مقدمة:
يبدو الحديث عن دراسة للمجتمع العربي حديثاً تقليدياً من حيث الشكل, لكن في ظل الأحداث التي تمر بها المجتمعات العربية أصبحت عملية تفكيك البنى الاجتماعية ودراسة عناصرها أمراً غاية في الأهمية تستدعيها المعطيات والنتائج التي أفرزتها المرحلة الأخيرة في تاريخ المجتمعات العربية (إن صحَّ الجمع). هذه الدراسة المبسطة ستقدم مدخلاً جديداً لدراسة بنية الاجتماع العربي, إنطلاقاً من تحليل العناصر الأساسية المكوِّنة لهذه المجتمعات وتحديد الأطر النظرية لميكانيزمات الحراك الاجتماعي فيها, مبنيةً على أسس انثروبولوجية.
لدراسة أي مجتمع لابدَّ في البداية من دراسة العنصر الأهم في تكوينه, نقصد هنا "الفرد/ الإنسان العربي". لذا فإننا سننطلق من أسسٍ انثروبولوجية للوصول إلى الغاية المنشودة.
- ميكانيزمات الفعل الإنساني في المجتمع ونقد خطاب الحداثة:
يتحدد حراك الأفراد في المجتمع بناءً على خصائص تسم الطبيعة البشرية. بتعبيرٍ آخر, إنَّ ما يحدِّد حراك الفرد في المجتمع هو "الرغبة". الشكل الأول من أشكال الرغبة هذه هو الرغبة في الوجود الإنساني (الكينونة) كفرد متفرد بذاته ولذاته يتميز عن أقرانه في المجتمع بجملة من الصفات التي ترتبط بالبنية الفيزيولوجية والسيكولوجية للفرد تطبع تحركاته في المحيط الاجتماعي بطابعٍ يميّزهُ عن الآخرين, ويعمل الفرد من خلال تفاعله مع الجماعات الاجتماعية المحيطة به على إثبات وإبراز هذا التفرد. أما الشكل الثاني من أشكال الرغبة فهو الرغبة في الكينونة مع الآخر, أي الوجود من خلال اعتراف الآخر بهذا الفرد ككائن فاعل وذو دور عضوي في المجتمع, هذا النوع الآخر من الرغبة لا يمكن تحقيقه دون عملية إندماج اجتماعي فعَّالة, تعمل على تحقيقها البنى المؤسسية والقانونية والبنى الثقافية في المجتمع, فإما أن تكون عاملاً في إنطلاق أفراده أو عاملاً في تقيد حركتهم والحد منها.
تاريخياً كان هناك تذبذب أو عدم استقرار سياسي واجتماعي في التعاطي مع أولوية إحدى الرغبتين على حساب الأخرى. كان هذا الوضع نتيجة لتجليات خطاب الحداثة والصراع مع السرديات المواجهة له. حيث قامت الحداثة على مبدأ أساسي تمثَّل في الحرية الفردية والتشديد على التفرُّد والإفساح في المجال للمنافسة الحرة وإعطاء الأفضلية لإنتاج الثروات تنافسياً على إعادة توزيعها, متذرعةً بأنَّ مجمل هذه السلوكيات تتناسب والطبيعة البشرية التي ترغب في الوجود بشكلٍ مستقلٍ, فلعبت دور الحامي لهذه الحرية والاستقلالية المزيفتين. لكن في الحقيقة لم تكن الحداثة إلَّا تكيفاً آلياً للفعل الإنساني مع الواقع الاجتماعي المفروض على الأفراد والذي لا يتناسب وطبيعتهم ككائنات بشرية. باختصار كانت الحداثة المنادية بخرافة الوجود المستقل للفرد مبنية على خطأ انثروبولوجي, يخلط ما بين الطبيعة البشرية وبين الغرائز المحكومة وراثياً. مدافعةً عن وجهة نظرها بأنَّ السلوك الفردي الذي ينشد الحرية والاستقلالية هو سلوك عقلاني, ومن خلاله تتحقق الحرية الحقيقية لأفراد المجتمع. لكن علم نفس الاقتصاد التجريبي يوضِّح وجهة نظر مناقضة, وهي أنَّ عدم عقلانية الأفراد تقودهم إلى سلوكيات أقل فردانية وأكثر توجُّهاً إلى التعاون مما تفترضه الفردانية المنهجية في علم الاقتصاد النموذجي. ما يدعم وجهة النظر هذه النتيجة التي توصل إليها الاقتصادي الأمريكي (John Nash) الذي يخبرنا بأنَّ العقلانية الفردية وفق منطق الحداثة الغربية تقود إلى للاعقلانية جماعية. والسبب واضح لأنَّ وجهة نظرالحداثة في هذا الخصوص تقوم على جانب فقط من جوانب الوجود الإنساني وتهمل الجانب الآخر. ويكتمل مشروع الحداثة عندما ينتصر الفرد المستقل المسؤول الوحيد عن أفكاره ومصائره, لكن النتيجة التي حصلنا عليها هي مجتمعاً ليبرالياً متفككاً عنيفاً وغير مستقل, لأنَّ هذا الشكل من المجتمعات لا يهتم بتحرير إلَّا رأس المال والمنافسة, من خلال ممارسة الضغط المستمر على أفراده من أجل التكيُّف مع مقتضيات الأسواق والمنافسة.
