لقد غدت الحركات الاجتماعية واحدا من بين المواضيع الأساسية في علم الاجتماع، وذلك باعتبارها ظاهرة من الظواهر الاجتماعية البارزة في المجتمعات المعاصرة، وبما أن علم الاجتماع هو ذلك العلم الذي يهتم بدراسة الظواهر الاجتماعية، فقد كان عليه أن يؤسس لنفسه فرعا علميا يعنى بدراسة الحركات الاجتماعية، فظهرت بذلك سوسيولوجية الحركات الاجتماعية، يعود أصلها إلى اجتهادات باحثين معاصرين من أمثال: آلان تورين A.Touraine وبير بورديو P.Bourdieu وإريك نوفو E.Neveu وأنطونيو غرامشي A.Gramsci وتشارلز تلي CH.Tilly ...وغيرهم من السوسيولوجين المعاصرين.
إن دراسة الحركات الاجتماعية لم يكن فقط على يد السوسيولوجين، بل كذلك على يد كل من علماء السياسة، الجغرافيا، السيكولوجيا، التاريخ...، وغيرها من العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى، إن هذا الإنكباب المعرفي والعلمي على دراسة الحركات الاجتماعية نابع بالأساس من تنامي بروز هذه الحركات في مختلف المجتمعات والجماعات على تنوعها وتعددها، حيث لم تكن منحصرة فقط فيما يسمى بالمجتمعات «المتقدمة» كما لم تكن ظاهرة مميزة للمجتمعات الموصفة على أنها «متخلفة» أو في «طريق النمو». ولكن دراسة الحركات الاجتماعية يندرج ضمن صلب الاهتمام المعرفي للسوسيولوجيا، كما أنها تعد مفتتحا نوعيا لتحليل ظواهر أخرى يطرحها النسق الاجتماعي في إطار سياقات التقاطع والتوازي، التي تعبر عنها الوقائع الاجتماعية هذا بالإضافة إلى «عسر المعنى» الذي تنطوي عليه هذه الحركات كممارسات دالة على الأزمة والاختلال في كثير من الأحيان[i].
إن هذه السوسيولوجيا تقدم نفسها اليوم كتخصص معرفي يهتم بدراسة وتحليل الحركات الاجتماعية، كتاريخ اجتماعي، وكصراع دائر بين مكونات النسق، وكدينامية إنسانية يشارك في صنعها الأفراد والجماعات. فتاريخ الحركات الاجتماعية وديناميتها المفتوحة على الصراع الاجتماعي يعد هدفا حيويا للدرس السوسيولوجي، التي يستوجب التركيز على النشأة والامتداد وأشكال وصيغ والإعلان عن نفسها، وكذا قنوات الاتصال أو الانفصال مع/عن المحيط والنسق العام، فضلا عن مآلاتها المتصلة بالتغيير أو الفشل في بلوغه[ii].
إن هذه الأهمية العلمية للحركات الاجتماعية داخل الحقل السوسيولوجي، دفعت بالعديد من الباحثين إلى دراسة وتحليل هذه الظاهرة، وبالأخص مع ثلة من السوسيولوجين الغربيين في القرن 20، وهذا ما أدى إلى اتساع مساحة الاشتغال في دراسة هذه الظاهرة، مثلما ستتعدد المقاربات والتحليلات، نتيجة التعدد والاختلاف الحاصل في مرجعية وإيديولوجية كل باحث، وهذا ما سيؤثر فيما بعد، بشكل كبير، على هذه السوسيولوجيا، وعلى مفهوم الحركات الاجتماعية، فقد ضل هذا الأخير لفترة طويلة أسيرا لإيديولوجيتين كانتا هي المهيمنتين في العالم الغربي؛ إيديولوجية المعسكر الاشتراكي، وإيديولوجية المعسكر الليبرالي، فكانت الأولى أكثر انتصارا للحركات الاجتماعية باعتبارها صراعا طبقيا وجسرا نحو التغيير، والثانية لا ترى فيها إلا «عدوا احتياطيا» يتوجب التخلص منها في أقرب فرصة تتيحها شروط التاريخ.
أما في مجتمعات الشرق الأوسط والبلدان المغاربية، فالواقع العلمي يشهد بندرة الدراسات السوسيولوجية حول موضوع الحركات الاجتماعية بهذه المجتمعات، إنه فراغ حاول بعض الباحثين تجاوزه مع بداية سنوات التسعينات، مقدمين منظورا مخالفا في دراسة وتحليل هذه المجتمعات، متجاوزين بذلك فكرة الاختلاف الانطولوجي بين المجتمعات الديمقراطية واللاديمقراطية، وأسطورة الخصوصية الثقافية والدينية للمجتمعات الإسلامية غير القابلة للإختزال والتي لقيت رواجا في الدراسات الغربية التي ركزت على «الحركات الإسلامية» فقط على حساب كل أشكال الاحتجاج الأخرى[iii].
