يرى الغزالي أن النفس تحتاج لغذاء روحي كما يحتاج البدن للغذاء من أجل النمو، فالنفس غذاؤها بالتربية الصالحة وغرس القيم الأخلاقية. لذلك فالوالدان مُحاسبان على ما غرساه في نفس الطفل سواء أكان خيراً أم شراً، فالمردود على الوالدين مؤكد في الدنيا والآخرة، فإذا كان بناؤهما لشخصية طفلهما بناءً صالحًا فإنهما يجنيان الثواب والحياة المريحة الآمنة، أما إذا كان بناؤهما هشاً ضعيفاً وأهملا بناء تلك الأمانة بناءً صالحاً فسيحملان الوزر والإثم جرّاء أخطاء طفلهما وسوء أخلاقه وفاقا لقوله تعالى:" ﴿ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة ﴾ التحريم -الآية6.
وينبه الغزالي إلى أن المسؤولية الملقاة على عاتق الوالدين كبيرة جداً فمصير ابنهما يتوقف على جهدهما في بناء شخصيته وتنشئته تنشئةً صالحة، ومن ثم فهو يرى أن توجيه الطفل نحو الخير منذ بداية استجابته للوالدين يكون بمثابة النقش في الحجر فالنصح يثبت في قلبه. وينبه على أن الصبي عندما يألف كثرة اللعب والفحش والوقاحة وشره الطعام واللباس والتزيين والتفاخر فإن قلبه يكون قد نبا عن قبول الحق.
وعندما نرجو بناء متكاملا للشخصية فإن الغزالي يرى أنه يجب أن يكون هناك تقسيم للأدوار؛ فالأبوان كلاهما مسؤول في عملية التأسيس ووضع القواعد التي يضع الأب جزءا منها وتقوم الأم بالجزء المكمل، فالأب له دور هام في بناء شخصية الطفل ويعد هو المثل الأعلى والصورة المثالية التي يستمد من خلالها الطفل الصفات الحسنة والقيم الأخلاقية التي ينشأ عليها، وهذا عامل هام ومؤثر في عملية بناء شخصية الطفل؛ فالأب يجب عليه أن يكون ملتزماً بتعاليم الدين الإسلامي حتى يكون قدوة حسنة لأطفاله؛ فعندما يرى الطفل والده مواظبًا على الصلاة والذهاب للمسجد فإنه يكتسب هذا السلوك بشكل تلقائي؛ ويجب على الأب أن لا يتساهل مع الطفل في تركه للطهارة والصلاة، وأن يأمره بالصوم عندما يُصبح قادراً على الإدراك؛ ويبدأ في تدريبه عليه بشكل تدريجي؛ وهذا -كما يقول الغزالي- من أسس التنشئة الصالحة للطفل.
بل إن الغزالي يهتم بتربية الطفل حتى في جوانبها المظهرية فينصح بتحبيب اللون الأبيض للطفل في ارتداء ثيابه، وإبعاده عن الألوان الفاقعة والمزركشة بحيث تنمو عنده قناعة شخصية بأن الألوان أو الثياب الملونة لا ينبغي للرجال ارتداؤها. ولعل في هذا شيء من الغرابة ولا يمكننا قبول ذلك إلا إذا وضعنا ثقافة عصره في الاعتبار، وربما كان اللون الأبيض يتضمن دعوة ضمنية للنظافة كما يرى أحد الباحثين.
أما على صعيد علاقة الطفل بأقرانه فينصح الغزالي بوجوب إبعاده عن وسط الأطفال المترفين الذين اعتادوا الحياة المرفهة، واعتادوا تلبية طلباتهم أيا كانت، فذلك يُصعّب السيطرة على الطفل، فالذي يُربى تربية متوازنة لا يكون تابعاً لمن حوله، بل يتصرف بما تربى عليه وما بُنيت شخصيته عليه، فالواثق من نفسه لا يتبع ما يراه عند الآخرين.
