تقديم: في هذه المقالة تعرض ليليان فينسلبر، و هي كاتبة و محللة نفسانية، الخطوات الأولى في طريق تعامل جاك لاكان مع لسانيات صوسير، و ابتكاره مصطلحا جديدا هو مصطلح "الألسونية" يتناسب مع التحويل أو القلب الذي قام به للإشكالية اللسانية الصوسيرية ضمن حقل التحليل النفسي. و لعل أهم ما يحسب للكاتبة فنسلبر هنا هو تتبعها للخطوات الأولى هذه لجاك لاكان انطلاقا من مواجهة استعاراته الأولى حول علاقة الدال بالمدلول باستعارت دي صوسير، مزيحة بذلك الكثير من الغموض بشأن العلاقة الملتبسة للمفكر و المحلل النفسي الشهير باللسانيات.
تجدر الإشارة إلى أن النص مقتطف من الموقع الجميل و الممتع للكاتبة فنسلبر( أنظر الرابط)، بتزكية منها، و بوعد قطعته لنا على أن تنشر قريبا تتمة لمقالتها هذه (المترجم)
-----------------------
عندما كان جاك لاكان منكبا، خلال حلقته الدراسية التي تحمل عنوان " البنيات الفرويدية للأذهنة" سنة 1956، عندما كان منكبا على تحليل الهذيان الكبير لشريبر، من خلال التأكيد على شكلي اضطرابات اللغة عند هذا الأخير، استحضر، لأجل وصفهما، أعمال دي صوسير حول الدال و المدلول، و خاصة حول العلاقات التي بإمكان هذا الدال و هذا المدلول أن يعقداها فيما بينهما.
بإمكاننا أن نكتشف هنا الخطوات المبكرة لجاك لاكان، التي كانت ما تزال خطوات غير يقينية، بل مترددة، لكنها كانت مع ذلك خطوات حاسمة، بشأن ما سيطلق عليه لاحقا مصطلح " الألسونية" linguisterie. اختار لاكان هذا التعبير ليخصص من خلاله الاستعمال الخاص للسانيات، ذلك أنه لم يكن ليقوم بتحويل المقاربة الصوسيرية للدال و المدلول إلى حقل التحليل النفسي إلا من خلال إجراء بعض التعديلات عليها.
سيكون من الصواب إذن، حتى نقيس بدقة ما استعاره لاكان من صوسير، أن ننكب بدءا على "درس في اللسانيات" لدي صوسير، و هو الدرس الذي تجدر الإشارة إلى أنه لم يكن قد كتب بريشة هذا الأخير، و إنما بريشة بعض تلامذته.
و يمكننا بالمثل، انطلاقا من خطاطات صوسير التي أعتبرها، إذا جاز القول، خطاطات ناطقة، أن نبدأ في استنتاج الخطوط الأولى للرسم البياني للرغبة، و تحديدا الخطاطة التالية المسماة دورة الكلام:
الاستماع و الإصاتة:
هذه الخطاطة تنصب على " دورة الكلام" بين متحدثين (A) و (B) يتبادلان الكلام بينهما. يصف صوسير أيضا هذه الدورة قائلا: " توجد نقطة انطلاق الدورة في دماغ أحد المتحاورين، مثلا انطلاقا من (A)، حيث توجد أفعال الوعي، التي سنطلق عليها مصطلح "مفاهيم"، مقترنة بتمثلات العلامات اللسانية أو الصور الأكوستية ( الصوتية) الصالحة للتعبير عنها". يمكننا هنا أن نقطع هذا الوصف لنلاحظ أن هذه الخطاطة المسماة خطاطة دورة الكلام تدرجنا على التو داخل هذين المصطلحين اللسانيين، المصطلح الأول الذي يسمى مفهوما أو مدلولا، و الثاني الذي يطلق عليه أكوستي أو دال.
غير أننا إذا نحن واصلنا وصف هذه الدورة الخاصة بالكلام، يمكننا أن نلاحظ كيف تشتغل على التو إحداها مع الأخرى: " لنفترض أن مفهوما ما يفجر داخل الدماغ صورة أكوستية مطابقة له: إنها ظاهرة نفسية بالكامل، متبوعة بدورها بعملية فزيولوجية: يرسل الدماغ إلى أعضاء الإصاتة حافزا مترابطا مع الصورة. ثم تنتشر الأمواج الصوتية من فم (A) إلى أذن (B): يتعلق الأمربعملية فيزيقية خالصة. و تمتد الدورة بعد ذلك بشكل عكسي من الأذن إلى الدماغ: إرسال فزيولوجي للصورة الأكوستية؛ ترابط نفسي داخل الدماغ لهذه الصورة الأكوستية مع المفهوم المطابق". لا يتبقى الآن إلا أن يرد المتحدث (B)، لكي يتجدد إذن فعل الكلام هذا بشكل عكسي من (B) إلى (A)".
