إن هذا المقــال المعنـون بـ » التأسيس المــادي الجدلي للتحليــل النفسي لدى فيلهلم رايش « سيضع على عاتقه توضيح الفهم الرايشي الماركسي بالأسـاس للتحليـل النفسي، مسترشدين في ذلك بمؤلف رايش الرئيسي "المادية الجدلية و التحليل النفسي"، هذا الفهـم الذي لا نعتبـره محـاولة توفيقية بل محـاولة لفهم التحليل النفسي على ضوء قراءة علميـة/موضوعية وهذا ما سيتم توضيحه لاحقا، هاته القراءة التي صبت مجهودها على نقد العنـاصر المثالية من داخل التحليل النفسي، كما صبت مجهـودها على نقد الفهم المـادي المبتذل للتحليل النفسي و الناتج بالأساس عن الدوغمائية و الجمود الستاليني الذي لا صلة له بالماركسية.
إن محاولة دراسة التحليل النفسي على ضوء المنهج المادي-الجدلي لم يقتصر على فيلهلم رايش بل على مفكرين ماركسيين آخرين كـ"هربرت ماركيوز، رايموت رايش، جورج بوليتزر..."، إلا أن تطرقنا لفيلهلم رايش دون غيره كان ناتجا عن تطرقه لمجموعة من النقاط التي لم يول لها المفكرون الماركسيون الآخرون القدر الكافي من المعالجة كـ"الجدل فيما هو نفسي" على سبيل المثال، قس على ذلك النتائج المعرفية المذهلة التي أفرزها رايش بمنهجه المادي الجدلي، وهذا لا يعني بتاتا نفي جدة و مجهود الباحثين الآخرين، و هو ما أكدنا عليه في الفصل السابق.
كمـا سيتخذ هذا الفصل مجموعة من الإشكالات كمضيء منهجي في مقاربته، وهي إشكالات سبق و أن طرحها رايش نفسه في أعماله، و لكن الدور المعرفي الذي ستلعبه في هذا البحث مختلف نسبيا عن الدور الذي لعبته لدى رايش، بالتالي فإن الإشكالات ستكون من طينة هل هناك أية روابط ما بين النظرية الماركسية و النظرية الفرويدية و هل محـاولة رايش لإنشاء علم نفس ماركسي هو محـاولة توفيقية باءت بالفشل ما بين الماركسية و التحليل النفسي؟
مما يجعـلنا نقوم بتتويج هذين الإشكـالين بإشكـال مركزي هو هل الماركسية تتنافى و التحليل النفسي؟
إنه لمن المعلوم بالطبع بأن العلم مـادي/موضوعي بالضرورة، و أي نتـائج يقدمها لنا هي نتـائج تجذ جذورها في الواقع و مستقلة عنا تمام الاستقلال، ليس بمعنى أنها لا تؤثر فينا و لكن بمعنى أن لها وجود موضوعي. لذا فإن نقطة انطلاق فيلهلم رايش ستكون مع الدفاع عن الأرضية المـادية التي قام عليها التحليل النفسي بغية الكشف عن بعض المقاربات المثالية التي تريد تقديم فهم مغلوط له، قس على ذلك الفهم المادي المبتذل ذو النزعة الميكانيكية للتحليـل النفسي.
إن رايش في معرض دفاعه عن التحليل النفسي في مؤلفه "المـادية الجدلية و التحليل النفسي" و الذي يعتبر من أكثر مؤلفاته قوة من حيث البناء الحجاجي و الترابط المنطقي للأفكـار بشهادة بـول أ. روبنسون: "(...) كـانت من أكثـر كتباته تمـاسكا في حججها على الإطلاق."[1] يحاول التطرق إلى حجج بعض الماديين المبتذلين و التي تعارض التحليل النفسي.
فأغلب الرؤى الميكانيكية تذهب إلى أن المادية تعـارض التحليل النفسي، فهذا الأخير يعـالج موضوع ميتافيزيقي هو الظواهر النفسية التي ليست بمادية في حين كان من الأجدر دراسة و معالجة العمليات الجسدية التي هي الأساس. يقول رايش بهذا الصدد:
"فهؤلاء الماديون يبدو لهم مفهوم النفس مغالطة مثالية و ثنائية،... يزعمون، أن النفس ليست هي الحقيقي و المادي، بل الجسم، إذن ليست المعطيات الذاتية، بل الموضوعية القابلة للقياس و الوزن، و المغالطة الميكانيكية تكمن هنا في أنهم يماهون بين ما هو مادي يقاس و يزن أو يلمس. وما هو مادي على الإطلاق."[2]
الكل يتفق على أن الظواهر/الأمـراض النفسية هي مرتبطة بما هو عضوي و لكن ليس بشكل مباشر آلي بل ترتبط أيضا بما هو اجتماعي تربوي، بالتالي فإن رايش ذهب إلى أن الاعتراضات من هذا القبيل تنطوي على مغالطة ميكانيكية هي عدم استيعاب مفهوم المادة بما هو مفهوم فلسفي، ولقد سبق للينين أن قارب هذا الفهم الميكانيكي الذي تتبناه كل الفلسفات اللاعرفانية باعتباره دليلا يتم استخدامه في دحض المادية، ويقوم السؤال الذي طرحه لينين بإعادة بناء المفهوم من جديد في سبيل استيعابه فيتساءل عن ما المقصود بالمادة؟ فهاته الأخيرة ليست كل شيء ملموس و محسوس كما تذهب المادية الميكانيكية، بل تعني كل شيء ذو وجود موضوعي مستقل عن ذهننا "إن الخاصة الوحيدة للمادة التي ترتبط المادية الفلسفية بالاعتراف بها إنما هي خاصة أن تكون واقعية موضوعية، أن توجد خارج وعينا."[3]، لذا يتم اعتبار التاريخ ماديا بالرغم من أنه ليس بمحسوس، فمفهوم المادة أشمل و أوسع من أن يدل على "الشيء" أو "المشخص".
