يذكرنا أبو بكر بأن أي علم نظري مهما كانت طبيعته، حتى يصير جديرا بهذا الاسم، لا بد له أن يتضمن في بنيته النظرية جملة من المبادئ والمسائل). فبالنسبة للمبادئ التي تؤسس بنية العلم النظري فتتحدد في ثلاث وهي: الموضوع الذي يشكل المادة المعرفية التي يختص ببحثها هذا العلم أو ذاك من العلوم النظرية. ثم المقدمات الأولى التي ينطلق منها مؤسسا عليها استنتاجاته واستدلالاته. وأخيرا الحدود أو التعاريف التي يحدد بها موضوعاته ومفاهيمه النظرية.
إن أهم ما يثير انتباه الباحث أو القارئ لكتاب الحيوان(1) لابن باجة هو أن هذا الأخير يستهله بمدخل إبستمولوجي هام(2) يتناول بالتحليل أهم المبادئ والأسس المعرفية التي ينبني عليها مجمل المبحث البيولوجي، أو ما يسميه أبو بكر بعلم الحيوان أو الحكمة الحيوانية. ومن المؤكد أن الغرض المعرفي الأساسي من هذا القسم الإبستمولوجي هو التأطير النظري لهذا العلم، أي التحديد الدقيق لموضوع علم الحيوان، كفرع من العلم الطبيعي وتحديد منهجه، ومن تم رصد أهم المبادئ والأدوات المعرفية التي يستعين بها الناظر في هذا العلم. وهذا يعني بالنسبة لنا شيئا هاما ألا وهو إدراك فيلسوفنا ووعيه العميق بضرورة موضعة هذا العلم من المنظومة المعرفية عموما، والمنظومة الفلسفية الطبيعية خاصة. ونظرا لأهمية هذا المدخل الإبستمولوجي الذي مهد به ابن باجة مبحثه البيولوجي ارتأينا أن نخصص له دراسة خاصة ومتميزة أدرجناها في القسم الأول من هذا العمل. هاجسنا المعرفي هو نفس الهاجس الذي حرك أبا بكر ألا وهو التأطير النظري الإبستمولوجي للعلم البيولوجي.
وإذا علمنا بأن المبحث البيولوجي الباجي هو في حقيقته قراءة واعية لبعض أهم قضايا وإشكالات البيولوجيا الأرسطية أمكننا تحديد الإطار المرجعي لهذا المدخل الإبستمولوجي بالتأكيد على أنه يمتد من بداية النص إلى غاية بداية المقالة الثانية عشرة، وبذلك فإن هذا القسم تقابله أساسا المقالة الحادية عشرة من كتاب الحيوان عموما، والأولى من أجزاء الحيوان. فهذه المقالة الهامة تشكل مدخلا معرفيا لباقي مقالات الجزء الثالث من موسوعة علم الحيوان الأرسطي(3). ومع ذلك فمن التعسف والتجني أن نحصر الإطار المرجعي لهذا المدخل في تلك المقالة الأرسطية، وإلا كان عمل فيلسوفنا ترديدا أو تكرارا لنفس تلك المعطيات المعرفية الأرسطية. إننا لن نغالي إذا أكدنا أن عمل ابن باجة في هذا القسم الإبستمولوجي والأقسام الأخرى اللاحقة له تدعمه وتغنيه قراءات فيلسوفنا المتعددة والخصبة لمجمل القول الفلسفي الأرسطي عموما، وفلسفته الطبيعية خاصة، بالإضافة إلى قراءته لمنطق الفارابي، وقراءته النقدية للفلسفة الطبيعية ما قبل الأرسطية، وكذا طب(4) أبقراط وجالينوس، وغير ذلك من المصادر المعرفية العديدة والمختلفة وهذا ما حذا بنا إلى اعتبار القول البيولوجي الباجي قراءة واعية لبعض أهم قضايا البيولوجيا الأرسطية. يبقى أن نذكر مرة أخرى في خاتمة هذا التمهيد أن أهم ما يميز هذا القسم الأول من عملنا المتواضع هو الطابع الإبستمولوجي، حيث سنتعرض خلاله لقضايا وإشكالات إبستمولوجية هامة تخص أساسا موضوع علم الحيوان ومنهجه، ومن ثم المبادئ والأسس المعرفية التي ينبني عليها مجمل القول البيولوجي الباجي. ومن هنا نفهم سر ما يمكن وصفه بـ الطابع المعرفي الإشكالي الذي يميز جل مباحث هذا القسم ما دام الهاجس المعرفي والمنهجي هو المهيمن عليه. لذلك نبادر إلى القول هنا بأن ما سيهيمن على مبحثنا أيضا هو التحليل الإبستمولوجي لأهم القضايا والإشكالات المعرفية التي شغلت أبا بكر على امتداد القسم الأول من كتابه في الحيوان.
