1 - 1- نظرة واقعية إلى التناقض والنزاع.
كل منا, يعرف من خلال تجربته وخبرته الشخصية، ما هو النزاع. شخص يريد شيئاً, وشخص آخر يريد شيئاً آخر, فالأشخاص يتناقشون, ويختلفون, أو على العكس, يتوقفون عن الحديث فيما بينهم, ويحاولون تجنب أحدهم الآخر, فيتعكر مزاجهم, وينهار كل شيء من بين أيديهم. إن النزاعات تعد جزءاً لا يتجزأ من أي مجال حياتي ـ شخصياً كان أم اجتماعياً عاماً. ويختلف ويتنازع الأصدقاء والمعارف والزملاء, والأحزاب السياسية والشعوب والدول. وقد ثبت أن ما يتراوح بين 25 ـ 30 من وقت المدراء والرؤساء من مختلف المستويات, يصرف على تليين وتسوية العلاقة بين العاملين (انظر بورودكين, كورياك, 1989, ليوتنس, 1990). حتى الفرد الواحد نفسه, عندما يفكر في اتخاذ قرار هام, ويصطدم بتناقضات داخلية، بينه وبين نفسه, يخوض مع ذاته نقاشات فكرية طويلة.
إن عدم تطابق مصالح طرفين يفترض أن كلا منهما سيسعى للحصول على ما يريد, وهو مستعد لبذل مجهود خاص من أجل تحقيق ما يرغب. وجزء هام من هذه الطاقة والجهد يصرف على إعاقة الطرف الآخر, أي وبعبارة أخرى، السعي إلى قمعه معنوياً ومادياً و"التغلب" عليه.
في القرن العشرين, ونتيجة حربين عالميتين و200 حرب إقليمية كبيرة ونزاع محلي وأعمال إرهابية ونزاع مسلح على السلطة، وجرائم قتل وانتحار, قتل أكثر من 300 مليون نسمة.
إن مصطلح نزاع هو ترجمة لكلمة "Conflit" الفرنسية و"Conflict" الإنكليزية وهما من أصل الكلمة اللاتينية "conflictus" التي تعني: صراع, نزاع, صدام, تضارب, شقاق, قتال. وتستخدم في الأدبيات السياسية والعلمية والاجتماعية والنفسية بمعان ومضامين عديدة (تضارب المصالح, صراع الحضارات, صراع الثقافات, نزاع مسلح, خلاف عائلي, نزاع حدودي, نزاع بين العاملين في مكان العمل, وما شابه ذلك).
وكما ورد أعلاه, وبالرغم من أن استخدام القوة والخداع من أجل الوصول إلى الهدف, يعد, بمقاييس الحياة الدارجة، أمراً مقبولاً, ولكن, حسب المستوى المعياري في النظرة إلى النزاعات, ينظر إليه نظرة استهجان واستنكار. ويعد التسبب في النزاع وإثارته أمراً سيئاً. إن سمعة العامل أو المدير, الذي يعتبره زملاؤه "إنساناً مثيراً للنزاع", تعد مثيرة للشكوك. وفي المواقف العملية يفضل الناس الحديث عن "الاختلاف في الآراء". وهذا يجري, على نحو خاص, لأنه لا يمكن تحقيق فوز كامل في أي نزاع. ف"الخاسر" قد يشعر بتفوقه المعنوي أمام "الفائز" الذي استخدم أساليب محظورة؛ كما أن "الفائز" في نزاع جدي, كالحرب مثلاً, يتحمل خسائر بشرية ويتكبد خسائر مادية. أما إذا تم الاعتماد على توافق الآراء, وصياغة موقف مقبول من الطرفين المتنازعين, فهذا يعني إشراك العقل, إلى جانب ردود الفعل العاطفية في الموقف النزاعي (علم النزاع 1999).
ومع ذلك, فإن النزاع والتصادم والصراع ليس مجرد شر لا بد منه. إنه يدفع الناس إلى الإبداع, ويساعد على فهم الذات بشكل أفضل, وعلى النظر إلى حاجات الناس المحيطين نظرة جديدة، وعلى رؤية خاصيات الموقف (العائلي, أو الإنتاجي, أو الحكومي وما شابه ذلك)، القابلة للتعديل والتغيير. وإذا كان من غير الممكن تجنب النزاعات فلا بد من معرفة:
* ماهية النزاع, وماهية علاماته الرئيسة، وحتميات تطوره ونموه؛
* كيفية التصرف أثناء النزاع, من أجل الحد من أوار الصراع وحدة المعاناة المرضية؛
* كيفية إنهائه بأقل قدر من الخسائر (أو بالفوز)؛
* كيفية تجنب النزاع, إن كان هذا ممكناً.
إن الحاجة الملحة لتسوية النزاعات (السياسية، والاقتصادية، والإنتاجية، الإدارية، البيئية وغيرها) والنزاعات بين الأفراد قد أصبحت جلية ومدركة في العالم كله. ومن أجل هذا, من الضرورة بمكان دراسة النزاعات, والبحث عن طرق حلها الإيجابي.
علم النزاع Conflictology: هو منظومة المعارف حول طبيعة النزاعات وآليات نشوئها وتطورها, وحول مبادئ وتكنولوجيا إدارتها (يميليانوف, 2000, ص: 12). أما سيكولوجية النزاع فهي إحدى مكونات علم النزاع.
لقد أصبح علم النزاع مجالاً مستقلاً للمعرفة العلمية في النصف الثاني من القرن العشرين: في الخمسينات في الغرب, وفي التسعينات في أوروبا الشرقية وروسيا. واليوم تتناول مشكلة النزاع بالبحث والدراسة العلوم العسكرية، والنقد الفني, والعلوم التاريخية، والرياضيات, والتربية، والعلوم السياسية، والعلوم القانونية، وعلم النفس, وعلم الاجتماع, والفلسفة، والبيولوجيا الاجتماعية. وكل علم من هذه العلوم لـه موضوعه المحدد ومهامه وطرائق بحثه الخاصة لمشكلة النزاع. ولكن لا توجد حتى الآن تصورات مشتركة ومتفق عليها حول جوهر النزاعات وتصنيفها, ومنشئها وأصلها ووظائفها (أنتسوبوف, شيبيلوف, 1999).