من هنا فالنظرة الميكانيكية الضيقة غير قادرة البتة على استيعاب موضوع التحليل النفسي في حين أنها قادرة أن تنسجم تمام الانسجام مع نظريات الاشتراط -السلوكية- التي سبق و أن أشرنا إليها. وفي معرض رد رايش على الاعتراضات المادية المبتذلة يذكـر بقول ماركس بالنقيصة التي تعاني منها المادية الميكانيكية وتتلخص في إنكارها للفعالية البشرية و يستدل على ضيق نظرتهم بالقول الآتي:
"إنه من المنطقي عندئذ أن لا يجوز للمرء التحدث عن الوعي الطبقي، الإرادة الثورية، الإيديولوجيا الدينية..إلخ، بل عليه أن ينتظر حتى تضع الكيمياء العمليات الجسمية المقابلة في صيغ كيميائية أو حتى تكتشف الرفلكسوجيا المنعكسات المقابلة."[4]
و الأجدر حتى نتحدث عن علم النفس على نحو عام و التحليل النفسي على نحو خاص إذا ما كانا ماديين، ألا نتطرق إن كانا يعالجان الظواهر النفسية بالعمليات الجسدية أو لا، بل بكيفية تعاطيهما مع هذه الظواهر، فهل هي مرتبطة بما هو عضوي بالإضافة إلى العالم المحيط "التأثيرات الاجتماعية"، أي هي معطى مادي موضوعي؟، أم هي معطى غيبي ميتافيزيقي يرتبط بكيان قائم بذاته يدعى النفس؟. هذه التساؤلات في نظر رايش هي المحدد إن نحن أردنا فهم إن كان التحليل النفسي ماديا أم لا، و هو الشيء الذي يتضح عند مقاربة كيفية نشوء التحليل النفسي و الإطلاع على مناهجه و كيفية تعاطيه مع الظواهر النفسية (أنظر الفصل السابق)، ولكن بالرغم من ذلك فإن رايش لا يستعيض في مؤلفه عن تفسير أهم نظريتين قدمهما التحليل النفسي "نظرية الدافع و نظرية اللاشعور/الكبت"، لا لشيء إلا ليؤكد القاعدة المادية التي يقوم عليها التحليل النفسي، فـالدافع الجنسي المرتبط بمفهوم الليبيدو "طاقة ذاك الدافع"، تؤكد الأساس الفيزيولوجي/العضوي الذي يقوم عليه التحليل النفسي، فلقد ذهب فرويد إلى اعتبار أن هذا الدافع يأتي مع الطفل إلى هذا العالم "إبداعه لمفهوم الجنسية الطفولية" بعدما كان يظن بأن الدافع الجنسي يستفيق في فترة المراهقة أي في فترة نمو الأعضاء التناسلية، فالجنس التناسلي ما هو إلا مرحلة من مراحل تطور هذا الدافع، فتم تغيير مفهوم الحياة الجنسية ككل:"فوسع مفهوم الحياة الجنسية ليضع جميع وظائف اللذة، التي لا ترتبط بالأعضاء التناسلية، و التي هي دون أي لبس من طبيعة جنسية، مثل التلذذ الفمي، التلذذ الأستي إلى آخره.."[5]، وهو الشيء الذي تم تأكيده من طرف علماء الفيزيولوجيا بشهادة رايش نفسه: "إن الطبيعة المادية لمفهوم الليبيدو لدى فرويد تتجلى في أن نظريته في الحياة الجنسية الطفولية قد أكدها بعدئذ الفيزيولوجيون، حيث وجدوا عند المولود حديثا تطورا للجهاز الجنسي العضوي."[6]
وهكذا لم يكتف رايـش فقط بالبرهنة على مادية نظرية الدافع بل سعى إلى ملء الثغرات القائمة فيها و التي تعتبر منبعا للتفسيرات المثالية و الميتافيزيقية، فإلى جانب الدافع الجنسي الذي اكتشفه فرويد "الأيروس" كان هناك دافع آخر و الذي هو دافع المـوت "ثاناتوس"، و هدفه هو "حل الروابط و بالتالي تدمير الأشياء، و يمكن ان نتصور ان الغاية القصوى لغريزة التدمير هي رد الحي إلى الحالة اللاعضوية."[7]، هذا الدافع لم يكن واضحا تماما على عكس دافع الحياة يقول رايش: "إن مفهوم دافع المـوت تنقصه القاعدة المادية الواضحة،...فهو فرضية خارجة عن نطاق البحث السريري"[8]، بالتالي فإن فرضية هذا الدافع ليست بالخاطئة بقدر ما تنقصها الأرضية المادية الواضحة التي تقوم عليها، فالتفسير الذي قدمه فرويد بهذا الصدد هو أن الغريزة تنزع إلى العودة إلى حالتها السابقة، من الحي إلى اللاحي، بالرغم من أن التحلل و التفسخ عملية عضوية طبيعية إلا أنها تغدو بنظر رايش سوى موازاة شكلية يقول رايش: "فقط بقدر ما تكون هناك علاقة واقعية لدافع الموت مع عملية الهدم الذاتي للعضوية، تكون هذه العلاقة مادية"[9]، وهو الشيء الذي دفع رايش لا لرفض هذه النظرية بل إلى البرهنة عليها سريريا حتى يدحض من ناحية آراء المادية المبتذلة و من ناحية أخرى ليرد على النظريات المثالية /الغائية كما في علم النفس الفرداني، فحـاول قراءة دافع الموت على ما تم بناءه و مراكمته من خلال نظرية الليبيدو "المادية"، يقول رايش محللا هذا الدافع:
" إن عدم الإرضاء الجنسي يصعد من العدوانية و الإرضاء ينقص منها، حسب هذا الفهم يكون دافع الهدم من الناحية النفسانية هو رد فعل على حرمان الدافع من الإرضاء و أساسه الجسمي هو إزاحة الإثارة اللبيدوسية إلى النظام العضلي. إن دافع التهديم هو -حسب رأيي- تكوين متأخر ثانوي للعضوية يتحدد من خلال الظروف التي يتم فيها إرضاء الدافع الغذائي و الحاجة الجنسية."[10]
لقد استشف رايش من خلال ملاحظاته الشخصية المبنية على البحث السريري و بناءا على ما قدمه فرويد، أن مبدأ اللذة/ اللالذة هو منطق الحياة الدوافعية، و لا يمكن أن نجد شرحا أكثر تبسيطا مما قدمه رايش لذا سنعمد لعرضه يقول:
"كل ما هو دوافعي ينزع إلى اللذة و يريد تجنب اللالذة، ولا يمكن إبطال التوتر الحاجي المفعم باللالذة إلا بإرضاء الحاجة، فهدف الدافع هو إذن إبطال التوتر الدوافعي عبر إزالة المثير في منبع الدافع. و هذا الإرضاء مفعم باللذة، ويشترط الثوران الجسدي في المنطقة التناسلية مثلا المثير الذي يخلق الحاجة (دافعا) لإزالة هذا التوتر. و يخلق التوتر العضوي في أعضاء التغذية الجوع و يدفع إلى الأكل. هذه النظرة السببية تحتوي النظرة الغائية، ذلك لأن الهدف الذي يسعى إليه الدافع، يتحدد عبر منبع الإثارة. هنا يقف التحليل النفسي كعلم مادي سببي مناقضا تمام التناقض لعلم النفس الفرداني المتوجه غائيا فقط. كما هو لدى ألفرد آدلر."[11]
إن هذا النــص ليحمل الكثير من الدلالات، فناهيك عن شرحه الدقيق للحياة الدوافعية و كيفية تحرك مبدأ اللذة و اللالذة، قام بتباين مبدأ السببية القائم فيها و الذي هو مبدأ علمي، فهذا الدافع الذي يقوم على أساس عضوي يسعى إلى وقف التوتر العضوي الحاصل بإرضاء تلك الحاجة العضوية التي يقوم مثير ما بإثارتها، و مبدأ السببية هذا بحسب رايش جعل التحليل النفسي يقف كعلم مادي مناقضا للتصور الغائي لمدرسة آلفرد آدلر، بحيث تذهب هاته الأخيرة إلى أن القوة الدافعة في حياة الإنسان هي الشعور بالنقص والتي تبدأ حالما يبدأ الطفل بفهم وجود الناس الآخرين والذين عندهم قدرة أحسن منه للعناية بأنفسهم والتكيف مع بيئتهم[12]، و هو تصور بالنسبة لرايش أبعد ما يكون عن العلمي. مما يعني أن هذا المقتطف يحمل نقدا مزدوجا لكلا الرؤيتين الميكانيكية و المثالية.
