مر أمام ناظري نص للدكتور عائض القرني يحكي فيه عن رحلته الى باريس للتداوي من وعكة صحية ألمت به، فاسترعى انتباهي، شهادة الشيخ، و هو الداعية الاسلامي ذائع الصيت، بواقع ما رأى و ما عاين من سلوكات و تصرفات "فرضت" عليه الوقوف موقف صدق بين ما نحن عليه و ما هم عليه (الغرب)، ووجدتني أتخيل لو ان تلك الاوصاف التي وصف بها القرني أبناء جلدته صدرت عن شخص آخر ليست لديه حظوة الشيخ و منزلته كأحد الغيورين بل و المدافعين عن الاسلام بشكل يشهد به الصغير قبل الكبير، لتعرضت أقواله لردود فعل يصعب التكهن بدرجة حدتها. و لعل ما يزكي هذا الاستنتاج، الذي يبدو للوهلة الاولى بدون سند، استدراك القرني ذاته في استهلال مقاله، بقوله " و أخشى أن اتهم بميلي الى الغرب و أنا أكتب عنهم شهادة حق و إنصاف" و هو لا يقف عند هذا الحد بل يردف قوله بالقسم "وو الله إنا غبار حذاء محمد بن عبد الله (ص) أحب الي من أمريكا و أوروبا مجتمعتين".
و اللافت في الامر ان القرني لم يكتف في قسمه بذكر فرنسا وحدها، و هي البلد الذي احتضن تطبيبه، بل ربطها بأمريكا، إدراكا منه أن العرب تلحق كل ذي رأس أشقر بأمريكا و من معها، في مظهر يصورنا بأننا حقا نعاني من مرض مزمن اسمه الغرب مختزلا في أمريكا، تعكسه ترسانة الاحكام المسبقة التي نلقي بها جزافا و دونما تمحيص كلما ذكر هذا الغرب، بل و تعكس أزمة تواصلية خطيرة تظهرنا في جل الاحوال قساة جفاة مندفعين الى استعمال أجسادنا أكثر من عقولنا. و ليت الامر كان مرتبطا بالغرب وحده، بل امتد الى حدود التواصل فيما بيننا من اكبر تجل لنا (الامة) الى أصغره (الاسرة).
طبعا ليست غايتي من هذا المقال ان أقف عند اعترافات القرني، بالتحليل و التفسير، و إنما اردت اتخاذه منطلقا استوضح من خلاله بعض أسباب مظاهر الخلل لدى العرب في تواصلهم سواء مع الغرب أو فيما بينهم، مهمة لست أدعي فيها الاحاطة و الشمول، بقدر ما أتغيى الوقوف باقتضاب عند بعض جوانبها.
ان ما عبر عنه القرني في مقاله آنف الذكر يجسد غيضا من فيض أزمة التواصل التي باتت المظهر و السمة التي تطبع سلوك معظم العرب أينما حلوا و ارتحلوا، حتى صرنا مضرب مثل من قبل الاخر في القسوة و الجفاء و انعدام التحضر، و هي في جملتها طباع شكلت إحدى النقاط الاساسية التي جاء الاسلام لتغييرها أو على أقل تقدير تليينها و تلطيفها.
و البداية تقتضي ان نبدأ من البداية، التي تطلعنا على أنه منذ غابر الأزمان، كان هناك ميسم يطبع علاقاتنا التواصلية مضمونه أننا امة لا تتحاجج، و هي و إن فعلت فبطرق و مرجعيات غير العقل. فرضية سنعمل على تحليل بعض جوانبها من منظور نظري صرف يتجاوز البعد الاخلاقي العملي الذي ينتمي بمعية السياسة، كما هو معلوم، الى مجال الارادة و ليس الى مجال العقل.