1 . 2 - نشوء وتطور علم النزاع
في عصرنا هذا, حيث البشرية تملك أسلحة الدمار الشامل, ومنظومة متطورة لنقل وتبادل المعلومات, تسمح بتنفيذ القرارات المتخذة خلال ثوان معدودة, يدرك المرء بصورة حادة المهام العملية الضرورية التي تقع على عاتق علم النزاع. وتتمثل هذه المهام, بادئ ذي بدء, بضرورة توجيه الوعي العام والرأي العام نحو التعاون بدلاً من المواجهة، ووضع الطرق العملية لإدارة النزاعات، والبحث في إمكانات تجنبها واجتثاثها. لكن المشكلة ذاتها ـ مشكلة التناقضات والمواجهات والنزاعات بين الناس أو بين مجموعات من الناس أو الدول, لم تظهر في القرن العشرين, بل قبل ذلك بكثير. فجميع الديانات العالمية وغالبية المذاهب الفلسفية عالجت تلك الجوانب من الواقع الاجتماعي: كالخداع، والقمع, والعنف, والقهر, والحروب المدمرة، وخيارات الإنسان الأخلاقية في المواقف المتأزمة، وحددت موقفها منها.
فالتعاليم الدينية تقف من مشكلة القهر والعنف موقفاً متناقضاً. لقد دعت الديانة المسيحية إلى التسامح لكنها أظهرت عدالة الانتقام, والعقاب على الذنوب، وتعد المقاتلين المستشهدين في المعركة بالجنة والنعيم في الحياة الآخرة. وتحت شعار تحرير "الأراضي المقدسة" من "غير المؤمنين", شنّت أوروبا الحروب الصليبية على بلدان الشرق العربي الإسلامي في الفترة الواقعة بين القرنين الحادي عشر والرابع عشر.
أما الديانة الإسلامية فتدعو المؤمنين لأن يكونوا الأوائل في عمل الخير, لكنها تعد محاربة "المشركين" واجباً مقدساً على كل مسلم.
لقد عولجت فكرة السلام والتسامح والمقاربة الأخلاقية من تجنب النزاعات الاجتماعية على أكمل وجه في الديانتين البوذية والهندوسية. فالشر العالمي يمكن هزيمته والتغلب عليه بأن يغير الإنسان نفسه. والحياة، القائمة على الحب، تحسّن كارما الأفراد والدول, نظراً لأن كارما المجتمع الإيجابية تخلقها الكارما الإيجابية الفردية لأبناء المجتمع.
وفي الفلسفة، رأى مفكرو الصين القدماء (في القرنين السابع والسادس ق.م) مصدر تطور كل ما هو كائن يكمن في العلاقات المتبادلة بين المبدأين الأساسيين الكونيين المتصارعين: "اليانغ" الإيجابي, النيّر, الذكر, و"الين" السلبي, المظلم, الأنثى. وفي الفلسفة الإغريقية, أدان بعض الفلاسفة الإغريق الصراع (مثل الفيلسوف كليوبيل: "جمّد النزاعات", "لا تفعل شيئاً بالقوة")، وآخرون اعتبروا, أن "الحقيقة تولد من خلال الجدال. ويرى هراقليط (القرنين السادس والخامس ق.م.) بأنه في التناقضات الدائمة يكمن الناس وليس الناس وحدهم. بل والآلهة، والكون كله, وأن الحرب هي "أب, وبداية كل ما هو كائن".
أما أفلاطون (في القرنين الخامس والرابع ق.م.) فقد أدان الحرب, ورأى أن العصر الذي كان الناس فيه يحب أحدهم الآخر, كان "عصراً ذهبياً". ومع ذلك, فهو في دولته الفاضلة اعتقد بوجود محاربين مدافعين عنها. أما الفيلسوف أبيقور (في القرنين الرابع والثالث ق.م.) فقد رأى أن الناس سوف يدركون يوماً عواقب الحروب الأليمة وسوف يعيشون في سلام.
وباعترافهم بحتمية المجابهة في الحياة الاجتماعية، حاول الفلاسفة ورجالات المجتمع صياغة معايير العنف "العادل" والعنف "غير العادل"، وعلى وجه التحديد فيما يتعلق بالحروب العادلة والحروب العدوانية الاحتلالية (مثل شيشرون في القرن الأول ق.م., وبل أوغوستين في القرنين 4 ـ 5 م.). ويرى توما الأكويني (القرن 13م)، أن الحرب العادلة يجب أن تقرها وتصادق عليها الدولة وعندها لن تكون إثماً.
وأكد الفيلسوف الإيطالي نيكولو مكيافيللي (القرنان 15 ـ 16م). الطبيعة السيكولوجية للنزاع الاجتماعي. ورأى أن الأسباب الرئيسة للنزاع تكمن في سعي الناس الدائم إلى الثروة وتركيز سلطة الدولة في أيدي شخص واحد. ومع ذلك, فهو يرى أن الحاكم الرشيد يمكنه وضع النزاع في خدمة المجتمع, وذلك بأخذه بالاعتبار لآراء مستشاريه.
وقد رأى ايرازم روتردام (15 ـ 16م) أن "الحرب حلوة وعذبة لمن لم يعرفها) وتدفع إلى الحرب أسوأ النزاعات البشرية: كطمع الحكام؛ والسعي إلى تمزيق أوصال الشعب؛ وزرع التفرقة في صفوفه, بهدف جعله أكثر طاعة وأسهل إدارة. ويؤكد روتردام وجود منطق خاص للنزاع, ونزعة الحروب إلى الانتشار من تلقاء ذاتها، وانجذاب فئات جديدة من السكان والبلدان إلى الانخراط فيها.