هذا النقد المزدوج يتطور مع عرض رايش لنظرية اللاشعور و الكبت، فاللاشعور بحسب بعض الماركسيين هو الآخر مغالطة مثالية، وسنعرض لإحدى هذه التصورات المادية المبتذلة إذ تقول في تعريفها له "أي اللاشعور":
"في النظريات المثالية هو اصطلاح يعني منطقة خاصة في النشاط النفسي تتركز فيها رغبات ودوافع وأماني خالدة لا تتغير تحددها غرائز غير مفهومة للشعور، وقد ظهرت نظرية اللاشعور المثالية في أكمل صورها في الفرويدية التي قسمت النفس إلى ثلاث طبقات – اللاشعور وما تحت الشعور والشعور. واللاشعور هو الأساس العميق للنفس،.... والشعور مظهر سطحي للنفس عند نقطة الالتقاء بالعالم الواقعي، وهو يعتمد إلى حد كبير على قوى غامضة لاشعورية. ويمثل اللاشعور مكانا بارزا في نظريات هربارت و شوبنهاور وغيرهما من المثاليين باعتباره الأساس الغامض والمجهول للفعل الشعوري."[13]
إذا و بحسب هذا التصور فإن اللاشعور هو إحدى النظريات المثالية التي تعتمد على قوى غامضة، و هو الشيء الذي يدل على عدم الضلوع و الإطلاع على النظرية الفرويدية، فالتقسيمات التي قدمها فرويد لم تكن نتاجا للتأمل الذاتي بل مراكمة للخبرات السريرية و العوامل الفيزيولوجية و المجتمعية التربوية، إن اللاشعور ليس أساسا غامضا يقوم عليه الشعور بل هو رغبات تم كبتها و أصبحت غير مدركة، و هذا الكبت أو الرقابة التي قام بها ما تحت الشعور "ليست سحرية، بل تضم نواهي مأخوذة من العالم الخارجي كما تضم مجالات أصبحت بذاتها لاشعورية"[14]، و يجيب رايش على أحد الأسئلة التي اعتبرها ساذجة و التي طرحها أحد الماركسيين يدعى يورينتس إذا يتساءل: "كيف يمكن للمرء أن يشير إلى مضمون اللاشعور، إذ كان غير قادر على تحليله، إذ أن اللاشعور لا يصل أبدا إلى عتبة ما بعد الوعي؟"، فالجواب بيٌن، إذ أن فرويد و كما سبق و أن تطرقنا في الفصل الأول، قد بين أن اللاشعور يعبر عن ذاته و يطفو لسطح الوعي بتمظهرات ممثلة في زلة اللسان و زلة القلم و الكبت، هذا من جهة أما من جهة أخرى و هو الجواب المعتمد من طرف رايش فقد أشار مرة أخرى إلى اكتشاف طريقة التداعي الحر العلاجية من طرف فرويد، و التي ترمو إلى جعل تلك الرغبات المكبوتة إلى رغبات مدركة من طرف الوعي. إن هذا الكبت ليس سحريا هو الآخر بل سببه العالم الخارجي، هذا العالم الممثل في المجتمع بكل مكوناته من أسره و مدرسة...، يقول رايش:
"كل طفل يجلب معه إلى العالم دوافع، و يكسب في طفولته رغبات لا يجوز له أن يعيشها، لأن المجتمع الواسع و المجتمع الضيق، أي الأسرة. لا يحتملونها (غشيان المحارم، اللواط، التعري، السادية الخ ...) فالواقع الإجتماعي يتطلب في هيئة المربي، أن يكبت الطفل هذه الدوافع، ... نحن نرى إذن، أن التحليل النفسي لا يستطيع مطلقا أن يتخيل الطفل دون المجتمع، فلا وجود للطفل بالنسبة له إلا ككائن اجتماعي"[15]
إن الأنا العليا لا تعزو إلا أن تكون الواقع الإجتماعي بمثله و إيديولوجيته، هذا الواقع الذي بحسب رايش يتركز إيديولوجيا في مجموع التعليمات، و الأوامر و النواهي، إن هذا التصور سيوظفه رايش في مفهومه للثورة الجنسية و هو ما سنتطرق له في المحاور القادمة، و لكن ما يهمنا هنا هو أن هذا التصور للأنا العليا في نظرية التحليل النفسي لهو تصور مادي تماما، فهو ينفي الطابع الإلهي المثالي للأخلاق بل هي نتاج للمجتمع.
"يعيد التحليل النفسي كل الأخلاق في الإنسان إلى تأثيرات التربية، هو يرفض إذن قبول الطابع الميتافيزيقي للأخلاق بالمعنى الكانطي مثلا لمفهوم الأخلاق. إنه يذيب مفهوم الأخلاق ماديا، بأن يعيده إلى معايشات و إلى دافع حفظ الذات و كذلك إلى الخوف من العقاب أو حبا بالمربين."[16]
إنه تصور مادي علمي للأخلاق، و بدون أن نذهب بعيدا و نستعرض النظرية الكانطية و مثيلاتها في الأخلاق، سنظل هنا في بلدنا المغرب و نشير إلى بعض التصورات المثالية للأخلاق التي تتنافي مع هذا التصور العلمي، هذه التصورات التي من الممكن تمثيلها في شخص الدكتور طه عبد الرحمان، الذي ذهب في تأمله البحت المغلف بالقشرة المنطقية إلى تبعية الأخلاق للدين و انبثاقها منه و أنها الأصل في تميز الموجود الإنساني "مبدأ الصلاح" إذ يقول في كتابه "سؤال الأخلاق" حول الأصل الديني للأخلاق: " إن القيمة الخلقية ليست مصاحبة للخبر الديني فحسب، بل هي متفرعة عليه، فلولا هذا الخبر الخاص، لما كانت ثمة قيمة خلقية، ليس يهم أن نبحث في تاريخ الإنسان القديم، فنتبين كيف أن الدين صحب أطوار وجوده الأولى، فأمده بما يجاوز واقعه من سامي المعاني،..."[17]
إن مثل هذا التصور الذي هو بمثابة نقد يميني للتصور الكانطي الميتافيزيقي، أبعد ما يكون عن التصور العلمي، و التحليل النفسي هو الآخر أبعد ما يكون عن مثل هذه التصورات المثالية، بل يبرهن و يضع الأرضية المادية للأخلاق، فلا سبيل للماديين المبتذلين لمحاججته في هذا الطرح، و هو الشيء الذي أراد أن يؤكده رايش و يبرئ التحليل النفسي منه.
