الأُسُس النظرية للفهم المَيداني للإسلام* ـ محمد الحمّار

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
damas.jpgالدين على دفة. العلم على دفة. وبين الدفتَين كتاب الحياة للعرب والمسلمين؛ كتاب مفتوح لكنّه مشفّر و غير مقروء. فإن كنت من علماء الدين لا حق لك في أن تجتهد في العلم الدنيوي، لأنّ الأوان قد فاتك. وإن كنت أخصائيا في علم من العلوم غير الدينية لا حق لك في أن تجتهد في الدين، لأنك لست من علماء الدين. ذلك ما حكمَت به التقاليد والأعراف إلى حد الآن. و الوضعية جد حرجة ومسألتها جد شائكة، وقد تفاقمت مع مرور الحقب في تاريخنا المعاصر. مع هذا فإنّ الفكر العربي الإسلامي لم يكن قادرا على رفع التحدي القاضي بتقريب ما هو ديني من ما هو دنيوي من العلوم. وكلمة تتردد مئات المرات على ألسنية المفكرين من جميع المشارب: التأصيل؛ تأصيل الواقع في الدين، و الدين في الواقع، والحداثة في الثقافة العربية.
  وبودّي أن أستهلّ الإجابة في صلب هذه الإشكالية باستعراض وجيز لوضعية التشكل الإيديولوجي العام الذي آل إليه الحرمان من القدرة على التأصيل. ثمّ لا مفرّ من عرض أهمّ التبعات الفكرية لذلك التشكل الناتج عن حرمان من مواقف عادة ما تكون إمّا متصدّية للتأصيل، رغم ادعائها عكس ذلك، وإمّا صارفة النظر عنه. كما أودّ، في مرحلة تالية، أن ألقي بعض الضوء على نتائج بعض التجارب في الفكر العربي أخذت من التأصيل هدفا لها. وأخيرا أعتزم عرض رؤية معينة يكون فيها تأصيل الحداثة والإسلام في بعضهما البعض بواسطة تكامل الاثنين أمرا معقولا ومقبولا.
 إنّ من ينادي بالتأصيل هم عادة ناشطو الإسلام السياسي ورموز الإسلام التقليدي المؤسساتي. إلاّ أنّ الغريب في الأمر، من الوهلة الأولى، أنهم هم الذي يبادرون باستعمال ورقة النقض ضد أية محاولة من قبيل التقارب بين الدين والعلم. ذلك لأنهم بقوا حبيسين لمبدأ مغلوط ورثه الفكر العربي عموما من تاريخ الكنيسة: فصل العلم عن الدين، وبمقتضاه اعتبروا أنفسهم، دون سواهم من أهل العلم، الورثاء الوحيدين للدين. فتراهم يقفون سدّا منيعا أمام كل "تطفل" على الدين من لدن دعاة العلم ولو كان دعاة العلم من المؤمنين.

   أمّا دعاة العلمانية فلا يعدو أن يكون التأصيل عندهم مكيدة اخترعها منافسوهم لتضليلهم، أو كمينا نصبوه لهم للقضاء عليهم. ويبدو أنّ المؤمنين منهم وهم غالبية على ما أعتقد، يئسوا من حلّ اسمه التأصيل. وقد يعود كل هذه الخلط لديهم إلى كونهم، هم أيضا ذوي إرث من عند الغرب. وإرثهم هو أيضا شبيه بما ما أفرزه تاريخ الكنيسة، لكن من المنظور المعاكس لِما تشبّث به إخوانهم السلفيون، أي الوجه الآخر لنفس العُملة: فصل الدين عن العلم، وبمقتضاه اعتبروا أنفسهم، دون سواهم – أعني المنادون بشعار "الإسلام هو الحل" - الورثاء الوحيدين للعلم. والدين عند العلمانيين لا يعدو أن يكون طقوسا تُقام في البوتقة الخاصة ذهب بعضهم إلى ذروة المهازل لمّا شبّهوا التديّن باللقاء الجنسي، حدوده غرفة النوم .
