قد يكون من المناسب أن نترك جانبا تباين آراء كثير من الفلاسفة والنفسيين حول الإدراك والإدارة وأيهما الأصل في كلّ العوامل النفسّية المؤثرة في تكوين الشخصية لنكتفي بخلاصة جدلية أجملها الدكتور محمود حب الله في قوله: " فالعقائد الدينية لا تعتمد على جانب واحد من جوانب الحياة النفسية للإنسان: الوجدانية والإرادية والعقلية، لكنها تتصل بها كلها اتصالا وثيقا، ولا ترضى نفس المرء ولا تكتمل شخصيته إلا إذا تضامنت شخصيّته ونواحيه النفسية كلّها.. فيوجد قبول عقلي، واطمئنان قلبي والتقاء مع الإرادة، وذلك هو كمال الشخصية، وهو كمال الاعتقاد، وهو كمال العقيدة كذلك "( 1) وهذا ما يؤدي إلى التسليم الكامل لله الذي هو دور الإرادة ، بل إن التسليم من أسس العقيدة الواضحة حتى في مجادلة الآخرين، قال تعالى: ﴿فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن، وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد﴾ سورة آل عمران – الآية 20.
بل إن الأمر لا يتوقف عند التسليم بالعقائد فقط وإنما يتعداه إلى خطاب التسليم بأمور كثيرة أبرزها ما في العبادات من امتثال لأمور مبّررها ثبوت ورودها قطعيّا في كتاب الله وسنة رسوله، تربية للإرادة وتوجيها لها إلى بارئها في بلورة كاملة لتوجيه الإسلام للشخصية في صورتها التكاملية لتصبح الإرادة هي الوسيلة التي تأخذ بيد الإنسان لا لتقوده ولكن لتسلمه إلى خالق الشخصية، ومن ثم فلا يوجد ما يدعو إلى التسليم بما يناقض الجوانب الأخرى للشخصية. أما عن الجوانب الاكتسابية في شخصية الإنسان فإن الإسلام حدد معالم شخصية المسلم في اتجاهين اثنين: التعامل مع البيئة المادية، والتعامل مع البيئة الاجتماعية، ففي تعامل الإنسان مع بيئته المادية سنّ الله له سنة لا تتبدل ﴿سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا﴾ سورة الأحزاب- الآية 62. وهي تربيته على مسؤولية السعي وَفق نواميس الكون المودعة فيه، فقال عز وجل: ﴿وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً، وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وتري الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون﴾ سورة النحل- الآية 14. وهو إلى ذلك مسؤول عن سعيه ﴿أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب﴾ سورة البقرة – الآية 202. وهو عبر التوجه بالدعاء لله عند كلّ علاقة للإنسان ببيئته المادية،(2) فمن دعاء عند دخول السوق: (اللهم إني أسألك من خيرها وخير أهلها وأعوذ بك من شرها وشر أهلها ، (3) إلى دعاء السفر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه كان إذا سافر قال: (اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال، اللهم اطو لنا البعيد، وهون علينا السفر). (4) وهنا تجد النفس مطمأنا لها يطرد عنها الخوف من المجهول فهي تسعى إلى مايسرّه الله لها وتتحمل نتيجة طريقة سعيها ﴿كل نفس بما كسبت رهينة﴾ سورة المدثر الآية 38.
