لما تقتضيه هذه المسألة الفكرية و المعرفية من أهمية في الفكر و العقل العربي و الإسلامي، و في الواقع الثقافي و القطري، و أخيرا في علاقتها بالآخر  الحضاري، و خاصة أمام التحديات الجديدة على العالم العربي و الإسلامي من خلال ظاهرة العولمة و استتباعتها الثقافية و الحضارية، و هوس المفكرين و المثقفين العرب بذلك.
و سنحاول في هذه القراءة التأليفية المختزلة أن نحلل مواقف ثلاث مفكرين عرب لهم إسهاماتهم في هذه المسألة و فيما يتعلق بالخطاب و الفكر العربيين و الإسلاميين عموما، من خلال عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، و عبد الإله بلقزيز.    
فماهي هذه المواقف و الرؤى؟
- موقف عبد الله العروي: I
يحتل عبد الله العروي داخل الثقافة العربية مكانة متميزة،اشتهر المفكر بمؤلفاته،و ذاعت مؤلفاته به، من لا يعرف الرجل مفكراً يذكره أديبا، ومن لا يستحضره ناقداً يعرفه مؤرخا كتب العروي، نظر، و ناظر دفاعاً عن مقولة واحدة هي كيفية تجاوز التأخر التاريخي، الذي تزدري تحته الثقافة و الواقع العربيين، و الانخراط ضمن ما يسميه "المتاح للبشرية جمعاء". أي الوعي بالقطيعة مع التراث، لأنها" حصلت و تكرّست"1 بالفعل.
عندما يتحدث العروي عن  القطيعة فإننا غالباً ما نلمس في نبرة الرجل نوعا من الوثوقية . القطيعة حل الإعراض عنها موت و انتحار، والقبول بها ولادة و انبعاث. غير أن الحاجة إليها لا تنبع عن إعجاب بالتراث الغربي أو عن صلة به أقوى من التراث العربي الإسلامي2 كما لا تبرز هذه الدعوة من تقزز أو رفض لهذا التراث، بقدر ما كانت لا مطابقته لمفاهيم الحداثة أبرز مقدمات الدعوة إلى القطيعة " إن المفاهيم التي شرحتها ( الدولة، الحرية، التاريخ، الأدلوجة )، و تلك التي كان يمكن أن أتمم بها إذ يستحيل كما يقول الأستاذ عبد الله العروي3 أن نجد "مفهوم الأدلوجة مكتملا عند الغزالي، أو الحرية عند ابن عربي ، كما يستحيل أن نعثر على مفهوم التاريخ تاما عند ابن خلدون، و لا على مفهوم الدولة مكتملاً عند الشاطبي.
يعترضنا سؤال ثاني عندما نتحدث عن مفهوم القطيعة داخل متن عبد الله العروي و هو أي نوع من القطيعة يستهجنه الفكر العربي ، هل نحن في حاجة إلى قطيعة إبستمولوجية كالتي دعى إليها "أب الأنتلجسيا العربية" في مؤلف " نحن و التراث" قبل 16 سنة من صدور مفهوم العقل ؟ أم إلى نموذج آخر للقطيعة أكثر راديكالية، لا يكتفي بالقطع مع القراءات التراثية للتراث و إنما حتى مع التراث نفسه.
لا يكتفي داعية التاريخانية في العالم العربي إلى تبرير الحاجة إلى القطيعة بل سرعان ما يطرح بديله التحديثي، أو ما يسميه العروي بالمتاح للبشرية جمعاء. و هذا ما يعني أن الرجل لم يكتفي بعملية الهدم و التقويض، و إنما تجاوز الأمر للبناء، لم يقتصر على فضح عوالم النقص و القصور في العقل العربي. و لم ينتهي فقط إلى عجزه أو سحب صفة الخلق عنه، إذا لطالما ساهم هذا العقل في إثراء الفكر الإنساني. لقد ساهم الفكر الإسلامي في العصر الوسيط في نقل الإرث اليوناني إلى غير العرب، و نظر فيه شرحاً و تفصيلاً. و اليوم و هو يعيش حالة الركود و سيادة اللامعقول فيه ألا  يحق له أن يغترف مما هو متاح للفكر الإنساني اليوم .
لم يصدر عبد الله العروي في موقفه عن فراغ و لا تحدث إلى العرب بغير لسانهم ، فقد كانت الحاجة إلى القطع مع العقل العربي التراثي نابعة مما يعيشه هذا العقل من تناقضات أو لنقل بلغة العروي من مفارقات، تظهر في مطلقية هذا العقل" فالعقل هو ما يعقل العقل و يحده ، و ما يعقل العقل، و يؤسسه كعقل ، هو علم المطلق، الذي هو علم مطلق"4 إنه علم يتأسس على النص و لا يتجاوزه.
و هو بذلك عقل لا تاريخي " يعجز عن عقل الزمان بمعنى التطور و التغير لا بمعنى الظهور بعد الكمون". أي أن  "مفارقة محمد عبده ناتجة عن الحصر الذي جعله ينفي الزمان، أي نفي الزمن في نظرته العامة التي بقية وفية للذهنية الكلامية التقليدية "5
إذا كان محمد عبده يمثل بصورة نموذجية ، وضع الاختيار السلفي بمواقفه من الغرب ، من العلم،و من الحداثة، أو ما يسميه الرجل بسؤال الهوية6. و لحظة المفارقة في الفكر و الإيديولوجيا العربية، و هي لحظة يعيد خلالها الفكر العربي إعادة إنتاج الذهنية الكلامية، فإنه سرعان ما ينتقل إلى تصويب نظره إلى مجال العلوم العملية: العمران، الاقتصاد، الحرب كما تجسدت في الفكر الخلدوني، لينقب عن مظاهر المفارقة فيه كذلك، بعد أن عقد حوارات بين ابن خلدون و كونت
و مونتيسكيو، بودان، كلاوزفيتش و ميكيافلي. أظهرت تفوق العلم الحديث كما مثله رواد الفكر الغربي .