 وأمام هذا الوضع السيئ، وضع التصدّي إلى التجريب والاكتشاف من جهة، وإقامة جدار للصدّ ضد كل محاولة حضارية للتعبير بالدين، برزت آثار جد سيئة على الفكر عموما وعلى المسار العلمي خصوصا. ومن أخطر التبعات أنّ الإنسان العربي صار شاهدا على خلط فضيع بين الإيمان كشعور محرّك للعقل وبين الدين كشرعة و منهاج، بين التوحيد كعقيدة تحرّك كل فعاليات الحياة وبين الإسلام كنظام متكامل. وأفترض أنّ هنالك أرضية للتفاهم بين الإسلاميين والعلمانيين قد تأخذ الجميع إلى عالم لا نرى فيه الغيوم تحوم حول مفهوم التأصيل. وهي أرضية للتلاقي حول الإيمان بعقيدة التوحيد من باب أولى وأحرى. إذ تزول كل أضغاث سوء التفاهم بين الطرفان الاثنان المتناقضان ويبقى الاتفاق حول الإيمان.
إنّ الذريعة التي يتخذها كِلا الفريقين للتنصّل من مسؤولية التأصيل هي بحد ذاتها سبب ٌ في حمل الفريقين على الاضطلاع بمسؤولياتهما كاملة في إطار التأصيل والتأليف. فلأنّ فريقا منهما يؤمن بالدين إيمانه بالعلم لكنه يختار الأوّل حصانا لمعركته بينما الفريق الآخر يؤمن بالعلم إيمانه بالدين لكنه يختار العلم حصانا لمعركته، سيكون من الشذوذ بمكان لو رفض أحدهما علما يُزكّيه الإيمان أو إيمانا يزكّيه العلم.
هكذا بات يتّضح من يوم لآخر أنّ منهجية التأصيل  تطرح نفسها كمحاولة للسماح لنوعين من الإيمان بأن يكمّلا كلاهما الآخر: الإيمان الديني والإيمان العلمي. إذ لا الإسلام دين كهنوتي مثل المسيحية حتى يبقى شطر الأمّة يسمّون أنفسهم السلفيين أو الأصوليين أو الإسلاميين السياسيين، ولا العلم بغريب عن الدين الحنيف حتى يحتبس التواصل بين هؤلاء وبين أولئك الذين اتخذوا من العلم عقيدة يتناطحون بواسطتها معهم.
 وذلك هو الطرح الذي سأعرضه، لكن ليس قبل أن  أتناول بعض التجارب الهامة و التي تعود أهميتها بالخصوص إلى كون روّادها كانت ضالتهم (معظمهم) الإيمان بالدين وبالعلم معًا، ما مكّنهم من  محاولة التموقع بعيدا عن الاستقطاب بين مؤمن يبجلّ الطقوس على التدبّر (السلفيون والإسلام السياسي) وبين مؤمن قد يضحّي بإيمانه في سبيل إعلاء كلمة العلم (العلمانيون).
في الحقيقة ليس هنالك شحّ في عدد المحاولات في التنوير من لدن مفكرينا وأساتذتنا الأجلاّء. وقد جرّب العديد منهم إرساء الدعائم لتقريب الإسلام والعلم كلاهما من الآخر. لكنّ الشحّ في الكيفية هو الذي جعل  الدرب طويلا لبلوغ غاية التنوير والتأصيل والتأليف.
