الإنسان كائن غيور بطبعه ، و لنا في هذا الشعور المر \الجميل تحققا آخر لإرادة الحياة بما هي تعني التوغل في الدنيوية و في حب الحياة و عيش لحظاتها بكليتها و جزئياتها ارتباطا بالآخر و تعلقا به، و شعور الغيرة منوط بالحب و معتلق به ، أي أنه مرتبط بأسمى المشاعر و أرق ما يحصل للقلب، فالحب باعث من بواعث الغيرة و هو أقواها لا شك لكنه ليس الوحيد، للغيرة بواعث عدة و طبائع مختلفة ، و قصص شتى في تراثنا الأدبي و الفقهي تكشف عن هذه البواعث ، و للمرء أن يجول في دهاليز التراث الأدبي على وجه الاختصاص ليكتشف زخم النصوص بخصوص الحب و مشاعره، فالجدود شُغلوا أيما شغل بالحب و الجنس و بما دار في فلكهما من مشاعر، و هم صنفوا في ذلك تصانيف شتى، لكن الدولة "المعاصرة" و بفعل توجهات معينة أفرزت لنا منظومات ثقافية مصكوكة تحجب هذا التراث و لا تظهر منه إلا جوانب مختارة لعلمها بثقل التراث و بأهميته عند المسلم ، و عموما لن يكون الهم هنا مرتبطا بتحليل واقع الغيرة في الفترة المعاصرة بل سنحاول الكشف عن تمظهرات هذه الغيرة في التراث الأدبي و الفقهي أساسا، و تجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن الكلام عن الغيرة في مصنفات القدماء لم يكن مباشرا بل جاء مشتتا في أضعاف ما كتب عن الحب بشكل عام فكان علينا أن نستقي الشذرات و نتتبعها في بعض هذه المصنفات ، و قبل أن نخوض الكلام في الغيرة لا بأس بأن نحيط بمفهومها لفظا و معنى.
1-ماهية الغيرة.
1-أ) المعنى المبسط:
يخبرنا صاحب التعريفات أن الغيرة هي"كراهة شركة الغير في حقه"{1} أي أنها شعور مكروه بالأساس لأنها تنشأ عن رغبة في امتلاك الشيء بعد سلبه من صاحبه و هي هنا تختلف عن الغبطة التي هي "عبارة عن تمني حصول النعمة لك كما كان حاصلا لغيرك من غير تمني زوالها عنه"{2} لأن"الغبطة في اصطلاح الفلاسفة أن تحسن حال المرء و تكمل سعادته و يدوم رضاه عما له من النعمة و هي عند أرسطو و الرواقيين و اسبينوزا حالة مثالية تقوم على تأمل الحقائق الأبدية"{3} هي حالة مثالية إذا عكس الغيرة التي هي حالة دنيوية و" ناقصة" بالأساس، تكون الغيرة من هنا حالة سيئة حسب تعريف الجرجاني ، لكننا لم نقصد إلى الغيرة في عمومها وإنما غيرة الحب، غيرة الرجل على المرأة و غيرة المرأة على الرجل ، و هنا يختلف المقام و يتبدل الكلام إذ تكون غيرة الحب مختلفة تماما عن غيرة أخرى، لأنها مطلوبة و مرغوبة ، بل هي دعامة أساسية لاستمرار الحب و امتداده في الزمن، لأن الباعث النفسي عليها هنا لا يكون حسدا بقدر ما يكون رغبة، و إن كانت الغيرة نابعة عن حب فهي إذا "باعثة نفسية مادتها المروءة و المحبة" {4} و اشتراط التخصيص بالمعنى هنا لا يتجاوز ما ذكرناه، لأن الغيرة على الأخ و الأخت و العم و الخالة ...إلخ تختلف في ماهيتها عن غيرة الحبيب علة محبوبه ، لأن الأولى يكون دافعها علاقة الدم و الوراثة و الثانية يكون دافعها الحب الأعمى الذي يعتمل في النفس ولا يعترف بأي قانون عقلي أو بيولوجي أو اجتماعي...إلخ.