لن نقف في استغوارنا لمفهوم القطيعة عند حدود كتاب عنوانه الفرعي" مقالة في المفارقات" لأن دعوة العروي إلى القطيعة لا يمكن أن تفهم  إلا في ضوء مشروعه الفكري، و هذا ما يعني أن قراءة مفهوم القطيعة في المتن العروي تظل ناقصة تعاني القصور و الفاقة إن سجنت نفسها داخل مؤلف بعينه. إذ لا يمكن فهمها إلا على ضوء مقدمات ثلاث كما يقول كمال عبد اللطيف أولها "الدعوة التاريخانية ...، ثم التأخر التاريخي...، قبل تزايد الدعوات التراثية النصية، التقليدية، أو ما يعرف بأدبيات الصحوة الإسلامية "7
إن دعوة العروي للقطيعة إذن نابعة من إيمانه بتهافت الدعوات السلفية و لا تاريخيتها ، إنها دعوة تعيش التاريخ بغير عدته تتأسس على ماضوية ترى في الماضي مستقبلا  أو ما يطلق عليه الباحث بالماضي- المستقبل الذي هو خاصيتنا الأساسية و "الذي يغير دلالة الزمن المعتادة". لا يدعو العروي إلى القطيعة مع الفكر السلفي فقط، بل سرعان ما يعلن حرب القطيعة على كل فكر انتقائي لأنه فكر مشوه ينتج عنه " تداخل و تشابك و اهتزاز يعجب له كل من تعود على إعطاء التاريخ اتجاها واضحا ثابتا"8
إلا أننا و إن نهتم بكشف سياق ورود مفهوم القطيعة في نسق العروي، لا نعرض عن إحياء حوارات بين فكر العروي
و غيره من المفكرين العرب كمحمد عابد الجابري، أو محمد أركون اللذان شاركاه نفس الإشكالية و الاهتمام المعرفي.
ماذا يعني العروي بالقطيعة ؟ و ما الفرق بينها و بين القطيعة كما تصورها أركون و الجابري ؟ لماذا القطع مع التراث ؟ أليست الدعوة إلى القطع التراث و الارتماء في أحضان التاريخ الكوني ( الغربي ) باعتباره المخرج الوحيد لأزمة العرب9 دعوة متهافتة خاصة ومع تنامي الدعوة إلى  الاختلاف من لدن الغرب نفسه؟ هل القطع مع التراث كافية لمنح كتابات العروي كل هذه الأهمية ؟ ما هو البديل الذي يقدمه العروي للتحديث؟ و لماذا هذا البديل دون غيره؟
لا يخفى على أحد منا أن مفهوم القطيعة ولد  وتطور في أحضان الإبيستمولوجيا، وحاول الفكر النقدي العربي تطبيق هذا الفهم على التراث ، فاستعمل العروي مفهوم القطيعة المنهجية و ظن العروي في هذا المفهوم القدرة على تفكيك الإخفاق
و الركود و العجز الثقافي العربي الذي يحول دونه و الحداثة،و أمه للقفز فوق"حاجز معرفي، حاجز تراكم المعلومات التقليدية"، و إحقاق ما ينعته العروي بطي الصفحة  فماذا نعني بالقطيعة المنهجية؟
يعتبر العروي من بين أول المفكرين العرب الذين استدعوا مفهوم القطيعة - إن لم يكن أولهم - في تعاملنا مع ما خلفه أجدادنا  و مع ما يعيش معنا منهم . إلى جانب القطيعة استعمل العروي مفاهيم الحسم، طي الصفحة للدلالة على نفس الغرض و الوظيفة ، لقد أراد الرجل من خلال هذه المفاهيم الإعراض عن التراث و تجاوزه إما "لانحلال قاعدته المادية
و الاجتماعية و الفكرية"10، لكن هل يمكن القطع مع تراث قطب الرحى فيه العقل، و هل يعني القطع مع التراث القطع مع العقل ؟ لا ينكر العروي بأن تراثنا الفكري يدور كله حول العقل و لا شيء غير العقل ، إلا أن العقل التراثي الذي نتكلم عليه اليوم هو غير العقل الحديث كما تبلور في أوروبا القرن 18.