أولا – موضوع العلم البيولوجي ومنهجه:
1 ـ تحديد مفهوم العلم الطبيعي النظري:
قبل أن يشرع ابن باجة في تحديد موضوع علم الحيوان ومنهجه يمهد لذلك بمدخل معرفي هام يحدد من خلاله مفهوما أساسيا وهو مفهوم الصناعة النظرية أو العلم النظري عموما. وأهم ما يلفت انتباهنا في هذا الصدد هو توظيف فيلسوفنا لجملة من الألفاظ والمفاهيم المنطقية المستمدة أساسا من بعض أعماله المنطقية(5) السابقة على مؤلفاته في العلم الطبيعي. كما أن فيلسوفنا يستعيد بعض المعطيات المعرفية التي وظفها في تحديده لمفهوم العلم الطبيعي كعلم نظري في مدخل شرحه للمقالة الأولى من السماع الطبيعي. وإذا كان الأمر كذلك فقد أصبح من نافلة القول أن يعيد نفس تلك المعطيات التي تعرض لها في موضعها. غير أن إعادة فيلسوفنا لهذا التحديد وإثباته في مدخل مبحثه البيولوجي له ما يبرره من الوجهة المعرفية، ألا وهو إبراز ما يمكن أن نسميه بالطبيعة المعرفية لعلم الحيوان باعتباره جزء من كل، أي كفرع من منظومة العلم الطبيعي النظري. إلا أن هذا لا يمنعنا من القول بأن ما جاء في مدخل كتاب الحيوان يعد –في قسم هام منه- إغناء لما تعرض له في مدخل شروح السماع الطبيعي، وذلك بإضافة معطيات معرفية أخرى تعمق من تحديد مفهوم العلم النظري، خاصة وأن فيلسوفنا بصدد البحث في أحد أهم مباحث العلم الطبيعي وهو مبحث الحيوان الذي يتطلب فحصا متميزا يبرز موقعه ضمن منظومة العلوم النظرية بشكل عام.
كيف يتصور ابن باجة إذن طبيعة العلم النظري عموما، والعلم الطبيعي خصوصا، وعلم الحيوان بشكل أخص؟
لن تتسنى لنا الإجابة عن هذا التساؤل الهام إلا من خلال استحضار أحد الدروس المنطقية الهامة، والتي تمثل ما يمكن اعتباره الإطار المعرفي المرجعي الذي يستند عليه أبو بكر في تحليله لمفهوم العلم النظري أو ما يسميه بـ الصناعة النظرية. إنه أحد دروس الفارابي المنطقية كما جاءت في كتاب البرهان(6). لذا يتعين علينا ونحن بصدد تحديد هذا المفهوم الاستعانة ببعض معطيات النصوص الفارابية، وخاصة منها تلك التي لا نجد مقابلا لها لدى أبي بكر، ذلك أن هذا الأخير يختزل في مبحثه البيولوجي بعض معطيات الدرس البرهاني موظفا إياها توظيفا معرفيا ينسجم مع مقتضيات المبحث البيولوجي. فابن باجة يستعيد في مدخل مبحثه البيولوجي بعض ما سبق أن أثبته في مدخل شروحه للسماع الطبيعي، لكنه في الوقت نفسه، كما أشرنا، يختزل بعض القضايا المعرفية الهامة التي تضمنتها إحدى فصول كتاب البرهان. لذلك سنحاول إنارة هذه القضايا التي من شأنها إغناء معرفتنا بمفهوم العلم النظري(7).
