ليس بالغريب بتاتا و مطلقا أن تتجاور العبقرية بقليل من نفحات الحمق و الجنون ، و غير بعيد عن المنطق كذلك أن تختلط النشوة الإبداعية لكبار الخلاقين بالإكتئاب النفسي و الإضطراب الوجداني ، و أن تتمازج بالحزن الحاد و العميق ، و من مؤشرات الساذجة و السطحية البلهاء ، أن ننكر بجحود تام دور الهذيان الهوسي و الجنون الدوري في عملية الخلق و الإبداع ، و من الترف و الإبتذال أيضا أن نقصي شيطان المس و نوبات الصرع الدوري من مسار إنتاج المعنى و تبنيه ، فمن المقبول و المستساغ إذن أن يستمد الإبداع غذائه و نسغه أحيانا و لربما دائما من الجنون الداخلي و الإهتزاز النفسي ، فمن غير الغريب أبدا أن يتقوى من زفرات العذاب القتيم ، و أن يتنامى نتيجة إختلالات الذهن الشديد ، المبني عن أخطبوط العصاب و حربائية المزاج .
فلا إنتاج لمعنى المعنى إلا بالمرور بالضرورة من الإحباط السيكولوجي ، و من قالب الإكتئاب السوداوي و إلزامية التوتر الداخلي ، فلا إبداع بدون حبة جنون ، و لا خلق لللاموجود في غياب شظايا التوتر و الهذيان ، فالعصاب العفوي أو الإنتظامي صانع للكاتب و الفنان ، و أصالة الإبداع مهدئ لحال المبتكر و الموسيقار ، و الإبتكار المائز مشف لجراح كل مبدع شغوف و ولهان ، أو متأزم مكتئب و سرحان ، فالعبقري تجل من تجليات عقدة النقص الفاجع ، أما الخلاق فهو نتاج الفضاعة و المعاناة ، فالعبقرية أصل الإبداع و السبب الجوهراني في الكتابة و التخطيط ، فالعقدة جرح غائر في كرامة الشاعر و الفنان ، توخز الشخصية المرهفة الضعيفة لكل إستثنائي مبدع خلاق ، و تعمق جراح نرجسية الباحث المفكر و حتى المتأمل الفيلسوف ، فجميلة هي الكتابة إذن كدواء لتهدئة القلق و التوتر ، و عملية هي لتصريف الهموم و الغموم ، و فعالة في تسكين الهذيان الهوسي و ترميم الشرخ الداخلي ، فهي في البدء و الختام محاولة إستنجادية لتفوق الذات على نفسها و سموها على جسدها ، لتغطية مواطن النقص بها ، و لملئ وعاء الإحتياج تحريرا لشخصيتها من كافة عقدها و عاهاتها ، حتى تتمكن من تجاوز أوجاعها و أهاتها للتحليق بها في أعالي الأعالي حيث الراحة و التوازن الطبيعي ، فلا ريب إذن أن يكون الإبداع صمام أمان لإعطاء الشخصية ثقتها بنفسها ، و إشباعها بروح التوازن و الإستقرار ، فالشخصية المريضة و المشروخة النفس و البنيان لا تستطيع أن تتوازن إلا ببلسم الخلق و الإبداع ، فالكتابة رياق الأدباء ، و وقود داخلي للإختراع و الإكتشاف ، و هي تأجيل بالواضح و المكشوف للجنون و الإنتحار ، فالتناقض بين المبدع و طراهات العالم يصبح حادا إلى درجة يستحيل حلها و الشفاء منها ، إلا عن طريق الإنفجار الإبداعي الباذخ الخلاق ، أو من خلال الإشتعال الغير متوقع كالحريق ، أو مثل الحمم و طريقة إنفجارها من أفواه البراكين ، أو لربما كالشلالات و الينابيع ، فحالة الإبداع و الإبتكار هي حالة هوسية يبلغ فيها التهيج حده الأقصى ، لينعكس في شكل خوارق تتعف من الإعتيادي و المبتذل ، لتميل للوحدة و الإنعزال ، لتفضل الخلوة و التواري عن الأنظار ، لتختار السباحة في عوالم الإبداع الصاعق و الفكر الهائج تنفيسا عن الهم الداخلي و تساميا بالإرهاق الإكتئابي ، لتتمرغ في أحضان الفن النيزكي المارق و الجبار ، فمن هنا و على هذه