يُعتبر خطاب الحداثة في هذا السياق خير دليل على النظرة الضيقة للطبيعة البشرية وعلى إهمال عملية البناء الاجتماعي للحرية وليس بناء الحرية اجتماعياً. بمعنى أنَّ عملية بناء الحرية تكون جماعية من خلال المجتمع ومؤسساته والانفتاح في العلاقات ما بين أفراده وليس من خلال التنافس الهدَّام والانعزال المغلَّف بلبوس الاستقلالية الوهمية. المطلوب إذاً, هو بناء حرية الأفراد من خلال تعزيز الصلات الاجتماعية التي تحرِّر, التي تربط ما بين الناس بدلاً من وضعهم في حالة من التضاد والتنافس الدائم. بالإضافة إلى ضرورة التوفيق بين الانتماءات الاجتماعية وبين الانسجام الاجتماعي, وتحقيق التآزر بين الحرية والعدالة والتماسك الاجتماعي. بذلك يمكن الحديث عن بناء اجتماعي للحرية.
وعليه نجد بأنَّ الطبيعة البشرية لا يمكن أن تقوم على جانب دون آخر, كما عملت كل من الأنظمة الرأسمالية والشيوعية باعتمادها على تفسير انثروبولوجي وحيد في تفسير الطبيعة البشرية, عندما اعتبرت الرأسمالية أنَّ النظام الاجتماعي يقوم على خاصية التفرد الإنساني (Individualism) التي تسم الطبيعة البشرية, وأنَّ نشاط الأفراد تحدِّده هذه الصفة الملازمة للطبيعة البشرية. باختصار إنَّ الفرد في المجتمع الرأسمالي يسعى دوماً لتعظيم النفع الخاص الذي يعزِّز من تفرده, وهذا سيكون له نتائج اجتماعية مدمِّرة فيما بعد سنأتي على ذكرها. أمَّا الأنظمة الشيوعية فقد ركَّزت على الدافع الآخر الموجود في الطبيعة البشرية, وهو الفرد باعتباره كائناً عضوياً في المجتمع, فأسقطت عن الأفراد الرغبة في الحراك الاجتماعي بدافع تعزيز الفردانية, واعتبرت أنَّ الفرد يجب أن يعمل في ظل جماعة اجتماعية أو في ظل مجتمع كلياني(Totalitarian).
يمكننا القول بأن كلا النظامين كان يناقض الطبيعة البشرية, وكانت هذه الأنظمة تشكِّل عاملاً ضاغطاً ومقيِّداً لدوافع الحراك الإنساني من خلال مؤسساتها السياسية والاقتصادية والثقافية. كان كل من النظامين يفسِّر التأقلم البشري معهُ بأنَّه النظام الأمثل الذي يتماشى مع الطبيعة البشرية, لكن تأقلم الأفراد في كل من المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي لا يعني صحة طروحاتهما ولا يعني أيضاً ملائمتهما للطبيعة البشرية.
من هنا أتت الطروحات التي نادت بالطريق الثالث, ظناً منها بأنَّ عملية انتقائية بسيطة من هذا وذاك ستحل المشكلة, إلا أنَّ هذه الطروحات لم تكن في الواقع أكثر من تعبير عن ظرف سياسي معين ساد في دول أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. من هنا تأتي ضرورة الدعوة لطرح نظام جديد يتجاوز كلاً من النظامين, يأخذ بعين الاعتبار خصائص التكوين البشري وآليات حراكه.