إن العقل، عقل المطلق هو أصل الإحباط الذي تعيشه المجتمعات العربية منذ مدة خلف بالأمس الاستعمار و يقودنا اليوم نحو التبعية. أنه عقل ثيولوجي كلامي يبحث عن المطلقات و لا يهتم بالواقعات. لذلك فإن العروي يائس من إمكانية توليد المفهوم الحديث من داخل التراث سواء تعلق الأمر بالفكر أو بالتاريخ إذ كما يستحيل أن نجد مفهوم الأدلوجة مكتملاً عند الغزالي أو الدولة عند الشاطبي، يكون من الغلط البين الكلام عن الحرية في المجتمع الجاهلي أو الإدارة عند الآدارسة ....، إن أنسب حل يرى العروي يمكن أن نتعامل به مع التراث هو القطع معه، فالأمر أولا مسألة منهج و هي ليست مسألة هينة أو شكلية " مسألة مراجع و إحالات و نقاش أراء بكيفية منتظمة "11
إن إشكالية العروي لا تكمن في التراث ذاته و إنما مع الكائنات التراثية كذلك أو ما يسميه العروي بأعداء الحداثة  ذلك الفريق الذي يدعو إلى رفض الحداثة باعتبارها لعنة ارتبطت بالاستعمار و الحرب. antimoderne
إن دعوة العروي للقطيعة مع التراث لم تكن دعوة أدلوجية محضة بل إنها دعوة علمية استقى خلالها الرجل مفاهيم ومناهج و أدوات معرفية تمثلت بالخصوص في استعماله للمنهجين التكويني و التفكيكي للمقولات و الذهنيات التراثية سواء المعاصرة منها ممثلة في محمد عبده صاحب أكبر مفارقة عاشها و يعيشها العقل العربي مفارقة بين عقل المطلق و عقل الواقع ، بين عدته المعرفية وواقعه الاجتماعي. و العلامة ابن خلدون الذي رغم عمق و جدة أعماله و اكتشافاته في زمنه لا يرقي إلى الإنتاج العلمي العملي الحديث سواء في مجال الحرب، السياسة، الاقتصاد، الاجتماع...
 موقف محمد عابد الجابري: -II
تبرز محاولة (نقد العقل العربي) بأجزائه الثلاثة، عند د.الجابري، كمشروع نقديّ يلبيّ حاجة راهنة هي إعادة النظر في "الذات" بعامة، وفي التراث بخاصة، وإن تعدّدت ردود الفعل والاستجابات تجاهها، أو تنوّعت المواقف منها، وقد سبقها، وصاحبها، وتلاها أكثر من محاولة معاصرة قد تتشابه في أهدافها، وقد تختلف في طرائق تفكيرها وإنتاجها، وتعبّر عنها، على نحوٍ ما أعمال حسين مروّة و اليأس مرقص و عبد الله العروي و سمير أمين و طيب تيزيني و محمد أركون
و ياسين الحافظ و صادق جلال العظم و حسن حنفي و مهدي عامل، وغيرهم ممّن يشغلهم موضوع الهويّة كجزء من موضوع الحداثة، على الرغم من تباين الفرضيّات والاستراتيجيات!
وقد أراد الجابري لكتابه (الخطاب العربي المعاصر) أن يكون بمثابة تمهيد لمشروعه: مشروع نقد العقل العربي، فانصرف إلى تحليل الخطاب النهضويّ العربيّ الحديث والمعاصر، من أجل إبراز ضعفه وتشخيص عيوبه استجلاء لصورته، وليس من أجل إعادة بنائه. و فيه يشخّص إشكاليّة مشروع النهضة من قبل ومشروع الثورة فيما بعد بغياب نقد العقل فيهما. وكأنه لا يرى فيما أنتجه مشروع "تنوير" عربيّ أوّل ومشروع "تثوير" عربيّ تالٍ إلا غياب "النقد"، وما حضور النقد، بمستوياته المختلفة، إن لم يكن حضوراً مضمراً أو معلناً لنقد العقل؟
وهل المواد التي يشتغل عليها كتاب الخطاب العربي إلا تلك المواد النقديّة التي اشتغل عليها مشروع خطاب "النهضة" من قبل، ومشروع خطاب "الثورة" فيما بعد؟
يتوقّف د.الجابري عند أشكال من الخطاب، هي الخطاب النهضوي والخطاب السياسيّ والخطاب القوميّ والخطاب الفلسفيّ، ويجد في قضيّة الأصالة والمعاصرة صلب إشكالية الخطاب العربي الحديث والمعاصر.
و ما يهمّه من النماذج التي يعرضها هو العقل الذي يتحدّث فيها لا بوصفه عقل شخصٍ أو فئة أو جيل، بل بوصفه "العقل العربي" الذي أنتج الخطاب موضوع دراسته. ويجد أن منطق الليبرالي الذي تستهويه المبادئ الأوروبية لا يختلف عن منطلق السلفي، أمّا المنطق التوفيقي فيحاول أن يجمع بين أحسن ما في النموذج العربي الإسلامي وأحسن ما في النموذج الأوروبي... و الخطاب النهضوي، برأيه، خطاب توفيقيّ، متناقض، محكوم بسلفٍ، خطاب وعي مستلب... أما الخطاب القوميّ فهو خطابٌ في الممكنات الذهنيّة، ما ورائي... والفكر العربي قبل حرب حزيران لم يكن يعبّر عن متطلبّات الواقع بل عن واقع آخر يعيشه العرب في الحلم، فهو خطاب وجدان، لا خطاب عقّل، وإن نجح في بثّ ونشر الشعور القوميّ، وقد أخفق الخطاب السياسيّ العربي، على مدى قرن من الزمن، في تحقيق أيّ تقدّم في قضيّة العلاقة بين الدين والدولة... الخ. و لا ينجو الخطاب الفلسفيّ، عنده من تهمة الإخفاق أيضاً، فهو خطاب يتجاهل ـ كما أشرنا من قبل ـ القطاع العقلاني في التراث، ويستنجد بما فيه من قطاع لا عقلانيّ، كما يرتبط بأكثر الجوانب لا عقلانية في الفكر الأوروبي المعاصر...
وكان قد استنتج أن السلفيّ والليبرالي وجميع الأسماء الأيديولوجيّة العربية الأخرى لا تستطيع، ولا نستطيع، نحن العرب، أن نفهم أو نعي مفهومي الأصالة والمعاصرة مادمنا محكومين بسلطة النموذج السلف سواء أكان من التراث أو من الفكر الغربي المعاصر أو شيئاً منهما..الخ.