و عليه فإذا كانت الأنا العليا و الهو أبعد ما يكونان عن الميتافيزيقيان و المجردان، فالأولى تعبر عن الواقع الإجتماعي و الثاني يعبر عن ما هو بيولوجي، فماذا بخصوص الأنا؟ أو بالأحرى عن ماذا تعبر. لقد قام رايش مجددا بعرض تصور يورينتس الماركسي، و هو تصور يشابه بين تصورات فرويد و شبنهاور، و هو الشيء ذاته الذي لاحظناه في المقتطف أعلاه، إن مثل هذه المقارنات بين فيلسوف لا عقلاني تشبع بالفلسفة المثالية و مفكر عالم جعل من المنهج العلمي أساسا لدراسته، مجحفة بحق العلم، و لكن بالرغم من ذلك نجدها لدى الماركسيين المبتذلين من أمثال يورينتيس، هذا الأخير الذي ارتأى إلى أن "الأنا" عند فرويد مثلها مثل "الأنا" لدى شوبنهاور هي من تنتج العالم.
يوضح رايش هذا الفهم بأن يورينتيس لم يستوعب مؤلف فرويد "خارجا عن مبدأ اللذة" على نحو عام و مفهوم الإسقاط الوارد فيه على نحو خاص، فالإسقاط الذي يقصده فرويد هو اعتقاد الأنا بأن الأصوات و بعض الصور التي تتمثلها هي موجودة في العالم الخارجي و لكنها ليست سوى تعبيرات عن المكبوتات اللاشعورية التي سببها الصراع بين العالم الخارجي و الدوافع البيولوجية، و هذا المفهوم بعيد تمام البعد عن رؤية شوبنهاور القائل بأن "العالم هو تمثيل أناي و هذا التصور هو حقيقة لكل موجود حي و مفكر"[18]، إن تصور شوبنهاور نتاج لتأمل فلسفي بحت، على عكس تصور فرويد التجريبي العلمي الذي لولاه لما تم علاج و اكتشاف ماهية الهلوسات التي كانت تجول في بال المرضى العقليين، إن الأنا لدى فرويد متصلة بمنظومة الإدراك لأعضاء الحواس، يقول رايش:
"إن الطبيعة المادية للأنا أمر لا يقبل الجدل. ذلك لأنها متصلة بمنظومة الإدراك لأعضاء الحواس. و الأنا ليست حرة في أفعالها، بل تابعة للهو و الأنا العليا، أي تابعة لما هو بيولوجي و ما هو اجتماعي. فالتحليل النفسي إذن ينكر حرية الإرادة. و نظرته تتفق مع نظرة انجلز."[19]
إن سلسلة الاستدلالات التي يقوم بها رايش و التي يقوم على إثرها من الانتقال من نتيجة إلى نتيجة أخرى دون أن يفقد بوصلة نقده، تمكننا من تلمس فطنته و وضوح أفكاره و منهجه، فعن طريق برهنته على الجوهر المادي للأنا استدل و انتقل إلى نتيجة التقاء الماركسية مع التحليل النفسي في القول بالحتمية و أن ليست هناك حرية إرادة، فالماركسية ترى بأن الناس لا يختارون ظروفهم، و نورد هنا نصا مقتطفا لكارل ماركس يوضح ذلك ورد في بحثه "الثامن عشر من برومير لويس بونابارت":
"يصنع الناس تاريخهم الخاص، ولكنهم لا يصنعونه من قطع حرة، وليس ضمن أوضاع مختارة منهم أنفسهم، وإنما في ظل أوضاع قائمة مسبقا ومعطاة وموروثة على نحو مباشر. إن التقليد الخاص بكل الأجناس ينيخ بكلكه مثل كابوس على دماغ الأحياء، وحين يظهرون (أي الناس) أنهم منشغلون بتحويل أنفسهم وبتحويل الأشياء، وبخلق أشياء لم تكن موجودة...، فإنهم يستعيدون، وجلين، أشباح الماضي، ويضعونها في خدمتهم"[20]
و نظرة انجلز التي أشار إليها رايش و التي وردت في مؤلف "ضد دوهرنج" تؤكد ذات الشيء و تدلنا إلى نتيجة أخرى و منها نتبين أهمية إشارة رايش لها إذ تقول : "الحرية لا تتلخص في الاستقلال المتخيل عن قوانين الطبيعة، بل في معرفة هذه القوانين و الإمكانية المستندة إلى هذه المعرفة لحمل قوانين الطبيعة بانتظام على العمل من أجل أهداف معينة،... بالتالي فإن حرية الإرادة ما هي إلا القدرة على اتخاذ القرار مع معرفة بالأمور."[21]
إن مفاد رايش من الإشارة إلى هاته القولة يمكن تقسيمه إلى ثلاث أقسام: القسم الأول هو التأكيد على مادية التحليل النفسي، القسم الثاني هو اتفاق الماركسية مع التحليل النفسي في النظرة الحتمية، أما القسم الثالث فهو استنتاج ضمني فإذا كان العلاج المعتمد من طرف التحليل النفسي "التداعي الحر" لا يقضي على الصراع القائم بين الهو و الأنا العليا، بل يكشفه فقط حتى يصبح مدركا من طرف المريض فلا يقرر كبت رغباته مرة أخرى بالتالي لا يقع في فخ المرض و السقم، فذات الشيء ينطبق على الاشتراكية، فتحقيق هاته الأخيرة لا يعني أبدا القضاء على الصراع القائم بل التحكم به بعد ما تم إدراكه، و هذه هي حرية الإرادة التي أشرنا إليها بماركس و إنجلز أعلاه، فيغدو النقد المزدوج لرايش جدليا إلى دفاع مزدوج عن التحليل النفسي و الماركسية و مساعيها، و بهذا يبرهن رايش على أن أشباح الماضي التي يضعها الناس في خدمتهم تتضمن اللاشعور أيضا، ويتحول هنا الدفاع المزدوج هو الآخر إلى تطوير مزدوج و توسيع نظرة كل من النظريتين العلميتين، فيتجلى لنا بوضوح تكامل النظريتين المتناقضتين في الظاهر و أنسب عبارة تصف هذا الوضع هي للفيلسوف إبن رشد و التي من الممكن تحويرها و القول بأن :"العلم لا يضاد العلم بل يقف و يشهد له".