يذكرنا أبو بكر بأن أي علم نظري مهما كانت طبيعته، حتى يصير جديرا بهذا الاسم، لا بد له أن يتضمن في بنيته النظرية جملة من المبادئ والمسائل(8). فبالنسبة للمبادئ التي تؤسس بنية العلم النظري فتتحدد في ثلاث وهي: الموضوع الذي يشكل المادة المعرفية التي يختص ببحثها هذا العلم أو ذاك من العلوم النظرية. ثم المقدمات الأولى التي ينطلق منها مؤسسا عليها استنتجاته واستدلالاته. وأخيرا الحدود أو التعاريف التي يحدد بها موضوعاته ومفاهيمه النظرية. لذلك نرى من الضروري هنا تحديد هذه المفاهيم أو المبادئ كما يسميها ابن باجة، والتي تدخل في تشكيل البنية المعرفية للعلم النظري، محاولين في الوقت ذاته إبراز طبيعة العلاقات القائمة بينها –في إطار بنية العلم النظري الواحد- وكذا بعض جوانب العلاقة التي تنشأ بين علم نظري وآخر.
فبخصوص المبدأ الأول الذي يتمثل في الموضوعات، فهي التي كما أشرنا، تشكل المادة المعرفية التي يفحصها العلم النظري. فكل صناعة نظرية تتميز عن غيرها بالموضوع المعرفي الذي تختص ببحثه ودراسته مثل العدد الذي يشكل موضوع علم الحساب، والخطوط والسطوح والمجسمات التي تشكل موضوعات علم الهندسة(9), وغير ذلك من الموضوعات التي تحدد ماهية أي علم نظري وتميزه عن بقية العلوم النظرية الأخرى. وينبهنا الفارابي إلى أن هناك ثلاث عناصر تدخل في تشكيل خصوصية موضوع العلم النظري: أولها الأشياء التي تؤخذ بعين الاعتبار عند إرادة تحديد هذا الموضوع. وثانيها ما يتفرع إليه جنس الموضوع من أنواع تشكل مختلف تجلياته ومظاهره. وأخيرا تلك الأعراض الذاتية التي يمكن نسبتها لهذا الموضوع. أما المفهوم الثاني الذي يعمق ابن باجة بحثه هنا فهو المسائل. فالعلم النظري بالإضافة إلى تحديده الدقيق لموضوعاته وانطلاقه من مبادئ ومقدمات نظرية، فهو من خلالها يصوغ مجموعة من القضايا أو المسائل. وهي النتائج المعرفية التي يتم الوصول إليها انطلاقا من تلك المقدمات النظرية الأولى. وهنا يكون مفهوم المسائل متميزا في الدلالة عن مفهوم المبادئ. غير أنه قد نكون في بعض الحالات أمام ترابط وتداخل بين المفهومين، وذلك عندما تكون المبادئ والمسائل كما يقول أبو بكر عبارة عن "تصورات تدل عليها الألفاظ المفردة بالقوة أو بالوجود، وقد تكون تصديقات تدل عليها أقاويل جازمة ضرورة"(10).