منهُم من يحفر في التراث الإسلامي ليستخرج منه ما يمكث في الأرض وينفع الناس، وليردّ ما فسد منه، في مسعى للتأليف بين "شرعية الماضي وشرعية العصر" (حسن حنفي). لكنّ خطرا كبيرا يحفّ بعملية البحث في الماضي: غض البصر عن الحاضر و تحنيط الماضي ورُبما توليد ردّة فعل ضدّ ثقل الماضي ستؤول إلى اغتراب أصحابها. والاغتراب ناتج عن كثير من الحفر مع ضياع غرض تجبيس  و ترصيص ورَتق ما انقطع وانكسر وانشقّ ("القطيعة" في الفكر العربي الإسلامي حسب الجابري). ومنهم من قضّى العمر في مراجعة أصول الدين (محمد شحرور) والحالُ أنّ هذا الصنيع يُعدّ اختلاقا لحاجيات ليست حاجيات المسلم المعاصر. ومنهم، سامحه الله، من شخّص العلّة على أنّها في داخل الإسلام ("معالجة الإسلام"، عبد الوهاب المؤدّب) بينما بات متأكدا أنّ المسلم هو المريض (وقد شرحنا ذلك في دراسات سابقة). ومنهم من يعمل جاهدا على إماطة اللثام عن الوجه التسلطي والاستبدادي للإسلام التقليدي ومناوراته بالاشتراك مع السلطة الدنيوية (نصر حامد أبو زيد). ومنهم من يرى في التفسير المقاصدي للقرآن الكريم ارتقاء بالدين إلى مستوى العصر(محمد الطاهر بن عاشور، محمد الطالبي وغيرهما).
لا شك أنّ تلك الأعمال مفيدة في مُجملها على أية حال، خاصة لِما فيها من تَعرية للجوانب الغامضة من التراث الإسلامي وكذلك لِما فيها من تنوّع في الأدوات والوسائل والأفكار. إلاّ أنّها تظلّ مُغالية في التجديد تارة، أو مُركزة على جانب التنوير السياسي دون سواه تارة أخرى، أو مقتصرة على مراجعة الفقه التشريعي والاجتهاد الديني طَورا، بينما المجتمع العربي المسلم يفتقد إلى الفقه الحضاري/ فقه الواقع (وهو أشمل بشهادة عديد علماء المسلمين).
ثُمّ كيف سيتسنّى للفقه الحضاري - أو لفقه الواقع - أن ينشأ ويترعرع لمّا يكون العقل المجتمعي مفتقرا إلى أرضية تتشكل فوقها المقومات الأساسية لذلك النوع من الفقه. وافتقار تلك الأرضية يعود إلى أنّ الأعمال التي أُنجزت إلى حدّ الآن، والتي ذكرنا بعض العيّنات الممثلة لها في الفقرة السابقة، عادة ما تُبجّل "المعرفة المدلّلة" على "المعرفة المعللة" (التعبيران لعبد الكريم سروش)، وتُفضّل منهج الاستنتاج (من النص القرآني) على منهج الاستقراء (انطلاقا من الواقع باتجاه النص)، وتُولي التحليل أهمية على حساب التأليف، تأليف منظومة دينية و علمية متكاملة. بينما التمادي، هكذا، في إنجاز أعمال لا تفي بالحاجة التنويرية  يُعدّ  بحد ذاته  حجة على ضرورة إرساء الأرضية الموصوفة، بناء على أنها مطيّة عضوية في نسق التنوير عموما وفي مشروع الفقه الحضاري خصوصا. أمّا المحور الأساس الذي ستتجسّد من حوله مقومات تلك الأرضية التنويرية، وهو الغرض من العمل الذي سأقدّمه، فهو لا شيء غير اتحاد الرؤية الإيمانية مع الرؤية العلمية ابتغاء وصل الدين والعلم كلاهما بالآخر.
 كما أنّ علماء مسلمين أجلاّء آخرين اهتدوا أيضا، بفضل إيمانهم، إلى البحث عن الوسائل العلمية الكفيلة بإزاحة الستار الحديدي المنتصب بين "الإسلام المصدري" (العبارة لخليل أحمد خليل) والمسلم المعاصر في مَسْعاه نحو ترجمة ما في المصدر إلى فعل في التاريخ الإسلامي، الحاضر منه والمستقبلي. إلاّ أنّ الكيفية التي سأطرحها لا تكتفي بالإيمان في رُتبة المحرّك للتفكير وللبحث وللاجتهاد، وإنّما تزجّ بالإيمان عن طواعية كعامل مركزي في داخل المنظومة النظرية. كما أنها لا تكتفي بالعلم كتوصية يحث عليها الدين و الإيمان مع بقائها خارجة عنهما، بل تتخذ من العلم منهجية لتجديد العلم والتديّن معا.