و لكن التطوير و كذا النقد الخلاق لدى رايش لن يقف عند هذا الحد، بل سيعمل على تصحيح بعض التصورات و لكن هذه المرة من داخل التحليل النفسي، هذه التصورات التي يذهب لاعتبارها انحرافات مثالية، ليس بالمعنى الضيق للكلمة و إنما بمعنى تصحيح مسار حتى لا يكون عرضة للتأويل المثالي، و كما سبق و أن أشرنا في الفصل السابق، فإن نقد هذه التصورات التي هي بمثابة ثغرات هو شرط التقدم المعرفي و العلمي، وهو ما ينطبق على تعاطي النظريات العلمية مع سابقاتها من نظريات إن نحن تبنينا النظرة الجدلية.
سيعمل رايش في معرض تأسيسه لتحليل نفسي مادي-جدلي إلى نقد بعض المفاهيم، هذه المفاهيم التي تتخذ في بعض الأحيان كمفاهيم مجردة و مطلقة، و هو الشيء الذي يتنافى و العلم، فهو لن يعمد إلى تفنيدها بل إلى التأكيد على نسبيتها و جذورها الواقعية، مما سيجعلها تنزل من السماء إلى الأرض إن نحن أردنا استعمال عبارة ماركس.
و كما رأينا سابقا فإن هدف الدافع و الذي يجد موقعه في "الهو" هو إرضاء الحاجة التي خلقت التوتر الدوافعي، إلا أن هذا الإرضاء لا يتم إرضاءه في الغالب، فهو يتعرض لمجموعة من القوانين و التقييدات الصارمة التي لا تعزو إلا أن تكون تقييدات و قوانين اجتماعية بهدف إرجاء مطلب "الهو" أو إشباعه أو منعه بالمرة لكون طلب اللذة هذا قد يشكل خطـرا على الذات، و تختصر هذه التقييدات في مفهوم "مبدأ الواقع"، هذا المفهوم الذي سينطبق عليه ما ذكرناه أعلاه من إنزال من السماء إلى الأرض.
فهذا المبدأ الذي تسعى الأنا عن طريقه الموازنة ما بين الرغبات و المثل المجتمعية، يغدو شكلانيا مع رايش بحيث أنه مبدأ مطلق عام، و هذا حكم لا علمي بحيث أن الواقع/المجتمع الحالي مغاير تماما للمجتمعات السابقة، بالتالي ليست هناك مراعاة للخصوصيات المادية التاريخية، و عليه فإن هذا المبدأ "أي مبدأ الواقع" لا يعزو إلا ان يكون حاليا هو "مبدأ المجتمع الرأسمالي".
"إن تعريف مبدأ الواقع بأنه متطلب اجتماعي، يبقى شكلانيا، إذا لم يشتمل هذا التعريف بشكل ملموس على أن مبدأ الواقع في حالته الراهنة هو مبدأ المجتمع الرأسمالي أو بالأحرى مبدأ مجتمع الإقتصاد الفردي"[22]
بالتالي من الممكن التعبير عن مفهوم الموازنة الذي تقوم به الأنا بعبارة "التكيف مع الواقع أو المجتمع"، و إن نحن قمنا بالتحديد أكثر كما قام رايش بذلك سيغدو هذا المبدأ عبارة عن تكيف مع المجتمع الرأسمـالي الطبقي، و كما هو معلوم في النظرية الماركسية فإن الإيديولوجيا السائدة في أي مجتمع طبقي هي إيديولوجية الطبقة السائدة، و بما أن كل الأخلاق و المثل العليا ما هي إلا تصورات الطبقة السائدة، و التي لا تعبر إلا عن مصلحة هاته الأخيرة، فالتكيف مع المجتمع يغدو هنا قبولا بالإيديولوجيا السائدة و الخضوع لها أي الخضوع للطبقة السائدة. "للطبقة السائدة مبدأ واحد للواقع و هو ما يخدم الحفاظ على سلطتها"[23]، بالتالي يغدو هذا المفهوم إذا ما تم التعامل معه كمعطى مطلق إلى صيغة محافظة رجعية، لأنه يطالب البروليتاري/العامل بالرضوخ للطبقة السائدة و الامتثال لما يخدم مصلحتها بداعي وقاية و حفظ الذات، و لكن بمجرد أن ننزع القشرة المثالية لهذا المفهوم و يتم التأكيد على نسبيته حتى يصير مفهوما علميا أي ثوريا بالضرورة، و هو الشيء الذي أراده رايش، لأنه يعبر عن الواقع كما هو و يفضح الاستغلال المقنع، والكشف عنه بالضرورة يؤدي إلى رفض السلطة البرجوازية و التحرر بالمعنى الذي أشرنا إليه سابقا في هذا الفصل، فالحقيقة ثورية بالضرورة كما قال غرامشي و الضرورة عمياء مادامت غير مدركة كما قال هيغل. ،إذا فالتعامل بالإطلاقية مع مبدأ الوقع على حد تعبير رايش "يقف على طرف نقيض من الطابع الثوري موضوعيا للتحليل النفسي"[24].
و هو الشيء الذي لا ينطبق على هذا المفهوم فقط بل على جل مفاهيم التحليل النفسي، و التي تصير رجعية الوظيفة بسبب منح صفة الإطلاقية لها، فمبدأ اللذة نسبي كذلك يتحدد بفضل الواقع الإجتماعي، فنقاش رايش للإرضاء الإستي يذهب في منحى أن هذا الأخير كان ضروريا في العصر الذي يهتم بالتنظيف و الطهارة بشكل اكبر كالمجتمع البرجوازي[25]، على عكس المجتمع التي لم تكن تولي للطهارة اهتماما أكبر كالمجتمعات البدائية، و المجتمع بدوره ليس كيانا منسجما بل يتكون من طبقات، و وضعية كل طبقة هي الأخرى محدد لهذا الإرضاء، فيذهب رايش إلى أن النزوعات الإستية مرتبطة بشكل كبير بالطبقة البرجوازية لإيلاء هاته الأخيرة اهتماما أكبر بالطهارة، على عكس الطبقة البروليتارية/العاملة التي تبرز الدوافع العانية معها بشكل أكبر، فكل شيء مرتبط بالواقع الإجتماعي و سبل التربية.