وهكذا يرى الغزالي وجوب تنشئة الطفل على التواضع والتعامل المحمود مع أقرانه فإن كان ولداً لرجل ثري يجب عليه عدم التعالي على أقرانه؛ سواء في أكله أو ملبسه أو منزله، وليعلم أن المستوى الرفيع يكمن في العطاء لا الأخذ، وقد وصف الغزالي من اعتاد الأخذ بالإنسان اللئيم، ووسمه بأنه دنيىء الأخلاق إن كان من أسرة غنية؛ وأما إن كان من أسرة فقيرة فالأخذ يجعل منه ذليلًا ومُهانًا فاقدًا لكرامته وعزة نفسه.
أما عن السلوكيات العامة التي ينبغي على الطفل الالتزام بها عندما يُصبح مدركا لمحيطه الخارجي وقادرًا على التعامل مع من حوله، فيرى الغزالي أنه من الأفضل تجنب السب والشتم والألفاظ النابية عند تربية الطفل وتوجيهه.
كما ينصح بأن يتم تعويد الطفل على أن يكون منصتًا جيدًا، وألا يتحدث إلا عند الضرورة، وأن يكون مستمعًا أكثر مما يكون متحدثًا، ويحبذ أن يكون حديثه إجابة على سؤال وبشكل محدد. كما ينبه الغزالي إلى كيفية تعامل الطفل مع من هو أكبر منه سنا فينصح الآباء بتعويد أبنائهم على عدم مقاطعة الكبار أثناء الحديث بل يتوجب عليهم التزام الصمت والهدوء. وفي هذا المضمار ينصح الغزالي بتعويد الطفل على إفساح المجال لمن هو أكبر منه أو إعطائه مكانه احترامًا وتقديرًا لسنّه،
ويتتبع الغزالي كل ما من شأنه أن يسهم في بناء شخصية الطفل، فيرشد الآباء إلى تأديب أبنائهم بآداب المجالس؛ مثل أن يعوّد الطفل على أن لا يتثاءب بحضرة الناس، وخاصة من هم أكبر منه سناً، وألا يضع رجلاً على رجل، وألا يضع كفه تحت ذقنه، ولا يسند رأسه بساعديه؛ فضلا عن إبعاد الطفل عن السلوكيات المنفرة كالبصق و التمخط في المجالس؛ كل هذا من أجل أن يتم بناء الطفل بشكل متزن منذ صغره.
ومن ضمن أساسيات التنشئة وبناء الشخصية في مرحلة الطفولة المبكرة ما تضطلع به الأم، وتقع على عاتقها مهمة إرساء هذه الأساسيات؛ فهي المسؤولة عن هذه المرحلة المهمة من حياة الطفل ومن هنا فإن الغزالي يرشد إلى كيفية تعليم الطفل تناول الطعام؛ بدءا من طريقة تناوله للأشياء كتعليمه أخذ طعامه باليد اليُمنى، وأن يذكر اسم الله قبل البدء في الطعام، وينصح الأم بالتدريج في تعويد الطفل على آداب الطعام، بدايةً بإطعامه بقدر محدد، وبتعويده ألا يأكل أكثر من حاجته حتى لا يتولد لديه شره الطعام، وأن يأكل مما يليه، وألا يبادر إلى الطعام قبل غيره، وكذلك يجب أن (يُعوّد على الإيثار بالطعام)؛ وأثناء الطعام يجب تعويده على عدم النظر إلى من يُشاركه الطعام، وأن يأكل بتمهل، ويُجيد المضغ، ويكون حذراً حتى لا تتسخ ثيابه ويديه عند تناوله الطعام. ومن الواضح أن هذه التوجيهات تؤدي بالضرورة إلى تعويد الطفل على النظام والنظافة؛ ومن ثم ينعكس هذا السلوك على باقي جوانب شخصيته.
