التسول ظاهرة اجتماعية ذات أبعاد نفسية و اقتصادية، ظهرت منذ القديم، و هي ترتبط في أصلها بالتفاوت الطبقي و بالاختلالات البنيوية للنسيج السوسيواقتصادي و ضعف آليات التنمية البشرية؛ أبطالها ناس على هامش المجتمع يبحثون عن السند و يلتجئون إلى غيرهم طلبا للصدقة و المساعدة بالمال و الطعام و غيرهما. كما قد يتحول التسول إلى ممارسة منظمة لتكديس الأموال و الاغتناء السريع لدى بعض الأفراد و الجماعات أو إلى نصب و احتيال و ارتكاب لبعض الجرائم...الخ
و في كل الأحوال يوظف التسول خطابا يتداخل فيه المكون الديني بالمكونات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و يتنوع بتنوع المواقف و الفضاءات التي يستغلها المتسولون بغية تحقيق مطالبهم المشروعة و غير المشروعة في إطار بنية اجتماعية و نفسية قوامها القهر و التخلف؛ وتتكامل في هذا الخطاب عدة مكونات كاللغة و الحركة و الهيئة و الصوت...
1 - كثافة اللغة و رمزيتها:
تتسم لغة التسول بالرمزية و الغنى الدلالي رغم أنها تنمو على شكل متواليات خطابية قصيرة و جمل نمطية تتظاهر بالوضوح و البساطة، و لعل أبرز ما تستند إليه هو التبرير عبر مستويات أهمها:
أ- التبرير الديني: و يتجلى في محاولة إقناع الآخر بجدوى الصدقة انطلاقا من الرؤية الإسلامية في إطار ما يجازي به الله المؤمنين المتصدقين، لذلك نجد هيمنة جمل مثل (صدقة لله/ في سبيل الله/ الله يرحم بها الوالدين/ الله يوصلها للوالدين...). فبالجملة الأولى يبث المتسول رسالة إلى المتلقي مفادها أن ما يطلبه هو حق أوجبه الإله، مختزلا بذلك العديد من الآيات القرآنية في الموضوع. و إذا أخذنا (الله يلحكها/يوصلها للوالدين) أو (الله يرحم بها الوالدين)، ففي منطوقها يبدو المتسول و كأنه مجرد ساع للبريد، يساهم بطريقة ما في وصول الصدقة و الرحمة إلى والدي المتصدق، لترحمهم من عذاب القبر، أو لترجح كفة حسناتهم و تمحو بعض سيئاتهم، إلى درجة يمكن أن يصل معها المتسول إلى فاعل خير أيضا لأنه يتسبب في وصول الرحمة إلى الأموات، و في العبور الرمزي للمتصدقين نحو نعيم الآخرة. كما يوجد وجه آخر للتبرير الديني حين تلجأ بعض النساء إلى لبس الحجاب و توزيع وريقات صغيرة على الناس في المقاهي بدون أن تنبسن ببنت شفة، و هنا تبث العديد من الرسائل التي تروم التأثير في المتلقي؛ أما الخطاب الموجود في الوريقات فيشحن بجانب ديني !و اجتماعي. يتمثل الأول في البسملة و التصلية و التسليم، إضافة إلى آية أو أكثر حول الصدقة و الإحسان و أن الله لا يضيع أجر المحسنين. أما الثاني فتمثله تبريرات اجتماعية غالبا ما تدور حول وفاة الأب أو الزوج و تكفل المرأة بالعديد من الأطفال، إخوة أو أبناء. و هنا يتعامل المتلقي مع الخطاب المكتوب مستحضرا هيئة صاحبته و شكلها المحتشم الذي قد يكون أحد مفاتيح الحصول على الصدقة...
ب- التبرير الاقتصادي و الاجتماعي: يمثله الحديث عن الحاجة الشديدة و الفقر المدقع و عدم القدرة على إعالة الأسرة و الحديث عن الافتقار للسكن. و كذلك حال المرأة المتسولة التي تتحدث عن مرض زوجها أو وفاته و عن يتم أطفالها... و هنا أيضا توظف العديد من الجمل النمطية لكن لها دلالات واسعة. من هذه الجمل نذكر مثلا (عاونوني على طرف ديال الخبز) حيث يستجدي المتسول هنا كسرة خبز بسيطة ليفيد لنا مدلول الخطاب أنه يحاول ترسيخ فكرة أنه يعيش على فتات الآخرين، و كأنه يقول للمتلقي من حقك أن تتمتع بالكل و من حقي أن أتسلم منك الجزء. أما في جملة (باش نوكلو الوليدات) فنجد التوسل ببراءة الأبناء، أي ما ذنبهم في هذا الوضع الاجتماعي؟ و هذا يذكرنا بخطاب الاستسقاء الذي يتوسل فيه المؤمنون ببراءة البهائم (اللهم اسق عبادك و بهيمتك)...
و يسند هذان المكونان بغيرهما كالتبرير السياسي أحيانا و الذي يتجلى في سب الدولة و مؤسساتها أو سب الأوضاع و التنديد بالتفاوت الطبقي؛ و التبرير الصحي بالحديث عن المرض و عدم القدرة على شراء الدواء مع الكشف عن العاهات...