إن إنزال المفاهيم الرئيسية في التحليل النفسي إلى الأرض سيطال عقدة أوديب هي الأخرى، هذه العقدة التي فصل أمرها في بحث فرويد "الطوطم و الحرام" سبق و أن انتقدها العالم الأنثروبولوجي البولندي برونسيلاف مالينوفسكي، و على إثر أبحاثه سيبني رايش أطروحته، كما سبق و أن بنى إنجلز أطروحته على أبحاث هنري مورغان و باخ أوفن، فالتأكيد على ارتباط هذه العقدة بالمجتمع و نسبيتها لا يكون ممكنا إلا من خلال الأبحاث الأنثروبولوجية و الإطلاع بما فيها الدراسات أعلاه، فعقدة أوديب تبدو و كأنها ثابتة و مطلقة، وهذا بحسب رايش راجع إلى سببين: "إما أن ينظر إلى عقدة أوديب نظرة لا تاريخية فتعتبر معطية في طبيعة الإنسان غير متغيرة و غير خاضعة للتغيير. السبب الثاني يمكن ان يعود إلى أن شكل الأسرة الذي تقوم عليه عقدة أوديب الحالية، ما زال نسبيا على حاله منذ آلاف السنين."[26]، و بما أن رايش جدلي النظرة و المنهج فلا يمكنه بطبيعة الحال تبني السبب الأول لذا سيجعله يتطرق للسبب الثاني و يبحث بصدده، و خير دراسة التجأ إليها هي دراسة مالينوفسكي المادية، فهذا الأخير ذهب إلى أن عقدة أوديب واقعة مشروطة إجتماعيا متغيرة بتغير المجتمع، فلقد قام في مؤلفه "الجنس والكبت في مجتمع متوحش" بنقد النظرة اللاتاريخية لعقدة أوديب و ذلك بطرح تساؤل مهم:
"هل ننظر إلى عقدة "أوديب" كما رآها فرويد، من أنها ظاهرة إنسانية عالمية توجد في كل المجتمعات والثقافات، أم أنها نتاج شكل معين من أشكال النظم العائلية؟ وهل يمكن ان تظهر في مجتمع يسود فيه نظام القرابة الأمومي؟[27].
فعقدة أوديب بحسب مالينوفسكي مرتبطة بالأساس بالأسرة البطريركية، و هو الشكل الحالي للأسرة، و نورد هنا مقتطفا من إحدى المقالات التي تناولت دراسة مالينوفسكي:
"في دراسته الميدانية لخصائص العائلة في جزر التروبرياند وتتبع نظام القرابة الأمومي، وجد مالينوفسكي أن الولد ينتسب إلى أمه ويصبح المولود عضواً في عشيرة الأم ولا يرتبط بعلاقة قربى مع عشيرة الأب، ولذلك يرتبط اسمه باسم عائلتها ولا يرث الابن شيئاً من أبيه بل يرث من خاله، صاحب السلطة الرئيسة في العائلة و المسؤول الأول فيها. وتليه في المرتبة اخته التي لها مركز اجتماعي واقتصادي مرموق من خلال ممتلكاتها الخاصة. ولذلك لا يحدث أن يشاهد الأطفال أمهم وهي في حال خضوع لزوجها.
كما لاحظ مالينوفسكي، أنه مع أن الأب يعيش في قريته، غير أنه لا يهمل أطفاله، بل يهتم بهم كثيراً ويلعب معهم. لاحظ أيضاً ان الأطفال يتمتعون في المجتمع الأمومي التقليدي بحرية كبيرة وفي كل المجالات."[28]
لذا و اعتمادا على هذه الدراسة سيذهب رايش إلى التأكيد على الطابع النسبي لعقدة أوديب، كما سيذهب إلى اعتبار ضرورة زوال هذه العقدة في المجتمع الاشتراكي و هو الشيء الذي لن يتم إلا من خلال التغيير الجذري للمجتمع أي الثورة الاشتراكية، بالإضافة إلى ثورة أخرى هي الثورة الجنسية، و هذا كله يتطلب بحسب رايش دراسات أعمق للنظام الأمومي الذي لم يولى اهتماما من طرف الباحثين باستثناء دراسات باخ أوفن و هنري مورغان و انجلز.
سيقوم رايش بقفزة نوعية بعد دفاعه عن الأرضية المادية للتحليل النفسي، إذ سينتقل إلى الكشف عن الجـدل من داخل الحياة النفسية، فالتحليل النفسي كان قد قام بكشف البذور الجنينية للجدل في الحياة النفسية (الصراع بين الأنا العليا و الهو باعتباره محركا للحياة النفسية)، لكن افتقار التحليل النفسي للمنهج الجدلي، سيجعل من المستعصى عليه الكشف عن جدلية الحياة النفسية، كما كان الشيء ذاته مستعصيا على ديفيد ريكاردو في كشفه للصراع القائم في النظام الرأسمالي، لكنه كان من المتعذر عليه تطوير نظرته للاقتصاد السياسي و طبيعة النظام، لذا و كما كان الدياليكتيك المفتاح لولوج ميادين التاريخ، الطبيعة، المجتمع و الإقتصاد، سيكون المفتاح لولوج بوابة التحليل النفسي، و لكن هذه المرة ليس على يد كارل ماركس و فريديريك إنجلز بل على يد فيلهلم رايش. و هي ليست بمحاولة تعسفية بفرض منهج على ميدان ما بل اعتبارا لأن الجدل ليس شكلا للتفكير فقط، و نورد هنا مقتطفا لـ ليون تروتسكي يوضح تصور رايش للجدل:
"الدياليكتيك ليس خيالا ولا تصوفا، ولكنه علم أشكال تفكيرنا في حدود أبعد لأنه ليس مقتصرا على المشاكل اليومية للحياة ولكنه يحاول الوصول إلى فهم عمليات أكثر بعدا وتعقيدا،...نحن ندعو دياليكتيكنا ماديا طالما أن جذوره ليست في السماء ولا في عمق "إرادتنا الحرة"، ولكن في الواقع الموضوعي، في الطبيعة. فينشأ الوعي من اللاوعي، علم النفس من علم وظائف الأعضاء، العالم العضوي من العالم غير العضوي، النظام الشمسي من السديم،... لقد نشأ دياليكتيك التفكير، من دياليكتيك الطبيعة وهو يكتسب بناء على ذلك شخصية مادية تماما."[29]
إن هذا المقتطف يلخص كل ما ذكرناه حول محاولة رايش لولوج بوابة التحليل النفسي بواسطة مفتاح الدياليكتيك، فالوقائع الجدلية التي كشفها التحليل النفسي في السيرورة النفسية، لن يكون من الممكن استيعابها إلا بالمنهج الجدلي، "كما أن الجدل في النفس حسب زعمنا "رايش يتكلم" لم يكن ليرى النور لولا طريقة التحليل النفسي"[30] من هنا تتجلى لنا أهمية الطرح الذي سبق و أن ذكرناه في الفصل السابق (ص 23 و 24) من ضرورة دعم العلوم دعما ماديا حتى لا تكون عرضة للتأويل المثالي، وبالتالي عدم فصل التحليل النفسي عن الفلسفة المادية، و هي المهمة التي تصدى لها رايش.
