الإنسان، مخلوق يذرف الدمع حينا، و يرسم الابتسامة أحيانا أخرى، و هذا لا ينقص من إنسانيته شيء، بل على العكس، يزيد من شاعريته المفرطة، و المتخذة من القلب و الجوارح فرقة موسيقية، مكتملة الأعضاء و التجهيزات، عازفة بذلك أجمل و أعذب المقاطع، أين تتجلى أبهى صور امتزاج المادة بالمشاعر، و أين يجد البشري نقطة يلاقي بطرفيها الشهوة بالعقلانية، فيضبط المسار، و يغرد في ساحة السمو و الآصال.
من الواضح تماما أنّ المشاعر كيان مميّز لدراسة قيمة ألفة الجسد من الداخل، على شرط أن ندرسه كوحدة و بكل اتجاهاته و مؤثراته، إضافة إلى تأثيراته. و أن نسعى إلى دمج كل القيم بالقيمة الأسمى، التي تمثل الوحدة الأساسية.
الإحساس هو ركننا في العالم، إنه كما قيل مرارا، "كوننا الأوّل"، كون حقيقيّ بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فلو درسنا بدايات الإحساس كظواهر عاطفية، فإنها سوف تعطينا الدليل الملموس لقيم الجسد المسكون، للأنا الذي يغلف الأنا و يحميه.
إنّ الشعور و لو من طرف واحد بالطمأنينة للطرف الثاني، هو من أهمّ العوامل التي تدمج أفكار و ذكريات و أحلام الإنسانية. و مبدأ هذا الدمج و أساسه هو أحلام اليقظة.
في حياة الإنسان تأثر على الإحساس عوامل المفاجأة، و تخلق الاستمرارية، و لهذا فبدون المشاعر يصبح الإنسان كائنا مفتتا. إنه الإحساس من يحفظه عبر عواصف الضياع و أهوال الـزوال.
إنّ الفلسفة التي تنطلق من لحظة "إلقاء الإنسان في العالم" هي فلسفة زائدة. إنها تقفز من فوق الأولويات، و تلك حين كان الإنسان منخرطا في الهناءة، و حين كانت الهناءة ترتبط بالوجود.
فلشرح ميتافيزيقا الوعي يجب انتظار التجارب الإنسانية، حين يُلقى الفرد في العالم، خارج الإحساس أو الشعور بالآخر، و هو وضع تحتشد فيه عداوة البشر والكون.
و لكن الميتافيزيقا الكاملة، المحتوية على الوعي و اللاوعي تُبقي قيمتها في داخلها. في داخل الوجود، في وجود الداخل، فيغلف الدفء الوجود.
و عليه فالوجود يحكم نوعا من الجنة الأرضية، تذوب في متع الحياة الكفوءة. و كأنّ الإنسان في هذه الجنة المادية ينغمس في غذاء واف، و قد منح كلّ المزايا الجوهرية. فحين نلمس الإحساس الذي ولد فينا، أو نظهره للآخرين، و بينما نحن في أعماق الاسترخاء القصوى، ننخرط في ذلك الدفء الأصليّ، في تلك المادة لفردوسنا المعنوي. هذا هو المناخ الذي يعيشه الإنسان المحميّ في داخله، و لو عدنا للملامح الجنينية للإحساس، فسأؤكد مجددا، على ترجمة وجود الإحساس بأحلام يقظة تقودنا إليه.
في بعض الأحيان نعتقد أننا نعرف أنفسنا من خلال الإيمان، في حين أنّ كل ما نعرفه هو تتابع صور همجية في أماكن استقرار الكائن الإنساني، الذي يرفض الذوبان، و يمسك حتى بالماضي، حين يبدأ البحث في أحداث سابقة، و هو يحاول أن يمسك بحركة الزمان.
إنّ الإحساس موجود في مقصورته المغلقة التي لا حصر لها، يحتوي على الزمن مكثفا، مكتمل الصور و التفاصيل. هذا هو دور الإحساس.