أما المبادئ الأولى فهي تلك المقدمات النظرية الأولى التي يتأسس عليها القول النظري في أي مجال من مجالات العلوم النظرية، وغالبا ما تكون من قبيل البديهيات والمسلمات التي يصادر عليها الناظر ويسلم بصحتها على أساس أنه سيبني عليها بناء استدلاليا متماسكا يتفق وطبيعة تلك المبادئ الأولى. وينبهها ابن باجة إلى إحدى الأطروحات الشهيرة في كتاب البرهان والتي تؤكد على أن لكل علم نظري مبادئه ومقدماته المناسبة الخاصة به وكذا مطالبه وأغراضه المعرفية الخاصة. تلك التي تجعله علما متميزا ببنيته المعرفية عن بقية العلوم النظرية الأخرى. تلك إذن هي الدلالة التي يأخذها كل واحد من هذه المفاهيم. وإن كانت الخلاصة العامة التي وصلنا إليها مع ابن باجة مفادها التأكيد على أن كل علم نظري يتميز في بنيته المعرفية بمبادئه وموضوعاته ومسائله ومطالبه الخاصة، فإن ذلك لا يعني إطلاقا نفي إحدى الحقائق التي يؤكدها ابن باجة نفسه استنادا إلى معطيات كتاب البرهان: فرغم أن هناك حدودا تفصل الأنساق المعرفية لكل علم نظري مانحة لكل منها خصوصيته التي تميزه عن بقية العلوم الأخرى، فإن هناك مع ذلك نوعا من التداخل والتقاطع بين العلوم النظرية المختلفة أو ما يسميه الفارابي (مشاركة العلوم بعضها بعضا) سواء على صعيد المبادئ(11) والمقدمات الأولى أو الموضوعات التي تفحصها تلك العلوم. والحقيقة أن العلاقة بين بعض العلوم النظرية لا تخلو من طابع إشكالي. وتزداد صعوبات وإشكالات هذه العلاقة بشكل خاص بين بعض العلوم الرئيسية التي لا تفصل بينها حدود متميزة واضحة كل الوضوح، كما هو الأمر بالنسبة للعلم الطبيعي وما بعد الطبيعة(12).
إن ما يركز عليه فيلسوفنا هو إبراز طبيعة العلاقة بين بعض العلوم النظرية على صعيد المبادئ الأولى بشكل خاص. ففيما يخص العلاقة التي تربط بين علمين ينتميان إلى نفس المنظومة المعرفية، فهي أشبه ما تكون بعلاقة الفرع بالأصل، وإذا أردنا الدقة علاقة الخاص بالعام. وكما يؤكد ذلك ابن باجة نفسه من خلال الأمثلة النموذجية التي يوردها، فإن هناك من العلوم النظرية ما تكون مبادئها النظرية أعم وأقدم(13). وما يقصد هنا بالمبادئ تلك التصورات أو المفاهيم الأصلية العامة التي تتأسس عليها وتنطلق منها المفاهيم الفرعية الخاصة. فمفهوم أو تصور المثلث كمفهوم عام سابق على تصورنا لأي نوع من أنواع المثلثات المتعددة والمختلفة. وكذلك تصورنا لـ الخط كمفهوم عام سابق أيضا على تصورنا لأي نوع من أنواع الخطوط ذات الأشكال المتعددة والمختلفة. فانطلاق علم رياضي نظري كعلم العدد أو الهندسة من مجموعة من المبادئ والمقدمات والحدود هو ما يمنح لهذا العلم طبيعته المعرفية النظرية. إن ما يهدف ابن باجة إلى إثباته من خلال كل المعطيات السابقة، هو أن يكشف عن طبيعة العلاقة التي تربط بين العلم البيولوجي خاصة والعلم الطبيعي عموما: إنها أشبه ما تكون بعلاقة الفرع بالأصل أو الخاص بالعام خاصة على صعيد المبادئ والمقدمات الأولى التي يشترك فيها كل من العلم الطبيعي العام والعلم البيولوجي الخاص ما دام العلم الثاني يعد فرعا من العلم الأول. بل إن علاقة الخاص بالعام كما رأينا، تتجلى حتى داخل بنية العلم الواحد، خاصة على مستوى المفاهيم والتصورات والموضوعات: فإذا الخط المستقيم أو المنحني ما هما إلا أعراض خاصة لمفهوم الخط العام، في مجال علم الهندسة، كذلك هو الأمر بالنسبة للعلم البيولوجي: فمفهوم الحيوان العام أقدم وأعم من مفاهيم الحيوان الخاصة كقولنا الحيوان الناطق، أو الطائر أو المشاء. بل إن فيلسوفنا يذهب أبعد من ذلك حين يوظف علاقة الخاص بالعام حتى داخل البنية العضوية للكائن الحي. وذلك عندما "يقال إن الحيوان أقدم من الضحال، لأن موضوع الضحال نوع من الحيوانية. والضحال عرض له"(14).
