صدر عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر سنة 2013 كتاب سوسيولوجيا التنظيمات أسس واتجاهات للباحث والسوسيولوجي المغربي الدكتور جمال فزة أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس أكدال بالرباط. يقع المؤلف في 215 صفحة من الحجم الكبير، موزعة على فصلين، يضم كل منهما ثلاثة محاور متناسقة.
1. رهان الكتاب:
يرمي الكاتب من وراء مؤلفه إلى الاسهام في تعويض النقص الحاصل في موضوع سوسيولوجيا التنظيمات في المكتبة العربية. نقص لا يقتصر، على حد قول الكاتب، على الجانب الكمي بل إنه يمس الجانب الكيفي أيضا. فقد وقع المفكرون العرب الذين تناولوا هذا الموضوع في منزلقين: أولهما هو "اعتبار سوسيولوجيا التنظيمات فرعا تطبيقيا للسوسيولوجيا العامة، والثاني يكمن في النزعة الماهوية الحدية التي ميزت هذه الدراسات لاسيما أثناء تعريفها لعلم اجتماع التنظيم."
وبهذا فإن الكاتب يرى "أن سوسيولوجيا التنظيمات في العالم العربي لا تعاني من أزمة عمل أو تطبيق فحسب، وإنما تعاني أزمة نظر." الشيء الذي يفرض على الباحثين في هذا المجال إعادة النظر في الأدوات المنهجية المستعملة، بل وفحص الأسس والمبادئ التي يقوم عليها علم الاجتماع برمته والنظر في مدى ملاءمتها لمعالجة ما تحفل به مختلف التنظيمات من مشاكل وسلوكات.
إن رهان الكاتب من خلال دراسته هذه أعمق من أن " ينحصر في أفق سوسيولوجيا علاجية، بل يتعداه إلى مستوى سوسيولوجيا نقدية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالاختيارات النظرية والإبستمولوجية." وهنا فإن الكاتب يدعو إلى التعامل الحذر مع المنهج العلمي المتبع في دراسة التنظيمات وعدم التعامل معه باعتباره فرعا مستقلا بعيدا عن أي خلفية فلسفية أو موقع اجتماعي. ذلك أن السلوك التنظيمي سلوك نسقي و" فصل الفاعل عن السياق النسقي الذي يحدد سلوكه قد يحول بيننا وبين اكتشاف الدوافع الحقيقية للفعل." وأمام الإشكالات الابستمولوجية التي تطرحها الميتودولوجيا يرى الباحث أن تقنية نمذجة الأفعال التواصلية التي يطرحها أليكس موشيلي يمكن الاعتماد عليها في تأويل السلوك التنظيمي بالنظر إلى هامش الحرية الذي تتركه للباحث.
القضايا المطروحة:
يتضمن الفصل الأول " في إبستيمولوجيا سوسيولوجيا التنظيمات" ثلاثة محاور. يتناول المحور الأول " من الأشياء إلى التنظيمات" هذا الارتباط المنهجي الذي لازم السوسيولوجيا، منذ نشأتها، بالعلوم الطبيعية. وهو ارتباط كان وراء ميل رواد السوسيولوجيا الأوائل إلى تناول موضوعاتهم كأشياء رغبة منهم في نقل نموذج الفيزياء التي تقوم على الموضوعية والحتمية إلى الظواهر الاجتماعية. وهذا التصور لموضوع الدراسة اتخذ وجهين أحدهما هو اعتبار موضوع الدراسة مقتطعا مباشرة من الواقع وثانيهما هو الإقرار بالإمكانية المعرفية والنظرية لتطابق النموذج العقلي مع "حقيقة الواقع". وذلك من خلال رده إلى العلاقات الأولية الضرورية والثابتة التي تحدده. إن الاعتقاد بأنه لا يمكن تناول السوسيولوجيا إلا في إطار تصورها كعلم دقيق يفرض منهجا أحاديا هو الإمبريقية. وتسليمنا بالموضوعية يجعلنا نقر بثبوت العلاقة بين الأشياء وفقا لمبدأ السببية الذي يعني بأن نفس الأسباب دائما تعطي نفس الآثار.