كيف ذلك؟ ما من شك أنّ التكامل المأمول بين الدين والعلم سيكون بدمج كلاهما في الآخر. إلاّ أنّ طرحاً مثل هذا الذي يبجّل أن يكون الإيمان، وليس دين الإسلام ككُل، هو المدخل للدمج، لا بدّ له أن يكون مقنعا. وليس من الهيّن أن تُقنع من عقيدتهم التوحيد ودينهم الإسلام بأن يصبروا على الاكتفاء بالإيمان مَدخلا. لذا وجب أن أجيب عن سؤال"كيف سيكون الإيمان مدخلا للدمج؟
لكي يكون ذلك كذلك أفترض أنّ الاكتفاء بالإيمان ليس اكتفاء إقصاء وإنّما اكتفاء إثراء. وعندئذ سأحاول بيان أنّ الإيمان بصفته المُغنِية سيُعيد تدوير الجوانب المكمّلة للإيمان أي العبادات والأخلاق، قبل أن يُثريها من أجل الغاية المرسومة: إعادة ربط الأواصر المفقودة بين الدين الحنيف والعلم. هكذا أعتقد أنّ الطرح سيكون ملتزما بشمولية الإسلام وبالاتحاد الذي تسمح به عقيدة التوحيد. وحينئذ لن يحدث ما يخشاه كل مسلم غيور على الدين من يشعر المؤمن بما تقسيط أو تقسيم أو تجزئة.
فكل مؤمن يعلم ( أو من المفروض أن يعلم) أنّ من الآثار الطيبة للإيمان بالله وباليوم الآخر أنّه يحث محترف المهنة وأخصائي المجال العلمي والباحث في الحقل المعرفي، على حبّ مهنته أو اختصاصه أو مجال نشاطه أو علمه. وهذا التعلّق الإيماني بمادة التخصص العلمي يولّد بالضرورة تعلّقا مماثلا بالعمل المُزمَع إنجازه من طرف صاحب الاختصاص. فالتعلّق بالعلم والتعلّق بالعمل التابع له، اللذان سيتحققان بفضل الإيمان بالله خالقا وبمحمد خاتم الأنبياء، هو التفاعل الأوّلي والمبدئي بين الإيمان والعلم. وهو تفاعل ممتاز لأنه ضروري، إلاّ أنه بات غير كاف لبلوغ غاية الدمج.
فِعلا لمّا كان الوصل بين الدين والعلم من الطوارئ الفكرية في يومنا هذا، لا يسعني إلاّ أن أذهب إلى تصوّر مرحلة أرقى من التفاعل، يكون فيها الشخص المؤمن والمُنفذ للواجب العلمي والعملي غير مُكتفٍ بالتنفيذ التقني والمهني لعمله، بل لا مناص من أن يمتدّ التفاعل بين إيمان الشخص وعلمه إلى درجة أن تتشكل لدى الشخص المعني رؤية علمية ومهنية معينة، خاصة به. فمِن حِكم الإيمان الصحيح، وهو إيمانٌ بالدين الحق، أن يموّن تلك الرؤية بنظرة فيها من الشمولية ما في الدين بالذات، وفيها من الانسجام بين عناصرها ما يؤهلها لأن تكون نسقا قائما بذاته مستوحى من منظومة الإسلام ومن روح الإسلام. هكذا يكون النسق العلمي الذي تمّ توليدُه، مُزوّدا بأفضل ما أراد الله للمسلم  من خصوصيات وصفات: التوحيد. فيكون النسق العلمي مزوّدا بمواصفات الوحدة العلمية الكاملة والمندمجة.وهذه هي المرحلة التفاعلية الثانية.