أما فرنسيس بيكون (عاش بين القرنين 16 ـ 17م.) فكان أول من طرح مسالة النزاعات الاجتماعية ضمن الدولة (فقر الشعب وبؤسه, العلاقات بين الملك ومجلس الشيوخ، الأخطاء السياسية في الإدارة، نشر الشائعات وما شابه ذلك).
ورأى الفيلسوف وعالم النفس الألماني توماس هوبس (عاش بين القرنين 16 ـ 17 م) أن "حرب الجميع ضد الجميع "تعد حالة المجتمع الطبيعية. وكل إنسان لديه آمال ورغبات متماثلة مع الناس الآخرين, مما يولد بصورة حتمية، الشك والتنافس.
وبرأي الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (عاش في القرن 18)، يمكن الوصول إلى الوفاق بين الناس على أساس عقد اجتماعي، يجدد "العصر الذهبي" على الأرض, بمساواته بين جميع البشر, ويوفر الحرية والسعادة، التي اختفت مع تطور المدنية. بيد أن العقد الاجتماعي لا يمكن تحقيقه إلا بالقوة، لا عن طريق الموعظة، بل عن طريق القسر.
واعترف الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانت (عاش بين القرنين 18 ـ 19) أيضاً بضرورة العنف والقسر للمحافظة على السلام (بين الجيران أو بين الدول).
أما الفيلسوف الإنكليزي آدم سميث (عاش في القرن 19) فكان أول من وصف النزاع, من حيث هو ظاهرة اجتماعية متعددة المستويات. في المجتمع هناك طبقة الرأسماليين، وطبقة ملاّكي الأراضي, وطبقة العمال المأجورين, وهذه الطبقات الثلاث تقع في حالة من التنافس الاقتصادي. وطالما بقيت هذه النزاعات الطبقية تخدم المجتمع, فهي تعد خيراً بالنسبة لـه.
ورأى الفيلسوف الألماني غيورغ هيغل (بين القرنين 18 ـ 19م.) أيضاً سبب النزاعات في الاستقطاب الاجتماعي (تراكم الثروات من ناحية، و"ارتباط طبقة بالعمل" من ناحية أخرى) وهو يرى أن الوضع في المجتمع يجب أن تشرف عليه وتراقبه دولة موحدة قوية، تمثل مصالح جميع فئاته.
لقد ظهرت الصياغة النظرية العامة للنزاع في علم الاجتماع في أواخر القرن التاسع عشر على أيدي كل من الفلاسفة وعلماء الاجتماع: ك. ماركس. ج. زيميل, م. فيبر, ت. غومبلوفيتش, ه.سبنسر.
يرى كارل ماركس أن صراع الطبقات يعد القوة المحركة الرئيسة لتطور المجتمع. وهذا الصراع أمر حتمي طالما لا توجد مساواة في الملكية.
أما غيورغ زيميل, الذي تعارف العلماء على تسمية موقفه ب "الوظيفية النزاعية"، فقد اعترف بحتمية النزاعات في المجتمع, وهو لم يشر إلى الأسباب الاقتصادية لنشوء النزاعات فحسب, بل وأكد على واقع التناقض بين الفرد والمجتمع. وبالاختلاف عن ماركس, كان زيميل يؤمن بإمكانات النزاع الإيجابية (التكامل الاجتماعي، تعزيز التكاتف الاجتماعي). وهو يرى، أن النزاع يساعد على المحافظة على العلاقات الاجتماعية والأنظمة الاجتماعية.
وفي أواسط القرن العشرين طور أفكار كارل ماركس رالف دارندورف (ألمانيا), كما طور لويس كوزر (الولايات المتحدة الأمريكية) أفكار زيميل, وتعد مقاربتهما أساس علم النزاع المعاصر, ذي الوجهة التطبيقية العملية.
ير دارندورف, أن النزاع هو ظاهرة طبيعية. فالنزاعات حتمية في المجتمع بسبب الاختلاف الدائم بين مصالح أفراده؛ بيد أن هذه النزاعات تنتقل في المجتمع ما بعد الصناعي من مجال الاقتصاد (علاقات الملكية) إلى مجال السيطرة ـ والخضوع وإعادة توزيع السلطة. إن النزاعات الاجتماعية تشكل تدرج المراتب (15 مرتبة أو مستوى). وهي على سبيل المثال, النزاعات الدورية (التنافر الدوري, التوقعات غير المتناسقة التي يطالب بها صاحب دور ما، وغيرها)، والنزاعات داخل الجماعة، والنزاعات بين الجماعات, والنزاعات بين الدول وغيرها. كما قدم دارندورف وصفاً لشروط نشوء النزاع، والعوامل التي تزيد من حدته, وعالج إمكانات إدارة النزاعات وتوجيهها وطرق حلها.
ويرى دارندورف, أن النظرة الماركسية إلى التناقض الطبقي بين البرجوازية والبروليتاريا كانت صحيحة بالنسبة لأوروبا القرن التاسع عشر. أما المجتمع ما بعد الصناعي فيتميز بتسوية التناقضات الطبقية. وتمتلك السلطة الديمقراطية وسائل لتصريف طاقة النزاعات الاجتماعية، وتسويتها وتحويلها إلى مجرى العمليات التوفيقية.
وبرأي دارندورف, من الأفضل الحديث عن تسوية النزاعات وليس حلها, نظراً لأن الحاجات الإنسانية يمكن تحويلها فقط ولا يمكن إلغاؤها.