و سيستنتج أخيراً: أن العقل العربي عقل فقهيّ سواء أتحدّث من موقع يميني أم من موقع يساري، ويتّسم بغياب العلاقة أو ما يكفي من العلاقة بين الفكر والواقع، وهو عاجز عن تقديم الإمكانيّات النظرية المطابقة لتغيير الواقع... الخ!....
ومع ذلك فهو يعترف في مقدّمته بأنه لم يوفّق في تبنّي منهج معيّن وسط المناهج الجاهزة، ويسوّغ عمله بطبيعة الموضوع ونوع الهدف وما يفرضانه من الأخذ بمنهجٍ أو عدٍة مناهج أو اختراع منهج جديد.
وهو يقرّ بتوظيفه مفاهيم تنتمي إلى فلسفات أو منهجيات أو قراءات مختلفة ومتباينة!12 وسينحاز في نقده العقل العربيّ إلى العقلانية النقديّة لدى ابن حزم و ابن رشد و الشاطبي و ابن خلدون، ويرى فيها منطلقاً يربطنا بقضايا تراثنا، من أجل نقلها إلى حاضرنا، والتعامل معها على أساس متطلّباته وحاجة المستقبل وفكر العصر ومنطقه. و قد حضرت في تفكيره، وتحضر سلطةُ أنموذج اختاره من السلف أو من التراث، كما حضرت، وتحضر سلطة أنموذج استعان بمنهجه من الفكر الأوروبي المعاصر، على هذا النحو أو ذاك..
يحتمي "الأصولي" و"غير الأصولي" و"السلفي" و"غير السلفي" بجزء من الماضي أو من التراث ـ كما يبدو ـ فيستعيد الأصوليّ أو السلفيُ شريعةً وفقهاً يواجه بهما حداثةً هجمت عليه.
وينتمي "الحداثيّ" أو "شبه الحداثيّ"، أو يصرّح بانتمائه إلى "بذور" حداثةٍ عربية انبثقت قبل ما يقارب من عشرة قرون من انبثاق حداثة الغرب، إن لم يصرّح بأنه اهتدى إليها من خلال أنموذج غربيّ، ويتّفق هنا مع الأصولي وشبه الأصوليّ في تأمّله أنموذجات من التفكير والعمل يرى فيها سبْق الإسلام أو العرب للغرب!
وكأن كلاً من "الأصولي" و "غير الأصولي" يهرب من الواقع والتاريخ، أحدهما يستعين برفض الغرب، الذي هو الواقع والعالم والتاريخ الآن، والآخر يهرب إلى نقد العقل الذي لا ينتمي إلى نقد الواقع والعالم والتاريخ بقدر ما ينتمي إلى كلامٍ "حديث" لم يمتلك القدرة بعد على أن يتحول إلى "فعلٍ" حديث حقاً!..
الفرضيّة التي يدافع عنها د.الجابري في الخطاب العربي المعاصر هي فرضيّة إخفاق مشروع النهضة من قبل، وإخفاق مشروع الثورة فيما بعد، وسيدافع كتابه (نقد العقل العربي)، بأجزائه الثلاثة، عن فرضيّة استقالة العقل العربي!...
ينظر في مقدمّته كتابه (تكوين العقل العربي)، إلى نقد العقل كجزء أساسي وأوليّ من كلّ مشروع للنهضة، ويتساءل عن إمكانيّة بناء نهضةٍ بعقلٍ غير ناهض، عقلٍ لم يقحم بمراجعةٍ شاملةٍ لآلياته ومفاهيمه وتصوّراته ورؤاه، ويصرّح بأن مشروعه هادفٌ لا يمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرّر من كلّ ما هو ميت أو متخشّب في كياننا العقليّ وإرثنا الثقافي... ويقرّ في موضع آخر من نهاية كتابه أن أيّ تحليل للفكر العربيّ الإسلاميّ، سواء أكان من منظور بنيويّ أم من منظور تاريخانيّ، سيظلّ ناقصاً، وستكون نتائجه مضلّلة إذا لم يأخذ في حسابه دور السياسة في توجيه هذا الفكر وتحديد مساره ومنعرجاته...
وسيرى أن الثقافة العربية الإسلامية يتقاسمها نظامان معرّفيان متباينان، يرتبطان بتيّارين أيديولوجيّين متصارعين تاريخياً: النظام البياني والأيديولوجية السينّة من جهة والنظام العرفاني والأيديولوجية الشيعيّة من جهة ثانية. ومن هنا سيكون النظام البرهانيّ محكوماً في طبيعته وتطوّره بالصراع بين البيان والعرفان... وتضمّ علوم البيان علوم النحو والفقه والكلام والبلاغة، وتعتمد على نظام معرفيّ أساسه قياس الغائب على الشاهد، وعلوم العرفان التي تضمّ علوم الكيمياء والطبّ والفلاحة والتنجيم والتصوّف والفكر الشيعيّ والفلسفة الإسماعيلية والتفسير الباطن للقرآن والفلسفة الإشرافية، والسحر و الطلّسمات، ويعتمد نظامها على الكشف والوصال والتجاذب، أمّا علوم البرهان من علوم طبيعيةٍ ومنطق ورياضة وميتافيزيقا فمنهجها الملاحظة التجريبية والاستنتاج العقلي...الخ13.