ان الباحث عن البعد الحجاجي في الخطاب العربي قديمه بالدرجة الأولى، مادام جديده في معظمه مجرد تعريب عن نظيره الغربي، سيجد نفسه في أحضان البلاغة، على اعتبار أنها الحضن الذي يحضن الحجاج و غيره من الاوجه الاخرى التي تؤثث فضاءها، و العودة بالبلاغة الى أصولها، يقودنا حتما الى ملاحظة جوهرية تتمثل في ارتباطها لدى العرب القدامى بالشعر على الخصوص، و الشعر كما يقال "وقعه من إيقاعه و فضله من هيئة القول فيه"[1] فلا يتمكن شاعر من التفوق على شاعر آخر إلا "بما يقع له من نهج في تصوير المعاني و إخراجها رائقة عذبة تسر الناظر و تخلب لب المستمع"[2]، ما يفيد بأن الشكل كان يطغى على المضمون، و أن الاقناع إن حصل فهو يحصل من جهة الصورة الخارجية المرتبطة أصلا بفتنة القول لا برجاحة الحجة، لذلك اعتبر الجاحظ بان الشعر العربي "لا يستطيع أن يترجم و لا يجوز عليه النقل و متى حول تقطع نظمه و بطل وزنه (...) و لو حولت حكمة العرب لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن مع أنهم لو حولوها لم يجدوا في معانيها شيئا لم تذكره العجم في كتبهم"[3]. هذا عن شعر العرب، اما عن الاعجاز الذي جاء به القرآن الكريم، و الذي خلب ألباب العباد، و حيرهم بجمال عبارته و دقة لفظه، فيلاحظ بعض الباحثين انه لم يسفر عن تغيير في الرؤية، بل زاد في ثباتها و رسوخها، فهو في الخطاب "مناط أساليب القول لا مناهج الأدلة"[4] لا لسبب إلا لكون المفسرين الاوائل انطلقوا من مسألة تعتبر أن المعجزة ينبغي ان تكون من جنس ما برع فيه المخاطبون، و المخاطبون المعنيون هنا برعوا كما أسلفنا في صناعة اللغة الشعرية التي يطغى فيها الاقناع الخارجي (سحر اللغة) على الاقناع الداخلي (مثانة الحجة في بعدها العقلي). فاختزلوا الاعجاز في الشكل و الهيأة و تصاريف الكلام.[5] و لم يدر بخلدهم - يقول الدكتور صمود- "أن يأتي إعجاز القول أيضا من الحجج التي يبنيها و السياسة التي ينتهجها في ترتيبها لتتظافر مع الشكل و الهيأة ليبلغ النص من سامعه قصده، إن قدًرنا أن الجلود لا تقشعر لخصائص بنيته اللغوية فحسب و إنما تقشعر أيضا من إحكام بنية الحجة و القدرة الفائقة على الاقناع. و هذه الامور سيتم تداركها مع المفسرين و علماء الاصول المتأخرين."[6]
لقد ارتبط القرآن بالإعجاز، و الاعجاز كما لا يخفى هو حجة لا تسمو فوقها حجة، إنه حجة الحجج التي تخرس الافواه و تقطع دابر كل نقاش و تدفع الناس الى التسليم و الاقرار، و حين يتم التسليم بذلك يتم عقد الاواصر بين الثقافة و منطق النقل. و هو ما تم فعلا في الثقافة الاسلامية - رغم ما عرفه الفكر العربي الاسلامي من فنون الجدل و المناظرة، ممن كانت لهم قدرة على المقارعة و الظهور على الخصوم بالحجج كما هو حال الفرق الكلامية التي تعتبر المثال الابرز و الاسطع في تاريخ هذا الفكر- إذ دخنا فعلا منذئذ شروط الرأي الواحد السائد باعتباره الحق و الاستقامة و اعتبرنا ما عداه باطلا و عوجا يجب تقويمه، "فانكمش القول و ذهب ما فيه من سعي الى الحجة و الرأي، و استشرى البيان في لغة العرب حتى صارت سحرا فكان أن طغى البيان على التبيين، و صار هذا الامر عادة تتوارثها الأجيال، دون فحص و لا تمحيص في الغالب الأعم، و العادة إذا تقوت صارت سجية، أليس يقال "العادة طبيعة ثانية"؟[7]
لا أريد بهذا القول أن ألقي باللائمة على النص القرآني، و كيف أفعل و هو قد جاء زاخرا بالآيات التي تحث على إعمال العقل، او انسب اليه انزياحنا عن القول المسند بالحجة العقلية، بل اللوم، إن كان هناك من لوم، ينبغي أن يلقى على من أرادوا لهذه الامة أن تظل على منحى واحد في التفكير تستكين اليه و لا تفكر إلا على ضوئه فترتاح و تريح و ذلك بيت القصيد.