هكذا إذن ومن خلال استحضار ابن باجة لبعض المعطيات المعرفية الهامة لمبحث البرهان لأبي نصر تبدأ معالم الصبغة المعرفية النظرية للعلم الطبيعي ومن تم العلم البيولوجي في الوضوح، كما تزداد العلاقة بين العلمين شفافية، وذلك من خلال إبراز طبيعة المبادئ والمقدمات والمسائل النظرية التي يتأسس عليها البناء المعرفي لأي علم نظري. وبالطبع فلا زال الدرس الإبستمولوجي الباجي في بدايته. فكل ما أرادت الفقرات السابقة تأكيده هو أن العلم الطبيعي بمثابة نسق معرفي نظري ذي مبادئ ومسائل وموضوعات خاصة، ومن تم استخلاص النتائج المترتبة عن ذلك، والتي من أهمها التأكيد على أن العلم البيولوجي كأحد فروع العلم الطبيعي النظري هو بمثابة قول نظري ينطلق هو أيضا من جملة من المبادئ والمقدمات والمسائل النظرية شأنه في ذلك شأن أي صناعة نظرية أخرى. وستزداد هذه الحقيقة تأكيدا مع تقدمنا في تحليل المحاور المعرفية اللاحقة، والتي تتركز حول تحديد أهم هذه المبادئ والمسائل وكذا المفاهيم النظرية التي ينبني عليها مجمل القول البيولوجي الباجي.
2 ـ العلم النظري بين الحس والعقل:
بعد أن تم التأكيد على الطبيعة النظرية لبعض العلوم كالمنطق والعلم الطبيعي والعلم الرياضي بفرعيه الحساب والهندسة ينتقل أبو بكر إلى معالجة إشكال معرفي هام تطرحه بعض علوم التعاليم ومن خلاله يمهد للتحديد النهائي لطبيعة العلم الطبيعي عموما وعلم الحيوان بشكل خاص. يتحدد هذا الإشكال المعرفي في التساؤل عن مدى استغناء هذه العلوم العقلية النظرية عن الحس كليا أو جزئيا، ومن تم الكشف عن الحالات التي قد تلجأ فيها إلى الأداة المعرفية الحسية. أما هذه العلوم فهي الهندسة والحساب والفلك، والأثقال والمناظر. فكيف يحاول فيلسوفنا حل هذا الإشكال؟
إن حله يستدعي فحص كل علم من هذه العلوم النظرية: فبالنسبة لعلمي الهندسة والحساب كفرعين أساسيين للعلم الرياضي النظري، فإن ابن باجة يؤكد جازما على طبيعتهما النظرية العقلية نافيا نفيا قاطعا إمكانية لجوئهما إلى الحس(15). فهذان العلمان ينطلقان معا من مبادئ ومقدمات معرفية نظرية، ومن خلالها يستنبطان مختلف القضايا أو النتائج المترتبة عن تلك المقدمات الأولى. غير أن هناك علما من علوم التعاليم يطرح فيه ذلك الإشكال المعرفي وهو ما أسماه بـ "صناعة رفع الأثقال". فرغم أن هذا العلم يجري عليه –من حيث المبدأ- ما يجري على علمي الحساب والهندسة كعلمين نظريين، إلا أنه يلزمنا بالضرورة اللجوء إلى الحس كأداة معرفية لا غنى عنها ما دامت موضوعات هذا العلم من الأمور المحسوسة. بل إن ما تسعى إلى بيانه يجب بالضرورة أن يكون محسوسا. وهذا يعني أن صناعة الأثقال، كعلم من علوم التعاليم إما أن تكون نظرية أو عملية، وفي الحالة الثانية خاصة لا يمكننا الاستغناء عن الحس. غير أن أبا بكر يثير انتباهنا إلى أنه عندما نكون في إطار علم الأثقال النظري يكون الأمر مختلفا على ما هو عليه