ترتبط باسم ل.كوزر, بادئ ذي بدء, نظرية وظائف النزاع, الإيجابية منها والسلبية. وتقول هذه النظرية: هناك نمطان من الدول ـ دول مغلقة (صارمة، موحدة), ودول منفتحة (تعددية). في الدول من النمط الأول، ينقسم المجتمع إلى طبقتين متعاديتين, ويخيم عليها دائماً خطر نسف التوافق الاجتماعي, وانهيار النظام الاجتماعي بطريقة ثورية ـ قمعية. أما الدول المنفتحة، التعددية فيتواجد فيها العديد من النزاعات بين الفئات والطبقات, ولكن توجد في هذه الدولة مؤسسات اجتماعية، تصون الوفاق الاجتماعي وتحول النزاعات إلى مصلحة المجتمع.
إن النزاعات قد تكون سلبية، هدامة، تدميرية (مثل تردي المناخ الاجتماعي, انخفاض إنتاجية العمل, تسريح العاملين كوسيلة لحل النزاع, عدم الفهم المتماثل بين طرفي النزاع, أحدهما للآخر, انخفاض التعاون في مسار النزاع وبعد حله, سيطرة روح المجابهة، انجرار أطراف أخرى إلى النزاع, السعي إلى الفوز بدلاً من حل التناقضات, تكاليف حل النزاع المادية والمعنوية، وما شابه ذلك) وقد تكون النزاعات إيجابية، بنّاءة (مقاومة جمود النظام، تطوير النظام, فتح الطرق للاستثمارات الخارجية، تبادل المعلومات، تعزيز الروابط بين الأطراف المختلفة، تأسيس المنظمات، تكاتف أصحاب الرأي الواحد, زيادة النشاط, إلغاء "ظاهرة الخنوع"؛ تحفيز نمو الشخصية والشعور بالمسؤولية والأهمية؛ الكشف عن الجوانب الإيجابية عند الأفراد، المخفية سابقاً؛ ترشيح وتكوين القادة، تخفيف التوتر وما شابه ذلك). ولـهذا, من الضروري الحد من النزاعات السلبية والاستفادة من النزاعات الإيجابية بصورة خلاقة إبداعية. ويعد وصف ل.كوزر لوظائف النزاع الاجتماعي وصفاً كلاسيكياً باعتراف كثير من العلماء.
ومع ذلك, فإن دراسة النزاع حتى نهاية القرن العشرين لم تتحول إلى فرع مستقل من المعرفة العلمية. ونظر إلى النزاع إما من حيث هو تعميم (لظاهرة التناقض)، دون مراعاة خصوصيته كظاهرة في الحياة الإنسانية, وإما من حيث هو تصادم "بموضوع معين" (صراع الطبقات، الحروب، البواعث المتناقضة وما شابه ذلك). وبالتالي فهذه المقاربات الخاصة، الضيقة لم تقدم تصوراً نظرياً عاماً عن النزاع من حيث هو ظاهرة، تميز مختلف جوانب الحياة. وبعبارة أخرى، فإن النزاع, من حيث هو ظاهرة مستقلة، لم تصبح موضوع دراسة مستقل.
في السياسة: بعد هزيمة ألمانيا الفاشية، اعتمدت الولايات المتحدة الأمريكية أيديولوجية "الحرب الباردة" (ه. شيلينغ, جامعة هارفرد). حيث كانت تنظر إلى أي نزاع محلي باعتباره انعكاساً للنزاع المركزي الرئيس بين الشرق والغرب. ورأت في القوة، وفي جبروتها الحربي عامل النجاح الرئيس, أما التكتيك الرئيس الذي اعتمدته فهو تحقيق انتصار من جانب واحد. وكانت تعد المباحثات مجرد وسيلة مساعدة, ومخرج احتياطي, حيث يكون استخدام القوة غير ممكن أو يضر بمصالحها. في مثل هذه المباحثات أو المفاوضات المزيفة لا حاجة للصراحة، والثقة، والعلاقة المتبادلة بين الأطراف. فهو النزاع نفسه, لكنه يعالج في المفاوضات والمباحثات بوسائط سياسية وليس عسكرية ("التنسيق"، "تجميع نقاط وأوراق للمساومة"، اللعب في "البحث عن حل وسط").
بعد أزمة الكاريبي عام 1962, ومع ظهور خطر حرب نووية عالمية، حصل علم النزاع التطبيقي على دفعة كبيرة إلى الأمام نحو التطور. وقد شاركت بهذا العمل مؤسسات عسكرية وحقوقية، واستخباراتية، ودبلوماسية وغيرها؛ ومن العلاقة القائمة على المواجهة بين الشرق والغرب, أخذ زعيما الدولتين العظميين ينتقلان إلى المفاوضات. وتم توقيع اتفاقيات حول الاتصالات الأمريكية ـ السوفييتية في المواقف المتأزمة؛ وتم تأسيس مركزين للحد من الخطر النووي في موسكو وواشنطن.
في الستينات, أثار أناتول رابوبورت (متشيغان, مركز تسوية النزاعات) جدالاً مع ه.شيلينغ. فهو لا يرى أن جميع النزاعات "لا يمكن معالجتها", ودائماً يجب السعي نحو الحل الوسط وحتى البحث عن قرارات مشتركة. فالمواقف النزاعية لا يصح معاملتها بمخطط واحد. فهناك ليس فقط نزاعات "اشتباكات حامية" (كالتناقضات الحادة، والاعتماد على الفوز وحده), بل هناك نزاعات "ألعاب" (حيث يتصرف المتنازعون وفق قواعد واحدة، والنزاعات لا يمكن أن تنهى دون تدمير كامل منظومة العلاقات المتبادلة بين الأطراف)، وهناك أيضاً "مجادلات" (حيث يحتمل النقاش, والمناورات, لكن طرفي الجدال مستعدان للقبول بالحل الوسط). إن أي تفوق يكون دائماً وقتياً آنياً. وإذا ما تم اتخاذ قرار غير مرغوب، فهو سيؤدي حتماً إلى تردي العلاقات في المستقبل. إن مهمة المفاوضات الرئيسة، هي ليس اتخاذ القرار, بل التوصل إلى الوفاق, وتوفير ثباته الداخلي (علم النزاع، 1999؛ فيشر, يوري, 1992).