1-ب) المعنى الفلسفي:
الغيرة مرتبطة في أساسها بالآخر، إنها شعور غير ذاتي لأن موضوعه خارجي بالأساس، لا يملك الإنسان زمام الشعور عندما يغار لأن القضية في عمومها لا تتعلق بقدرته هو على تغيير مسار الإحساس، بل القدرة كل القدرة بيد الآخر الذي هو موضوع الغيرة و طرفها الآخر الذي يكون باعثا على الغيرة بسلوكه، من هنا تعلق مفهوم الغيرة بمفهوم الغير بما هو تصور فكري " يُراد به ما سوى الشيء مما هو مختلف أو متميز منه و يُقابل الأنا"{5} ، و هو متعلق أيضا بمفهوم الغيرية ، أي بمعنى ما يقابل الهوية {6}، لأن الغيرة في مقاربتها الفلسفية تُطرح ضمن إشكالية الغير، أي ضمن علاقة ( الأنا\الجوهر) بالآخر المختلف و ما يترتب عن هذه العلاقة من مشاعر ضاغطة على الأنا كإحساس الخجل مثلا الذي سبق أن حلله سارتر ، و يكون للغيرة إذا سببا مفارقا و منه تكون شعورا نفسيا قهريا لأن مصدرها خارجي و لأنها خارجة عن سيطرة العقل لأن العقل ذاتي بدرجة أولى ...
1-ج) اللفظ:
" و الغيرة بالفتح. المصدر من قولك غار الرجل على أهله، قال ابن سيدة : غار الرجل على امرأته ، و المرأة على بعلها تغار غَيرة و غَيرا و غِيارا... و الغيرة هي الحمية و الأنفة و أغار على أهله: تزوّج عليها فغارت و العرب تقول: أَغيرُ من الحمى أي أنها تُلازم المحموم ملازمة الغيور لبعلها"{7} .
يُحيلنا تعريف ابن منظور على معان كثيرة منها الغيرة (بفتح الغين) و الغِيرة (بكسر الغين) التي تعني الدِّية و ما يُعطى تعويضا عن شيء ما، و منه رأينا أن اختلاف الشكل و المعنى ما أبطل إمكان التشبيه، لأن الغيرة بمعنى من المعاني هي دية الحب و ضريبته التي يدفعها المُحب ثمنا لذاك الشعور النبيل الذي يُنهك النفس و الجسد إذ يفرض على المرء "ما لا طاقة له به" و يدخله في مسالك الألم و العذاب و الثورة، و الثورة تكون نفسية بالأساس، ولا يفوتنا هنا أن نلاحظ أن تعريف ابن منظور لا ينفي الغيرة عن الرجل إذ يقول "غار الرجل على أهله" وهو أمر سيفرد له أصحاب المعجم الوسيط بتفصيل أكثر في تعريفهم إذ يعرفون الفعل غار كالتالي: غار الرجل على المرأة و هي عليه، غيرة : ثارت نفسه لإبدائها زينتها و محاسنها لغيره أو لانصرافها عنه إلى آخر، وثارت نفسها لمثل ذلك منه"{8} فهم لا يشترطون الغيرة في المرأة وحدها بل في الرجل أيضا، و هو أمر إيجابي لأن النفس البشرية واحدة في الجوهر، و ما يقع على نفس المرأة يقع على نفس الرجل دون تمييز بينهما إلا في ما أوجب التمييز مما يفرضه العامل البيولوجي و هو أيضا لا يجب أن يُعتبر تميزا بل مجرد تمييز للاستبيان لا غير.
بعد أن عرفنا الغيرة لفظا و معنى يكون الباب مشرعا أمامنا لنفتح القول عن المجال الذي تتموقع فيه الغيرة لنفهم طبيعتها التي تُعضد القول في معناها و بالتالي ماهيتها، فأين تتموقع الغيرة ؟.
1-د)تموقع الغيرة :
تتموقع الغيرة في النفس مثلها مثل كثير من المشاعر الأخرى، لأن الغيرة غير عارضة و غير مكتسَبة، أي أنها من جوهر الإنسان لأنها من نفسه، و ما يدفعنا للقول بذلك هو كونها شعورا ، أي خلُوُّها من المواصفات المادية التي قد تُدخلها في باب الأعراض، و بالرغم من أن " الكلام في النفس صعب و الباحثون غيبها و شهادتها و أثرها و تأثرها في أطراف متناوحة و للنظر فيهم مجال و للوهم عليهم سلطان"{9} إلا أننا سنفرد تعريف أبي حيان التوحيدي لها حتى نتلمس خصائصها التي عليها يكون قياس الغيرة بما أنها منها ، فما النفس؟
" ليست النفس بجسم لأن النفس نافذة في جميع أجزاء الجسم الذي له نفس و الجسم لا ينفذ إلى جميع أجزاء الجسم، ولا هيولى لأن النفس لو كانت هيولى لكانت قابلة للمقادير و العظم، وفائدة هذا أن النفس جوهر على طريق الضرورة"{10}.