الحال في علم الاثقال العملي. فرغم أن الموضوع هو في كلتا الحالتين واحدا وهو المحسوس: فبالنسبة للاثقال النظرية يضع الناظر المحسوس بالقول لا بالفعل، أي نظل ضمن حد أدنى من التجريد يتجلى في استحضار الموضوع المحسوس على مستوى النظر والقول فقط. وهذا عكس ما هو عليه الأمر في الاثقال العملية، والتي توجب استحضار الموضوع المحسوس استحضارا عمليا فعليا. غير أن كل هذا لا يجرد تماما صاحب الاثقال العملية، من المعرفية النظرية. فكما يؤكد ابن باجة "قد يمكن أن نسأل صاحب صناعة الاثقال(16) عن السبب في تحريك ثقل فيجيب". ثم ينتقل فيلسوفنا إلى ما يسمى بعلم المناظر، حيث يؤكد أنها هي أيضا كالاثقال، إلا أن الحس ألزم له وأكثر رئاسة له، وفي هذه الصناعة يلزم بالذات أن توجد فيها أشياء متأخرة، مبادئ تعطي الصناعة العملية أسبابها(17).
وهذا يعني أن كل ما أثبتناه بالنسبة لعلم الاثقال ينطبق أيضا على علوم المناظر. ومع ذلك فإن موضوعات هذا العلم الأخير أكثر ارتباطا بالحس من العلم السابق. ما القول إذن في علم الفلك؟ يقول أبو بكر: "وأما الهيئة فعلى خلاف ذلك. ذلك أن مبادئها هي الأمور المتأخرة المحسوسة. وتقتضب ثم تروم إعطاء أسباب تلك. وليس لزومها أن تدرك بالحس للأمور التي استخرجها، على أن تلك الأمور المستخرجة أسباب(18). يتضح لنا إذن أن الأمر بالنسبة لعلم الفلك يتعارض تماما مع ما هو عليه الحال في تلك العلوم الرياضية النظرية: إذا كان العلم الرياضي بقسميه الحساب والهندسة ينطلق من مبادئ منطقية نظرية، بل إن موضوعاته نفسها عبارة عن مفاهيم عقلية مجردة (الأعداد الحسابية، الأشكال الهندسية) وحتى إذا اعتبرنا بعض موضوعاتها محسوسة، كما هو الأمر بالنسبة لعلمي الأثقال والمناظر، تظل مع ذلك المبادئ والمقدمات التي تتأسس عليها منظوماتها المعرفية ذات طابع نظري واضح. إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للعلم الرياضي فإنه على العكس تماما بالنسبة لعلم الفلك، ذلك أن المبادئ الأولى التي ينطلق منها هذا العلم هي نفسها من الموضوعات المحسوسة التي تشكل المادة المعرفية الأساسية بالنسبة له (أي الأجرام أو الأجسام السماوية). أما العلل أو الأسباب النظرية التي يلزم أن تفسر بها هذه الموضوعات، فتأتي بعد ذلك. فليس من اللازم –كما يرى ابن باجة- أن تدرك هذه الأسباب بالحس, بل قد تدرك بالنظر العقلي، شأنها في ذلك شأن بقية العلوم الرياضية النظرية الأخرى. وكما يقول فيلسوفنا في النص: "فإذا وضعها أردف بالبرهان عليها"(19).
نرجع الآن إلى التساؤل عن مغزى ودلالة تعرض ابن باجة في هذا المدخل المعرفي إلى كل هذه العلوم والمعارف النظرية، ومن تم إبراز ما يهدف إليه هذا التحليل الإبستمولوجي لطبيعة هذه العلوم؟ إن ما يهدف أبو بكر إلى إثباته هو بالدرجة الأولى تحديد ماهية العلم الطبيعي بشكل عام، وعلم الحيوان بشكل خاص، سواء من حيث طبيعة موضوعه أو منهجه.