ثمة مبدأ ابستمولوجي واحد يحكم توجه دوركهايم سواء أنظر إلى الظاهرة الاجتماعية من الزاوية الدياكرونية التطورية أو من الزاوية السانكرونية البنيوية فيما بعد في أعماله، وهو أن "الظاهرة المركبة تجد مبدأ تفسيرها في الظواهر الأولية البسيطة التي توجد في أساسها".
إن المنطق الذي يميز العلم الكلاسيكي كما يذهب إلى ذلك الكاتب، والذي يجد أساسه في المنهج الديكارتي، هو أن معرفتنا بالأشياء البسيطة تمكننا من الإمساك بالكل المركب. غير أن دوركهايم يبدو وكأنه ينحو عكس أساس العلم الكلاسيكي "الديكارتي" هذا، أي تفكيك الظواهر المركبة وردها إلى عناصرها البسيطة الأولية، التي تتخذ خصائص الأشياء. إلا أن ما يرمي إليه في الحقيقة هو رفضه رد الظواهر الاجتماعية إلى ظواهر فردية.
يلتقي دوركهايم مع ديكارت في سعيهما إلى تغيير جذري في طريقة البحث وأن الأول يحذو حذو الثاني في جعله أجدر بلقب "ديكارت علم الاجتماع".
عبر مفهوم النسق
استعرض الكاتب بعد ذلك النقد الذي وجهه جون لويس لوموان للمنطق الديكارتي متجاوزا إياه بتقديمه للمقاربة النسقية كطريق لتحقيق رغبتهما في توحيد مناهج العلوم. وإذا كان ديكارت قد حدد أسس منهجه في قواعد أربعة هي البداهة والتحليل والترتيب والمراجعة والاحصاء فإن لوموان استعاض عن تلك الأربعة بأربعة أخرى هي الملاءمة والكلية والقصدية والتعالق.
لقد ولج مفهوم النسق حقل الاجتماع مبكرا من خلال مفهومي الوحدة والتفاعل. غير أن فكرة النسق في بدايتها، ينقل الكاتب عن إدغار موران، هي مجرد رد فعل على اختزالية التفسيرات الكلاسيكية وتفكيكيتها، حيث رجحت فكرة الكلية فسقطت بدورها في تفسيرات كلياتية. وكانت النتيجة هي إعادة شكل من أشكال الاختزالية من خلال مفهوم "الكل". وكاتبنا هنا وسطي يبحث عن مكان خارج الاختزالية والكليانية معا، من خلال مبدأ " لا يغفل الكل أمام الأجزاء والأجزاء أمام الكل".
ومن جانب آخر يستعرض الكاتب وجهة نظر برتلانفي حول مشروعية صياغة نظرية في النسق العام في معرض حديثه عما يشهده العلم الحديث من التخصص وتخصص التخصص وغياب الامتدادات والجسور بين هذه التخصصات. لكن وعلى الرغم من ذلك فإن ثمة تشابه في النظريات والنماذج المصاغة " لمعالجة قضايا تنتمي إلى ميادين مختلفة ومتباينة جذريا".
لقد "اتجهت الأبحاث اتجاهات مخالفة تماما لما رسمه برنامج البحث كما تصورته الميكانيكا الكلاسيكية". أي من الاهتمام بالأجزاء البسيطة إلى الاهتمام بالكل المركب والعلاقات التي تنشأ بين الأجزاء. بل إن ملمحا آخر ذا أهمية كبيرة يتجلى في "تجريد الفيزياء النظرية من ذلك الامتياز الذي كان لها من دون باقي العلوم... من كونها النموذج الذي يجب أن يحتذى به من طرف كل علم يسعى ليثبت مشروعيته". وعلى هذا الأساس فإن هناك ضرورة صياغة نظرية تنطبق على مجموع الأنساق من أجل تطور العلم.