وكأنّه ينظر إلى العقل العربي بوصفه نتاج الثقافة العربية الإسلامية التي تأسّست على نظم معرفيّة ثلاثة: نظام معرفي لغويّ عربيّ الأصل، ونظم معرفيّ غنوصي فارسي هرمسيّ الأصل، ونظام معرفي عقلانيّ يوناني الأصل، كما ورد في كتابه التراث والحداثة. أو كأن لكلّ نظامٍ معرفيّ مرادفه عنده من أنواع المعقول ومراتبه، كما يلاحظ جورج طرابيشي، فالبرهان يطابقه المعقول العقليّ، والبيان يلازمه المعقول الدينيّ، أمّا العرفان فيحتلّ موقعه في أسفل الهرم، بوصفه مملكة اللامعقول المظلمة14.
إنّ د.الجابري، متأثراً بحفريّات ميشال فوكو أو بالإبستميّة عنده يلغي تنوعاً أو كثرة، بل تعددّاً فضاؤه الثقافي العربي الإسلامي يعبّر عن تفاعل وتداخل وتجاور ووحدة، فقد تآوى فيه إنتاج مؤمنين و دهريّين وزنادقة، وفلاسفة وشعراء وكتّاب ومتكلّمين وفقهاء مارسوا التعبير عن أنفسهم، ومارسوا حريّتهم في الانتماء والنقد على هذا النحو أو ذاك، ولا يُحْصَر إنتاجه في هذا النظام المعرفي أو ذاك بشكل حاسم، فالأنظمة المعرفية الثلاثة متداخلة، وبينها عناصر مشتركة بقدر ما بينها من عناصر مختلفة، كما أن العقل يشمل البيان والبرهان، العلم والعرفان، الواقع  والرمز، ليمارس العقل البشري وحدته على نحو عميق وخلاّق، كما يرى د.علي حرب15.
وأيّة مظاهر رئيسة لظاهرة استقالة العقل تبدو في انتصار "العرفان"، وتحوّل "البيان" إلى (عقل ـ عادة) و(البرهان) إلى (عادة ـ عقليّة) كما يرى الجابري؟ وهل هي مصدر "استقالة حتى اليوم في كثير من الأوساط الثقافية إن لم يكن في كلّها تقريباً، إذا لم نذكر الأغلبية الساحقة من الجماهير الأمية؛ على حدّ تعبير الجابري أيضاً!...
و أخيرا ما يتقاطع في المقابل مع عبد الله العروي بالنسبة لمحمد عابد الجابري و هو مفهوم القطيعة الابستيمولوجية، حيث لا يستقيم النظر في مفهوم القطيعة عند الأستاذ محمد عابد الجابري دون الإحاطة بفهمه لمعنى التراث ، إن التراث في نظر الأستاذ الجابري "ليس إنتاجاً تاريخيا و حسب...، بل هو أيضا عطاء ذاتي إنساني لشخصيات دخلت التاريخ " و كل عطاء من هذا النوع إلا و يتضمن في ذاته مضمونين أول مهم و هو الجانب المعرفي ، وثاني أهم يتجسد في مضمونه الإيديولوجي . يحتوي الأول الجهاز التفكيري (مفاهيم، تصورات، منطلقات ، منهج ... ) و يمثل الآخر الوظيفة الأيديولوجية (السياسية، الاجتماعية...) التي يعطيها صاحب أو أصحاب ذلك الفكر لتلك المادة المعرفية16
هل تعني القطيعة مع التراث القطيعة معه ككل موحد ؟ أم تعني القطع مع إحدى عناصره فحسب ؟ إذا كان الأمر كذلك ما هو العنصر الذي يجب القطع معه هل المحمول الأيدلوجي أم المضمون المعرفي؟ .
إن الفصل الذي يقترحه الأستاذ الجابري ليس فصلاً منهجيا فحسب لتسهيل عملية قراءة هذا الفكر بقدر ما ينبع عن واقع الفكر الفلسفي في الإسلام المهتجس لنفس الإشكالية "التوفيق بين  العقل و النقل"، و هو فصل ضروري يضيف الباحث يمكننا من استبصار ما " تزخر به الفلسفة الإسلامية (التراث) من تنوع و حركة، غير أن الجابري حينما يدعونا إلى القطيعة مع التراث فإنه لا يعني بذلك مجموع ما خلفه أجدادنا لأن القول بذلك طرح فاسد خاطئ لا تاريخي ، يفهم القطيعة بمعناها الدارج، و هذا لا يعني أن تراثنا خير كله ، كما لا يعني أنه الشر بعينه أو أس بالإحباط الذي نعيشه و نتخبط فيه . إننا في حاجة إلى قطيعة إبستمولوجية تتناول الفعل العقلي والفعل العقلي نشاط يتم بطريقة ما و بواسطة أدوات هي المفاهيم17، إن الرجل يهتجس القطيعة مع المضمون المعرفي للتراث.       
موقف عبد الإله بلقزيز18 -III
طرح د. عبد الإله بلقزيز، أربع أسئلة معرفية محورية في تطرقه لمسألة التراث و سؤال أخير منهجي.
السؤال الأول هو لماذا الاهتمام بالتراث؟ حيث بين أن هناك أهمية للمسألة (مسألة التراث) في الوعي العربي المعاصر، بل وفي الاجتماع العربي أيضا.
إن هذا الاهتمام بالماضي على وجه التعيين يدل على أن الفكر العربي فكر ماضوي راكد، يعيش على الماضي ويتعيش منه، لكن هناك من تتلمذ على الثقافة الغربية والذين أسسوا إشكالية التراث في الوعي العربي المعاصر.
إذن يستنتج الدكتور عبد الإله بلقزيز بأن هناك حقيقتين تلقيان الضوء على تضخم السؤال التراثي في الوعي العربي المعاصر: حقيقة مجتمعية، وحقيقة ثقافية.  