ينطلق ابن باجة من التأكيد على تميز العلم الطبيعي عن العلم الرياضي بكل فروعه التي تعرضنا لها في السابق. فلا يمكن أن نعتبر العلم الطبيعي, أو (الحكمة الطباعية) كما يسميها, شبيهة من الوجهة المعرفية بالعلوم الرياضية(20). والراجح، كما نعتقد، أن فيلسوفنا يقصد هنا تميزه من حيث الموضوع أساسا. وما يعزز هذا الاعتقاد هو أن أبا بكر –كما سنرى- سيؤكد على بعض نقط الاتصال بين العلمين، خاصة من حيث المنهج. فإذا كان العلم الرياضي تتحدد موضوعاته في مفاهيم عقلية مجردة، لا علاقة لها مباشرة بمعطيات العالم الطبيعي، فإن العلم الطبيعي هو على العكس من ذلك يستمد موضوعاته من العالم الطبيعي. ورغم أن ابن باجة يكتفي هنا بالإشارة إلى أن هذا الأمر قد تم التعرض له في موضع آخر، فإنه يلمح بالفعل إلى ما تناوله مفصلا في مدخل شروحه للسماع الطبيعي. يكفي أن نستحضر هنا ذلك التحليل المعرفي الهام لمبادئ وأسس العلم الطبيعي والذي يحدد بشكل دقيق طبيعة هذا العلم، سواء من حيث موضوعه(21) أو منهجه. فإذا تساءلنا مع أبي بكر عن ماهية العلم الطبيعي، مؤكدين معه على تميزه عن العلم الرياضي، فإنه يجيب مؤكدا على الصبغة النظرية لهذا العلم. ورغم أن موضوعه هو (الجسم الطبيعي) الذي يعد من المعطيات المادية المحسوسة الكائنة في العالم المادي، فإن العلم الطبيعي لا يقف عند مستوى إدراك هذه الموضوعات إدراكا حسيا خالصا، ومن تم الاقتصار على منهج الوصف والملاحظة الخارجية، بل يتعدى ذلك إلى محاولة الكشف عن الأسباب والمبادئ المعرفية النظرية التي تحكم أنطولوجية هذه الأجسام، سواء من حيث طبيعتها ومكوناتها أو حركاتها وتحولاتها المختلفة، أو العلاقات المتبادلة التي تربط بينها في العالم الطبيعي، وكذا الغايات الظاهرة والخفية التي تسعى نحو تحقيقها. وكل هذه الأمور الهامة لن يتسنى الكشف عنها إلا عن طريق النظر العقلي الذي يتجاوز، من الناحية المعرفية، والمنهجية خاصة، مستوى المعرفة الحسية. فهنا ننتقل من الحس إلى العقل، من الوصف إلى البرهان، من الملاحظة التجريبية الحسية إلى التأمل الفلسفي النظري. وهذا النمط من البحث المعرفي هو الذي يمنح الصبغة الفلسفية النظرية للعلم الطبيعي متجاوزا بذلك المستوى الوصفي إلى المستوى التأملي الذي يعتمد البرهان العقلي المنطقي. غير أن الإشكال المعرفي الذي وقفنا عنده في السابق، والتي طرحته بعض العلوم الرياضية النظرية، يبرز مرة أخرى، وبحدة أكثر ونحن نقابل بين ما قرره ابن باجة في شروح السماع الطبيعي، وما أثبته هنا في مدخل مبحثه البيولوجي في كتاب الحيوان. ذلك أننا نلمس –في الظاهر على الأقل- نوعا من التعارض بين معطيات النصين. لنقارن إذن بين ما صرح به أبو بكر في مدخل كتاب السماع الطبيعي مع ما يصرح به في مدخل كتاب الحيوان. يقول في النص الأول: "ومعظم ما في فلسفة الطبيعة فمعلوم بالحس، وإنما نطلب علم أسبابها وأسباب أسبابها بالإطلاق فيما كان موجودا بالإطلاق."