الوعي المجتمعي: منذ السبعينات من القرن العشرين، أخذت تتطور الممارسة العملية لعلم النزاع, القائمة على المدخل السيكولوجي ((بداية في المؤسسات العسكرية والاستخباراتية)، وظهرت المراكز الاستشارية الأولى، وطرق ومناهج تسوية النزاعات والوقاية منها. ومن المعروف على نطاق واسع, على سبيل المثال, طريقة ش. أوسغود "مبادرات تدريجية ومتبادلة لتخفيف حدة التوتر", المعدة للنزاعات الدولية؛ وطريقة جامعة هارفارد للمفاوضات المبدئية، التي وضعها العالمان ر.فيشر وو.يوري.
وفي معالجة الدعاوى المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية، يستخدم على نطاق واسع منهج التوسط أو الوساطة Mediation, أي حل المسائل المتنازع عليها بين طرفين بمشاركة طرف ثالث. ويحل اليوم, في الولايات المتحدة الأمريكية، أكثر من 50% من المسائل المتنازع عليها قبل, أو خارج جدران المحكمة، بمساعدة الوسطاء الاحترافيين الموجودين في المحاكم.
وفي أستراليا، أسس في عام 1986, الذي دعي باسم عام السلام بمبادرة من الأمم المتحدة، المركز الدولي لحل النزاعات, الذي يصدر مجلة متخصصة بعنوان "Journal of Conflict Resolution".
وفي روسيا,ظهر في سانت بطرسبورغ, عام 1992, في إطار البرنامج الروسي ـ الأمريكي لعلم النزاع, مركز المساعدة على حل النزاعات وإعداد الوسطاء المحترفين. أما في موسكو، فثمة مركز لعلم النزاع يتبع معهد علم الاجتماع التابع لأكاديمية العلوم الروسية. وتحوي مواقع الإنترنت المتخصصة على معلومات وافية عن المؤسسات المهتمة بالوساطة في حل النزاعات, وهي عادة ضمن هيئات الاستشارات القانونية. وبدأت تظهر في التسعينات الكتب الجامعية الروسية الأولى المتخصصة في علم النزاع, وأدخل علم النزاع, كمقرر جامعي, في إعداد أصحاب الاختصاصات الإنسانية المختلفة كعلم النفس وعلم الاجتماع والحقوق، والدبلوماسية، والعاملين في الخدمة الاجتماعية، والمدراء ووكلاء الأعمال وغيرهم. وفي عام 1997 تأسس النادي الروسي للمتخصصين في حل النزاعات.
وهكذا, يمكننا القول بأن علم النزاع هو علم مستقل, مرتبط بصلة وثيقة بعلم الاجتماع وعلم النفس وحتى الطب النفسي. أو هو مجال للمساعدة العملية على حل النزاعات القائمة بين الأطراف المتصارعة (كالإدارة، والدبلوماسية، والقضاء, والخدمة الاجتماعية). ولا يوجد حتى الآن مفهوم موحد معترف به لوضعية هذا العلم. وعموماً يجدر بنا اعتبار علم حل النزاعات مجالاً علمياً تطبيقياً.
أما النزاع بحد ذاته, فيمكننا تعريفه على النحو التالي:
النزاع: هو تلك العلاقة من التفاعل الاجتماعي بين الأفراد, التي تتميز بصراعهم على أساس الحوافز المتعارضة (الحاجات، الأهداف, المثل العليا, القناعات) أو الأحكام (الآراء,ا لنظرات, التقويمات وما شابه ذلك).
1 . 3 - تصنيف النزاعات:
إذا كان هدفنا هو المساعدة الاحترافية على حل النزاعات بين الأفراد, فمن المفيد معرفة طبيعة النزاعات ومظاهرها المميزة.ويقترح علم فض النزاع أسساً مختلفة لتصنيف النزاعات ومن بينها الأسس التالية:
* أسباب نشوء النزاع:
1 ـ أسباب عامة: سياسية ـ اجتماعية, اقتصادية، ديموغرافية (الجنس ـ السن ـ الانتماء السكاني وغيرها)، اجتماعية ـ سيكولوجية (العلاقات المتبادلة, الزعامة، حوافز الجماعة، الرأي العام للجماعة وغيرها)؛ فردية ـ سيكولوجية (القدرات، التفوق، الطباع، المزاج، الدوافع وغيرها).
2 ـ أسباب خاصة: عدم الرضا عن ظروف العمل، خرق آداب الخدمة العامة وقواعدها، خرق قانون العمل, ضيق الموارد, الاختلاف في الأهداف ووسائل الوصول إليها والتواصل.
* مجالات نشوء النزاع: مجالات اقتصادية، أيديولوجية, اجتماعية ـ بيئية، عائلية منزلية.
* مدى طول النزاع وحدته: هناك نزاعات وصدامات عاصفة، سريعة، قصيرة الأمد (تقوم على أساس الخاصيات السيكولوجية الفردية) وهناك صدامات حادة، طويلة الأجل (تعبر عن تناقضات عميقة)، وهناك نزاعات ضعيفة باهتة (تعبر عن تناقضات خفيفة أو سلبية لأحد أطراف النزاع) وهناك نزاعات ضعيفة عابرة، ذات أسباب سطحية.
وغالباً ما يتجه الباحثون إلى التصنيف الذي ينظر إلى الصدام من وجهة نظر أفراد التفاعل النزاعي التصادمي. فيصنفون النزاعات إلى: نزاعات داخل الفرد الواحد، نزاعات بين الأفراد، نزاعات بين الجماعات (مثل النزاعات بين الجماعات الصغيرة غير الشكلية، والنزاعات بين الأقسام أو الدوائر في المؤسسات والهيئات, والنزاعات بين الجماعات الكبيرة الاجتماعية والسياسية، والنزاعات بين الثقافات).