و حتى نتبيّن مدى ارتباطنا بمشاعرنا التي ولدت في أجوافنا، يساعدنا الحلم أكثر من الفكر. إنّ قوّة لا وعينا هي التي تبلور أبعاد ذكرياتنا، فعلى مستوى حلم اليقظة، لا الواقع، يظلّ حبنا حيا، نافعا شاعريا في داخلنا. و من خلال هذا الإحساس الدائم نحتفظ بشعر الماضي. فتشكل المشاعر مجموعة من الصور التي تعطي الإنسانية براهين أو أوهام التوازن، و الواقع أننا نستطيع مقابلة عقلانية الشعور بعلّة وجوده على الفور، كأنه يحمي الإنسان من فقر الذات.فعند المسيحيين نجد الراهب يقف وحيدا أمام الصليب، و لهذا فإنّها أسمى صور العزلة المركّزة، كون خارج الكون.
و عليه فالذات لا تستطيع أن تستفيد من ثروات هذا العَالم، إنها تمتلك هناءة الفقر المدقع، و الحق أنها إحدى أمجاد الفقر، فكلما ازداد الحرمان ازددنا اقترابا من صورة الملجأ المطلق.
آه لو يسرح إنسان بمخيلته فيرى سجين الشتاء مستعينا بالحس المثالي، الذي يثيره الأفيون، و منه المشهد لكوخ صغير بمنطقة صبرة أليس صحيحا أنّ الإحساس المرهف يجعل الشتاء أكثر شاعرية، و أنّ الشتاء يضفي مزيدا من الشعر على روح الإنسان؟ كان الكوخ الأبيض مبنيا على طرف الوادي الصغير، و محصورا بجبال عالية، و بدا ملفوفا بالشجيرات. نشعر حينها أننا نعيش في الجوهر الذي يحمينا. بذلك الإحساس المتولد عن تخيّل الوادي، إننا نحن أيضا نلتفّ ببطانية الشتاء. فنشعر بدفء مخيّلتنا لأنّ الخارج بارد، و بعد هذا يعلن بودلير أنّ الحالمين يحبون الشتاء القاسي بحيث يقول: "...إنهم في كل عام يتضرعون إلى السماء، أن ترسل أقسى ما تستطيع من الثلج و البرد و الجليد. ما يريدونه حقا هو شتاء كندي أو روسي، لأنه بهذا تصبح أعشاشهم أكثر دفئا و نعومة، تصبح محبوبة أكثر...".
فالمشاعر بالنسبة للجسد كالثياب بالنسبة للخزانة، و هنا يمكننا التمييز بين الحاوي و المحتوى، بالإضافة إلى التفريق بين القيمتين المنفصلتين باطنيا، الظاهرتين حسيا أو ماديا، فكما يقول رامبو: "...الخزانة ليس لها مفاتيح!...ليس للخزانة الكبيرة مفاتيح. كثيرا ما كنا نطالع بابها البني الأسود بلا مفاتيح!... كان ذلك غريبا!مرات كثيرة حلمنا بالخبايا التي تكمن بين أجنحتها الخشبية، و اعتقدنا أننا سمعنا في عمق القفل الفاغر صوتا بعيدا، و همهمة مبهمة مرحة...".
حين نمنح الأشياء المودة التي تستحقها، فإننا لا نفتح خزانة دون إجفالة بسيطة. فخلف خشبها الخمري اللون، تكون الخزانة لوزة بيضاء جدًا، حين نفتحها نعيش تجربة البياض.
إنّ علب الجواهر، هذه التحف المعقدة التي أبدعها حرفيون مهرة، هي دلائل شديدة الوضوح على الحاجة للسرية، و على الحاسة الحدسية لأماكن الإخفاء. أمّا القفل فهو عتبة سيكولوجية.
تحتوي العلبة على أشياء لا تنسى بالنسبة لنا، بالنسبة لمن سوف نمنحهم كنوزنا. هنا يتكثف الماضي و الحاضر و المستقبل...فالعلبة هي ذكرى ما لا تعيه الذاكرة من الزمن. إذا كان هناك مجوهرات و أحجار كريمة في العلبة، فالإنسان يندفع إلى خلق رومانسية، لأنّ هذه الجواهر هي الماضي، الماضي البعيد، ماض يخترق الأجيال. فالجواهر سوف تتحدث عن الحب. بالطبع، و لكنها سوف تتحدث أيضا عن القوّة و القدر، و كلّ هذا أعظم بكثير من القفل و المفتاح!
