يقول مالك بن نبي " الأمة التي لا تقرأ تموت أبدا "، ولعل ربط القراءة بالموت لدى مالك بن نبي يجد مشروعيته في كون هذا الأخير يقر بأن فعل الحياة بشكل مجازي ملاصق لفعل القراءة، وبالتالي تصبح هذه الأخيرة حياة تفتح آفاقا نحو القارئ ليعيش حياة غير تلك البيولوجية ليهيم في عالم آخر يجده بين دفتي كتاب أو مجلة، وهنا لابد من عكس العبارة لنقول " الأمة التي تقرأ تحيا أبدا".
وقبل الخوض في مفهوم القراءة " الفعل" والقراءة " السلوك " والقراءة " الواجب "، نطرح السؤال التالي ألا يكون فعل الكتابة أجدى وأهم من فعل القراءة؟ باعتبار أن الكتابة تعبير عما يخالج صدورنا من أحاسيس و مشاعر و إبلاغ الآخر وتواصلنا معه بالكلمة المخطوطة، لنقوم مرة أخرى بتحوير بسيط لمقولة بن نبي ونقول " الأمة التي لا تكتب تموت أبدا "، باعتبار أن الكتابة وخاصة الكتب والمراجع والموسوعات والروايات والقصص وغيرها من أنواع الكتابات، تبقى خالدة تتعاقبها الأجيال و الأمم تقرأ عنها و تمتح من معين فكرها و تخبر تجاريبها، كما هو الحال عند حضارات قديمة جدا كالفراعنة واليونان و المايا و الأنكا وغيرها من الحضارات؟
هذا السؤال الاستنكاري يجعلنا نقر بحقيقة مطلقة أن القراءة تسبق فعل الكتابة، ذلك أن العدم لا يخلق شيئا وبالتالي الفراغ لا يعطي الملء، فكل العباقرة والأدباء والمبدعين والشعراء.. لم يبدعوا من عدم بل تجدهم أقبلوا على العديد من المراجع والكتب، ونهلوا من معينها فتبلورت لديهم قريحة الكتابة ومنهجية فكر ليعطوا عملا قد يضعف أو يقوى.
إن الحديث عن العلاقتين يدفعنا بالضرورة إلى استحضار ما طرحه تشومسكي عالم اللسانيات الأمريكي من أفكار حول عملية تخزين الأفكار بثنائية الدخل in put والخرج out put و التي تعمل على إدخال مجموعة من المعارف عبر القراءة والتحصيل والتي تتمركز داخل العقل الباطن، فتبقى مخزنة لا شعورية إلى حين استحضارها بشكل فجائي لتتم عملية إخراجها وهذا ما سماه بالخرج، مشبها تلك العملية ما يقع للكمبيوتر الذي تخزن فيه معلومات داخل القرص الصلب ليتم استخراجها فيما بعد عند الاقتضاء.
يقول الكاتب والفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون" القراءة تصنع إنسانا كاملا، والمشورة تصنع إنسانا مستعدا، والكتابة تصنع إنسانا دقيقا "، تبدو هذه المقولة مختصرة للكثير من الكلام، وربما عن إدراك أو بدونه قدم بيكون القراءة عن الكتابة، ومن تمة تنسجم هذه المقولة مع المفهوم الذي ذكرناه آنفا.
يرى بيكون في مقولته والتي جاءت أكثر خصوصية من مقولة بن نبي، معتبرا أن سعي الإنسان نحو الكمال، يمر من خلال القراءة، فالكل منا يدرك قيمة القراءة في الانفتاح على مجالات أرحب قد تكون غائبة وقد لا نلقي لها بالا، حتى يأتي كتاب ما ليدخلك إليها، وبذلك تتشكل لدى الشخصية القارئة شخصية أخرى وهي شخصية "المثقف"، الذي يختلف عن "المتعلم"، يقول علي الوردي في أحد فصول كتابه " خوارق اللاشعور" ".. يقال إن المقياس الذي نقيس به ثقافة شخص ما هو مبلغ ما يتحمل هذا الشخص من آراء غيره المخالفة لرأيه، فالمثقف الحقيقي يكاد لا يطمئن إلى صحة رأيه ذلك لأن المعيار الذي يزن به صحة الآراء غير ثابت لديه، فهو يتغير من وقت لآخر، وكثيرا ما وجد نفسه مقتنعا برأي معين في يوم من الأيام، ثم لا يكاد يمضي عليه الزمن حتى تضعف قناعته بذلك الرأي.." هنا يبدو واضحا أن القراءة هي الصمام الأمان ضد التعصب الفكري وضد الدوغمائية، التي أصبحنا نراها في كثير من النقاشات، حول موضوع ما بين أشخاص ما وصلوا إلى مستوى تعليمي يشهد لهم بقيمته العلمية التعلمية ليس غير، ويعتقد في قرارة نفسه أنه ليس كذلك فتجده متشنجا لفكرة ما ويعتبرها الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، علما بأن الحقيقة المطلقة لا وجود لها، سوى اجتهادات من هنا ومن هناك قد تلمس الحقيقة في جانب من جوانبها، أو قد تخفق وبالتالي فالفرق شاسع بين المتعلم والمثقف فليس كل متعلم مثقف.