أمّا التفاعل الثالث والأخير بين الدين والعلم فيتمثل في أن تعود الرؤية العلمية الجديدة، كوحدة متكاملة بموجب مرحلة التفاعل الثانية، بالانعكاس هي الأخرى على الدين فتؤثر في المؤمن، الذي تشبّع في الأثناء بالمعرفة العلمية المستلهمة من الإيمان، على نحوٍ يجعله يولّد رؤية إيمانية دينية مستحدثة، خاصة به وبتخصصه العلمي والمعرفي إلاّ أنها في الوقت ذاته محافظة على أواصرها مع ثوابت الدين الحنيف في العبادات والأخلاق والمعاملات.
 وفي الأثناء لا خوف على تلك المُتَمّمات الجوهرية لدين الإسلام من أن تندثر أو أن تتلاشى لا قدّر الله. فما فتئ أن لعب الإيمان دوره حتى ساعد العالِمَ المؤمن، في مرحلة التفاعل الثالث هذه، على مراجعة شاملة لأركان الإسلام قاطبة. إذ أنّ العالم المؤمن همَّ  بتوظيف الإيمان في عملية استنهاض هِمّته نحو تجاوز مرحلة حُب العمل إلى مرحلة إنتاج العمل (التفاعل الأوّل والتفاعل الثاني) ثمّ  ها هو الآن في مرحلة إنتاج التديّن الأفضل والأرقى.
والسبب في أن تكون المرحلة مولّدة، هكذا، لتجربة دينية فردية ومتفرّدة أرقى من سابقاتها، لدى نفس الشخص، له وجهان اثنان. من جهة لأنّ العلم الذي يختص فيه صاحب التجربة، دون سواه من  العلماء الآخرين (من نفس الاختصاص وكذلك في اختصاصات أخرى)، يكون قد أضفى على تلك الرؤية الدينية المستحدثة خصوصيات تُحسَب على علمه ولا تُحسَبُ بالضرورة على علم يُتقنه شخص آخر. ومن الجهة الثانية لأنّ شخصية صاحب التجربة الدينية وطبعه وخصاله العقلية والعاطفية هي غير شخصية وطبع وخصال عالم آخر. وبالرغم من أنّ هذه الخصوصيات لم تُطبَع بمعزل عن تدبّر ثوابت الإسلام، التي هي ملك كافة المسلمين، إلاّ أنه لا يمكن لأحد غير صاحب الاختصاص المعنيّ أن يُضفيها عليها. ومن ثََمّ يمكن الحديث عن وحدة إيمانية خصوصية مُلائمة لوحدة علمية ومعرفية ومهنية دون سواها من الوحدات التي سيتمّ توليدها بواسطة علماء مؤمنين آخرين.
 وفي هذا الإطار تندرج دراستي "الألسنيات لإحياء الكفاءة في فهم الإسلام والحياة" والتي قصدتُها نواة أولى لرؤية تفاعلية مندمجة، بوجهيها المُتفاعلَين، الديني والعلمي. وقد أطلقتُ اسم "الإسلاميات اللغوية التطبيقية" على تخصّصي برؤية تفاعلية مندمجة تدمج الدين بعلم الألسنيات وبعلوم التربية . وقد يسمّي أخصائيّ في علم الطب، مثلا، رؤيته التفاعلية المندمجة "الإسلاميات الطبية" أو ما شابه ذلك. وقد يسمّي أخصائيّ في علم النفس رؤيته التفاعلية المندمجة "الإسلاميات النفسية" أو ما يعادل ذلك من التسميات. وهكذا دَوالَيك، إلى أن يتوفر لدى مكتبات ومخابر المسلمين أعدادٌ من المرجعيات التفاعلية المماثلة.
تلك إذَن مراحل التفاعل الثلاثة بين الدين والعلم. وهي، مجتمعة، تُشكّل التفاعل التكويني. والآن يأتي التفاعل التطبيقي، المتمّم للتفاعل التكويني. وهو تفاعل النموذج الحاصل من المراحل الثلاثة (والنموذج هو الرؤية التفاعلية المندمجة) مع الواقع المعيش. ويمكن القول إنّ هذه المهمّة هي تطبيق الإسلام بالطريقة التفاعلية.
