إن من جوانب القدر أن جعل الإنسان كائنا ذا إحساس يثور و يهدئ، يضحك و يبكي، يرتقي بأناه روحا إلى درجات من جهة، و ينزلها دركات من جهة أخرى.
و هذا كله خاضع لعامل مهم جدا، ألا و هو الوقت و الغرينتا المتمركزة في قلب كل إنسان، و تحرك خيوط مشاعره لتصنع منه ذاتا تغلف جوهرا يتصل في الكثير من الأحيان بروافد. تلك التي تضايق البشر في لحظات معينة، وفق ظروف متنوعة بتنوع المواقف و المؤثرات. لذا بكل اختصار ما هي الذات؟ ولماذا و بماذا تتأثر سلبا أو إيجابا؟
إن الذات البشرية عبارة عن نهر متقلب المزاج، قد يكون هادئا شتاء، و متدفقا صيفا، أو العكس. و هذا تحت سيطرة العوامل المؤثرة عليه، و المستقلة عنه، بتوجيه من الحاسم الذي يمثله الوقت و الزمن.
و عليه فإن الذات البشرية، و وفق بنياتها المائعة و المتحولة. قد تأخذ أشكالا لا بأس بها في نفس الوقت المستنسخ، عبر مدة الأيام. و هي الباقية في إطار نفس القالب البيولوجي أو الهيكلي الذي لا يتغيّر كثيرا، إلا على عتبة الكبر أو الهرم الذي لا دواء له.
إنها ذات تمتد داخل حيز خاص، و تتكيف مع كل أشكال العمران المحيط بها، على سبيل الإيجاب بالمزاج الطيّب و الرغبة الجامحة، إضافة إلى التعقل و تسيير الأهداف و المصالح من حيث المبدأ، أو على سبيل السلب بمشاعر خبيثة و الاندفاع المتمرد على منطق التفكير، و الممزوج بالخوف من ضياع الفرص التي تبدوا أنها لا تأتي سوى مرة في العمر.
إنها الكائنات البشرية في مسيرتهم الحياتية الاجتماعية منها و النفسية، و التي تمرّ على محطات عديدة تكون انطلاقتها الإخصاب و نهايتها الحساب الذي يفضي إلى الثواب و العقاب، و تتوسطها محطات عبور قد تبيض أعمالا خالدة و مخلدة، أو تسوّد بجرائم متعمدة.
أحيانا يضع الإنسان مصيره بين يديْه، فتعبث به اليد اليسرى احتقارا و شتما، بينما تحن على نفس المصير اليد اليمنى إعجابا و تشجيعا و حماسا، فيقع صانع القرار بين كلمات مُعَذَّبٍ، إمّا يقول الحقيقة فيخسر المجد، و يربح الدنيا و الرفاهية الزائلة، و إمّا يكذب فيجني الذكرى و يخسر نبضات قلبه المتعب أصلا من السير في طريق لا يعرف نهايته، و لا يستطيع العودة إلى بدايته.
هذا هو الإنسان الذي قمع العراقيل، و جعل الأقوال الهدامة تسحق تحت أرجل الفيل، فلكل إنسان ذات تحركه على حسب هواها، و شهوتها، لكن عليه كبحها بقيود العلم، و إن لم نقل المعرفة فإننا نقول التعرف على ما يجهله هذا الكائن المقدس قداسة عمامة جدّي رحمه الله.
و هنا نحن نحرص على صناعة الذات لأن كل ذات عاقلة هي إضافة للجماعة المشتركة في صناعة ازدهار الحياة، فاجتماع ذوات يشكل اجتماع أناة، و يشكل جماعة في حده الأدنى و مجتمع في حده الأوسط، وشعبا حيا في حده الأسمى.
إن العظمة لا تعطى، وإنما تبنى، كالفنادق الفخمة التي لا تُصنف بديكوراتها، و إنما بنوعية خدماتها و علو كعبها الاستيعابي، و المخطئ كل الخطأ من يعتقد أن العلم و المعرفة محصورة أو محدودة، فقد أثبتت الأيام و حكاياتها أنّ العِلم شاطئ بحره لم تدركه الأبصار بعد، و رغم ذلك استطاعت الذات البشرية التأقلم معه. و احتوته، و مازالت تطالب بالمزيد.
تلك الذات التي عاشت في غرب الأرض، و تنفست هواء الأمازون المنعش، أو أكسجين الألب. أما الذات المكتوية بنار الصحراء، أو المرتخية تحت ظل الواحات مازالت ترفض نور العِلم، مما ولّد عندها قناعة الاستسلام و التي انعكست على ركيزتها بذلك الوهن، الذي أصاب عصب الذاكرة. ممّا جعل الذات الشرقية تعود إلى مخلفات الماضي العاجز و تابعة دون أن تدري لذات غربية آمنت بمستقبلها، فعملت لأجل نحته بأدوات تخلى عنها مالكوها الأصليين و حوّلوها إلى أشواك في أحلاقهم.
يـا ذات الشرق استفيقي و استيقظي، و لا تكوني كما قال جبران خليل جبران:{ بينما كنت يوما أدفن ذاتا من ذواتي الميتة إذ وقف بي حفار القبور،(...) و قال لي:"إنّ سواك يأتي باكيا و يعود باكيا، أما أنت فإنك تأتي ضاحكا و ترجع ضاحكا".}(1)
شرح المصطلحات الخاصة:
الغرينتا: الدافع و الحافز الملهم لصاحبه.
صبرة، تلمسان، الجزائر.
. .
.جبران خليل جبران، المجنون، المكتبة العصرية للطباعة و النشر بيروت_لبنان، ص:19.