الشاكلة ، تأبى دوائر الإبداع عند أوغست كونت كغيره من المضطربين ، أن تخرج عن سياج الإنهيارات الداخلية و الإضطراب العقلي ، فهو إبن الأزمة و وليد الإضطرابات الإجتماعية ، و شاهد عيان عن الفوضى الفكرية و الغوغائية المذهبية ، تغلغل في فترات مد و جزر ، و عايش الثورة و الثورة المضادة ، ففهم الديمقراطية و سيادة مبدأ الإنسان ، و عرف بالملموس معنى الديكتاتورية و الإستبداد ، أما في رعيان الشباب فقد مقت تقاليد الدين إلى حدود الكفر و الإلحاد ، فهذا هو إبن عصر التنوير ، لم تكن حياته بالصريح و الموضوعي مستقيمة ، أو وفية لنهج الفلاسفة الرزينين و الرصينين ، بل كانت هائجة عاصفة إلى أبعد الحدود و المستويات ، بل و متناقضة لفلسفته في الشكل و المضمون ، فلم تكن وضعية تميل للعلمية و الدقة ، و لا عقلانية تنتسب للعقل و التفكير ، بل كانت متقلبة و بركانية ثائرة في عمقها و شكلها ، مليئة هي بالهزات و متخنة بالرجات و الخضات ، فلم تعرف للتوازن المطلق طريقا و لا للتفكير الجاد سبيلا ، بل كانت حياة إنتكاسات و تمزقات بدون أدنى ريب أو نقاش ، متصدعة في العاطفة و الوجدان ، لم تعرف الثبات و الإستقرار الرزينين يوما ما ، فلم تكن متوازية على طول الخط بل عرفت رجات تلو الرجات ، شكلت إنتكاساتها و هزاتها معالم شخصية متناقضة لحدود الإمتلاء ، فشلت مرات تلو المرات في تنقيبها عن العاطفة و الوجدان ، فلم تتقبل فشل الفشل نفسه ، فأعادت الكرة مرة أخرى بحثا عن شيء من الحب و الهدوء أو الإطمئنان ، لكن وجدت الفشل نفسه مرة أخرى ، لتعي في نهاية الأمر و بعد طول تجارب رهيبة و إخفاقات خطيرة و متنوعة أنها خلقت لشيء أسمى و أرقى غير ذلك المرتبط بعوالم الحب أو دنيا الزواج ، أو ذاك المتعلق بشيء من اللذة أو الإحساس ، فحياته بعيدة أن تنسب لمنظر الدقة و شيخ الوضعية ، أو تنتسب لمبشر العقلانية و المبادئ المنطقية الرياضية ، حياة عنوانها الغرابة في الشكل و المضمون ، فمن يقول أن كونت جعل من زواجه ميثاق ود و وفاء لعاهرة باريسية ذائعة الصيت و الشهرة ، و ذات نجوم الجودة و الإمتياز و حتى الأداء ، بجسد يعربد فتنة و إغراء ؟ فمن كان يعتقد من باب الإبتذال أن سكرتير الإشتراكي " كلود هنري سان سيمون " و إبنه بالتبني سيغرم بها ، و أن قلبه لن يقبل النبض سوى لها ؟ من كان يظن بأن بروفسور السوسيولوجيا و الفلسفة الوضعية سيحبها و سيقرر الإشفاق عليها بإتخاذها زوجة و شريكة حياة ؟ من كان يفكر ولو تشاؤما في حق أوغست كونت بأن رغبته ستتجمع لإنقاذها من حرفة اللذة و جحيم العهر والبغاء ؟ من كان يعتقد ولو من باب الترف أنه سينقلها من الرصيف ليعاشرها في إطار الشرع و القانون بعدما كان من أشد زبنائها ترددا و إخلاصا ، و رغم كرهه لشعائر الكنيسة و بركات الدين ؟ من كان يفكر إذن بأن كونت إنساني إلى هذه الدرجة و الحدود ؟ من كان يقول بأن حياته ستكون بهكذا طريقة مسارها الحزن و الإحباط الشديد ؟ فلم تكتنز أحلامه النفس الطويل و القدرة على التمني و الخيال ، فلم تستطع مجارة طيش زوجته و تمردها ، فلم ينعم بالهناء و لو ليوم واحد معها ، و لم يحس بصفة الزوج السعيد بجوارها ، بقدر ما زادت حياته غما و نكدا ، حتى تفاقمت مخاوفه من البهدلة و الفضيحة بسبب وقاحة أفعالها ، فما ألت إليه أوضاعه لا يصدق و لا يقع على الحسبان ، إذ وصل به الأمر إلى التوسل إليها ، و كذلك تهديدها لتكف السيدة العروسة عن أفعالها الشهوانية و تعود لجادة صوابها ، لكن الأمر لم يكن بالسهولة بمكان إذ لم تتوقف عن الإسترزاق بجسدها و الإستنعام بأعضائها ، كلما كانت في حاجة ماسة لفستان جميل أو حقيبة باهظة الثمن و القيمة ، و الفضيع في الأمر أن فيلسوف الوضعية لم يسارع للطلاق منها و الإقرار بوضعية الإنفصال ، بقدر ما زاد حبه لها و زاد تشبته بها أكثر فأكثر إلى حدود الذل و المهزلة ، و التدهور و الهلوسة و كذلك الهذيان ، لينتهي به الحال في مصح عقلي نتيجة إضطرابه المزمن و لإصابته بلوثة عقلية تداعى عقله من خلالها إلى الوراء ، ففقد أعصابه إلى أخر الحضيض ، فلانت السيدة " كارولين " كثيرا و راحت ترعى أستاذ الوضعية الإلحادية الهش و المريض ، و أخذت في الإهتمام به حتى إستعاد توازنه ، و ما أن شعرت نوعا ما بتعافيه و هدوءه ، حتى راح شيطان المغامرة و وسواس الشهوانية يعربد في جسدها من جديد ، لتختفي فجأة دونما إعلان أو سابق إنذار ، و دونما أن يعي قبلا قرارها و عزمها ، تركته بأنفة و عنفوان ، و غادرت البيت إلى غير رجعة ، لكن رغم فعلها و تنكرها له إلا أن حرارة حبها له لم تنطفئ يوما بل ظلت ملتهبة تحت الرماد ، فقد عادت في ما مضى لتداوم على دروسه في إحدى كنائس باريس ، كمستمع عادي بين الحضور ، لم يستسغ رحيلها رائد السوسيولوجيا فيما قبل ليجن و ليختار الإنتحار كحل إستشراقي ينهي من خلاله معاناته و ألمه الحاد ، ففضل رمي نفسه من أعلى جسر في باريس إلى قاع نهر السين ، لكن لسوء الحظ ، فحتى الموت لم يعد راغبا فيه بل زاد الألم و الحزن في حبه له و التشبث به ، فشاءت الصدفة أن ينتشله أحد أعضاء الحرس الجمهوري من موت محقق و أكيد ، ليحس لأول مرة بفعلته و بحقيقة وضعه ، كما شعر بضعفه المعنوي و النفسي ، ليعي بعد خضات تلو الخضات أن المبرر الوحيد لوجوده على سطح الوجود هو رسالته الفلسفية لأنها الوحيدة التي ستبادله نفس الشعور و ستشفيه من الحمق و الجنون و ستعوضه عن كل الآهات و الزفرات ، فإجتاز محنته بعدما ألزم نفسه على نسيان الولع و الحب الجنوني ، ليعكف على الكتابة و التنظير مكرسا كل وقته للإبداع الغزير و إنتاج المعنى الهائل و الفريد ، تخليدا لنفسه على صفحات التاريخ ، فحتى عندما حاولت السيدة " كارولين ماسان " الإتصال به فيما بعد لنسيان الماضي و الحفاظ على رابط الصداقة المقدس فقط ، رفض بجحود و كره كبيرين ، و أصر على وحدته وعزلته ، فكان له ما رغب و أراد لمدة من الزمن ، إلى حدود أن إستفاق حبه من جديد على حدث عاطفي يشبه قصص الحب العذرية المثالية إن صح التعبير ، حدث هز كيانه من أعلى عليين إلى أسفل سافلين ، و قلب طاولة فلسفته من العقل و منطق التفكير إلى الحب و الوجدان ، فبدأ الإعتقاد في العاطفة البريئة و الحب الكوني عوض العلم الوضعي ، لينقلب على العلمية والتكنولوجيا ليمجد الصوفية و القيم المثالية ، هي ضربة عاطفية أثرت على مجرى تفكيره التقدمي و المادي ، و غيرت مسار فلسفته ، إذ أخذ قلبه في النبضان لإنسانة متدينة ، مريضة ضعيفة الصحة و البنيان ، بل و مصابة بمرض خطير يستحيل معه الشفاء ، كانت النقيض المطلق للعشيقة