طبيعة النفس تفرض إذا أنها ليست مادة أولية (هيولى){11} ، وهي أيضا ليست بجسم و منها الغيرة فهي في حكمها أيضا، الغيرة جوهر إذا لذلك فهي فعل طبيعي إذ لا تتعلق بقدرة الشخص أو عدم قدرته على ضبط نفسه، وهي أيضا لا تتعلق بشَرّ الإنسان أو خيره ، فالحكم الأخلاقي لا يجب أن يستهدف الغيرة لذاتها بقدر ما يمكن أن يتوجه إلى تقييم السلوك النابع عن الإحساس بالغيرة، إنما يمكن أن يُؤخذ على الغيُور ليس شعوره بالغيرة و إنما الأفعال التي يقوم بها نتيجة للغيرة ، ومن هنا يستدرجنا الحديث إلى مفهوم سيكولوجي بالأساس هو مفهوم الغيرة المرضية في مُقابل الغيرة الطبيعية لأن كلاهما يتحقق على مستوى السلوك. فما المقصود بالغيرة المرضية أولا؟
2-نوعا الغيرة:
2-أ) الغيرة المرضية:
منذ القديم وعى الأُدباء و الفقهاء خطر الانحراف في الشعور بالغيرة فرأينا الجاحظ يقول في "رسالة القيان" ص 158" ألا ترى أن الغيرة إذا جاوزت ما حرّم الله فهي باطل"، ما حرّم الله في الشرع الديني هو ما نفسه الذي حرَّمه القانون الأخلاقي الفلسفي حين دعا إلى "تهذيب الأخلاق" ضد منازعات النفس النزوعية التي تجنح و بشكل أناني إلى الهوى بما هو " ميلان النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع"{12}، لقد أدرك الفقيه و رجل الأدب أن الشعور النفسي هو أخطر ما يؤثر في الناس و في سلوكياتهم لذلك تجنّد الفقهاء للجم النفس " الأمارة بالسوء" من خلال العمل على تأوّل النصوص لما فيه " حفظ النفس" من التلف ، ولعلنا نفهم دافع الفقهاء إذا عُدنا إلى كتب الأدب القديمة و استجلينا أخبار الغيرة فيها، لأنها تُعتبر في نظرنا مُدوَّنة قيِّمة تدعم الغاية من التشريع للجم النفس، ولا بأس في تفحص نماذج قليلة من هذه الأخبار التي جاءت مُفرَّقة في كتب الحب التي أسست لنظرية الحب عند العرب:
2-أ)₁-نماذج سلوكية للغيرة المرضية:
يُخبرنا الشيخ أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج القارئ في مُصنفه "مصارع العشّاق" تحت عنوان "يقتل جاريته بريبة"، يخبرنا عن رجل قتل ابنة عمّه التي يُحبها لأنّها نادمت غيره و صدقته القول بذلك ( اعترفت له)" فسلَّ سيفه فضرب عنقها و قتل أمّها و هرب"{13}، و يُخبرنا صاحب " الأغاني" أن الشاعر المعروف ديك الجن قتل زوجته شكّا في خيانتها " فاخترط سيفه فضربها حتّى قتلها"{14}.. وحدّثنا ابن الجوزي عن رجل قطَّع جسم زوجته لأنها جامعت رجلا آخر أعجبها ، فلمَّا سألها زوجها " هل أصابك ؟ قالت: نعم، والله ما شملت النساء على مثله قط ، فلطمها ثم أمر فوُثِّقت بين فرسين ثمَّ أحضرهما حتّى تقطَّعت"{15}..