وكما هو معروف، لا توجد النزاعات بصورة منعزلة، وكثيراً ما تكون الصدامات والنزاعات المختلفة مترابطة فيما بينها، ومشروطة بعضها ببعض.
ويحدثنا عالم الاجتماع الأمريكي المعروف (ف. ليبمان) أنه, في بداية القرن العشرين, كانت هناك مستعمرة أوروبية مختلطة، متعددة الجنسيات، في إحدى جزر المحيط الهادي. وكان البريد يصل إلى هذه الجزيرة بصورة نادرة ومتأخرة جداً, وقد عرف سكانها بخبر اندلاع الحرب العالمية الأولى بعد شهرين من وقوعها. وبعد وصول هذا الخبر مباشرة، تردت العلاقات بين سكان المستعمرة وساءت على نحو خطير: حيث تحالف الإنكليز مع الفرنسيين, بينما بدأ الألمان يشعرون بالعداء نحوهم. وهكذا انهارت علاقات الصداقة التي كانت قائمة بين سكان المستعمرة لإدراكهم أنهم ينتمون إلى دول متحاربة، متعادية.
ومع ذلك, وبصرف النظر عن التنوع الظاهر للنزاعات, وفي جميع أشكال النزاع المذكورة أعلاه, ثمة خواص مشتركة بينها, الأمر الذي يسمح بإطلاق مصطلح واحد عليها. وتجمع بينها بادئ ذي بدء, علامات النزاع المفتاحية، التي تدفع المتنازعين إلى المواجهة، كما تجمع بينها أساليب تقويم قوى المتنازعين. إن أهمية مشكلة النزاع تتطلب معرفة خصائص الخروج من النزاع, ومعرفة أطرافه, وإمكان خضوعهم للتوجيه أو الإدارة.
1 . 4 - ظاهرة النزاع:
في كل حالة نزاع محددة، يمكننا تمييز المراحل التالية: 1 ـ الموقف ما قبل النزاع، 2 ـ بداية النزاع المكشوف (تصعيد النزاع، ذروة النزاع أحياناً)، 3 ـ ختام النزاع المكشوف (حل النزاع أو تجميده), ما بعد النزاع. ومن المناسب تناول مراحل تطور النزاع بصورة متتابعة, من خلال النزاع بين الأفراد, الذي يعرفه كل منا, من خلال تجربته الشخصية.
1 ـ الموقف ما قبل النزاع: ويدل عليه, بادئ ذي بدء, ظهور الشعور بالانزعاج. قبل تحليل الموقف, نبدأ بتقويمه عاطفياً. يصعب التعبير بالكلمات عما يزعجنا بالذات. لكن المرء يشعر أن الوضع ليس على ما يرام. هنا, ينصح خبراء النزاع بالإصغاء إلى مثل هذا الشعور، وعدم إهماله, بل محاولة فهم أسبابه (الانزعاج مفهوم, فقد تأخرت كثيراً في اتصالي الهاتفي به عن الموعد المحدد).
وإذا لم يتم إدراك الشعور بالانزعاج في الوقت المناسب، يبدأ سوء الفهم بالظهور في تواصلنا: كالحدة في الكلام، والصمت, وعدم الرغبة بالكلام وما شابه ذلك (مثال: بالأمس كنت تنظر في عيني, أما اليوم فتنظر جانباً). وكثيراً ما تظهر علامات سوء الفهم بسب أشياء تافهة (النظام اليومي المختلف للجيران في سكن مشترك, أواني المطبخ المتروكة دون تنظيف, إلخ)، أو بسبب عدم التعبير الدقيق عن الفكرة، أو القلق, أو الانزعاج المؤقت. إن التوتر العاطفي, أو المزاج السيئ, أو التعب والإرهاق ـ قد يشوه عملية استيعاب الموقف وإدراكه, ويؤدي إلى الفهم الخاطئ (مثال "حسناً أنك طرقت بابي؛ يبدو أنك طرقت بابي خطأ").
إذا كانت حالات سوء الفهم تظهر بتكرار واضح بين أشخاص معينين، فإن علاقات هؤلاء الأشخاص ذاتها تصبح مصدر قلق, وقد يصل موقف ما قبل النزاع إلى مرحلة التوتر (نشوء صعوبة في التواصل مع المشرف العلمي أو مع الإدارة). إن عدم رغبتنا بفهم أسباب سلوك الشخص الآخر وعدم الإصغاء لمشاعره قد يدفع بنا إلى الدخول في نزاع كامن, خفي, محتمل (مثال: ألا تعجبك طريقة تحضيري للطعام؟).
إن مرحلة ما قبل النزاع تختتم بالحادثة ـ الصراع المكشوف الأول لطرفي النزاع، الإعلان عن النزاع. وقد يبدو سلوك أطراف النزاع للمراقبين غير المشاركين، غريباً وغير متوقع, لكنه مفهوم, من حيث منطق التطور الكامن للنزاع, باعتباره تفريغاً انفعالياً للطرف البادئ بالحادثة.
مثال: في رواية تولستوي "الحرب والسلام", يكيل (بيير بيزوخوف) الإهانات لعشيق زوجته (دولوخوف)، ويدعوه للمبارزة، لمجرد أنه أخذ منه, دون إذن, خطاباً بمناسبة معركة باغراتيون.
وقد تحدث بداية النزاع المكشوف بصورة مباشرة مع الحادثة. مثال: في رواية تولستوي "آنا كارينينا"، تعاني (دوللي) من صدمة حقيقية، عندما تكتشف, بالصدفة، رسالة تدل على صلة زوجها بالمربية، علماً بأنها لم تكن لتشك أبداً بإخلاص زوجها.