العاهرة " كارولين ماسان " هذه المرة كانت إنسانة من طراز أخر راق و رفيع ، وقع في حبها بشكل غريب و صاعق ، بل و جارف يتجاوز كل تفسير ، كانت فتاة شاعرة و أديبة تنتمي لعوالم المثقفين ، أرستقراطية و محترمة كذلك ، تصغره بسبعة عشر عاما تدعى " كلوتليد دو فو " رفضت حبه على المستوى الجسدي لبشاعته و قبحه المورفولوجي ، لكن أصرت كما قبل هو بالمثل على أن تظل العلاقة بصبغة صداقاتية محضة يتبادلان من خلالها الرسائل و الزيارات فقط لا غير ، دونما عشق أو هوى لا يتقاطع و ذلك الحب الأفلاطوني العذري ، فإستحسن الأمر الذي لم يدم سوى فترة من الزمن حصر في السنة أو السنتين كأبعد تقدير ، حتى توفاها القدر و أخذها الموت من بين يديه و أمام عينيه و هي على فراش الموت تحتضر ، فجن جنونه لواقع الحال و بكاها بكاء مرا ، إذ لم يتقبل بالبت ما ألت إليه الظروف ، و لم يستسغ بالمطلق مشيئة القدر و القضاء ، ليظل وفيا لزيارة قبرها بإستمرار حريص ، و بإنتظام شديد إلى أخر لحظات من حياته حتى وافته المنية هو الأخر أيضا بعد عشر سنوات على رحيلها ، لتصبح ذكرى مقدسة يحتفل بها كل عام بإعتبارها جزءا لا يتجزأ من فلسفته الوضعية القاسية ، فكل ألوان الزفرات و الخيبات التي كابدها ، و كل أشكال التمزقات و الأهات و كذلك الصدمات التي قاساها ، لم تزد لرائد علم الإجتماع إلا كمياء الإنتاج و نشوة الإبداع ، فرغم فقره و عزلته عن الجميع ، و عيشه على التبرعات و المساعدات مقاصيا الجوع و التهميش ، و رغم عيشه وحيدا في ظل أجواء التعتيم و اللامبالاة العامة ، و تمرغه في الإهمال و سوء التعامل و الإعتراف ، و رغم إنجازه لبحوثه الوضعية الجافة ، و تنظيره لحضارة عقلية منظمة تنبني على المنهجية علمية و التفكير النقدي العميق و الدقة في التعامل و المواعيد ، إلا أن شهرته لم تنفجر إلا بعد موته و رحيله ، و رغم سوء حظه مع الحب و الوجدان ، و رغم كل إنتكاساته التي تنتهي ، إلا أنه لم يقر الإستسلام و لم يبدي التراجع إلى الوراء ، فرغم رفض جامعات فرنسا طلباته ليصبح بروفسورا بين جدرانها و داخل مدرجاتها ، و رغم فشله في ترشيح نفسه لمنصب الأستاذية في التعليم العالي ، إلا أنه شحذ القلم و إستنفذ طاقات العقل ، حتى وصل به الأمر إلى التبشير بدين جديد يسعف البشرية في التقدم ، و يحقق لها التطور و الإزدهار ، و يعفيها من غياهب التطاحن السياسي و الإقصاء الإجتماعي ، و يخفف عنها كل أشكال الإضطراب و الفوضى الناتجة عن الثورة و التدمير ، لرغبة منه في فهم سبب الهزات و الإختلالات ، لإيجاد دواء لهذا للإجتماعي المنهك و المريض ، نتيجة إستفحال قيم الفردانية فيه و تشعب التفكك و الإنعزال بين ثناياه ، و أملا منه في الإنتقال من عوالم الكارثة و الأزمة ، لمرحلة البناء و التعمير تجاوزا لتمزقات الإجتماعي المتنوعة من مجازره الطاحنة و حروبه المدمرة ، و ذلك لترسيخ النظام و إستتبات الأمن و الإستقرار تحقيقا للسلام ، و في سبيل التنمية و رفاهية الإنسان ، عوض الهروب عن المجتمع و الإرتحال عنه ، و بدلا من إعادة الخضات البائسة نفسها ، و الإنقلابات الكارثية المزمنة ، فهو دين فلسفي خام إشتهر بالدقة العلمية ، و الإهتمام الحصري بالوقائع التجريبية المحسوسة ذات البنيان المادي ، و عرف بتبنيه