الحقيقة الأولى، تعود إلى حالة الإخفاق والانسداد التي ولجتها البلاد العربية منذ القرن 17 عشر في جميع الميادين، هذا الحاضر المأزوم هو الذي سيعيد السؤال حول التراث التاريخي والفكري والعقدي.                                   
الحقيقة الثانية، إخفاق الحاضر أي حاضر العرب، في إنجاز مطالب النهضة و التقدم والحداثة و سواها، و على ضوء ذلك طرح الدكتور عبد الإله بلقزيز سؤالا جوهريا هو هل بوسع جيل القرن العشرين التماس الحلول لمشاكل العصر من المدونة التراثية؟
وأمام هذا السؤال الجوهري يعتمد الدكتور عبد الإله بلقزيز على ثلاث مقاربات أو مقالات، فما هي هذه المقالات؟
المقالة التراثية، هي مقالة تقوم على عقيدة إيمانية قاطعة تقول بأهلية التراث لتقديم إجابات عن أسئلة حاضرنا وحلول لمشاكل عصرنا.
أما المقالة الحداثية، هي تلغي أي مساهمة فعلية للتراث للإجابة عن أسئلة تهم حاضرنا، فهو يمثل أيضا سلطة على الحاضر وبالتالي يمثل عائقا معرفيا بالمعنى الباشلاري للكلمة أمام تقدم وعينا، وأمام قدرتنا على صوغ تصورات مناسبة لتحدياتنا الاجتماعية والثقافية الراهنة، وأن كل تقدم معرفي أو اجتماعي يفترض نقد التراث والتحرر من سلطته.
و أخيرا المقالة الوظيفية، فتعتبر التراث منظومة من الرموز القابلة للتوظيف في السياق الاجتماعي بعيدا عن فكرة الخطاب والصواب وثنائية الجيد و السيئ.
إن المقالتان الأولى والثانية، إلى المقاربة المعرفية اللتان تنتظمان على قاعدة إبستيمولوجية: الصدق والكذب، الصواب
و الخطأ، ومن ثم هناك تحكيم المعيار المعرفي قاعدة في النظر إلى قيمة التراث.
أما بالنسبة للمقالة الثالثة فهي تنطوي تحت المقاربة السوسيولوجية التي تهتم وتنصرف إلى الاهتمام بقيمة ووظيفية الأفكار أي أن تساهم به في تنمية الفعالية وفي تحقيق المنفعة، إن قيمة الأفكار تكون في قدرتها واستطاعتها في قيامها بجملة من الوظائف.
أما السؤال المعرفي الثاني فيتمثل في أن معركة تأويل التراث معركة من أجل امتلاك الحاضر واحتكاره.
بين في البداية الدكتور عبد الإله بلقزيز على الاختلافات في النظر إلى مسألة التراث بين التيارين السلفي و الليبيرالي، ورغم أن التيار الثاني جاء متأخرا في الاهتمام بهذه المسألة، ولكن إحساسه بحقه في شرعنة حديثه عن ذلك، أصبح يسعى بجهده لقراءته وتأويله لتحقيق وعي جديد بهذا الرأسمالي التراثي.
ويذهب الدكتور عبد الإله بلقزيز أن معركة تأويل التراث، ومحاولة امتلاكه والسيطرة عليه واحتكاره، من حيث هو رأسمال رمزي، هي- في جوهرها- معركة تأويل الحاضر وامتلاكه واحتكار صوغه، إنما هي معركة اجتماعية - سياسية من أجل تحقيق السيطرة المادية.
إن المنتصر في معركة تأويل التراث واحتكار تمثيله والتعبير عنه، هو الأقدر على التقدم بثقة أكبر لامتلاك الحاضر، والسيطرة عليه واحتكار تمثيله، وقدرة على طرح الأسئلة الملحة والعميقة التي تخص الحاضر هو الأقرب على السيطرة عليه وعلى بقية الأطراف والفاعلين الاجتماعيين والثقافيين والسياسيين أيضا.  
أما السؤال المعرفي الثالث فمتمثل في اعتبار التراث سؤال إيديولوجي.    
إن المقاربة الأيديولوجية للتراث هدفها هو في توظيفه، فهي قراءة نفعية في المقام الأول، قراءة تتجه إلى تعبئة التراث في معركة ترسم لها حدودها وقواعدها وغاياتها سلفا، وتعين للتراث موقعا ووظيفة فيها.
فهذه القراءة النفعية، هي قراءة وظيفية، أي بما يسعفه به من وظائف قابلة للأداء وهو ما يفسر ظاهرة الطلب المتزايد على التراث من قبل مختلف تيارات الفكر العربي في العقود الثلاثة التالية، وصيرورته ميدانا فسيحا للصراع بينها.
إن التراث يتعين- من منظور إيديولوجي- بوصفه رأسمالا رمزيا قابلا للاستثمار الاجتماعي أو السياسي بسبب ما يحيل به من إمكانيات هائلة لتعبئة الحاضر، ويقصد بالرأسمال هنا هو جنوح جميع تيارات الوعي العربي- دونما استثناء- إلى توظيفه في معاركها الثقافية والأيديولوجية.
لكن هناك خطرين على هذه النظرة الأيديولوجية فما هما هاذين الخطرين؟
أ- فضائح الانتقائية: يبين الدكتور عبد الإله بلقزيز هنا نزوع مختلف التيارات لتعزيز آراءهم بالتوجه إلى التراث متوسلا به قصد إشباع حاجته حول ما يحمله من أفكار(المثقف التنويري العقلاني، المثقف الماركسي، المثقف السلفي، والمثقف الرفضوي الحانق على النظام القائم...).