وإذا ما نشأ النزاع بين أشخاص عرضيين, لا يرتبطون بعلاقات طويلة الأمد (ركاب حافلة، المشترون الواقفون في الدور وغيرهم)، تنشأ الحادثة المسببة نتيجة إشعال شخص ما شرارة، النزاع (كلمات، أفعال يمكن أن تؤدي إلى نزاع). والمهم هنا، الانطباع السلبي والاستجابة السلبية من جانب الشخص الآخر, الذي وجهت الشرارة نحوه. فإذا ما تصرف الطرف الذي خضع للعاطفة الأولى، بصورة انفعالية، فسوف يستمر تبادل شرارات النزاع. ولا بد هنا من أن نتذكر, أن كل شرارة جوابية من شرارات النزاع تكون أقوى من الشرارات السابقة، حسب قانون التصعيد (اتجاه النزاع نحو النمو الذاتي, الذي أشار إليه ايرازم روتردام).
مثال: لقد تطورت الأحداث على النحو التالي, عندما التقى (توم سوير) ـ بطل رواية (مارك توين) ـ وهو حافي القدمين وبثياب رثة، صبياً أنيقاً حسن الهندام في الشارع، وأخذ يشاكسه قائلاً:
ـ أتريد أن أشبعك ضرباً؟
ـ حاول أن تضربني! ومن أنت لتضربني؟
ـ تأنقت بثيابك وخرجت! وتظن نفسك شخصية هامة! ووضعت القبعة على رأسك!
ـ حاول أن تسقطها، إذا لم تعجبك. حاول وسترى!…
ـ أعطني سِنْتين, وعندها سأضربك!.
أخرج الصبي النقود ووضعها في يده وهو يمدها إليه, فضربه توم على يده, وبدأت المشاجرة".
2 ـ بداية النزاع المكشوف: وتبدأ عندما يصبح فقدان الصلة بالطرف الآخر واضحاً. ويتخذ كل من الطرفين خطوات معينة: فتبدأ المماحكات الكلامية، وتضعف الرقابة على الانفعالات, ويتخلى الطرفان عن قواعد السلوك المرعية، ويلجأان إلى القوة (المتخيلة أو الواقعية). فيحدث اتساع النزاع وتصعيده.
وقد يكون التصعيد "مستمراً" (ازدياد دائم لتوتر العلاقات وقوة الضربات) أو "متموجاً" (تعاقب المجابهة والتهدئة، وتحسن مؤقت في العلاقات)، أو "انحدارياً" (مظاهر عدائية واضحة) أو "خاملاً" دائماً, بفتور.
3 ـ ختام النزاع المكشوف: إن تطور الموقف في مرحلة النزاع المكشوف يؤدي إلى نقطة انعطاف أو إلى الذروة. وقد تكون هذه الذروة عدداً من الخطوات المتتابعة, أو "انفجاراً" واحداً يحل الصراع ويضع نهاية لـه. وتكون نقاط الذروة خطيرة جداً على نحو خاص في النزاعات المديدة, الطويلة الأمد (كما في الجرائم المنزلية ـ الأسرية"، بين الحب والكراهية خطوة واحدة"). مثال: لنتذكر هنا, نهاية رواية دوستويفسكي "الأبله": بعد أن حصل (بارفن راغوجين) أخيراً على موافقة (ناستاسيا فيليبفنا) على الزواج, يقتلها في ليلة العرس.
وقد يختتم النزاع المكشوف دون مرحلة انفجارية. حيث يحدث انعطاف العلاقات تدريجياً, مع إدراك الطرفين لضرورة التوقف عن زيادة توتر العلاقات ("حد الصبر والاحتمال"، أو "هذا لن ينتهي على خير").
4 ـ ما بعد النزاع: وهو مرحلة من مراحل النزاع تأتي, حسب تعريف النزاع, بعد ختام المواجهة المكشوفة. وقد تكون هذه المرحلة "تحطيم الخصم", أو قبول الطرفين بهدنة رغماً عنهما, أو "تجميد النزاع"، وتضييق حدوده, عن طريق تضييق مجال الاحتكاك بين الطرفين ("عدم التطرق إلى المسائل الحساسة"، أو "سنتصرف بصورة عقلانية كي لا يسبب أحدنا الألم للآخر"). كما أن ذروة النزاع قد تغير بصورة تدريجية العلاقات بين الطرفين. مثال: في رواية دوستويفسكي "المراهق"، توثقت عرى الصداقة بين البطل الرئيس (أركادي) وبين (تاتيانا بافلوفنا) التي كان يعدها عدوته الرئيسة، بعد أن قال لها, إنها تهتم بأمور أسرتهم لأنها تحب أباه.
إن خبراء حل النزاعات المعاصرين يستخدمون, من أجل وصف موقف ما بعد النزاع, مصطلحي الربح (ر) والخسارة (خ). ويعكس التصور التقليدي لنتيجة النزاع مبدأ المواجهة (ر ـ خ), ولكن في السنوات الأخيرة, أخذ الخبراء يعدون المبدأ الأنسب هو (ر ـ ر) أي التركيز على التعاون. وكما ذكرنا آنفاً, لا يعد الربح والخسارة في النزاع مطلقين وطويلي الأمد. فالحل الإيجابي البناء للتناقض والصراع يتطلب مراعاة مصالح الطرفين والبحث عن الطرق المقبولة لتلبيتها.
1 ـ 5 ـ بنية النزاع: يمكننا إبراز العناصر التالية في بنية النزاع:
1 ـ طرفا النزاع: وهما أفراد التفاعل الاجتماعي المتأزم، الذي بلغ مرحلة النزاع, وكذلك كل من يقف معهما بصورة واضحة أو غير ظاهرة (المتعاطفون, المستفزون، المصالحون، وغيرهم). ويلحق بطرفي النزاع ضحايا النزاع، كالأطفال في حالة الطلاق, والجنود في حالة الحرب.