بمجرد فتح العلبة ينتهي الجدل تماما. يلغي الخارج بضربة واحدة، و يسود جوّ من الجدّ و الدهشة، فلا يعود للخارج معنى. و حتى الأبعاد تفقد معناها، و ذلك لأنّ بعدا جديدا، هو بعد الألفة قد انفتح للتو.
فالخيال يزيد في حدّة حواسنا. إنّ انبعاث الخيال من موقعه، يؤسس للاستجابات الفورية المشكلة للانتباه. إنّ النشاط السريّ يمرّ دون انقطاع، من الإنسان الذي يخفي الأشياء، إلى الإنسان الذي يخفي الذات.
و هكذا حين أسمع في غرفتي في صبرة، جارا يدقّ مسمارا في وقت غير مناسب، فإنني أحيّد هذا الصوت، بأن أتصور نفسي في جنة الضباب، و أحوّل الدقّ إلى صوت القرع في الحديقة. بهذه الوسيلة أعيد الهدوء إلى نفسي.
و لهذا فإننا حين نعايش وضعا إنسانيا متأزما، نضع أنفسنا في المنبع الذي تنبثق عنه الثقة بالعالم، نتلقى بداية الثقة، و دافعا نحو الثقة الكونية.
فالحياة كلها في بذرتها الأولى هناءة. الوجود يبدأ بهناءة الوجود، حين يتأمل الفيلسوف مصاعب الإنسان و شقاه، فهو يبدأ في تأمل موضوع وجوده في إطار الوجود الهادئ للعالم.
شعور الإنسانية، مثل عالمها، لا ينتهي أبدا، فالخيال يساعدنا على المواصلة، لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يتخلى عن صورة عظيمة كهذه، و لنكون أدق، إنّ صورة كهذه لا تتخلى عن إنسانها، فقد كتب باسترناك يقول: " ... الإنسان بذاته أخرس، و الصورة هي التي تتكلم. لأنه من الواضح أنّ الصورة وحدها هي التي تستطيع أن تجاري الطبيعة ... ".
و هنا نخلص إلى الإنسان كإنسان، إنه وحيد و غير وحيد، اجتماعي و غير ذلك، و لهذا فإنّ من الطبيعي أنّ الحياة المنشئة للأشكال، قادرة على خلق الأشكال الحية.
و مرة أخرى، إنه الإنسان، يحلم حلم اليقظة، فيدرك أنّ الشكل هو بيت الحياة، كما قال شاربونيه لاسيه: " ...كانت المحارة بقوقعتها الصلبة، و الحيوان بداخلها الذي هي رمز القدماء إلى الإنسان روحا و جسدا. لقد استعمل القدماء القوقعة كرمز للجسد الإنساني الذي يحيط الروح بغلاف خارجي، بينما الروح هي التي تنشط الجسد كله تتمثل بالرخوية. لهذا قالوا إنّ الجسد يموت عندما تغادره الروح، مثل القوقعة التي تتوقف عن الحركة عندما يغادرها الحيوان الذي يعيش في داخلها ...".
فأحيانا تكون الصورة سلبية، لا تكاد تظهر، و لكنها على الرغم من ذلك مؤثرة، إنها تعبر عن عزلة الإنسان المنطوي على نفسه. و في أحيان أخرى تكتسب الصورة قوتها من تماثل كل أمكنة الراحة، فيصبح كل فراغ أليف قوقعة هادئة.
و أخيرا يا عرب، يا أركان الأمة الوسطى، كونوا إنسانيين قبل أن تكونوا أناسا، كونوا شاعريين قبل أن تهاجموا الشعراء و الفلاسفة، فإنسانية الإنسان في قدرته على الإفصاح عن مشاعره التي تختلج صدره الرحيم، و مكمن هشاشة العاطفة هو شوق الوجدان للمادة البائسة.