يمثل دي صوسير دورة الكلام هذه على الشكل التالي:
المدلول على الدال، الألغورتم الصوسيري
يمكن إقامة الترابط دال/ مدلول، على هذه الخطاطات الصوسيرية، بمعنى مزدوج. المدلول هو الذي يسبق الدال تارة، حينما يتعلق الأمر بضمان الإصاتة، أو إرسال الكلام، و الدال هو الذي يسبق المدلول تارة أخرى بوصفه (أي الدال) شرطا للاستماع في هذه الدورة الخاصة بالكلام. و الأسهم المزدوجة بين c و i ، بين المفهوم و الصورة الأكوستية تتيح لنا معرفة هذا الأمر.
مجموعة أخرى من الخطاطات توضح ذلك بدقة:
أسبقية الدال على المدلول:
يبدو جليا إذن أنه يوجد منذ البداية اختلاف في المقاربة بين صوسير و لاكان فيما يخص الصلات الموجودة بين الدال و المدلول. و بالفعل هناك عند لاكان أسبقية للدال على المدلول. و هذه
الأسبقية هي التي تبرر بلا شك كيف أنه تجرأ على قلب نظام الألغورتم الصوسيري: عوض المدلول على الدال الذي اقترحه صوسير، يكتب لاكان بالفعل شيئا معاكسا هو الدال على المدلول. هل بإمكاننا العثور على أي أثر لهذه الأسبقية للدال على المدلول في نص صوسير؟ أجل. يكفي لأجل ذلك متابعة الوصف الذي يقدمه صوسير للعناصر التي تشتغل في فعل الكلام هذا بين متحاورين. يستلزم هذا الفعل بالتأكيد أن يكون للاثنين معا بشكل مشترك دال و مدلول، بحيث يكون بإمكان أحدهما أن يسمع و بالأخص أن يفهم ما يقوله له الآخر. و فضلا عن الشخصين المتبادلين للكلام إذن، يقوم صوسير بإدراج ما يسميه بـ " الحقل الاجتماعي".
يكتب: " سوف يتحقق بين كل الأفراد المرتبطين هكذا باللغة نوع من المعدل العام: كلهم سوف يعيدون إنتاج - ليس بشكل مضبوط بلا شك، و لكن بشكل تقريبي- نفس العلامات موحدة مع نفس المفاهيم.
ما هو أصل هذا التبلور الاجتماعي؟ أي جزء من أجزاء الدورة يمكن أن يكون السبب في حصوله؟ [...] إن تشكل آثار تستطيع أن تغدو متشابهة بشكل ملموس لدى جميع الذوات المتكلمة، إنما يتحقق بواسطة اشتغال القدرات المتلقية و التنظيمية لدى تلك الذوات. بأية كيفية يجب تمثل هذا المنتوج الاجتماعي حتى تبدو اللغة مستخلصة بالكامل من الكل الباقي؟ إذا كان بوسعنا أن نطوق مجموع الصور اللفظية (و بالتالي مجموع الدالات) المخزنة ، عندئذ سوف يكون بوسعنا أن نلمس الصلة الاجتماعية التي تشكل اللغة. يتعلق الأمر بكنز تضعه ممارسة الكلام داخل الذوات المنتمية إلى نفس المجموعة، حيث يوجد نسق نحوي بشكل افتراضي داخل كل دماغ، أو بشكل أكثر دقة داخل أدمغة مجموعة من الأفراد".
انطلاقا من هذه المقاربة الصوسيرية للـ " آثار" التي تتركها اللغة الأم على الذوات المتكلمة، يمكننا أن نعاين من الآن على الرسم البياني هذا المكان الخاص بالآخر الكبير Autre الذي يطلق عليه لاكان " كنز الدوال". كما يمكننا أن نقف على السبب في أسبقية الدال على المدلول، ذلك أن اللغة قبل أن تتمكن من التحقق في الكلام يكون عليها أن تٌسمَع أولا. عندما يولد الطفل يجد نفسه داخل حمام من اللغة؛ أمه و المحيطون به هم من يمدونه بهذه اللغة.
رجال و نساء
لا يكتفي لاكان بقلب نظام الألغورتم الصوسيري رأسا على عقب، حين يحل محل المدلول على الدل، الدال على المدلول، و لكنه فوق ذلك يقايض مثال الشجرة بمثال التدوينين الذين يشيران دائما في حضاراتنا إلى المراحيض العمومية، الشاهدة على الفصل البولي (من البول) بين الجنسين".