إلى مفهوم التنظيم:
"إن الدارة "كل- أجزاء" لا تكتمل إلا من خلال فكرة التنظيم". هكذا يفسر الكاتب جمال فزة تلك العلاقة الجدلية بين الكل والأجزاء المكونة له. "فالكل باعتباره كلية منظمة،يفعل في أجزائه باستمرار وعلى نحو رجعي". وهنا يقدم لنا مثال الجملة، فمعرفتنا بدلالة الألفاظ المكونة لها وخضوعها للقواعد المعنوية ، على أهمية ذلك ، لا يكفي بل إن على الجملة أن تمارس فعلا رجعيا على ألفاظها إلى ، "أن تتبلور الألفاظ بشكل نهائي من خلال الجملة والجملة من خلال الألفاظ . غير أن هذه النظرة إلى الكل لا تجعل منه "حقيقة في ذاتها " فهو لايعمل ككل إلا إذا عملت الأجزاء كأجزاء والعكس بالعكس .
ومن هذا يخلص مع الكاتب إلى أن هذا " التعقد البيولوجي والسوسيولوجي الذي يبدو في أساسه " واحدا لكنه جزء تضمنه مستويات متعددة من التنظيم والوجود والكينونة ، يصير متعددا بل ومتناقضا مع ذاته".
" إن الكل ليس يقينا" إذ ليس ثمة حدود مرسومة بين نسق ما وأنساق الأنساق التي يرتبط بها. إنه كل وجزء من كل أكبر في الآن نفسه " على حد تعبير كوشتلر.
إن الصعوبة التي وجدها المؤلف في تحديد الكل، والتي يرجعها إلى حرصه الشديد وإلى وعيه بالتعقد الذي يطبع الظواهر الحية في الأساس، هذه الصعوبة جعلته يعتبر مفاهيم النوع والفرد والمجتمع عناصر مترابطة ينحت بعضها بعضا ويرجع بعضها إلى بعض وهي في الوقت نفسه متنافسة ومتناقضة.
لقد أصل الكاتب لمفهوم التنظيم كنسق ولأهميته المنهجية والإبستمولوجية من خلال نقطة النهاية التي وضعها هاينزبرغ في مشوار الفيزياء الكلاسيكية التي تؤكد "أن فهم خصائص الأجسام المركبة يكمن في فهم خصائص الأجسام البسيطة المشكلة لها". مفندا ذلك فيما سماه الكاتب انقلابا ابستمولوجيا، بكون العناصر تأخذ من خصائص النسق أكثر مما يأخذ النسق من خصائص العناصر المشكلة له.
يصرح الكاتب أن إصراره على مجاوزة الخلفية الإمبريقية لمفهوم التنظيم تكمن وراءه رغبته في المساهمة في البحث عن موقع للسوسيولوجيا فيما يحدث من اضطراب عميق لمعايير "العلمية"؛ مؤمنا أن مفهوم التنظيم يقع في صلب عملية تحول جذري للفلسفة السوسيولوجية. إن أهمية مفهوم التنظيم ليست في كونه موضوعا جديدا فتح أفق اشتغال السوسيولوجيا فحسب، بل إنه كان أيضا في طريقة الاشتغال ذاتها.
المحور الثاني : ضد دوركايم :
يسجل الكاتب أن ميزه سوسيولوجيا دوركايم هي " ميلها إلى دراسة الواقع الاجتماعي في كليته، واهتمامها بالعناصر العامة والثابتة ... وجراء هذا الموقف المنهجي العام، يغفل دوركايم الطبيعة المتداخلة، والمعقدة للواقع الاجتماعي، كما يصرفه هذا الموقف الذي يربح من الامتداد بقدر ما يخسر من العمق في معالجة مختلف مستويات الواقع الآخر بطريقة متمفصلة". بين الكاتب بعد ذلك إيمان دوركهايم بإمكانية تحرير موضوع البحث من أي أثر لتدخل ذات الباحث وبإمكانية خلق مسافة عقلية بين الباحث وموضوع بحثه، هذا على خلاف الأدبيات السوسيولوجية المعاصرة التي ترى بأن الباحث في العلوم الاجتماعية لا ولن يتمكن من دراسة الواقع الاجتماعي بعيدا عن ذاتيه، بل إن هذا التداخل بين الذات والموضوع في العلوم الاجتماعية يصل في الأدبيات المعاصرة إلى مستوى المشكل الإبستمولوجي الأساس إذ هو الذي يحدد خصوصية الظاهرة الإنسانية مقارنة مع علوم الطبيعة. وهو الشيء الذي يسمح بظهور مناطق ظل، حسب تعبير الكاتب، لا يجد لها البرنامج العلمي الكلاسيكي تفسيرا سوى طردها إلى حقل الأعراض.
ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى مفهوم المؤسسة والتصور الذي لحقه في كل من سوسيولوجيا دوركهايم، والأدبيات السوسيولوجية المعاصرة وتجاوز هذه الأخيرة للأولى. فالمؤسسة لم يعد ينظر إليها " ككلية مكتملة ومنسجمة وثابتة، وإنما كعملية دائمة تتحقق من خلالها كلية الأشكال الاجتماعية. لم تعد المؤسسة شيئا، بل ممارسة، ولم يعد بإمكاننا أن نعرفها في ذاتها ككينونة؛ فهي لا توجد سوى من خلال هذه الحركة الدائمة والمتناقضة من الهدم وإعادة البناء للأشكال الاجتماعية".
وعلى هذا الأساس، فإن سوسيولوجيا التنظيمات وهي تزيح الموضوع الاجتماعي من البنيات والوظائف باتجاه الفعل والسلوك فإنها تفتح آفاقها على أسئلة ومشاكل جديدة لا يتسع لها جراب رواد علم الاجتماع وهي "المشاكل والأسئلة المتعلقة بمعايير السلوك ولا تقنيات الفعل داخل التنظيمات والتي يصعب اختزالها في علاقات ثابتة ومستقرة".
في معرض نقد الكاتب لمنهجية دوركهايم في سعيه إلى تحقيق التضامن الاجتماعي والسير السليم والعادي للمجتمع ومن تم تمييزه بين الحالة المرضية والحالة السليمة يؤكد د فزة أن سوسيولوجيا التنظيمات تتجاوز هذا التطور وتشيد بالمقابل مفهوم "الاثار الجانبية " وهي آثار ناجمة عن تنظيم الفعل في حد ذاته. ومن تم فليست حالات مرضية بقدر ماهي خاصية "أساسية من خصائص الاجتماع البشري المنظم، تساعدنا على القياس المنهجي لمدى اقترابنا أو ابتعادنا مما سمته المناهج الكلاسيكية، بـ "الحالات الطبيعية".
إن الرغبة التي تملكت دوركهايم في الفصل بين ما هو سيكولوجي وما هو سوسيولوجي، "دفعت به إلى السقوط في حكم قبلي مفاده ان المشاعر الفردية مغلقة وتوجد في حالة تعارض مع حقيقة رفيعة خالصة تمثل الخير الأسمى، الذي تنبع منه القيم الأخلاقية ". وهنا يرد الكاتب هذا المنزلق إلى غياب مفاهيم اساسية لدى دوركهايم وهي مفهوم التفاعل ومفهوم التنظيم.
لقد تبلورت القضايا السوسيولوجية، منذ نشأة السوسيولوجيا، بطريقتين مختلفتين ناشئتين عن تجاذب الموضوع الاجتماعي بين نزعتين متعارضتين: "نزعة حتمية تهتم بالقواعد البنيوية العامة للمجتمع، ونزعة إرادية تعطي الأولوية لحرية الفاعل الاجتماعي، والمعاني التي يمنحها لأفعاله". وهنا ضاعت على السوسيولوجيا فرصة التراكم سواء على مستوى المناهج أو التيمات. وهو الشيء الذي تدورك باكتشاف مفهوم التنظيم الذي يؤلف بين النزعتين.
المحور الثالث: الفردانية الميتودولوجية والتيار التفاعلي الرمزي
تعتبر الفردانية الميتودولوجية أن "البنيات الاجتماعية " هي نتاج لأفعال فردية. وتطمح إلى مجاوزة الاختزالية التي ميزت تصور النظرية الاقتصادية والفلسفة السياسية.
يستعرض الكاتب في هذه النقطة ذلك السجال الدائر بين ريمون بودون وبورديو. ففي حين يرى هذا الأخير أن الإرث الثقافي له دور محوري في تحديد سلوكات الأفراد واتجاهاتهم ضمن "إعادة الإنتاج الاجتماعي " نجد بودون في كتابه " تفاوت الحظوظ" تحديدا لا يعير الإرث الثقافي نفس الأهمية بقدر ما يعتبره ثانويا في تفسير تفاوت الحظوظ بين المتمدرسين وهو الموضوع الذي اشتغل عليه في الكتاب.