أليس ما نعيشه اليوم من تطرف فكري يساريا كان أم يمينيا نتيجة ابتعادنا عن القراءة وعدم تقبل الرأي والرأي الآخر؟ لأن الثقافة لا تتاتى إلا بفعل القراءة الذي يفتح عوالم عديدة نحو أفق مكنونات التجارب الإنسانية باختلاف مشاربها وجنسياتها وعقلياتها. إن الفعل القرائي يخلق شخصية متعلمة مثقفة تستمد منابع فكرها من الفكر المتحضر والمتفتح فنجدنا أمام شخصية كونية، تقبل بحضارة الآخر وتحترم وجوده و تنوع فكره، ولا تجعل نفسها محور الكون و ما عدا ذلك فهو باطل في باطل.
ولعل ما يحز في النفس تلك الدراسة التي نشرتها إحدى الصحف الأردنية والتي أوردت إحصائيات عن القراءة في العالم العربي قائلة " ما زال الجفاء في أوجه ما بين المواطن العربي والكتاب، فالدراسات الدولية الأخيرة حول معدلات القراءة في العالم أوضحت أن معدل قراءة المواطن العربي سنويا ربع صفحة، في الوقت الذي تبين فيه أن معدل قراءة الأمريكي 11 كتابا، والبريطاني 7 كتب في العام." لعل القارئ يدرك حجم الكارثة التي أصابت أمتنا التي تبحث لنفسها دوما عن المداخل الكبرى من أجل معرفة الأسباب الحقيقية القمينة وراء تخلفها، غيرأن الداء يكمن في ابتعادها عن الكتاب علما بأنها أمة كتاب وقرآن، ألم تنزل أول آية تقول " إقرأ.." أليست آية تحفيز وأمر بالقراءة؟ ألم تكن هذه الآية كافية أن تغير مسار أمة بكاملها نحو مستقبل زاهر؟
هذه الإحصائيات عن ضعف القراءة ينعكس على الكتابة أيضا فغياب الأولى منطقيا يغيب الثانية، فالإحصائيات تقول إنٍ إجمالي ما تنتجة الدول العربية من الكتب يساوي 1.1 في المئة من الانتاج العالمي لا أكثر رغم أن نسبة سكان الوطن العربي إلى سكان العالم تقريبا 5 في المئة حسب إحصائيات السنوات الأخيرة أما ما يطبع من الكتب باللغة الانجليزية يساوي 60في المئة من مطبوعات الكتب إجمالاً، وأشارت الدراسة نفسها أن الطفل العربي لا يقرأ سوى 6 دقائق خارج المنهج الدراسي رغم ما للقراءة والمطالعة خارج المنهج من أثر كبير على المستوى التعليمي للطالب، ويقرأ كل 20 عربيا كتاباً واحداً بينما يقرأ كل بريطاني 7 كتب أي ما يعادل ما يقرأه 140 عربي ويقرأ كل أمريكي 11 كتاباً أي ما يعادل ما يقرأه 220 عربياَ، فليس العيب في أحد بل فينا نحن، ونتبجح قائلين إن الغرب يتربص بنا الدواهي، أليس من طامة أكبر من أننا أمة لا تقرأ؟ ألم يصدق مالك بن نبي لما قال أنها أمة تموت أبدا؟
بعد كل ماسبق يأتي السؤال الملح ما العمل؟ أليس هناك من سبيل للخروج من هذه المعضلة؟