إن هذه المقاربة الانتقائية للتراث تؤسس لهذه القواعد المغشوشة، فهي حسب الدكتور عبد الإله بلقزيز تزوير لتاريخية التراث، وفصل تعسفي لترابط حلقاته، وممارسة إسقاطية عليه.    
ب- التحزب التراثي: بمعنى محاولة تقمص دور زيد و عمر في الصراعات التي دارت رحاها بين مفكري   الماضي(معتزليا ضد الأشاعرة أو العكس، ومتصوفا ضد الفقهاء...)، إن هذا التحزب بقدر ما يمثل إهدارا لتاريخية القول التاريخي، فهو شكلا من أشكال الاستلاب الأيديولوجية لما يمارس من طرف المثقفين العرب. 
أما السؤال الرابع فهو يمزج بين المعرفي و الأيديولوجي في الدراسات التراثية إذ تقع مسألة التراث- إذن- في منطقة جذب مغناطيسي بين المعرفي والأيديولوجي، إنها مسألة حاضر يفرض على الوعي رحلة شاقة في الماضي والحاضر. الأهم هنا هو البحث عن تبرير صلتي الفكرية بالتراث أو قيمته، ومن خلال هذه الصلة يمكن طرح سؤال عن علاقة الفكر العربي الحديث بماضيه، ويتجلى لنا من خلال ذلك رؤيتين، فما مضمون ها تين المقالتين؟
المقالة الأولى تتحدث عن وجود علاقة استمرارية بين الفكر العربي الحديث وماضيه النظري(الفكرة السلفية) بشقيها الراضي عنها(محمد عبده على سبيل المثال) والمحتج عليها(محمد عابد الجابري مثالا).
المقالة الثانية تذهب إلى القول بحصول انقطاع تاريخي حاسم، ويتجلى ذلك عند(سلامة موسى، طه حسين، من ناحية،
و مهدي عامل أو علي أومليل أو عزيز العظمة من جهة أخرى) في إدراك مواطن تلك القطيعة الفكرية، فالجامع بين هؤلاء جميعا هو الاعتقاد بزوال الحاجة إلى التراث لتقديم أجوبة عن الحاضر: الفكري والاجتماعي، بسبب زوال شروط استمرار سلطته المعرفية.
إنه من خلال المقالتين هدف أيديولوجي مضمر: الصراع على تعريف أو تعيين نوع المشروع الاجتماعي المطلوب في الحاضر والمستقبل.
وقد يوجد في الأولين(الأوائل) من هو مستعد لتوجيه مثيله من النقد للغرب وللكونية، غير أنه في الحالتين فإن النقد يتعرض إلى العناصر وليس إلى البنية.
أما السؤال المتعلق بالمناهج في تحليل التراث هل هي معرفية أم أيديولوجية؟ يمكننا أن نرصد أربعة مقاربات منهجية للتراث تداولا في الـتأليف العربي المعاصر:
أ- المقاربة الاستبطانية: استبطان المعطى التراثي الذي يشتغل عليه وإعادة إنتاجه بوصفه معطى معاصرا أو قابلا للمعاصرة، إنها تستعرض المادة التراثية على نحو استرجاعي استظهاري، ولكنها مقاربة عرفت تطورات من تأويل المادة التراثية في البداية إلى التسلح بمعطيات علوم الألسنية و السيميائيات الحديثة- باجتراح "أدوات تراثية" داخلية(غير خارجية) لتحليل التراث ويمثل المغربي طه عبد الرحمن أحد رواد هذا المنحى. 
     ب- المقاربة الفيلولوجية: تنزع إلى رد المعطى التراثي إلى وصوله، وتقع في عملية مقارنة بين"الفروع" والوصول"، فهي لا تقدم أية مادة علمية جديرة بالانتباه.
ج- المقاربة الجدلية: تعمد على قاعدة فرضيتين، الأولى في كون الأفكار تعبير خارجي عن صراع اجتماعي- طبقي في المجتمع العربي، وثانيتهما أن الصراع الفكري بين تيارات الفكر التراثي وهو تعبير داخلي عن التناقض بين المنزعين المادي والمثالي في الثقافة العربية الوسيطة، وقد عبرا عن هذه المقاربة كلا من الطيب تيزيني و حسين مروة في مفرداة: الواقع، علاقات الإنتاج، قوى الإنتاج، البنية التحتية،  البنية الفوقية، الصراع الطبقي، التناقض المادي... وهي مفاهيم المادية الجدلية، لكارل ماركس ومقاربته.
إن هذه المقاربة تتحدث عن بيئة الأفكار، فقيمة المعطى الفكري تتحدد قيمته بما يسمح من إمكانات لإدراك الواقع.
د- المقاربة الإبستيمولوجية: تنظر هذه المقاربة إلى التراث من الداخل، أي كبنية فكرية- تنتظمها شبكة من العلائق المفاهيمية والدلالية- مستقلة عن محيطها التاريخي، وقد نجد أثر هذه المقاربة عند محمد عابد الجابري، و محمد أركون، بأدوات التحليل البنيوي(في اللغة- والدلالة- وعلم النفس)، وهو ما يدفعها إلى التفكير في كلية التراث على نحو ما تتجلى لها في نظم المعرفة الحاكمة له والسائدة فيه، وإلى ممارسة النقد النظري لتلك النظم وللعقل(العربي عند الجابري والإسلامي عند أركون) الذي ينتجها. 