1. الاتجاه:
يقوم الاتجاه التفاعلي الرمزي على أسس وفرضيات معرفية نجملها في ما يلي:
فرضية البروز أو الانبثاق: "وهي فكرة تقوم على أساس أن الإنسان يتوفر على قدرة الكلام واللغة، وبالتالي إمكانية التفكير والتنسيق والتواصل".
فرضية السيرورة: وتقوم على " واقع غياب أي فعل إنساني يستمد قيمته من ذ اته، لتقف بالتالي على واقع أو حقيقة واحدة هي التغير المستمر للنشاط الإنساني".
فرضية الإرادية: تقوم على "أساس اعتبار الفرد الوحدة الاجتماعية الأساسية للتحليل. فهي تعرف الإنسان كفاعل ومرسل" في نفس الآن. في مقابل التعريف الوضعي الذي يقوم على أساس اعتبار الإنسان منفعلا ومتلقيا.
يخلص الكاتب إلى أن التيار التفاعلي الرمزي ساعدنا، ليس فقط في فهم دوافع الفعل لدى الأفراد في علاقتهم بالسياق وإكراهات النسق، بل ايضا في فهم كيف تتحول الدوافع الفردية إلى دوافع جماعية.
تحت عنوان: الأثنومتيودولوجيا : غارفينكل ضد بارسونز، يستعرض الكاتب وجهتي النظر المتباينتين لدى كل من غارفينكل وبارسونز. فدوافع الفاعلين حسب هذا الأخير "تندرج في إطار نماذج معيارية بحكم التصرفات والسلوكات المتبادلة بين الأفراد. الشيء الذي يفسر استقرار النظام الاجتماعي وإعادة إنتاجه عند كل حالة من حالات الاجتماع البشري. أما غارفينكل ـ مؤسس التيار الإثنوميتودولوجي ـ " فهو لا يعتبر العلاقة بين الفاعل والوضعية نتاجا لمضامين أو قواعد أخلاقية وإنما هي نتاج لسيرورات تأويلية.
الفصل الثاني: باراديغمات
على غرار الفصل الأول، يتضمن هذا الفصل ثلاثة محاور. في المحور الأول المعنون بـ : التيار الكلاسيكي ومدرسة العلاقات الإنسانية: التنظيم بين الحاجة إلى البرقرطة وخطر الاستلاب البيروقراطي يتحدث الكاتب عن تلك الصعوبة التي ميزت البدايات الأولى لعلم التنظيم، وهي صعوبة ترجع إلى هذا التمنع الذي يطبع مشاكل التنظيم والتواصل إلى الحد الذي جعل رواده يبدون وكأن خبرتهم شأن ذاتي لا يتاح لأحد غيره. وقد استطاع هؤلاء الرواد نقل هذا الحقل من الإمبريقية الصرفة إلى ميدان العلم حيث تسود الضرورة والقاعدة والقانون كما استطاعوا أن يوفروا للباحث عدة منهجية تساعده على سلك أفضل السبل لمعالجة المشاكل التنظيمية.
ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى عرض تصور هنري فايول، من خلال كتابه " الإدارة الصناعية والعامة"، الذي اعتبر المقال المؤسس لعلم الإدارة مبرزا بنيته المنهجية وخطوطه العريضة من قبيل وظائف التنظيم والقدرات الضرورية لتأديتها والشروط أو المبادئ الأساسية للإدارة ويخلص إلى أن " المشاكل التي أرقت هنري فايول ـ في دراسته للظاهرة التنظيميةـ "هي في الأساس نقص البرقرطة الذي هيمن على عمل وسير التنظيمات في عهده. حيث كانت هذه الأخيرة ترزح تحت رحمة العفوية والتلقائية والخبرة الإمبريقية، بعيدا عن أي محاولة لتقعيد النظر في الشأن التنظيمي".