- خصائص الاجتماع في المجتمعات العربية:
فيما يخص المجتمعات العربية, تبدو المشكلة أكثر تعقيداً ويكتنفها الغموض مما هي عليه في المجتمعات الغربية. يعود السبب في ذلك إلى طبيعة التطور التاريخي للاجتماع العربي. حيث تختلف مسارات تطور البنى الاجتماعية في المنطقة العربية. بالإضافة إلى الطابع الإثني في جزء كبير من هذه المجتمعات, هذا الطابع الذي وسمَ هياكل الاجتماع العربي, يُضاف إلى ذلك الطابع القومي في بعض بلدان المشرق العربي. يمكن القول إن كثافة الانقسامات العمودية في المجتمعات العربية جعل من محاولة دراسة ميكانيزمات الاجتماع فيها أمراً صعباً, ففي هذه المجتمعات لا يمكننا الحديث عن مجتمعٍ ليبرالي تحكمه قيم الحداثة, كما لا يمكننا الحديث عن مجتمعٍ شمولي بالمعنى الغربي للمفهوم. يعود ذلك إلى أنَّ المؤسسات الحاكمة لحراك الأفراد الاجتماعي في المجتمعات العربية تميَّزت بطابعين مختلفين عن سابقاتها في المجتمعات الغربية. الطابع الأول الذي تميزت به في مرحلة ما قبل الموجة الاستعمارية (أو مرحلة ما قبل الاستقلال) بهيمنة واضحة وصريحة للمؤسسة الدينية على كافة ميادين الفعل البشري, السياسي والاقتصادي والثقافي, هذه الهيمنة جعلت من البعد الديني غاية ووسيلة[1] (بالمعنى الذرائعي) كل عمل بشري. باختصار يمكن الحديث هنا وفق الأسس الانثربولوجية التي انطلقنا منها, أنَّ المجتمع العربي في مرحلة الدولة الإسلامية كان يقوم على جملة من الاتحادات العضوية ما بين جماعات دينية متحاربة فيما بينهما, أي بتعبير آخر مجموعة تكوينات اجتماعية مرتبطة داخلياً برابط عضوي ذو صبغة دينية, ومرتبطة ميكانيكياً فيما بينها تحت لواء الدولة الإسلامية. لذا لم تشهد المجتمعات العربية في تلك الفترة استقراراً سياسياً واجتماعياً بما تعنيه هذه الكلمات من معنىً. كانت شخصية الفرد في المجتمع "الإسلامي" ذائبة في الجماعة (المحلية) لا وجود للفرد المتفرد بذاته, إذاً يمكن تسمية الوضع الذي كانت عليه المجتمعات العربية بشمولية من نوع آخر عرفتها قبل أن يعرفها الغرب بصيغتها الاشتراكية. لكن هذه الشمولية كانت أكثر تعقيداً عن لاحقتها بشكل كبير.
في المرحلة الاستعمارية عانت المجتمعات العربية فعلاً ممنهجاً من قبل الدول العظمى يقوم على استغلال جملة الانقسامات العمودية والأفقية فيها, كانت الغاية منه القضاء على عناصر الاجتماع العربي وتعزيز هذه الانقسامات, لا بل في أحيان أخرى عملت على خلق تقسيمات جديدة لم تكن سابقاً.
أما فيما يخص مرحلة ما بعد الاستعمار, فقد كان الاجتماع العربي يعيش تحت هيمنة الدولة التي لم تكن تعبِّر عن مستوى تطور السلم النشوئي للمجتمعات العربية, وهذا ما يعبِّر عنه عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركهايم (1858 - 1917) بقوله: إنَّ نمو الدولة ليس من الضروري أن يوازي مستوى النشوء العام لمجتمع معين, يمكن أن يكون لمجتمع بدائي نسبياً دولة عالية النمو". في هذه المرحلة من تاريخ المجتمعات العربية التي كانت تُسمى مرحلة بناء الدولة لم تشهد البلدان العربية بناءاً ديمقراطياً لنظام الحكم, وإنما كانت القوى التي تسلمت الحكم إما حصلت على الحكم بانقلاب في رأس الهرم دون أي تغيير في القاعدة المؤسساتية للدولة, أو حصلت على السلطة وثبتت نفسها من خلال قيامها بالدور الكمبرادوري مع القوى الخارجية. بكلام آخر, يمكن القول إنَّ عملية بناء الدولة في المجتمعات العربية لم تكن نتيجة عقد اجتماعي تلاقت عنده مصالح ورغبات أفراد هذه المجتمعات, بل فُرضَ عليها فرضاً. فكانت الدولة أعلى من المجتمع, عبارة عن هيئة متطفلة عليه إذا أنها لم تنظم أي شيء أكثر من العلاقات الاقتصادية والعمل في أروقة الصراعات السياسية المتعلقة بانتقال السلطة الغير سلمي والغير ديمقراطي. هي كذلك لأنها لم تضطلع بدورٍ أخلاقي, فكانت الدولة هذه وكالة قمعية منعزلة عن مصالح الجماهير في المجال المدني, النتيجة كانت إخضاع الفرد للدولة, أو بتعبير أدق للنظام السياسي الذي يمسك أجهزة للدولة.