سيبدأ رايش بكشفه للجدل في الحياة النفسيةـ انطلاقا من تحليله لكيفية حدوث العارضة العصابية، و التناقضات التي تنطوي عليها و تتحرك وفقها، فالعارضة العصابية تحدث أولا بسبب التناقض القائم ما بين الأنا العليا "المجتمع" و الهو"الدافع"، و الأنا تبقى حبيسة لهذا الصراع، لكن الأنا و كما يقول رايش أضعف من أن تدعم الواقع و أضعف من أن تتحكم بالدافع "ضعف الأنا هذا، الذي هو بدوره تبعة لتطور سابق، و الذي لا يمثل سوى مرحلة واحدة من تكون الأعراض"[31]، و عندما تكون هاته الأنا ضعيفة فدائما ما يتم تسوية الصراع القائم بكبت رغبة الدافع، هاته الرغبة و بحسب رايش نفيت و قبلت في آن واحد، فالكبت ليس قضاءا على الدافع بقدر ما يكون تغليفا له، يقول رايش: "تتغير الأنا نفسها، وعيها أصبح بجزء منه 'الدافع' أفقر و بجزء آخر 'هدوء عابر' أغنى."[32]، وبما أن الدافع لا يتنازل عن الإرضاء سواء في حالة الوعي أو اللاوعي، سيكون احتقان طاقة الدافع هو النتيجة، هذا الاحتقان سيتحول كيفيا 'التحول من الكم إلى الكيف' فيخترق الكبت، و يسيطر على الأنا و يطفو على سطح الوعي ولكن ليس بنفس الكيفية الأولى 'نفي النفي'، فهذه المرة يتغير الدافع بشكل متصنع و يظهر كعارضة عصابية، هاته العارضة التي تتوحد فيها كل هذه المتناقضات، قد تبين مع التحليل الرايشي بأن: "ليس هناك، إذن، ميل نحو تكون الأعراض، إنما يتأت التطور، كما رأينا، عن تناقضات التنازع النفسي."[33]، و لقد قسم رايش تطور العارضة إلى ثلاثة أطوار: 1-رغبة الدافع/حرمان العالم الخارجي، 2- كبت/احتقان الدافع، 3-اختراق الرغبة للكبت/صدود الأنا 'ولكن بشكل متصنع هذه المرة'، إذا فالعارضة العصابية تتطور جدليا وفق قانون وحدة و صراع الأضداد فتبدأ بصراع و تتحول كيفيا إلى صراع آخر و بموجبه يتم نفي الصراع الأول، و الصراع الجديد هو الآخر يحتوي على أضداد موحدة، فيتحول كيفيا مرة أخرى إلى صراع آخر 'نفي النفي' يحتوي عناصر من الصراع الأول 'الحالة الأولى' و الصراع الثاني 'النفي'، و عليه فإن العارضة تعمل جدليا وفق قانون وحدة و صراع الأضداد أو نواة الدياليكتيك كما عبر عنه لينين، ولقد طرح رايش هذا التصور بتحليله لإحدى زوجات العمال التي كانت تعاني من العصاب، و لن يكتفي رايش بهذا الكشف عن تطور العارضة العصابية تدريجيا ثم إلى وثبات، بل سيعرض لوقائع جدلية أخرى، و أبرزها وحدة الشعور و اللاشعور وصراعهما "التصور المكبوت هو في كل وقت واع و مع ذلك لا شعوري"[34]، قس على ذلك مثال آخر يتجلى في التحول من الكم إل الكيف، فكبت التوتر الدوافعي عن الوعي هو لذيذ في حدود معينة لكن سرعان و بمجرد تجاوز هذه الحدود تتحول اللذة إلى لا لذة، و بما أن الجدل يعلمنا بأن الشيء ليس هو هو، فلقد برهن رايش على ذلك من خلال واقعة التوتر و الاسترخاء المرتبطة بالدافع الجنسي، فالتوتر الناتج عن إثارة جنسية يرفع من الشهوة، لكنه في نفس الوقت يخفف من التوتر عبر الإرضاء في الإثارة، أي يحقق استرخاء، و به يغدو التوتر ليس توترا بل هو استرخاء في ذات الوقت، و الاسترخاء ليس استرخاءا بل هو توتر في ذات الوقت.
و عليه يستنتج رايش بأن الصراع بين ما هو داخلي 'دوافعي' و خارجي 'مجتمعي تربوي' هو محرك تطور الطفل بالإضافة إلى استنتاج مهم هو الآخر و لا يسعنا إلا أن نعرضه و يرتبط بشكل مباشر مع إشارتنا في الفصل الأول حول المحدد في العملية التاريخية، يقول رايش:
"إذا كان النزاع الداخلي و الخارجي يحدد التطور بصورة عامة، فإن الواقع الإجتماعي يملأ كلا من الأهداف الدوافعية و الروادع الأخلاقية بتصوراتها و محتوياتها العصرية، إذن فالتحليل النفسي يؤكد تمام التأكيد على المقولة الماركسية بأن الواقع يحدد الوعي، أي تصورات و أهداف الدوافع و الإيديولوجيات الأخلاقية الخ، و ليس بالعكس."[35]
بالتالي ووفقا لهذه النظرة فإن التحليل النفسي يهدم مفهوم الفطرة، و لكن هذا لا يلغي الشروط الفيزيولوجية التي تأتي مع الطفل، فهذه الشروط الفيزيولوجية هي الأخرى ناتجة عن عوامل أخرى و تدخل في إطار المعطيات و المقدمات المحددة مسبقا التي يشتغل الناس وفقها على حد قول ماركس، و إهمال العوامل النفسية و الاقتصار على العوامل الإقتصادية و المجتمعية، هو ضرب من المادية الإقتصادية و التي لا يمكن التعبير عليها إلا بالمادية المبتذلة، و كما قلنا سابقا فإن نقد رايش المزدوج هو في العمق دفاع مزدوج هذا الأخير الذي يغدو تطويرا مزدوج، و يتجلى الأول في نقد القراءات المثالية كالتي تقحم مفهوم الفطرة في ميدان التحليل النفسي، و في نقد القراءات المادية المبتذلة كتلك التي تستهتر بالعوامل النفسية، أما الثاني فيتجلى في الدفاع عن التحليل النفسي من المغالطات التي تمرر عليه كفهم مدرسة التحليل النفسي الإنكليزية التي ارتأت بأن ضعف الأنا هو ضرورة بيولوجية في حين أنه تعبير اصطلاحي نتيجة إعاقة الدافع[36]، و الدفاع عن المقولة الماركسية بأن المحدد هو إنتاج و إعادة إنتاج الحياة و لا شيء آخر، و التطوير المزدوج يتجلى في ملء الثغرات المثالية من داخل التحليل النفسي و تطوير مفاهيمه و دعمه ماديا، و كذا تطوير الماركسية لتشمل ميدان التحليل النفسي على اعتبار أنها النظرة العلمية للعالم التي تتطور بتطور الزمن، و عدم اعتبارها مذهبا مغلقا ينطوي على حقائق مطلقة و مقولات خالدة، بل نظرية جعلت مهمتها محددة في قراءة الواقع الموضوعي و الكشف عن القوانين التي تحكمه. فالنظرة الجدلية التي يتبناها رايش كانت تؤكد له باستمرار أن لا شيء "هو هو"، بالتالي لا شيء مادي مئة في مئة و لا شيء مثالي مئة في المائة، بل دائما ما توجد نزعات مثالية في فلسفات مادية، و نزعات مادية في فلسفات مثالية، و النظرة الأحادية للأمور هي نظرة ميتافيزيقية سواء كانت مادية أو مثالية.