 بكلام آخر، لمّا استعان العالم المؤمن أو الخبير المؤمن بإيمانه، وبما يكفي من الدراية بالدين، على رسم رؤية لعلمه أو تخصصه تتناسب مع إيمانه، اكتملت الدورة بانعكاس الرؤية العلمية بدورها على الدين. وكان النتاج رؤية دينية تتناسب مع شخصية العالم/المختص/ الخبير المؤمن، لا فقط من حيثُ إثباتها لمسلّماته العلمية والرقيّ بها، بل أيضا من حيثُ تدعيمها للإيمان على إثر دورة كاملة من التوليد والتجريب. لكن بقي شيء مهمّ وضروري لاكتمال تطبيق الإسلام. وهذه المهمة تكمن في تنزيل الرؤية التفاعلية المندمجة إلى الواقع لكي يقع اختبارها لا فقط من طرف صاحبها بل أيضا من طرف المجتمع بأكمله.
واختبار نموذج الرؤية التفاعلية المندمجة يُكلّلُ بالنجاح لمّا يبرهن صاحبه على صلاحية الرؤية الخصوصية التي أنجزها، للناس أجمعين وليس فقط لفئة العلماء والمختصين والخبراء، في مجال الدين كما في مجال العلم. أي أنّ النموذج يكون صالحا لمّا يتمّ تحويله من البوتقة الخاصة (الفرد) إلى العامة (المجتمع)، و من المجال الخصوصي (علوم الدين والعلوم ) إلى المجال العمومي (علوم الإنسان والمجتمع). لكن لا يجب أن يقتصر التحويل على هاذين البُعدين، بل لا مفرّ من أن تُسحب الرؤية التفاعلية المندمجة على ما هو شامل وكُلّي لدى الإنسان، فضلا عن سحبها على ما هو نسبي (الفرد العالم المؤمن ومجتمعه بجميع فئاته).
على ذلك النحو يصير العالِم المؤمن أو الخبير المؤمن أو المؤمن المختص في مجالٍ علميّ أو مهنيٍّ ما، نتاجا للرؤية التفاعلية المندمجة الخاصة به. أن يضع رؤيته في محكّ الواقع يعني أنه سيختبر مدى تفاعلها مع تغيّرات الواقع من ناحية، ومع الرؤى التفاعلية المندمجة للعلماء المؤمنين الآخرين. وبمجرّد إيلاء عامل الواقع والتجربة الميدانية الأهمية التي يستحقها فلن تبقى هنالك فرصة للرؤية التفاعلية المندمجة أن تبقى حبيسة المجال النخبوي، لا العلمي ولا الديني.
وبتلك الكيفية يُثبت العالم المؤمن أنّه قادرا على أداء وظيفتين مكمّلتين كلاهما للأخرى. أوّلا، هو بمثابة الحارس الأمين على رؤيته والراعي والمطوّر لها، طالما أنه قابل للانفتاح على مجتمع متحوّل بحُكم تفاعل هذا المجتمع مع مجموع الرؤى التفاعلية المندمجة. ثانيا، يتحوّل العالم المؤمن إلى مصدر لتوليد المعاينات والملاحظات و الأفكار التي سيسمح له بها التحام رؤيته التفاعلية المندمجة بالواقع اليومي. أي أنه صار يستخدم رؤيته التفاعلية كمنهجية يحلل بواسطتها الواقع فيُنتج بواسطتها فكرا. وليس هذا الفكر نسخة مطابقة للأصل من رؤيته التفاعلية المندمجة، وإنّما هو مجموعة من الأنساق المستحدثة تكون فحواها رؤى اجتهادية وتنويرية ذات توجّه وجوديّ. والوجودية عند المفكر الديني المسلم (اقتبستُ تسمية "المفكر الديني" من عند المفكر الديني عبد الكريم  سروش) ليست نفيًا للجوهر، كما هي عند غير المسلمين، لكنها استعادة للجوهر في الإسلام، والتنقيب عنه في عُمق مظاهر الحياة اليومية للمسلمين قبل تخليص الوجود من رواسب الماضي وشوائب الانحطاط، ثمّ تهيئة السبل أمامه لكي يُنجِزَ التعبير عن نفسية وذهنية أصحابه من أمة العرب والمسلمين.