و لأن القوالب رسمت و الخطوط حددت، غدونا أمة لا تعرف التواصل فيما بين أفرادها إلا بلغة العنف و القسوة و الصوت الخشن، أما مع الاخر الاجنبي فالحديث، حتى لا أقول الحوار، كان و لازال يتم انطلاقا من شبكة قراءة قائمة مسبقا قوامها مدى حصول التوافق بين خطابهم، و هو الفرع هنا، و خطابنا، و هو الأصل. و معلوم أن الانطلاق في البعد التواصلي الحجاجي من خلفية ايديولوجية معينة مهما كان لونها و مهما كانت طبيعتها، ينسف التواصل من أساسه، كيف لا و الحجاج يتطلب مقارعة الرأي بالرأي و الحجة بالحجة و الغلبة، إن كانت هناك غلبة، يلزم أن تكون للحجة الافضل و لا شيء عداها.
و الحال بالحال يذكر، فتاريخنا يشهد على استبدالنا لغة الحوار الهادئ بلغة السيف، منذ الصراع بين علي و معاوية رضي الله عنهما، بل وربما قبل ذلك بقليل، الى يومنا هذا، حتى أصبح التوجس من العربي في البلدان الغربية أمرا طبيعيا ما داموا قد رسموا له في مخيلتهم صورة إنسان لا يعرف سوى لغة العنف و القسوة، أما الحوار و اللين و الرقة و التعامل الهادئ فهي و إن وجدت لا تصلح مع الغريب، وتعريف الغريب لا يقف عند حدود الغرب الاجنبي بل يتلون وفق مقولة "أنا و اخي على ابن عمي و انا و ابن عمي على العدو".
من هذا المنطلق لا نكون نبالغ إذا اعتبرنا أن التخلف الذي تعيشه الامة العربية اليوم، في احد أوجهه، ليس سوى نتيجة لذلك التمترس خلف الخصوصية و رفض المجابهة التفاعلية الفعالة، و تكسير جسور التواصل القائم على الحوار الهادف، تخلف يستوجب إعادة تشغيل عقولنا المعطلة بشكل إيجابي فعال يقطع مع الاحكام الجاهزة المسبقة، لاسيما و انه ليس بأيدينا غير هذا إن أردنا فعلا ولوج الكونية في عالم صار قرية صغيرة لم تعد الحدود فيها الا أوهاما.
إن هذه الحالة تقتضي إعادة قراءة الخطاب الذي ننتجه من جديد، حتى لا يظل حجابا يحجب الوجود، و هي قراءة يلزمها أن تكون مجددة تغير من منظور تعاطينا مع التقليد حتى لا نظل أسرى له، و مع النصوص حتى لا نظل عبيدا لها، و مع الثراث، حتى لا نظل خداما له. و هي أمور إن حدثت ستمكننا من الخروج من شرنقتنا الضيقة نحو الكونية التي هي في النهاية قدر الجميع، لأننا في النهاية "محكومون بعالميتنا"[8].
فقد آن الاوان ان ندرك نحن العرب، و نحن نعيش عصر التواصل و الاتصال بامتياز، حتى لا يقال بأن طبعنا الخشن و الفض قد عذر علينا التكيف مع الوضع الراهن، ان الحجاج القائم على العقل لا ينتعش إلا في فضاء الاحتمال و الممكن لا في فضاء الحقيقة المطلقة المستعصية على النقد، و التي تشل كل توثب حر و تقف في وجه الرأي المباين و تسد باب الاختلاف في المواقف. فلنرجع الوعي الى الوعي، بلغة درويش، و لنعد للعقل التواصلي مكانته حتى يتأتى لنا تصحيح وضعيتنا داخل خريطة العالم و قبلها تصحيح بيت الراغب الاصفهاني:
و ما هذه الاخلاق الا غرائز فمنهن محمود و منها مذمم
و لن يستطيع الدهر تغيير خلقة بنصح و لا يستطيعه متكرم[9]
[1] حمادي صمود، إهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو الى اليوم، منشورات كلية الاداب بمنوبة، ص 19.
[2] نفسه، نفس الصفحة.
[3] نفسه، ص 29
[4] نفسه، ص 22
[5] نفسه، ص 14.
[6] نفسه، ص 20.
[7] محمد عابد الجابري، العقل الاخلاقي العربي، المركز الثقافي العربي، 2001، ص 35
[8] علي حرب، الممنوع و الممتنع، نقد الذات المفكرة، المركز الثقافي العربي، 2000 ص 224.
[9] محمد عابد الجابري، العقل الاخلاقي العربي، المركز الثقافي العربي، 2001، ص 36.