وعلى الرغم من أن مفهوم الحركات الاجتماعية ليس بمفهوم جديد في الحقل السوسيولوجي، إلا أن دلالاته اتسعت، فأنتجت العديد من التعاريف، تختلف باختلاف مرجعيات كل باحث وباختلاف أشكال وأنواع هذه الحركات، وكذا بتعدد الخصوصيات التاريخية والثقافية للمجتمعات المنتجة لها.
لقد ظهر هذا المفهوم لأول مرة سنة 1850 مع عالم الاجتماع الألماني لورانز فون شتاين L.V.Stein في كتابه تاريخ الحركات الاجتماعية في فرنسا مابين 1789-1850 «كتعريف للجهود المبذولة في الثورة الفرنسية من أجل التغيير وبناء المجتمع»[iv].
يشير بلومر إلى أن الحركة الاجتماعية هي ذلك الجهد الجماعي الرامي إلى تغيير طابع العلاقات الاجتماعية المستقرة في مجتمع معين؛ فالحركات الاجتماعية هي في نظره مشاريع جماعية تستهدف إقام نظام جديد للحياة. وتستند إلى إحساس بعدم الرضا عن النمط السائد، والرغبة في إقامة نسق جديد[v]. ويعرفها G.Rocher على أنها تنظيم مهيكل ومحدد، له هدف علني يمكن في جمع بعض الأعضاء للدفاع عن قضايا محددة، ذات طبيعة اجتماعية عموما[vi]. أما آلان تورين فيذهب إلى أن الحركات الاجتماعية، عبارة عن فعل خاص يؤشر على سلوك جمعي لفاعلين من جماعة معينة تناضل ضد جماعة أخرى من أجل القيادة الاجتماعية[vii].
من خلال هذه التعاريف السابقة، يمكن التأكيد على أن الحركات الاجتماعية تقوم على أساس الركائز التالية[viii]:
- تكوينها: هي جماعة من الناس تحظى بحد أدنى من التنظيم، ابتداء من مستوى محدود وضيق من التنظيم (غير رسمي) حتى مستوى قوي ومحكم له أجهزته وجماعته التنظيمية.
- خصائص: تتميز في الغالب بالتغيير الاجتماعي، وبوجود بناء فكري متميز مقابل ذلك تتسم بوجود بناء تنظيمي ضعيف، أو شبه تنظيم يقود أعضائها، وأنها تعمل خارج الأطر المؤسسية، ومن جانب أخر تتميز هذه الحركات بوجود تضامن داخلي قوي مابين أعضائها والقادة، وتغلفه قوة الولاء الذي يشعر به المشاركون في الحركة باتجاه الأهداف التي تسعى إليها
- شروط تواجدها: توافر عوامل رئيسية تتمثل في الوعي والإيمان بين الأعضاء، حيث أن الانتماء للحركة يحقق لأعضائها الاستقرار والمكانة الاجتماعية المفقودة، يضاف إلى ذلك وجود عدد من الرموز والمقولات الفكرية والمعتقدات التي تجمع الأعضاء حولها.
- أهدافها: كعمل جماعي تستهدف الحركة الاجتماعية إحداث تغيير اجتماعي أو سياسي باتجاه معين.
- أساليبها وآلياتها: تتنوع الأساليب والآليات التي تستخدمها الحركة لتحقيق أهدافها، كإقامة شبكة من التحالفات، واستخدام التكتيكات النضالية من قبيل المظاهرات والأعمال الرمزية، واستخدام سبل التأثير والضغط السياسي لتحقيق مطالبها. وقد تتعدى الحركة الأساليب السليمة إلى الوسائل العنيفة، كما قد تلجأ إلى الوسائل السليمة كالانسحاب.
[i] عبد الرحيم العطري: سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية. مجلة إضافات، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 13، 2011، ص 21.
[ii] المرجع نفسه، ص 22.
[iii] عبد المالك ورد: في مشروعية الحركات الاجتماعية الجديدة، مقالة منشورة بموقع أرنتروبوس: www.aranthropos.com، بتاريخ : 28 فبراير 2010.
[iv] توفيق عبد الصادق: حركة 20 فبراير الاحتجاجية في المغرب، مكامن الاختلال وإمكان النهوض. مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 426، ص 73.
[v] Herbert Blumer: social movements, in: Alfred McClung Lee, New Outline of the principles of sociology. New York; Barnes and Noble, p 199.
[vi] عزيز خمليش: الانتفاضات الحضرية بالمغرب. افريقيا الشرق، 2005، ص 14
[vii] عبد الرحيم العطري: مرجع سابق، ص 25.
[viii] صالح ياسر: الحركات الاجتماعية، الجوهر-المفهوم- والسياقات المفسرة. مقالة منشورة بموقع ينابع العراق: www.yanabe3aliraq.com بتاريخ: 27 يناير 2015.