(22). ويقول في النص الثاني: "إلا أنه يتبين بآخرة أن هذا العلم يجب ضرورة أن يستخدم جميع القوى المستفادة قبل بأنحاء التعاليم وبالمنطق، وإنما يستخدمها فيما يجانسها. فلذلك يجب أن يكون لهذا العلم الطباعي أصناف المبادئ وأصناف المسائل، وهو أخلق أن تكون فيه أمور لا يحكم الحس عليها أصلا. ولا يمكن ذلك لأنها غير محسوسة لا خاصة ولا مشتركة، لا قريبة ولا بعيدة كالعقول"(23). من الواضح أن معطيات النص الأول تثبت ما أكدناه في السابق من أن العلم الطبيعي رغم اعتماده على الحس ما دامت موضوعاته هي الأجسام الطبيعية، يتجاوز مستوى الإدراك الحسي نحو النظري العقلي الفلسفي الذي يسعى إلى فهم الأسباب والمبادئ المعرفية التي تحكم هذه الأجسام الطبيعية. غير أن ابن باجة في النص الأخير يذهب بعيدا بالعلم الطبيعي، وخاصة على مستوى الموضوع نفسه. وهنا نلمس، كما أشرنا، ما أسميناه بذلك التعارض الظاهري بين معطيات النصين: فإذا أكد فيلسوفنا في الأول أن معظم ما في فلسفة الطبيعة من موضوعات مدرك بالحس، ومن تم تظل جل موضوعات العلم الطبيعي من المحسوسات، فإنه في الأخير يعود إلى التأكيد على أنه من الأجدر لهذا العلم "أن تكون فيه أمور لا يحكم الحس عليها أصلا، ولا يمكن ذلك لأنها غير محسوسة، لا خاصة ولا مشتركة، لا قريبة ولا بعيدة كالعقل". والحقيقة أن هذا النص الأخير ذا أهمية بالغة بالنسبة لنا لا من حيث تحديد موضوع العلم الطبيعي ومنهجه فقط، بل من حيث الكشف عن الغايات التي يسعى إليها ابن باجة من خلال البحث في فلسفة العلم الطبيعي. ونحن لا نود هنا أن نكشف عما أسميناه في السابق بالدلالات التي يحملها النظر الفلسفي الباجي في العلم الطبيعي، إلا أننا نود هنا أن نثبت أن ما أسميناه بذلك التعارض الظاهري بين النصين يجد حله وتفسيره إذا نظرنا إلى الإشكالية الفلسفية العامة التي أطرت المشروع الفلسفي الباجي عموما. فنحن إذا بقينا في إطار العلم الطبيعي بمدلوله الفيزيائي ومدلوله البيولوجي بشكل خاص، والذي يشكل المحور الأساسي لبحثنا، فقد نلمس هذا التعارض بين القولين. أما إذا تجاوزنا مستوى القول البيولوجي الذي نتحرك في إطاره، وأخذنا بعين الاعتبار الآفاق المعرفية البعيدة التي يرسمها هذا القول، فسوف نستحضر هنا ما كتبه فيلسوفنا في كتاب النفس وفي قسمه الأخير بشكل خاص حيث تعرض فيلسوفنا إلى العقل أو ما أسماه بالقوة الناطقة، التي تمثل أسمى قوة من قوى النفس. وإذا كنا نعلم أن المبحث البسيكولوجي يشكل آخر حلقة من الحلقات المعرفية الهامة في العلم الطبيعي، انحل بذلك إشكال التعارض الظاهري بين النصين. فنلرجع إلى ما نحن بصدده هنا ونؤكد مع ابن باجة على أن العلم الطبيعي رغم تميزه عن بقية العلوم النظرية عموما والرياضية المنطقية خاصة فإنه يجب أن يستفيد بالضرورة من تلك المبادئ والأدوات المعرفية التي يتم توظيفها في هذه العلوم. غير أن المعيار الذي يجب أن يحكم هذا التوظيف المعرفي والمنهجي لتلك المبادئ هو تناسبها أو مجانستها حسب العبارة الباجية، لطبيعة موضوعات وقضايا العلم الطبيعي.