للمعادلات الفيزيائية و الرياضية المحضة ، بعيدا عن التحليق في سموات مثالية وردية النهايات ، و أبعد من السباحة في خيالات مجنحة ، أو التلذذ بشطحات شاعرية ذات البعد الصوفي الوجداني ، فالعقائد اللاهوتية لم يعد لها معنى أو أدنى جدوى ، بعد ظهور العلم و الصناعة و بروز التكنولوجيا ، لذا وجب حب البشرية من أجل تقدمها و سعادتها هروبا من الحروب المذهبية و الطائفية المتشددة ، و رغبة منه في إخراجها من غياهب المجتمع الزراعي ، الإقطاعي الأصولي و المتخلف الرجعي ، و أملا في الدخول لعصر التكنولوجيا و الصناعة تحقيقا للتقدم و الإزدهار ، بعيدا عن دركات الفقر و الجوع و كل أشكال المرض الإجتماعي ، و ذلك بغية تحسين معيشة الإنسان و تحويلها لجنة مشبعة بالطمأنينة والهناء ، فهي فلسفة إجتماعية محضة تقوم على العقل و تتأسس على العلم ، تؤمن بضرورة المنطق في قيادة البشرية نحو الحضارة و التقدم و الرقي ، بعيدا عن خطابات الوهم و الخيال ، فالعقل هو البديل للاهوت لا محالة ، و هو الأحق و الأجدر بتشريع المعرفة لكل نشاط بشري بعيدا عن الميتافيزيقا و قوانين الماوراء ، و بالتالي ينبغي أن تحل العقلانية محل اللاهوت المسيحي التقليدي الذي أدى لمحاكم التفتيش الأصولي و للتواكل و الخمول ، و التأخر المجتمعي و الباثولوجي على كافة الأصعدة و المستويات ، فلسفة هي وضعية بإمتياز ، دقيقة لا تؤمن إلا بالحسابات والمعادلات الرياضية و كل قوانين الفيزياء ، تنكب بآليات الدرس و التحليل على الإستتيكا الإجتماعية و الأخرى الديناميكية من أجل فهم ما يعتمل بعوالمهما تقويضا لعمق الإشكال ، فلسفة هي مهووسة بإكتشاف القوانين سواء تلك التي تتحكم بظواهر الطبيعة و الفيزياء ، أو تلك التي تتحكم بتصرفات البشر و عقليتهم ، فلسفة تعادي مبادئ الدين التقليدي و تعلن الخصام للمعتقدات الجاهزة و للأساطير اللاهوت الخيالية ، و لكل ما يسهم في تظليل العقل و تخريب التفكير ، فمهمتها التحرر و غرضها الأسمى فهم علل الإنشقاقات و الهزات ، و تحرر التحرر غايتها في جميع الميادين و المجالات ، فنهجها بارد قاسي يفتقر للعاطفة و الوجدان ، و مبتاغها صلب فولاذي يبدأ بإحلال الأرضي محل السماوي ، و الوضعي محل الغيبي ، و الواقعي محل الشاعري ، فبالتدرج إذن من مراحل اللاهوت تؤمن ، و إنتقالا إلى الميتافيزيقا المؤقتة تكد و تجتهد ، بغية الوصول لصرح العقل و لبلاط التفكير ، مسار هو تدريجي من الحس و الإحساس إلى المنطق و التحليل الوضعي ، إنقاذا لتاج العقل من الأغلال المتوارثة و القيود الصدئة ، و حفاظا عليه من دناسة الخرافة و قوى الغيب الخارقة ، حتى يتسنى له الوصول لمستوى بارز أخاذ من السيطرة على الحوادث و الظواهر بالإستناد على قواعد تنظم إشتغاله ، و على متاريس تؤمن منطق عمله ، و بالإرتهان أيضا لشغفه اللامحدود لفهم واقع الحال ، و لتحليل الحوادث المحدثة ثم تشفير الأخرى الحادثة ، قصد الإستفادة منها و التحكم فيها على الأقل تحت مظلة منهجية صارمة ، من ملاحظة حيادية و تجربة مقارناتية تاريخانية ، و بمعية حجج دامغة و منطقية توفرها فيزياء الإجتماعي أو السوسيولوجيا كأخر علوم الفيزياء و أرقاها ، لا لشيء سوى للإرتقاء و التطور نحو السعادة و الهناء ، خدمة للبشرية في البدء و في الختام .