وتحت عنوان تايلور: الطريقة المثلى والوحيدة لتنظيم العمل، يستعرض الكاتب النظرية التايلورية ومنهج تايلور في التغلب على ما يشكله التقاعس المقصود أو ما سماه الكاتب التهاون المنظم من عائق أمام ما يعتبره التسيير الجيد. تهاون لا يرجع إلى مشكلة الأجر فحسب، بل إلى الخوف من البطالة وإلى "عدم فعالية الطرق الإمبريقية التي تنجم عن وجود تنوع كبير في الطرق والأدوات الكفيلة "بإنجاز نفس المهام". وفي سعيه إلى تحسين الإنتاج والرفع من جودة المنتوج عبر تقسيم العمل فإن غاية ذلك كله هي تحقيق الرفاهية لكل من المشغل والأجير على حد سواء.
على الرغم من الاختلاف بين سوسيولوجيا فيبر والاتجاه الوظيفي فإن نموذجه في التنظيم البيروقراطي يبقى قريبا من التقليد الوظيفي بالمقارنة مع الاتجاهين النقدي والتفاعلي. وهذا ما حدا بكثير من الباحثين، يقول الكاتب، إلى إدراج اسم فيبر في قائمة رواد التيار الكلاسيكي في علم اجتماع التنظيم.
يميز فيبر مفهوم "الهيمنة" عن مفهوم "السلطان" حيث يرى أن الأول شكل خاص من الثاني.. وتعمل الهيمنة في التنظيمات الاجتماعية بطريقتين؛ فإما أن يفصح الأفراد والجماعات عن سلوكات الامتثال والخضوع على نحو تلقائي وعلى أساس التعود، وإما أن يكون الخضوع نتيجة لاعتبارات عقلانية هادفة". كما أن للهيمنة ثلاثة أنماط كما حددها فيبر "فإما أن تتخذ الشرعية طابعا عقلانيا فتكون الهيمنة قانونية، وإما أن تستند إلى الدين والأعراف ونظام القرابة، فتكون الهيمنة تقليدية، وإما أن تستند الشرعية إلى مواهب وقدرات خاصة يتمتع بها بعض الأشخاص دون غيرهم من الناس، فتكون الهيمنة كاريزمية".
يؤكد الكاتب أن تيار العلاقات الإنسانية يتألف من مكونين رئيسيين؛ "فهو يشمل، من جهة، مدرسة العلاقات الإنسانية التي طورت مباحثها على أنقاض المدرسة الكلاسيكية في التنظيم. ومن جهة أخرى، نظرية الحلقات البيروقراطية المفرغة التي قامت على أنقاض النموذج المثالي للبيروقراطية كما تصوره فيبر".
بالنسبة لتيار العلاقات الإنسانية، فهو يرجع مشاكل التنظيمات "إلى طبيعة الخصائص المركبة والمعقدة لبعض الشخصيات، أو إلى عيب يشوب عملية التواصل. أي إلى مشاكل تتعلق بعدم التفاهم بين الأفراد على وجه العموم". فالأمر يتعلق بدواع سيكولوجية دون سواها. أما نظرية الحلقات المفرغة فهي "تنطلق أساسا من كون سلوكات الأفراد داخل التنظيمات لا تتفق تماما والمهام الموكولة لها من طرف الأدوار الرسمية. فهي ترجع في جزء كبير منها إلى وجود بنية لا شكلية تتوارى خلف البنيات الرسمية، التي من المفروض أن تؤطر سلوكات وتصرفات الأفراد داخل التنظيم".
المحور الثاني: المقاربة النسقية والتحليل الاستراتيجي: من نظرية في التنظيم إلى نظرية في الفعل المنظم
تقف النظرية النسقية في وجه أي تفسير يعيد مبدأ العلية الذي تشبثت به المدرسة الكلاسيكية أي بمنطق السبب والنتيجة وفي المقابل فهي تفتح البحث على آفاق أرحب فالنسق يفترض "البحث عن أكثر من سبب واحد لفهم ظواهر السلوك الإنساني، كما يفترض وجود ترابطات بين هذه الأسباب".
لقد وقف الكاتب عند نسق الفعل الاجتماعي وشروطه الثلاث التي حددها بارسونز والمتمثلة في البنية والوظيفة وسيرورات النسق. كما وقف عند الفرق الجوهري بين نسق الفعل عند بارسونز ونسق الفعل عند ميشيل كروزيي؛ فهو عند الثاني ذو طابع ملموس وعند الأول ذو طابع مجرد.