هذا الوضع عزز من الانقسامات الحادة في المجتمع وأضاف إليها انقسامات جديدة اجتماعية واقتصادية, ما دفع أفراد المجتمع إلى الإنغلاق على الذات في إطار موحِّدات صغرى, كانت في حالات معينة أقرب إلى الغيتوهات القسرية. فكانت هذه البيئة من الاجتماع العربي مناخاً جيداً لنمو جملة من المشاكل الاجتماعية مثل الفقر والتخلف والعنف الموجَّه. هذه الصفات المجتمعي التي هناك اليوم من يدافع عن جينية هذه الصفات في الشخصية العربية, عزَّز من هذا الخطاب النتائج الدموية التي أفرزتها ثورات الربيع العربي مؤخراً. إلَّا أنَّ هذا النوع من المقولات ينطوي على جهل مقصود وينبني على افتراض خاطئ. حيث أثبت علم أخلاق الإنسان أنَّ أي سلوك عدواني أو غير عدواني لا تحكمه قواعد جينية, وبالتالي فإنَّ العنف الموجود في المجتمع هو دائماً تعبير عن حالة مرضية, مرتبطة بوضع اجتماعي أي بنموذج اجتماعي مفروض يفاقم عوامل السلوك اللااجتماعي بدلاً من مكافحتها. مع الإشارة إلى أنَّه في حالات معينة يمكن أن تكون المؤسسات الدينية عاملاً مساهماً في تكريس ثقافة العنف.
وكما ذكرنا سابقاً, إنَّ تأقلم أفراد المجتمع مع النموذج المفروض عليها لا يعني ملاءمة هذا النموذج للطبيعة البشرية, خير دليل على ذلك الثورات العربية التي انطلقت في المجتمعات العربية, هذه الثورات التي تعتبر أكثر ثورات العالم شمولية لفئات المجتمع, بمعنى أنها ليست نخبوية. وما هذا إلا تعبير عن الرفض البيو- اجتماعي لشكل العلاقات الاجتماعية وعلاقات السلطة القائمة, هذه العوامل شكَّلت ميكانيزمات الحراك الجماهيري في البلدان العربية. من هنا يمكننا القول بأنَّ طبيعة التكوين الاجتماعي العربي قبل الثورات لن يكون كما كان قبلها بالمطلق. لكن هذا لا يعني أنَّ عملية التغيير ستكون بهذه السهولة, إنَّه مخاض تعيشه المجتمعات العربية الآن.
وبالتالي يمكننا القول بأنَّ كل من النموذج الحداثوي والنموذجي الشمولي والنموذج العربي للاجتماع البشري لا يلائم الطبيعة البشرية, بحكم تجاهل هذه النماذج للطبيعة البشرية. فلا النموذج الحداثي للمجتمع اللليبرالي المتفكك يلائم الفرد, ولا النموذج الشمولي للمجتمع الاشتراكي أيضاً, ولا النموذج العربي بمرحلتيه الدينية والشمولية يتناسب مع رغبة الأفراد وسعيهم للعيش ككائنات بشرية لديها حاجات الكينونة والتفرد للذات كذات, وحاجة الكينونة مع الآخر والانفتاح عليه. لابد من نموذج جديد يأخذ بعين الاعتبار التكوين السيكولوجي والثقافي للإنسان ويتأسس على أسس انثروبولوجية صحيحة لا يدفع أفراد المجتمع للتأقلم معه بصفة إكراهية.
[1] بالمعنى الذرائعي, فلم يكن مجمل الحراك الاجتماعي في مرحلة ما قبل الاستعمار ديني الصبغة بعنى غايته تحقيق مثل دينية عليا يتحرك على أساساها, لا بل كان في كثير من الأحيان يتم استخدام الدين استخداماً ذرائعياً للوصول إلى هدف أو غاية منشودة, والصراعات السياسية في نهاية مرحلة الخلافة العباسية (847 – 862م) خير دليل على ذلك.