ومن الغيرة المرضية أيضا ما رُوي عن سعد بن عُبادة أنّه قال لمحمد بن عبد الله: يا رسول الله أرأيت إن وجدت رجلا مع امرأتي أُمهِله حتّى آتي بأربعة شُهداء؟ فقال النبي : نعم، فقال و الذي بعثك بالحق إن كُنت لأضربه بالسيف غير مُصفح ، فقال محمد: " ألا تعجبون من غيرة سعد لأَنا أغيرُ منه و اللهُ أغيرُ منّي"{16}
من الواضح جدا أن ردة فعل الزوج ( الذكر) تتسم بنوع من الغلو المرضي المُنبني على أساسات دينية بدرجة أُولى، كالقول بتلوث الشرف و ما إليه، و الإنسان السَّوي (إذا كان موجودا) لا يقبل الخيانة أبدا لأنها ضرب في كرامته و في شخصه و تنقيص له من قبل الحبيب أو الشريك الزوجي، لكن هذا الإنسان حتى إن اكتشف الخيانة فهو لن 'يقطع' جسد امرأته أو يضرب عُنُقها إن كان سويا فعلا، قد يُوقف علاقته بها أو يتطالقان إن كانا متزوجين بسبب الأذى النفسي الذي تسببت فيه الخيانة دونما حاجة إلى الذبح و السلخ أو الرجم حتى الموت الذي امتازت به تعاليم ديانتنا السمحة والجميلة .. من الواضح أيضا في تضاعيف هذه الأخبار أن فعل الغيرة هنا يقع على الرجل أيضا عكس ما يفترضه البعض من كون المرأة وحدها تغار على " بعلها" ، فقد سبق أن أشرنا إلى أن هذا ضرب من الوعي المغلوط، فالزعم القائل بقوة الرجل و باستعداده الطبيعي لتجاوز الغيرة عكس المرأة هو زعم ناتج عن بطريركية (أَبوية) المجتمع الإسلامي الدكوري الذي طالما اعتبر أن "للرجل على المرأة درجة" و أن الله فضله عليها {17}،
و قد ذهب بعض " المُعاصرين" إلى أن المرأة تغار لأنها تشعر برغبة في هزيمة ذاتها ليكون" كل سلوكها يتميز بإيذاء نفسها ...و هزيمتها" و ساعتها " تُصبح عدوة نفسها و ترتكب حماقات من أجل أن تجرحه (الذكر) و تُضايقه و هي تعلم أنها ستفقده بهذا الأسلوب لكنّها تندفع و تتمادى ولا تستطيع أن تمنع نفسها، لقد تعلّمت أن تكره نفسها حين تعرّضت للنّبذ و التّرك و الحرمان"{18}، وهو كأجداده من الفقهاء لا يعرض للغيرة إلاّ باعتبارها شعورا نسائيا بامتياز ، فما ينطبق على المرأة من دوافع الغيرة لا ينطبق على الرجل و قد عدّ الدوافع في: حب السيطرة \ الأنانية \ الشعور بالنقص \ الخوف \ هزيمة الذات \ البارانويا {19} وكل هذه الدوافع لا تحصل إلا عند المرأة لتُصبح إنسانة " انهزامية تُعادي نفسها ولا تستطيع أن تتوقف عن إيذاء زوجها أو حبيبها حتّى تفقده تماما، إنه نوع من الانتحار العاطفي"{20} واضح جدا أن المسلم لم يستطع التخلص بعدُ من عقليته الذكورية التي يُحاول أن يُضفي على نزوعاتها السلطوية الساذجة نوعا من المصداقية العلمية، إذ يتحدث الفقيه القديم عن نزوع النفس عند المرأة نحو الهوى، و يتحدث الفقيه المعاصر( الباحث) عن أسباب سيكولوجية ترتبط بعاطفة الأنثى و ببنيتها الجسدية المُرهفة و التي تنعكس على سلوكها، و كلاهما يتصرفان عن لا وعي لأجل الحفاظ على "الامتيازات الربانية" التي وهبها لهم الله على النساء، إذ لا تنزل المرأة منزل الرجال " بسبب تفضيله ( الله) الرجال عن النساء بكمال العقل و حسن التدبير و مزيد من القوة في الأعمال و الطاعات، لذلك خُصُّوا بالنبوة و الإمامة و الولاية و إقامة الشعائر و الشهادة في مجامع القضايا ووجوب الجهاد و الجمعة و نحوها و التعصيب و زيادة السهم في الميراث و الاستبداد بالفراق"{21}
هكذا يفكر العقل الذكوري الإسلامي في علاقة الرجل بالمرأة، لذلك فليس غريبا أن نرى الرجل ينسب الغيرة إلى المرأة فقط و ينزّه نفسه، لكن حقيقة الغيرة المرضية لا ترتبط بجنس الغيور رجلا كان أو امرأة، فما يؤدّي إلى غيرة شخص ما ليس طبيعة في نفسه هو، بل هي ظروف خارجية ترتبط بالآخر الذي يبعث على الغيرة، و قد أشرنا إلى ذلك في المعنى الفلسفي للغيرة ، إنها ترتبط بعامل خارجي عن الذات لذلك لا يجوز أن نربطها بالمرأة فقط بل هي سلوك بشري في عمومها، أما عن فكرة تفوُّق الرجل عن المرأة التي تُعتبر الدافع الأساسي لمثل هذه المزاعم فهي فكرة مغلوطة تماما، يكذبها الواقع الحالي الذي يفرض مشاركة المرأة في المجمع العصري في شتى المجالات ، الرجل لا يتفوّق على المرأة بسبب بيولوجي أو العكس بل هما لا يتفوقان على بعضهما إلا بمجهودهما و عملهما، ثم إن العلاقة بين الرجل و المرأة لا تُبنى على أساس المُقارنة ، هذا أذكى و هذا أقوى ...