2 ـ موضوع النزاع: ويحدده صراع الطرفين، أي سبب نشوئه. ويصعب عادة تحديد موضوع النزاع بمدلول واحد (مثال: ما هي ذريعة بداية الحرب: الطمع في الثروات أو الأراضي, الأمل بالانتقام, الكراهية الشخصية بين زعماء الدول المتصارعة,؟ وغيرها). إن الادعاءات المصاغة كلامياً, والتي قد تبدو فارغة، تعكس في حقيقة الأمر الاختلافات العميقة (سبب الحدث وذريعة نشوء النزاع).
3 ـ منطقة الاختلاف: نظراً لعدم وضوح موضوع النزاع, حتى بالنسبة للمتخاصمين أحياناً يطلق عليه اسم "منطقة الاختلاف". وحدود منطقة الاختلاف اصطلاحية ومتبدلة للغاية. ورغم أن النزاع ناتج عن ادعاءات جوهرية, فإن شكل التعبير عنها قد يزيد من توتر العلاقات بين المتنازعين. فإذا ما تم التعبير عن المطالب بصورة انفعالية مفرطة، واعتبرت هذه المطالب من الطرف الآخر إهانة، يظهر أثر آلية العدوى: حيث ينسى الطرف الآخر المطالب ذاتها, ويشرع بالدفاع عن كرامته. والعكس صحيح, فالموقف الهادئ والتوجه العملي يساعدان على إيجاد حل للمشكلة. وعندما يتمكن طرفا النزاع من تحقيق اتفاقات جزئية، فقد تضيق منطقة الاختلاف (مثال: يتوقف الوالدان أخيراً عن مراقبة ابنهما المراهق, بعد الاتفاق معه على أن يتصل هاتفياً بهما في حال تأخره في العودة إلى المنزل).
4 ـ دوافع النزاع: وهي القوى الداخلية الدافعة لطرفي التفاعل الاجتماعي إلى المواجهة. وهذه الدوافع لا تدرك كلها بشكل كامل. وهي التي تحدد وترسم صورة الموقف النزاعي, وتشكل رؤية طرفي النزاع الخاصة للمشكلة وتعكس حاجاتهم ومصالحهم, وأهدافهم ومثلهم العليا وقناعاتهم.
5 ـ أهداف طرفي النزاع: وهي النتائج التي يتصورها الطرفان ذهنياً, والتي يودان تحقيقها. ويدرك كل من الطرفين جيداً هذه الأهداف, لكنه لا يبوح بها لخصمه إلا بصورة جزئية، وعلى شكل مواقف معلنة (مثال: دخول القوات الأمريكية والمتعددة الجنسيات للعراق: المواقف المعلنة هي تحرير الشعب العراقي من نظام صدام حسين الديكتاتوري وتدمير أسلحة الدمار الشامل وإقامة نظام ديمقراطي. أما الأهداف فهي السيطرة على العراق ونهب ثرواته. وأما الدوافع فهي تحقيق الهيمنة الأمريكية على المنطقة وتنفيذ مخطط الشرق الأوسط الجديد ـ المعرب).
6 ـ الخطوات العملية للنزاع: وهي الطبقة الخارجية من النزاع, التي يمكن ملاحظتها مباشرة. فإذا كان لدى الطرفين أهداف مختلفة فإن خطواتهما العملية ستؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى المواجهة والصدام. والطرف المعادي, الذي استوعب الموقف بطريقة أخرى سيعد خطوات الطرف الآخر معادية (غير صحيحة). ومن هنا فالخطوات الجوابية (رد الفعل) ستفسر تفسيراً خاطئاً (من وجهة نظر صاحبها)، وبالتالي ستعمل على تصعيد النزاع المكشوف (مثال: حرق أعلام الدانمرك وبعض سفاراتها في بعض الدول الإسلامية رداً على نشر صحيفة دانمركية صوراً مسيئة للرسول محمد ( ـ المعرب). ومن أهم الخطوات التي يمكن تفسيرها على أنها عدائية: ـ إعاقات مباشرة أو غير مباشرة للخطط التي ينفذها أحد الطرفين, عدم تنفيذ التعهدات والالتزامات, استحواذ طرف على ما يراه الطرف الآخر أنه من حقه (مثل قيام عامل باللعب على الكومبيوتر في وقت العمل)، إلحاق ضرر مباشر أو غير مباشر بملكية أو سمعة الطرف الآخر, الأفعال التي تسيء إلى كرامة الطرف الآخر (الشتائم والإهانات)، التهديدات والأعمال القمعية، التفسير الخاطئ للأعمال والخطوات التي يقوم بها الطرف الآخر كاختلاف الآراء بين الزوجين أو بين الآباء والأبناء.
مراجع البحث:
1 ـ أنتسوبوف آ.يا، شيبيلوف آ.ي، علم حل النزاعات. موسكو, 1999.
2 ـ غريشينا ن.ف.سيكولوجيا النزاع. سانت ـ بطرسبورغ, 2001.
3 ـ دميترييف آ.ف كودر يافتسيف ف.ن., كودر يافتسيف س.ف. مدخل إلى النظرية العامة للنزاعات: علم حل النزاعات القانونية. الجزء الأول, موسكو, 1993.
4 ـ زدرافوميسليف آ.غ. سوسيولوجيا النزاع. موسكو، 1996.
5 ـ كليموف ي.آ. الوقائع النزاعية في العمل مع الأفراد (الجانب السيكولوجي). موسكو، 2001.
6 ـ النزاعات والوفاق في روسيا المعاصرة. / بإشراف ف.س.سيميونوف, س.آ.ستيبانيان.
7 ـ سيكولوجيا النزاع. مختارات/ إعداد ن.ف.غريشينا. سانت ـ بطرسبورغ, 2001.