ويؤسس الغزالي أحكاما مستقبلية بناء على القيم الأخلاقية التي تنمو مع الطفل عندما يكبر؛ فأغلب السلوكيات مجرد اعتياد يومي، فالطفل المعتاد على القسَم دائماً يصبح من عادته القسم حتى على أتفه الأمور وأبسطها، فيجب منعه من القسم سواءً أكان صادقًا أم كاذبًا حتى لا يعتاد على هذا السلوك السلبي؛ بل يجب أن يكون حديثه قليلًا، وواثقًا من نفسه، صبورًا، له قدرة عالية على التحمل، ولا يبدأ في الصراخ ويكثر منه عندما يتعرض للأذى؛ فيقرر الغزالي منطلقا من معيار عصره أن الصراخ والاستجداء من صفات النساء والمماليك.
ومن المعروف أن الطفل عادةً ما يصرخ ويبالغ في صُراخه لتلبية احتياجاته ومطالبه؛ فيضمن استجابة الوالدين وإعطاءه ما يُريد، وقد تنبه الغزالي إلى ذلك فنهى عن مسايرة الطفل في مثل هذه الحالة، وأوصى بتعويد الطفل على الصبر، وزرع القناعة في نفسه، وتعليمه أن الرجل الصبور يكون شُجاعاً لا يصرخ ولا يتوسل ولا يستجدي مهما حصل، وهذه قيمة مهمة لبناء شخصية الرجال، فهذه الخاصية تعطيه قوة معنوية كبيرة تجعل منه شخصا مميزا عندما يكبر؛ فيكون قادراً على مواجهه الصِعاب ببصيرة وقوة إرادة.
كذلك يشير الغزالي إلى أن من المسؤوليات الكُبرى الملقاة على عاتق الأبوين في بناء شخصية الطفل وتربيته إبعاده عن المحرمات؛ فالطفل قد تعجبه لعبة عند طفل آخر فيأخذها لأنها لفتت انتباهه فهو لا يعرف ما معنى السرقة أو استباحة ممتلكات الغير. فإذا ما وجه الأبوان الطفل إلى تجنب مثل هذا السلوك فإنه ينشأ نشأة إسلامية سليمة.
وهنا تأتي مهمة الوالدين في وضع الحدود، وتعريف الطفل بوجوب عدم الاعتداء على ممتلكات الآخرين، وتعريفه مفهوم السرقة والكذب و الخيانة والسلوكيات الفاحشة التي تؤدي بصاحبها إلى الهلاك المؤكد،كما ينبغي تعريفه بالعقاب الإلهي الذي سيحل به إذا ارتكب شيئا من هذه المحرمات حتى لا يعتاد الطفل على تصرفات غير أخلاقية وهو لا يعي مدى خطورتها، وفي هذه الحالة فالوالدان سيحاسبان على ذلك الإهمال والتقصير في تربية طفلهما. ولهذا ركز الغزالي على دورهما في اتباع المنهج الإسلامي ووضع الأساسيات الضرورية في بناء الشخصية استنادًا إلى الحديث النبوي الشريف "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".
فالغزالي يرى بأن الطفل يولد معتدلًا وإنما يكتسب السلوك والعادات من الوالدين إذ يقول:" الصبي بجوهره خلق قابلًا للخير والشر معًا، وإنما أبواه يميلان به إلى أحد الجانبين ".
الأخصائية النفسية : إيناس أحمد بن سليم
ماجستير علم نفس الطفل – الجامعة الإسلامية العالمية – ماليزيا .
المراجع :
1- زكي مبارك – الأخلاق عند الغزالي .
2- الغزالي – إحياء علوم الدين – ج-3. 505 هـ.
3- الغزالي – أيها الولد .
4- البرجس – التوجيه الإسلامي للنشئ في فلسفة الغزالي .
5- رواه ابو هريرة ، حديث صحيح ، البخاري : محمد بن إسماعيل ، الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله وسننه وأيامه ، تحقيق محب الدين الخطيب ، ص1385.
6- الغزالي ، معارج القدس في مدارج معرفة النفس .