2 - سيميائية الهيئة و الهندام و الحركة:
هذا المحور ينقلنا من العلامات اللسانية إلى العلامات غير اللسانية، أي من سيمياء المسموع إلى سيمياء المرئي ، و في هذا السياق و حتى ينسجم الدال مع المدلول تجد المتسول ضعيف البنية – تصنعا أو حقيقة- في انحناءة و تواضع يصل أدنى مستوياته، كأنه مبني على مفارقة أنت السيد و أنا العبد الضعيف، أنت مالك كل شيء و أنا الفاقد لكل شيء؛ كما لو أنه يرسخ واقعا طبقيا ما يعبر به عن إحساسه بالنقص و عدم الاعتراف الاجتماعي؛ و لا يكتمل المشهد إلا بلباس رث يعكس الفقر و الحاجة فهو الدليل عليهما، و لو كانت حالة المتسول أحسن لما قبل أن يلف جسده في هذا اللباس الرث المتسخ، دون أن ننسى تصنع البعض في ذلك أو وجود بعض المتسولين بلباس جيد مخالف لما هو سائد في عالم التسول.
ومن أبرز حركات المتسول مد اليد في تحفظ يشفعه بنظرة الاستعطاف، و كذا الوقوف باحترام حيال المتلقي، و هناك من يستعين بابتسامة تكون أحيانا ذات مفعول سحري في الاستجابة له. ذراع معقوفة ترمز إلى الضعف و عدم التطاول، يرسل خطابها رسالة تعكس التزام المتسول لحدوده و احترام رزق المتلقي و ما فضله به الله على سواه. كما تكون اليد معقوفة أو نصف مفتوحة و كأنها ترمز إلى الاعتدال الذي نص عليه الإسلام في العديد من المواقف و أبرزها الإنفاق. و هنا في مقام التسول تعني أن المتسول قنوع لا يطلب الكثير، و مسكين يعيش على المساعدة، أي أن القليل منك يكفيه و أن وضعه يستدعي إشفاق الناس. و من الحركات الأكثر استعمالا في التسول رفع (السبابة) إلى أعلى مع النظر إلى المتلقي، و يرافق ذلك كلام ملائم لهذه الوضعية (على الله)؛ هذا دون أن ننسى أن هذا الإصبع يحمل رمزية دينية خاصة، فهو إصبع التوحيد و النطق بالشهادة و التشهد في الصلاة...
3 - جاذبية الفضاء:
يخطط المتسول لاستغلال أنسب الفضاءات زمانيا و مكانيا: فمن حيث الفضاء الزماني فإنه يستغل محورية أيام الجمعة و الأعياد الدينية نظرا لسلطتها الروحية و العاطفية على المسلمين، فهو يعي جيدا أنها مناسبات للتقرب إلى الله بالإحسان إلى الفقراء بالصدقات و الزكوات... و لذلك يحاول أن يقدم نفسه كمرشح لأخذ الحق الذي أمر به الله مستعينا بخطاب يذكرك فيه بأنك لن تقوم سوى بالواجب، و بأن الله عنده الجزاء على فعلك هذا.
أما بخصوص الفضاء المكاني، فلا شك أن أقوى الأمكنة استقطابا للمتسولين هي الفضاءات ذات البعد الديني كالمساجد و المقابر، فمنهم من يختار هذه الأمكنة ببراءة لمعرفته أن الناس –كمسلمين- سيساعدونه، و منهم من يستغل لحظات الدفقة العاطفية تجاه الخالق أو الفقيد ليضمنوا عطاء جزيلا. إضافة إلى الانتشار في الشارع العام، مع اختيار نقط استراتيجية قد يتقاتلون من أجل الظفر بها، و كذا الجولان في المقاهي و رصد الداخلين و الخارجين من وكالات البريد و البنوك لاستغلال لحظات انتشائهم بالمال. ومن أقوى المحاور التي يستغلها المتسول المحور المرتبط بالمستشفيات سواء بالجلوس بقربها أو ركوب الحافلات المؤدية إليها ذهابا و إيابا، و ذلك لاستغلال الموقف الذي يكون فيه أهل المريض و هم يتمنون له الشفاء العاجل، فبتلك الصدقات يعتقدون أنهم يقدمون خدمة لمرضاهم، ثم لأنفسهم، لذلك يكثر المتسولون في هذه المحاور، ومنهم من يستغل عاهته أو يركب على جسده جهازا طبيا يأخذه من النفايات ليصعد إلى الحافلة يشكو ثم يرفع ثيابه ليظهره للناس مما يؤدي إلى تقززهم و إلى تعاطف عدد منهم.
و من جهة أخرى يستغل بعض المتسولين فضاءات الحانات لاستغلال الإحساس بالذنب عند المخمورين، و ربما استغلال سخطهم على الواقع... إلى درجة أن هناك من يعلنها جهرا بأن السكير قد يحن و يعطف و يعطيك ما يعطيه الخارج من المسجد أضعافا مضاعفة...