إلخ وإنما تُبنى على التكامل، فكون الرّجل و المرأة مُختلفان بيولوجيا لا يفرض تنافرهما بل إن " التكامل لا يكون إلا بين مختلفين، وكل عنصرين يتكاملان ينتج عن تكاملهما اكتساب كل منهما صفات لا تكون له بمفرده مع احتفاظه في الوقت نفسه بالصفات التي ينفرد بها عن سواه"{22}
و ما إن نُقرَّ بهذا التكامل و هذه المُساواة الضرورية في المجتمع الحداثي بقيمه العلمانية حتى نعدل عن الآراء التي تحقّر المرأة و تضعها في مرتبة ثانية بعد الرجل، و بالتالي نعتبر أن كل ما يستلزمه هذا الموقف الشوفيني- الديني فهو لاغ لا أساس له من الصحة بما في ذلك الأحكام الاعتباطية التي تطلق على نفسية المرأة فتعتبرها أكثر ميلا للهوى و أكثر استسلاما "لمعصية الشعور بالغيرة" ، فشعور الغيرة لم يرتبط في أي مرحلة من مراحل التاريخ بالمرأة فقط بل إنه طالما كان شعورا إنسانيا على وجه العموم، و الغيرة و إن اعتُبرت عند القدماء ضرورة (الغيرة على الله و على الشرف..) أو اعتُبرت مطبة و نقصا فنحن لا نحكم عليها كشعور، و إنما كسلوك لأن السلوك هو ما يحدد طبيعتها و مدى مقبوليتها أو عدمها، فهي إن أدت إلى ردود فعل كالتي رأيناها في بداية الفقرة فإنها ولا شك غيرة مرضية أما إن لم يرافقها العنف الهمجي فهي تكون ساعتها غيرة طبيعية ، لكن ما هي هذه الغيرة الطبيعية ؟
2-ب) الغيرة الطبيعية:
" القول الجامع في آداب المرأة أن تكون قاعدة في قعر بيتها لازمة لمغزلها، لا يكثر صعودها و طلوعها..وأن تحفظ بعلها في غيبته..إلخ"{23}
في تراثنا الفقهي يصدر التقويم السلوكي للمرأة دائما عن الرجل، وهذا السبب كاف للكشف عن غيرة المسلم الزائدة و الفادحة ارتباطا بثقافته الدينية التي تنص على امتلاك المرأة " ما ملكت أيمانكم" و الاستحواذ عليها بشكل لا تصير فيه مُستقلة بشخصيتها ، وهو إن يكشف عن النزعة التّملكية الذكورية فهو في الآن ذاته يفضح غيرة الفقيه و منه المُسلم الذي يتخذ الفقيه نموذجه المثالي في السلوك، و يتمادى( الفقيه\ الغزّالي) في تقنين سلوك المرأة إلى القول " وإن استأذن صديقٌ لِبَعلها على الباب و ليس البعل حاضرا لم تستفهم و لم تُعاوده الكلام غيرة على نفسها و بعلها"{24}...حتى السؤال عن الطارق غير جائز لأن صوتها "فتنة" وصوت المرأة لا يجب أن يرتفع كما أخبر الرسول الكريم أتباعه، هكذا تتبلور غيرة الرجل على امرأته في تقينين السلوك و التشريع له استنادا إلى المجهود الفقهي المرتكز على النص الديني، وهذه حتما غيرة هوسية ، غيرة ناتجة عن خوف و شك ظني، بل أكثر من ذلك عن هوى و نزوع ذاتي لا موضوعية فيه، وهنا تكون "البارانويا" التي نُسبت إلى المرأة كدافع من دوافع الغيرة ، تكون حالة ذكورية بالأساس و ربما كانت في الرجل كما في المرأة على حد السواء، لكن الرجل- ولأنه المشرع وصاحب الشرع- يجد لغيرته تخريجات أوّلها الحديث في طبيعة المرأة التي " تُعتبر الخيانة من جوهرها" و ثانيها النص الديني الذي يُلزم المُسلم بسلوك مُعيّن اتجاه المرأة،أو حتّى إن لم يكن يُلزمه فهو يجيزه له بمحكم التنزيل و بالنص الواضح، لكن هل يفرض هذا أن التاريخ الأدبي ينساق مع التاريخ الفقهي في هذه النُّقطة؟
الغالب أنه لا يتساوق معه ولا يوافقه في المسألة، إن ما يُميّز مسار الأدب العربي في تشكّلاته خاصة في عصور التحضرالأولى (العصرين العباسيين على الخصوص) هو خاصية الانفتاح و سعة الأفق فيما يتعلّق بعلاقة الحب و ما يتتبعها من مشاعر، ولنا في تاريخنا الأدبي نماذج سلوكية كثيرة تُخالف المعهود الفقهي المتزمت.