ومن جانب آخر، فهناك تمييز بين التحليل الاستراتيجي وبين التحليل النسقي فخاصية هذا الأخير تكمن "في طابعه المجرد والعام؛ حيث كان بمثابة إطار لتحليل الأدوار العامة الموجهة قبليا باتجاه التساند الوظيفي". أما التحليل الاستراتيجي فهو "ينطلق من مسلمة أساسية هي أن النسق بناء اجتماعي وليس معطى طبيعيا". إنه يهتم بالكشف عن النسق الذي يتأطر ضمنه السلوك التنظيمي. وبهذا فإن التحليل الاستراتيجي يتجاوز التحليل النسقي بالنظر إلى شمولية مقاربته التي تهتم بتقلبات عالم التنظيم والعلاقات المتبادلة التي تدور بداخله. وللأهمية الابستمولوجية لتحليل بيرنو في هذا المقام فقد قدم الكاتب تصوره المبني على سؤال جوهري هو: كيف نفسر سلوكات الأفراد أو الجماعات الصغرى داخل التنظيمات؟ ليخلص إلى أن إمكانية تأثر السلوك الفردي بالظاهرة الثقافية لا ينبغي أن يخفي أن هذا التأثر لا يتم بشكل مباشر بل من خلال وسائط مؤسساتية وتنظيمية. وفي الإطار ذاته ينتقد بيرنو تيار العلاقات الإنسانية كونه " لم يلغ السياق أو البيئة الخارجية من اعتباراته فحسب، وإنما أسقط من حسابه التفكير في الاندماج الاجتماعي للفرد. وألغى من اعتباراته أن الاستراتيجيات والسلوكات تتحدد في العلاقة مع الآخرين، أكثر مما تتحدد تبعا للحاجات والحوافز الفردية".
لم ينظر الكاتب إلى تلك الآثار الجانبية التي ترافق التنظيم على أنها ثانوية، بل إنها ذات طابع أساسي. "إنها تعبير عن التعارض الأساسي بين ميل الأفراد نحو التحرر واتجاه معايير الجماعة نحو الحد من الحرية الفردية". ومن هنا تأتي أهمية السلطان بما هو تلك " القدرة التي يتوفر عليها بعض الأفراد لدفع الآخرين إلى التصرف بما يخدم مصالحهم" كأساس للفعل المنظم.
المحور الثالث: المقاربة النسقية التواصلية
في مقابل التصور الميكانيكي للتنظيم والذي اتسم به الاتجاه الكلاسيكي، "تجرد المقاربة النسقية للأفعال التواصلية التنظيم من أي طابع واقعي لتجعل منه بناء، أو حقيقة من الدرجة الثانية". كما أن النظرية النسقية التواصلية، و خلافا لما كان عليه الحال قبلا من استعارة النماذج النظرية من عالم الأعضاء الحية أو من طريقة عمل الآلة. فإنها تستعيرها من عالم المعلوميات والسيبرنتيقا وشبكات التواصل. وهنا نجد الشبكات التراتبية والشبكات السوسيومترية وشبكات اتخاذ القرار.
غير أن ثمة من اهتدى إلى استعارات سياسية مثل منتزبيرغ وميشيل كروزيي وغيرهما فحددوا الغايات الأساسية التي تحكم الصراع بين الفاعلين داخل التنظيم في القيادة والتيكنوقراط والمصالح الوظيفية والمصالح الإجرائية والوظائف الأساسية. و"تلجأ الأطراف المتصارعة إلى آلية التفاوض من أجل حل نزاعاتها؛ حيث تتقاطع أهداف البعض بينما تتنابذ أهداف البعض الآخر، فتتشكل تحالفات وتنبثق ألعاب جديدة تقوم على أساس التمتع بأكبر قدر من السلطان".