4 - سيمفونية الصوت و التقنيات المساعدة:
إذا كانت اللغة تشكل أهم مكون في خطاب التسول فإنها لن تصل إلى المتلقي وفق مقصدية مرسلها إلا بتكاملها مع عناصر أخرى كما رأينا، لنضيف هنا عنصرا مؤثرا هو الصوت، ذلك أن الجمل التي اخترنا في البداية و غيرها يمكن أن ينطق بها شخص آخر بطريقة عادية و تنغيم مغاير فتؤدي دلالات أخرى، و بالتالي فهي تحتاج إلى اشتغال الحبال الصوتية و مخارج الحروف وفق ما يتطلبه مقام التسول، و هذا بالضبط ما يدفع المتسول إلى طلب المساعدة بصوت يغلب عليه الأنين و الضعف بغية التأثير العاطفي و النفسي في المتلقي، فيحاول أن يصور به العجز و المرض و العوز ونكد الأحوال، ليكون مطيته للاستعطاف و تحريك الدواخل و ترقيق القلوب.
و فوق هذا يستعمل المتسول العديد من التقنيات المساعدة كالطرق على الأبواب و الجلوس بجوارها كإشارة إلى انتظار الطعام ...الخ. كما يستغل المواقف أحيانا فإذا لاحظ أنك استجبت له بسرعة أو أحسست بالخجل فإنه يتجرأ عليك أكثر لانتزاع المزيد. و قد يوظف تقنية الإحراج إذا ما و جد شابا و شابة معا، فيلتجئ إلى الشاب و يحاول إحراجه أمام مرافقته فيتوسل منه أن يساعده ماديا، وكأنه بذلك يضع رجولته في الميزان، و هو ما يجعل المتلقي يسارع إلى التصدق ببعض النقود أمام خليلته في مشهد لا يقبل الضعف... هذا و دون أن يغرب عن بالنا استعانة بعضهم بالآلات الموسيقية و الغناء أو بالأشكال الفرجوية في مشاهد و لقطات متقطعة، فكاهية بالدرجة الأولى، فردية أو جماعية، سواء في الشارع أو الحافلات أو المقاهي و الأسواق، يدخلون البسمة و الارتياح على الناس قبل الالتجاء إلى التسول و طلب (المقابل).
5 - مواقف المتلقي و ردود أفعال المرسل:
تتعدد مظاهر تلقي الناس لخطاب التسول ولعل أقواها يتأرجح بين التعاطف و عدم الاكتراث، إذ في الوقت الذي نجد البعض يتعاطف مع المتسول من منطلقات متباينة كالحس الإنساني و الرابطة الدينية و تقدير الظروف و استحضار ماض فيه حرمان و قهر... نجد البعض لا يحركون ساكنا و لو من الناحية النفسية، و قد يكرهون المتسولين أو يتهمونهم جميعا بامتهان هذه الحرفة بدون استثناء. و تستوقفنا مظاهر أخرى نذكر منها اعتقاد البعض و هم في محور المستشفيات أن تلبيتهم لطلبات المتسولين ستساعدهم على درء المصائب المحدقة بهم إذا ما تعلق الأمر بالأمراض و العمليات الجراحية و حتى بالموت. كما يطفو على السطح الخوف من الإصابة بنفس العاهة، إذ يعتقد البعض و هم أمام متسول يكشف عن إصابته أنهم إذا لم يتصدقوا فإنهم قد يصابون بنفس العاهة أو المرض...
أما عن ردود أفعال المتسول إزاء الآخر فتتجلى في عدة مظاهر حسب الطبيعة النفسية و درجة الرضا و نوع تعاطي الناس معه.. من ذلك الشكر اعترافا بالجميل بما ينم عن إحساس بالسعادة مشفوع بالقناعة. و هناك الامتنان المبالغ فيه كأن يكثر الدعاء و الشكر إلى حد يفوق قيمة العطاء بدرجات كثيرة. و هناك استعجال النظر إلى العطية حيث يهتم بعضهم بالنظر إليها أكثر من الاهتمام بالشكر. أما حين تنعدم العطية أو تكون أقل مما ينتظر فإنه قد يقابلها بالاستغراب أو الاستهزاء فيحدج المتلقي بنظرة نارية أو بكلام معين، و قد يصل الأمر إلى حد إرجاعها إلى صاحبها أو الاحتجاج و ربما الشتم...
خاتمة:
لا شك أن هذه المحطات التي مر منها هذا المقال قد لامست العديد من الجوانب المرتبطة بالتسول و بالخطاب الذي يوظفه لغة و إيماء، رغم أن الموضوع في أصله كبير و شاسع يحتاج إلى أبحاث مطولة، نظرية و ميدانية. لنؤكد في الختام أن خطاب التسول جدير بالتتبع و التحليل نظرا لتداخل عدة عناصر و معطيات كواحد من أبرز النصوص و الملفوظات التي قد تبلي فيها نظريات تحليل الخطاب البلاء الحسن، خصوصا إذا استحضرت التطورات التي وصلت إليها بتوسيع آلياتها و بانفتاحها على العديد من الحقول المعرفية...
د. عبدالرحيم الخلادي أكادير