ومن النتائج المأمولة لعمل المفكر الديني، بعد رفع الحصار على عقل المواطن العربي وتنقية وجوده، تسريح الاحتباس التواصلي، أعني ذاك التجلّي المعاصر لكافة مشكلات المسلم مُجتمعة (وقد أصدرتُ دراسة خاصة في هذا الشأن): التواصل مع الكتاب العزيز وسنة رسوله، ومع الذات، و مع  الآخر. ولن يكون للتأصيل جدوى وفعالية قبل إنجاز التسريح المأمول.
 هكذا يكون العالِم المؤمن أو الخبير المؤمن مفكرا دينيا مندمجا في معرفته (العلم والدين) وفي مجتمعه بمختلف أوجهه ومجالات نشاطه ومستوياته والعلمية والتربوية والثقافية، النخبوية منها و الشعبية. وعملية تأصيل الحداثة في ثقافتنا، فضلا عن عملية تسريح الاحتباس التواصلي لغاية ضمان السيولة في التأصيل ، إنما هي بحد ذاتها مهارة تتربّى في كافة المجالات وتؤثر في جميع النشاطات و تتغذى من العلوم ومن التربية ومن الثقافة، يتعلّمها الفرد و النخبة وكافة المجتمع.
 وبات مؤكَّدا أنّ التأصيل اليوم  مسؤولية من صُلب الإيمان بالله، وتفعيلٌ حضاريّ للإسلام، طالما أنّ الدين سيكون، فضلا عن كونه المَعين التي لا ينضب، معطى مندمجا مع العلوم، ومنه مع التربية ومع الثقافة، ولدى الفرد ولدى النخبة ولدى المجتمع بأكمله. لذا فلن يكون هنالك معنى لحديث مفاده تأصيل قيم الحداثة من تعددية فكرية ثمّ سياسية، ومن ديمقراطية ( أو ما سيتولّد بحكم تقاطع الحداثة - كقيمة أوسع – مع الثقافة الذاتية الموروثة)، ومن حقوق الإنسان وتحرير المرأة والرجل، ومن ضمان حقوق الأقليات،  ومن عدالة اجتماعية، ومن تكافئ الفرص وغيرها ، خارج المساحات الشاسعة و الفضاءات الرحبة التي سيوفرها دمج الدين والعلم. وهكذا لمّا يلتقي الفهم التفاعلي للقرآن (بفضل الرؤى التفاعلية المندمجة) مع التجربة الميدانية من ناحية، وطموحات المواطن العربي والمسلم من ناحية ثانية، يصبح تطبيق الإسلام أمرا واقعا ومستديما. والله أعلم.
محمد الحمّار
باعث "الاجتهاد الثالث" و"الإسلاميات اللغوية التطبيقية"، تونس

هوامش:
 * فضلا عن البُعد النظري لفكرة "الاجتهاد الثالث" ككلّ، هنالك بُعد علمي وبُعد تطبيقي:
- أعتبر دراستي "الألسنيات لإحياء الكفاءة في فهم الإسلام والحياة: كيف يَرتقي المسلمون من طَور الجُمود إلى طَور الحَركة" النواة الأولى للأس العلمي ("الإسلاميات اللغوية التطبيقية").
- أعتبر دراستِي "التطبيق التفاعلي للإسلام" (نشرت قبل أسبوع في أكثر من موقع) أوّل عيّنة من التأويل الميداني والوجودي للإسلام.
 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