2-ب)²-نماذج سلوكية للغيرة الطبيعية:
عن سفيان الثوري عن حمّاد بن إبراهيم عن عبد الله قال:"إن الله عز وجل ليغار للمسلم فليغر"{25}، ليست الغيرة الطبيعية ضد الغيرة المرضية في المبدأ فقط بل في السلوك أساسا، إن السلوك الناتج عن شعور الغيرة هو ما يُحدد طابعها و الخانة التي تُوضع ضمنها ، و تأسيسا عليه تتحدد حدّتها، و من جميل الغيرة أن ينسحب الرجل أو المرأة كُليّا لأجل حفظ كرامة النفس أو الاكتفاء بالمعاتبة دونما لجوء إلى سلوك مُنحرف، و لنا فيما أخبره أبو الطيب الوشّاء عن ابن الزبير مثال جيّد ، إذ جاء نُصيب إلى بيت خُلته فلمّا وجد عندها رجلا آخر غادر البيت دون أن يعتب عليها فلمّا قالت له:" ألا تبوء عندنا يا أبا محجن كعادتك " أجاب شعرا :
أراك طموحة العين طارفة الهوى \\ لهذا وهذا منك وُدٌّ مُؤَالَفُ
فإن تحملي ردفين لا أكُ منهما \\ فجيئي بفرد إنّني لا أُرادفُ {26}
لقد انسحب نُصيب اعتزازا بكبريائه و بغيرته ، لكنه لم يقم بأي سلوك دموي عكس مُعظم النماذج التي تُطرح في كتب الفقه حينما يكون الحديث عن خيانة المرأة، فالغيرة لا تفترض العنف كمبدإ إلزامي إلا عند غياب العقل و غلبة النزوع على النفس حتى تُرتكب الجرائم البشعة..بل إن الغيرة ليست بالضرورة شعورا مُنافيا للحب قد تكون دعامة لهذا الحب تقويه و تربط بين طرفيه بوثائق أكثر متانة إذا ما وعاها طرفا الحب وعيا قويما.
و من نماذج الغيرة السليمة أيضا ما أخبره داود الأنطاكي عن بهاء الدين زُهير الشاعر إذ يقول: " غير أنّي لم أر من غاص على لطائف هذا المعنى و تظرّف في هذا المبنى ألطف من بهاء الدّين زهير حيث غار من التّلفُّظ بالحروف التي في اسم محبوبه فلله درُّه من غائص على نفائس الجواهر الفكرية و مُستخرج لها من بحور الأذهان إلى بُحور الألفاظ الرّسمية و ذلك قوله:
و أنزِّه اسمك أن تمُرَّ حُروفه \\ من غيرتي بمسامع الجُلاُّسِ
فأقول بعض الناس عنكَ كناية\\ خوف الوُشاة و أنتَ كُلُّ النّاسِ {27}
إن تناول الغيرة في الأدب ليس هو نفسه في الفقه ، فالأدب لا يُشرّع أحكاما للغيرة أو للخيانة بشكل مُباشر و لا يُحدّد سلوكيات بعينها كردود فعل على الغيرة و الخيانة بل يؤثر على المُتلقي بلطيف اللفظ إذ يُهيّجُ ذائقته الفنية ( متوسلا بالشعر غالبا)، فهو من جهة يُنفّر القارئ في الانتقام إذ يذكر نماذج وحشية لسلوك الرّجل الغيور، ومن جهة أخرى يُحبب هذا القارئ في السلوك بكبرياء و أنفة و تعقل إذ يفرد لقصص مُشابهة لقصّة الشاعر بهاء الدّين زهير ، ولعل هذا هو جوهر الغيرة الطبيعية ، أعني السلوك المُّتعقل الذي لا ينفي الغضب و الثورة على موقف الخيانة، لكن في الوقت ذاته يُؤدي إلى التصرف باتّزان إزاء موقف الخيانة، إذ ولّى العصر الذي تُقاس فيه البطولة و الشجاعة بقطع الرؤوس و سفك الدّماء و استعراض العضلات الذكورية على النساء، لقد أصبحت القوانين المدنية و القيم الفلسفية تحل محل المفاهيم الدينية كشرف الرجل أو القبيلة و ما صاحبها من بواعث العنف... و الكبرياء في عمومه و بوجهه الإيجابي يفرض أن يكون الانسحاب هو أنبل ردّة فعل على سلوك الخيانة، أمّا الغيرة التي تنبع عن فهم و لا تكون في مُطلقها نابعة عن عاطفة جامحة فهي أكثر أشكال الغيرة اتّزانا و طبيعية، إذ إن الإنسان عموما لا يستطيع كبح جماح شعور الغيرة، لكنه و بالمقابل مُلزمٌ بتقنين هذا الشعور القهري و بحسن الاستجابة له و التعامل معه، فلا ضير أن يغار المرء، لأن الذي يغارُ هو لا شك شخص مُرهف الحس ورومانسي لكن و كما أكدنا على أساس أن تكون غيرته طبيعية و يكون رد الفعل عليها متزنا...