يرى الكاتب أن النسق يتألف من مجموعة ألعاب تفاعل. غير أن التفاعل هنا يبتعد عن السببية الخطية ليرتمي في سببية دائرية. وهذا المنطق الدائري للعلية أو الترابط التفاعلي بين أجزاء النسق هو ما يضفي معنى على فعل تواصلي، وبالتالي فإن فلسفة التدبير كما يطرحها علم الإدارة، لا ترجع إلى شخصية المسير، أو إلى الأفعال التي يقوم بها، وإنما تعود أساسا إلى طبيعة اللعبة التي تجمع الرؤساء بالمرؤوسين.
إن إيمان الكاتب بجدوى تقنية نمذجة الأفعال التواصلية التي وضعها أليكس موشيلي جعله يخصص لها حيزا مهما ختم به المحور الأخير من كتابه راميا بذلك إلى أن تكون قاعدة يستند عليها البحث الميداني في تحليل السلوكات التنظيمية.
2. تعليق على الكتاب:
لن تغفل عين القارئ وهو يقلب صفحات الكتاب ذلك البناء المنهجي الرصين الذي تتبعه الكاتب وهو يؤلف بين محاوره وفقراته؛ فثمة تسلسل منطقي بين الأفكار وسرد كرونولوجي لمسار التنظيم في حقل المعرفة العلمية عموما وفي علم الاجتماع على وجه الخصوص. هذا التسلسل المنطقي لم يكن لدواع مرتبطة بما يقتضيه منهج البحث العلمي فحسب، بل إن الغرض من ذلك أعمق وأجل يتمثل في رغبة الكاتب في الوقوف على الاتجاهات التي تناولت التنظيم واكتشاف منطق حكم تعاقب هذه الاتجاهات. ومن تم فالأمر لا يتعلق بتناول وصفي يكتفي بذكر واقع الحال بقدر ما هو توغل في البنيات العميقة لهذه الاتجاهات والمقابلة فيما بينها. وإلا فإن التصنيف الذي وضعه، والذي ميز به بين تايلور وكروزيي والذي بموجبه عد تايلور ضمن التيار الكلاسيكي لن يكون ذا معنى خاصة إذا علمنا أن تايلور سبق كروزيي إلى فرضية الفاعل العقلاني الذي يبلور خططا واستراتيجيات بما يخدم أهدافه ومصالحه.
لقد صال بنا الكاتب وجال في حقل المعرفة العلمية عموما وفي علم فيزياء الكوانتا خصوصا باعتبارها أم السوسيولوجيا. وأسكن بحثه أعلاما بصموا حقل المعرفة السوسيولوجيا بشكل عميق. وأعاد قراءة المؤلفات الكلاسيكية التي بدت نتائجها مسلمات، فوقف على ما بين سطورها مستحضرا سياقها التاريخي الذي برزت فيه، الشيء الذي كفل للباحث إمكانية استبصار نتائج جديدة شكلت قيمة مضافة للعمل ككل. بذلك يكون قد قعد للتنظيمات منذ بداياتها بما يخدم الهدف المصرح به، والذي يتجلى في إخراجها من منطقة الفرع التطبيقي للسوسيولوجيا العامة إلى أفق أوسع وأرحب يبحث في الأسس الابستمولوجية والمشاكل الميتودولوجية المرتبطة بها.
لقد استحضر الكاتب وهو يؤلف فقرات الكتاب ذلك البعد البيداغوجي الذي يسكنه؛ فوجدناه يذيل كل فصل بخلاصة مركزة يشرح فيها مجمل استنتاجات الفصل. كما اعتمد وهو يبسط أفكاره خطاطات توضيحية وإطارات تفسيرية. وهذا من شأنه أن ييسر للقارئ مهمة الاستيعاب والفهم.
إننا نعترف في قراءتنا لهذا الكتاب أننا حلقنا عاليا حول الكثير من الموضوعات والأفكار العميقة والتفاصيل الدقيقة الغنية والمغنية ولم نوفها حقها، مدركين تمام الإدراك أن القراءة في حد ذاتها ليست، بأي حال من الأحوال، إعادة نشر للكتاب بصيغة مختصرة بقدر ما هي محاولة ترمي إلى بسط الخطوط التي تبدو في نظر القارئ عريضة في المؤلف، وإن من شأنها أن تحفز القارئ المهتم على التوغل في عالم الكتاب الأصلي.