ما الذي يريد البرهنة عليه من خلال ذلك؟ إن حضور هذين الدالين يبرهن من غير شك على إمكانية تعويض و بالتالي ابتكار الاستعارات. و ما يجعلنا نعتقد ذلك هو هذه القصة القصيرة التي يحكيها لتأكيد برهنته، طفلان ينظران عبر نافذة قطار. عند دخول القطار إلى المحطة، يقول أحد الطفلين: " أنظر، نحن في "نساء"، بينما يجيب الثاني: " لا أبدا، إننا في "رجال"، كل منهما يرى الأشياء من زاويته.
يبين هذا المثال أن الصلات بين الدال و المدلول عند لاكان ليست مجرد صلات اعتباطية فحسب أو غير محفزة، كما كان يؤكد على ذلك صوسير، و لكنها صلات منتَجة، مصنوعة، بواسطة مؤثر استعاري: إن تعويض دال بآخر يكون الاستعارة، و هو نفسه الذي يلد مؤثرات المدلول.
نقطة الحشوة
هكذا يحل لاكان محل تدفقي الدال و المدلول اللذين لايخلطان مياههما إلا بكيفية استطرادية عشوائية، كما يمثل صوسير للصلات بين الدال و المدلول، يحل لاكان استعارة أخرى، هي استعارة نَجٌاد ( صانع حشايا أو فرش) (ما زال يزاول هذه المهنة؟)، نجٌاد يعمد من أجل الحفاظ على الخيوط الصوفية للحشية ممددة و تفادي تكويرها، إلى تسفيد طرفي الحشية بإبرته المنحنية لكي يحافظ عليهما معا في نقط خاصة. وحدها بعض الفوتويات و الأرائك القديمة ما زالت تتيح لنا أن نشاهد مع ماذا تتطابق نقط الحشوة هذه. أضف إلى ذلك أننا غالبا ما نتحدث عن أرائك أو فوتويات "محشوة".
هذه إذن هي الاستعارة الصوسيرية المائية.
بينما الاستعارة اللاكانية هي، من جانبها، استعارة حِرَفية. اعتمادا على استعارة إبرة النجاد سيبتكر لاكان خلال الأشهر التالية ما سوف يطلق عليه هذا الاسم الجميل " الرسم البياني للرغبة". و ستموضع نقطة الحشوة هذه في النقطة ذاتها للمرسلة message، هناك حيث تتمظهر كل تشكيلات اللاوعي من قبيل الفلتة، النكتة و طبعا الأعراض.
ها هنا تمثيل مبتذل إلى حد ما لنقطة الحشوة هذه مع تمثيل، عالِم جدا، للرسم البياني للرغبة.
لسانيات و ألسونية
في حلقته الدراسية تحت عنوان " أيضا Encore "، أي في وقت متأخر جدا، سيبتكر لاكان هذا الاصطلاح المستحدث: " ذات يوم، انتبهت إلى حقيقة مفادها أنه من الصعب علينا عدم ولوج اللسانيات منذ اللحظة التي تم خلالها اكتشاف اللاوعي.
و من ثمة قمت بفعل شيء بدا لي، بحق، الاعتراض الوحيد الذي بإمكاني صياغته حول ما تمكنتم من سماعه سابقا من فم جاكبسون، و هو أن كل ما يمت إلى اللغة بصلة سوف يرتبط باللسانيات، أي، في المحصلة الأخيرة، باللساني.
لا يعني ذلك أنني لا أوافق جاكوبسون على ذلك بشكل هين حينما يتعلق الأمر بالشعر، الذي ساق حجته بصدده. لكن إذا ما نحن اعتبرنا، بشأن تحديد اللغة، كل ما ينشأ عن ذلك فيما يخص تأسيس الذات [ إذا ما اعتبرت كل ما ينتج عن اللغة، و تحديدا كل ما ينشأ عن ذلك فيما يخص تأسيس الذات]، المتجدد جدا، و المقلوب جدا من طرف فرويد، يتأكد ما صدر عن فم جاكوبسون، و ينبغي إذن ، حتى نترك لجاكوبسون مجاله الخاص، نحت كلمة أخرى. و هو ما سأطلق عليه اسم الألسونية".
هذا الاصطلاح المستحدث الذي نحته لاكان لكي يحصر حقله بالنسبة للسانيات بوصفها علما، و يقابل بالتالي بين الخطاب العلمي و الخطاب الجامعي، هو اصطلاح متأخرجدا خلال سنوات تدريسه. و مع ذلك ، فمنذ سنة 1965 ، في الوقت الذي كان يتطرق فيه " للبنيات الفرويدية للأدهنة"، كان مندئذ قد اتخذ مسافة منه و شرع في تهييء المجال للتحرر منه. و الرسم البياني للرغبة يقدم شهادة عن هذا التحرر طوال سنوات تدريسه.
----------------------------------
النص مقتطف من:
http://www.le-gout-de-la-psychanalyse.fr/