و تاريخ الإسلام بل تاريخ الأديان مليء بقصص الغيرة التي لم يستنكرها الرّسُل ولا اعتبروها مُحرّمة أو مكروهة حتى ، فرسول الإسلام ذاته كان غيُورا بحسب الحديث الذي يذكره ابن القيم الجوزية في سياق حديثه عن الغيرة، إذ يخبرنا أن الرسول دخل على زوجته مارية القبطية فوجد عندها نسيبا لها قدم مصر فأسلم، وكان كثيرا ما يدخل على أم إبراهيم (مارية) و قد جَبَّ نفسه{28} فقطع ما بين رجليه حتّى لم يبق قليل ولا كثير، فدخل الرسول يوما عليها فوجده عندها "فوجد في نفسه من ذلك شيئا كما يقعُ في أنفاس النَّاس الناس فخرج مُتغيّر اللون، فلقيه عمر بن الخطاب فعرف ذلك في وجهه فقال: يا رسول الله أراك مُتغير اللون، فأخبره ما وقع في نفسه من قريب مارية فمضى بسيفه (عمر) فأقبل يسعى حتى دخل إلى مارية فوجد عندها قريبها ذلك فأهوى بالسيف ليقتله ، فلما رأى ذلك منه كشف عن نفسه فلما رآه عمر رضي الله عنه رجع إلى رسول الله(ص) فأخبره ، فقال(ص): إن جبريل أتاني فأخبرني أن الله عز وجل قد برّأها وقريبها مما وقع في نفسي ، و بشرني أن في بطنها غُلاما و أنه أشبه الخلق بي و أمرني أن أسمّيه إبراهيم"{29} لاتهمنا غيرة الرسول محمد إلا من باب التأكيد على كون الغيرة سلوكا طبيعيا، و لا يهمنا هنا سلوك عمر(الفاروق) الذي هم بقطع رأس قريب زوجة الرسول إلا بالقدر الذي يكون فيه نموذجا للغيرة غير الطبيعية التي تقود إلى الدماء مُباشرة ، إن ما يهم في إدراج هذا الخبر هو تأثيره القوي على المُسلم الذي يجب أن يفهم أن الرجل يغار مثله مثل الأنثى و أن الغيرة ليست شعورا غبيا يجب أن يعاقب المرء نفسه لأنه أحس به و أن يندم أشد الندم عليه ، إنه شعور طبيعي مادام لا يؤدي إلى ردود فعل شاذة كردة عمر الذي كاد أن يقتل رجلا بريئا ... وفي السياق ذاته يُحدثنا بن كثير عن غيرة زوجة الرسول في سياق شرحه للآيتين 128\129 من سورة النساء ،يقول:
" لمّا كبُرت سودة بنت زمعة عزم رسول الله (ص) على فراقها فصالحته على أن يُمسكها و تترك يومها لعائشة، فقبل منها ذلك و أبقاها على ذلك و توفّى عن تسع و كان يقسم لثمان"{30} و بغض النظر أيضا عن المضمون اللاأخلاقي لسلوك التخلي عن امرأة لأنها لم تعد شابة، فإن ما يهمُّنا هنا هو شعور زوجة الرسول سودة بالغيرة لدرجة أنها تخلت عن حقها في الحياة الجنسية كي تبقى زوجة للرسول فلا يتخلى عنها.
تخليص/تلخيص:
" إن الغيرة على المحبوب هي أنفة المُحب و حميّتُه أن يُشاركه في محبوبه غيره"{31} و هي شعور مرٌّ ، لكن ذلك لا ينفي إمكانية الجمال فيه إذا لم يتجاوز بعده الإنساني ، إذ إن الغيور هو أكثر الناس إنسانية لأنه يتصرف وفق القانون الطبيعي الذي زوّد الإنسان بانفعالات و مشاعر مُتضاربة و مُتعدّدة ، لكن هذه الغيرة إن هي أرادت أن تظل إنسانية برغم مرارتها عليها ألا تتجاوز حدودا معينة، ألا تخرق قدسية الحق في الحياة لتصرف نفسها عبر أشكال العنف الدموية المتمثلة في جرائم الشرف التي تكون المرأة ضحيتها دائما في مجتمعاتنا، على هذه الغيرة أن تتجنب شتّى أشكال الانحطاط التي يتلقّفها الإنسان من الخطابات المتعصّبة و المتزمّتة و من الثقافة الشعبية التافهة لتسمو إلى مصاف المشاعر الراقية التي يبعثها الحب في نفوسنا، الحب بما هو أسمى شعور عرفه الإنسان و بما هو خير لا يجب أن نحوله إلى سلوك شرير يؤذي الآخرين و ينال من حقهم في الحياة.