ماذا وراء هذه الوصفات المنهجية؟
يطرح في هذا السياق الدكتور عبد الإله بلقزيز سؤالا مهما وهو متعلق بالخلفية الأيديولوجية للمقاربات المؤسسة لكل منها: المقاربة الاستبطانية انتصارا صريحا للفكر التراثي، فهو واضح بذاته، إن التراث - في هذه المقاربة - فوق النقد- والمهم هو إبلاغه بوسائط مختلفة من استعادة النص إلى إعادة بنائه بتقنيات منطقية تركيبية.
وعلى الضد والخلاف من ذلك تحاول المقاربة الفيلولوجية إسقاط أية أصالة عن المادة التراثية، وتحويل التراث إلى مجرد شرح ونقل لتراث الحضارات السابقة، بهدف إعدام أية مساهمة من الثقافة العربية في التراكم الثقافي الإنساني.
في حين أن المقاربة الجدلية، فلا تبتغي أكثر من إدخال التراث والمجتمع العربيين الوسيطين في نظام قوانين التطور التاريخي الجدلي بهدف الانتصار للمنهج الجدلي وإسباغ الشرعية على النظرية والمنهج الماركسي؟
وأخيرا بالنسبة للمقاربة الإبستيمولوجية، فهي مادة طيعة لتمرين نظري يجرب فيه أدوات ومفاهيم العلوم الإنسانية المعاصرة، وممارسة نقد شامل يعيد النظر في مرجعية التراث، ويرفع عنه القداسة.
و في النهاية يمكن اعتبار أن هذه المناهج ليست محايدة تماما من التوظيف و الإيديولوجيا من أجل غايات وأهداف ليست بالضرورة علمية كما تدعيه هذه المقاربات.
خاتمة: حاولنا في هذه المحاولة المعرفية التأليفية و المختزلة لمسألة التراث من خلال مواقف و تحليلات المفكرين العرب د. عبد الله العروي، د.محمد عابد الجابري، د.عبد الإله بلقزيز، حيث يبقى التراث و المخزون النفسي و الاجتماعي للمجتمعات العربية و الإسلامية محل تساءل بين فترة تاريخية و أخرى و بين عصر و واقع و آخر،إن هذا المخزون و هذه المرجعية تبقى محل توظيف و استعمال سواء من طرف النخب أو الإيديولوجيات و الساسة، كما يتم استخدام هذا المخزون على مستوى الأفراد و الجماعات و العائلات، كل حسب ظروفه و مصلحته، و لكن مهما كان الأمر فإن هذه المسألة أو غيرها وجب أن نأخذ في شأنها مسافات معرفية و تحليلية و عملية لكي لا تبقى ضاغطة و مكبلة للأفراد و الجماعات
و المجتمعات، فهو رأسمال رمزي بتعبير بيار بورديو يتغير و يتحرك حسب الزمان و المكان و الأهداف و الإنتضارات المتنوعة و المختلفة.     

المراجع و الهوامش:
1- عبد الله العروي، مفهوم العقل " المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 1997ص12
2- يصف محمد عابد الجابري، عبد الله العروي  بهذه الصفة. وهي النقطة التي بنى عليها نقده للعروي في مجموعة من المحطات نذكر منها " نحن و التراث " إذ يقول ( يطرح بعض المثقفين العرب الذين يبدو أن صلتهم بالتراث الأوروبي أقوى من التراث العربي الإسلامي .......تلك هي إشكالية عبد الله العروي ) و كذلك " الخطاب العربي المعاصر "
و المقال المنشور في "محاورة العروي" تحت عنوان (مساهمة في النقد الإيديولوجي)  
3- مفهوم العقل " مرجع سابق
4- مفهوم العقل "مرجع سابق" ص 97
5- مفهوم العقل "مرجع سابق" ص 102
6- يعتبر عبد الله العروي في مؤلفه الإيديولوجيا العربية المعاصرة أن أول سؤال يواجه المثقف و الداعية العربي هو سؤال الأنا.
7- كمال عبد اللطيف " الفكر الفلسفي في المغرب " إفريقيا الشرق 2003 ص ص 52-54
8- عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية  المعاصرة " المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 1999 ص 90
9- عبد الله العروي، نفس المرجع السابق، ص 201
10- عبد الله العروي، مفهوم العقل " المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 1997ص12
11- عبد الله العروي، مفهوم العقل " المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 1997ص11
12- محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر،مركز دراسات الوحدة العربية،ط4، 1992  صفحات 12- 14-30-31، 55-56-131-135-217
13- محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية ط6،1994صفحات5- 7- 8-246-249.   14- جورج طرابيشي، إشكاليّات العقل العربي، دار الساقي، 1998، ص 285. 
15- علي حرب، خطاب الهويّة، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1996، ص 131.
- محمد عابد الجابري، نحن و التراث، المركز الثقافي العربي، الطبعة السادسة 1993 ص29.  16
17- محمد عابد الجابري، نحن و التراث، نفس المرجع السابق ص 20.
18- من أهم الكتب التي تتناول مسألة التراث عند عبد الإله بلقزيز، أسئلة الفكر العربي المعاصر" عن دار الحوار للنشر والتوزيع اللاذقية- سورية في طبعته الأولى2001، ص ص 75- 108
و كذلك النظر إلى جعفر حسين، عبد الإله بلقزيز"أسئلة الفكر العربي المعاصر"، مجلة كتابات معاصرة اللبنانية، عدد 71، المجلد 18(كانون الثاني- شباط)2009 ص 113- 119
 
* جعفر حسين
باحث في علم الاجتماع من تونس 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