كل ذلك لا يتم إلا من خلال وعاء إيماني يصّور الشخصية المسلمة في صورتها المثلى من خلال امتدادين: الامتداد الكوني، والامتداد الزمني، ونمثل للامتداد الكوني بما ورد عن رسول الله (صلى عليه وسلم) من أدعية مأثورة تربط المسلم بالكون في علاقة ربّانية منها دعاء المسلم إذا أقبل المساء (أمسينا وأمسي الملك لله، والحمد لله لا شريك له، لا إله إلا الله وإليه المصير) وإذا أصبح يقول (أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله لا شريك له لا إله إلاّ الله، وإليه النشور).(5)
أما الامتداد الزمني فهو بناء لشخصية المسلم حين يقص عليه ما مضى وينبئه بما سيأتي في الآخرة فهو بين عبرة وترقب مصير، ومثال ذلك ما ورد في زيارة القبور من أن المسلم يجد صلة بساكنيها عندما يقول:(السلام عليكم أهل الدّيار، من المؤمنين المسلمين، ويرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية، أنتم لنا فرط، ونحن لكم تبع، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تضلنا بعدهم). (6)
وعبر الإيمان المطلق بالامتدادين الكوني والزمني تصل التربية الإسلامية إلى خلاصة أن الشخصية المسلمة المثلى التي حدّد الإسلام مقوماتها في كل ما سبق من الآيات هي الشخصية المتكاملة Integrative Personality (القادرة على تكييف ذاتها والمتميّزة بوحدة اتجاهاتها، بحيث تكون جميع استجاباتها الجزئية متّفقة مع أهدافها العامّة، وبحيث تكون العوامل الماديّة والاجتماعية والرّوحيّة والعاطفية والأخلاقية المؤثرة فيها متعاونة على تحقيق تكيّفها العام) . (7) ليتحقق بذلك أن الشخصية المتكاملة هي الهدف العلمي لكل تنمية إنسانية في البناء النفسي والاجتماعي. ويمكننا القول بأن التكامل النفسي يعني مجموعة عواطف الشّخصية ودوافعها وانفعالاتها وعملياتها الإدراكية إنما هي منتظمة متناسقة في وحدة نفسيّة تعيش حياة متوافقة.
ولعل هذه الحقيقة هي ما وصل إليه عالم من أبرز علماء النفس الغربيين وهو ألبورت Allport الذي يرى أن التوجّه الديني جزء من شخصيّة الرّاشد الصحّية مخالفاً بذلك أصحاب التّحليل النفّسي عندما يقول: " لا يمكن أن تعرف الشخصّية الدينّية الناضجة على أساس مصادرها التجريبية العديدة، فهي ليست عملية اعتماد على الأسرة وتكرار لحياتها، وليست مجرّد نمط ثقافي، وهي ليست ببساطة أمنا من خوف، ولاهي بكليتها مذهبا عقليّا من مذاهب الاعتقاد، فالعاطفة الدّينية مركب من هذه العوامل وعوامل أخرى عديدة، تكوّن جميعها اتجاها نفسيا شاملاً، وظيفته ربط الفرد بالوجود بأجمعه ارتباطا له معنى " .
المراجع :
1 نظر: د. محمود حب الله، الحياة الوجدانية والعقيدة الدينية، ص 268-269، نقلا عن د.يحي هاشم، التربية الإسلامية وبناء الشخصية.
2 ينظر: التربية الاسلامية وبناء الشخصية – د. يحيى هاشم حسن فرغل - www.alarabnews.com/alshab/2004/19-03/yehia.htm بتاريخ 21-1-2011م.
3روته السيدة عائشة، حديث صحيح، الألباني: محمد ناصر الدين، صحيح سنن الترمذي، تحقيق: زهير الشاويش (مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط.1، 1408 هـ)، ص 1570.
4 رواه عبد الله بن عمر، حديث صحيح، النيسابوري: مسلم بن الحجاج القشري، صحيح مسلم (المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، ط.1، 1374هـ)، ص 1342.
5 رواه عبد الله بن مسعود، حديث صحيح، النيسابوري، صحيح مسلم (المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، ص 1342.
6 رواه أبو موسى الأشعري، حديث صحيح، النيسابوري، صحيح مسلم (المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، ص 975.
7 ينظر: المعجم الفلسفي - ج1- ص693.
البورت، نمو الشخصية - ص154، -نقلا عن نظريات الشخصية، جابر، ص274
- الاخصائية النفسية : إيناس بن سليم
– ماجستير علم نفس – الجامعة الإسلامية العالمية –ماليزيا .