محمد البوعيادي/ طالب الأدب العربي بالمدرسة العليا للأساتذة- مكناس.
الهوامش:
{1} الجرجاني، التعريفات،ص 111، باب الغين، نسخة مكتبة مشكاة الإسلامية .
{2} الجرجاني، نفسه ص 109.
{3}جميل صليبا، المعجم الفلسفي، الجزء1، باب الغين ص 125، دار الكتاب اللبناني.
{4}داود الأنطاكي، تزيين الأسواق في أخبار العشاق، فصل في مراتب الغيرة، ص 275،مكتبة المصطفى الإلكترونية .
{5}المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، باب الغين ص 133، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية ، 1973.
{6} نفسه، ص 134.
{7} ابن منظور، لسان العرب، باب الغين، فعل غير( بفتح الياء)
{8}المعجم الوسيط ، الجزء 1، باب الغين ص 688، المكتبة الإسلامية للطباعة و النشر و التوزيع، اسطنبول – تركيا.
{9} أبو حيان التوحيدي، الإمتاع و المؤانسة، الليلة الثالثة عشر، مكتبة المصطفى الإلكترونية. {10} الإمتاع و المؤانسة، الليلة ذاتها.
{11} " الهيولى لفظ يوناني بمعنى الأصل و المادة، و في الاصطلاح: هي جوهر في الجسم قابل لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال و الانفصال محل للصورتين: الجسمية و النوعية" التعريفات، باب الهاء ، ص 173.
{12} التعريفات،باب الهاء، ص 172.
{13} السراج القارئ،مصارع العشاق،المجلد الأول ص 70، دار صادر، بيروت .
{14} تهذيب كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ص464، تهذيب و تحقيق عبد العزيز جمال الدين طاهر، مكتبة الإيمان،المنصورة( الطبعة غير مذكورة).
{15} بن الجوزي، أخبار النساء،مكتبة مشكاة الإلكترونية ( وقع خلاف في تحقيق الكتاب إذ اعتبره د.نزار رضا لابن القيم الجوزية، لكن واضعي النسخة الإلكترونية يتبثونه لابن الجوزي و هم في ذلك يتفقون مع د.محمد حسن عبد الله صاحب كتاب "الحب في التراث العربي" .
{16} ابن القيم الجوزية، روضة المحبين و نزهة المُشتاقين،ص 214 الطبعة الثالثة، دار الكتب العلمية، بيروت ، 2003.
{17} محمد بن عبد الله، القرآن، النساء ، الآية 34، الربع الأول ص 62، دار المُصحف – القاهرة.
{18} عادل صادق، الغيرة و الخيانة،ص 12، دار الشروق، الطبعة الأولى 1993.
{19} البارانويا: مرض نفسي يتعلق بالشك الظني و بالتوجس في كل شيء بوتيرة تكون غير طبيعية، يتخوف المصاب بالبارانويا من القيام بخطوات بسيطة بالنسبة للآخرين.
{20} الغيرة و الخيانة، ص 28.
{21} البيضاوي، أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ص 217، دار صادر، الطبعة الأولى 2001، بيروت.
{22} علي حرب، الحب و الفناء:تأملات في المرأة و العشق و الوجود، ص 44، الطبعة الأولى 1990، دار المناهل.
{23} أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، الجزء الثاني ص 66، دار الريان، القاهرة 1987. {24}أبو حامد الغزالي، نفسه ،ص 66.
{25} ذكره السيوطي في الجامع الصغير عن رواية ابن مسعود ( نقلا عن ابن القيم الجوزية) {26} أبو الطيب محمد بن إسحاق بن يحيى الوشّاء، الموشّى 46، مكتبة المصطفى الإلكترونية.
{27} داود الأنطاكي، مرجع مذكور ص 275.
{28} جبًّ نفسه : أي استأصل خصيتيه وتقول العرب: أصبح عنينا أي عاجزا جنسيا بسبب الإخصاء.
{29} ابن القيم الجوزية، مرجع مذكور ص211.
{30} ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، الجزء 1 ص 600، الطبعة الأولى 1983، دار يوسف، بيروت.
{31} ابن القيم الجوزية، مذكور ص 209.