إن معالجة رايش انطلقت من أساس وحدة الوجود المادية، فكل الوجود بالبنى التحتية و الفوقية مترابط عضويا، لذا فمعالجته "أي رايش" لكلا النظريتين الماركسية و التحليل نفسية انطلقت من هذا الموجب، فالماركسية هي من تقول بالوحدة المادية للوجود، و لكن و بالرغم من ذلك نجد بعض الماركسيين يقتصرون على العامل الاقتصادي مهملين عوامل أخرى كالعامل النفسي مثلا، بالتالي فإن ربط الماركسية بالتحليل النفسي كان يندرج في هذا الإطار، فالمعالجات البنيوية التي يتبناها الماركسيون الميكانيكيون و إن بدون وعي و الفرويديون تؤدي إلى نتائج من قبيل: الإقتصاد هو المشكل الوحيد- الأساس البيولوجي هو المحدد، غير أن الماركسية إلى جانب تغيير نمط الإنتاج أشارت إلى عوامل أخرى كالتربية و التعليم، فالتغيير الجذري يجب أن يأتي على كل هذه العوامل، إذا و من هذه النقطة بالذات يمكن استيعاب سبب ولوج رايش باب التحليل النفسي بمفتاح الدياليكتيك، عاملا بمبدأ ماركس القائل إذا أردت أن تكون جذريا عليك أن تنظر إلى الأمور في جذورها. و هو الشيء الذي سيفتح أعين رايش صوب معضلات جديدة و إعطاء قراءات جديدة لها بمقتضى إعادة الاعتبار للجانب النفسي، قراءة أرادت أن تحيط بهذا الأخير و لا تقتصر عليه.
*الطــالب ياسين إيزي، جامعة مولاي إسمـاعيل، المدرسة العليا للأساتذة-مكناس، ماستر الفلسفة والتربية.
[1] - بـول أ.روبنسون، اليسار الفرويدي، ترجمة عبده الريس، مراجعة و تقديم إبراهيم فتحي، القاهرة المجلس الأعلى للثقافة 2005، ص 51
[2] - فيلهلم رايش، المادية الجدلية و التحليل النفسي، ترجمة بوعلي ياسين، بيروت دار الحداثة، ص16
[3] - فلاديمير لينين، المادية و المذهب النقدي التجريبي، ترجمة دار التقدم، موسكو 1981، ص 303 و 304
[4] - فيلهلم رايش، المادية الجدلية و التحليل النفسي، ترجمة بوعلي ياسين، بيروت دار الحداثة، ص17
[5] - نفس المرجع السابق، ص21
[6] - نفس المرجع السابق، نفس الصفحة
[7] - سيجموند فرويد، الموجز في التحليل النفسي، سامي محمد علي و عبد السلام القفاش، مهرجان القراءة للجميع-مكتبة الأسرة 2000، ص30
[8] - فيلهلم رايش، المادية الجدلية و التحليل النفسي، ترجمة بوعلي ياسين، بيروت دار الحداثة، ص23
[9] - نفس المرجع السابق، نفس الصفحة
[10] - نفس المرجع السابق، ص24
[11] - نفس المرجع السابق، نفس الصفحة
[12] -http://ar.wikipedia.org/wiki/ ألفرد_أدلر
[13] - http://www.marxists.org/arabic/glossary/terms/23.htm
[14] - فيلهلم رايش، المادية الجدلية و التحليل النفسي، ترجمة بوعلي ياسين، بيروت دار الحداثة، ص28
[15] - نفس المرجع السابق، ص29
[16] - نفس المرجع السابق، ص30
[17]- طه عبد الرحمان، سؤال الأخلاق، الدار البيضاء – المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2000، ص 49 و 50
[18] - Arthur Schopenhauer, Le monde comme volonté et comme représentation), Traduit en français par Auguste Burdeau, (Paris: LIBRAIRIE FÉLIX ALCAN, 1912) p. 36
[19] - فيلهلم رايش، المادية الجدلية و التحليل النفسي، ترجمة بوعلي ياسين، بيروت دار الحداثة، ص33
[20]- د. طيب تيزيني، من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي، حمص - دار الذاكرة، الطبعة الأولى 1996، ص163 و 164
[21] - انجلس، ضد دوهرنج، ترجمة دار التقدم، مـوسكو 1984، ص133
[22] - فيلهلم رايش، المادية الجدلية و التحليل النفسي، ترجمة بوعلي ياسين، بيروت دار الحداثة، ص 25
[23] - نفس المرجع السابق، ص26
[24] - نفس المرجع السابق، نفس الصفحة
[25] - الإستية من الإست و هي كلمة عربية فصحى تعني فتحة الشرج و المنطقة الإستية هي المنطقة الشرجية، و المرحلة الإستية عند فرويد هي المرحلة التي ينتقل فيها الطفل من التلذذ الفموي (المرحلة الفموية) إلى التلذذ الشرجي.
[26] - نفس المرجع السابق، ص59
[27] - إبراهيم الحيدري، "إلكترا و أوديب بين فرويد ومالينوفسكي"، جريدة الحياة، الرياض – العدد: 16825، تاريخ النشر: 28-04-2009، ص29
[28] - نفس المرجع السابق، نفس الصفحة
[29] - http://www.marxists.org/arabic/archive/trotsky/1939/dialectics.htm
[30] - فيلهلم رايش، المادية الجدلية و التحليل النفسي، ترجمة بوعلي ياسين، بيروت دار الحداثة، ص39
[31] - نفس المرجع السابق، نفس الصفحة
[32] - نفس المرجع السابق، ص40
[33] - نفس المرجع السابق، نفس الصفحة
[34] - نفس المرجع السابق، ص45
[35] - نفس المرجع السابق، ص50
[36] - نفس المرجع السابق، ص40 (الإحالة 38.)