تُعدّ الأطروحات الحديثة الرّائجة، بشأن منشأ اليهودية والمسيحية وتطوّراتهما، صناعة للعقل الغربي بمدارسه الأساسيّة: التاريخيّة والأثريّة واللاّهوتيّة. وقد أملى امتلاك زمام المعرفة في هذه الحقول إلى إشاعة مقولات شتّى، شرقا وغربا، صارت بمثابة اليقينيات. فقد ساهم عدم الاهتمام بتواريخ المذاهب والنّحل الأديان بين العرب، بعدم مواكبة الأبحاث والتطوّرات في هذا العلم، إلى رواج عديد الأطروحات الوافدة، وتقبّل مقولاتها دون تروّ وتثبّت، أو إدراك لأبعادها ومقاصدها.
صيغ التأريخ الحديث لأديان منطقة فلسطين وما جاورها في حضن لاهوتِيي الكنيسة الغربية أساسا، بنحلهم المختلفة، ويمكن الإشارة في هذا المجال إلى عمق تأثير "المدرسة التّطبيقة للدّراسات الكتابية" - l'école pratique d'études bibliques-، المعروفة بشكل أوسع تحت تسمية:- école biblique-، في الأوساط الفرنكفونية، التي أسّسها الدّومينيكاني م.ج لاغرانج (1855-1938م)، وهو من أبرز الدّارسين الكاثوليك للكتاب المقدّس.
ترافقت عملية التأريخ الحديثة للأديان في المنطقة الشّرقية مع فترة الخروج الأوروبي من عهود الظّلمات وانبلاج عصر الأنوار، الفترة التي احتدّ فيها الصّراع بين النّموذج المسيحيّ الغربي والنّموذج الإسلامي، الذي عرضه الأتراك، وهي فترة مثّل فيها الأواخر عنوان التحدّي للكنيسة الغربية، باعتبار تركيا حينئذ ثالثة الأثافي في مصادر الخوف الرّئيسة لأوروبا القروسطية، جنب الطّاعون والشّيطان. سعى العقل الغربي، النّاهض من غفوته على إثر قرون من الغياب، بكلّ ما أتيح له، لسحب المشروعيّة الدّينية من مزاحمه الحضاري. ولذلك مثّلت تلك الفترة أعلى مراحل نَحْلنَة الإسلام، باعتباره هرطقة وبدعة منشقّة عن الأصل المسيحي. فبعد أن تعذّر النّيل من الإسلام –الحاضر في صورة العثمانيين- عسكريا، تركّز البحث للنّيل منه عقديا ورؤيويا. وتكثّفت عملية القضْم-الهدم في منطقة فلسطين وما جاورها، مستودع الميراث الرّمزي الإبراهيمي الحنيفي، من خلال مساع لتفريغها من حضاراتها السّابقة واللاّحقة، عبر إعادة صناعة مفبركة ومحوّرَة لمخزون المنطقة، غابت على إثره تشكيلات حضارية، أو هُمِّشت وبخست قيمتها.
وقد شكّل موضوع عرْقَنَة اليهودية، من خلال ربطها بجماعة بشرية محدّدة، مُيِّزت عمّا سواها، عرقًا ولسانًا ودينًا، المحور الذي بُنيت حوله النّظريات وصيغت له الدّعامات. لذلك يلاحظ المتابع للرّؤية الغربية بشأن اليهودية عرقنة لهذه الدّيانة وحصرا لها، يتناقضان مع مقرّرات البحث الموضوعي للتاريخ الدّيني في المنطقة. تَشَارَك في تلك العرقنة كتّاب متهوِّدون وآخرون كنسيِّون، شرعوا في لملمة "الهوية العبرية" انطلاقا من إبراهيم الخليل (ع) الأوري الكلداني، الوافد على فلسطين من العراق، لتُعاد الصّياغة الثانية للـ"الهوية اليهودية"، مع فترة الفوران النّبوي الذي امتدّ من موسى(ق. 12-13ق.م) إلى عزرا (ق. 5-6 ق.م)، ولتنتهي إلى إرساء "الهوية الإسرائيلية" الحالية.
كان سكّان فلسطين الأصليين ومن جاورهم، والمتقاطرين حتى تاريخنا المعاصر، أكثر الأهالي تغييبا، في تلك الخلاصة التاريخية. لذلك تجد الفلسطيني الحالي، المار عبر تحوّلاتِه التاريخية من أديان ما قبل التوراة، إلى اليهودية، إلى المسيحية، إلى الإسلام، غائبا أو ظلاًّ باهتا في أدبيات تاريخ الأديان الغربية التي أرّخت للمنطقة، وإن سَمّتهم فبنعت البدو تحقيرا وتهميشا.
لقد استشرى تلاعب علمي خسيس في أدبيات تاريخ الأديان المتعلّقة باليهود، في الأبحاث الغربية والصّهيونية الرّائجة، فنادرا ما طرحت مسألة جذور اليهودية داخل الكلّ الحضاري للمنطقة، بل جنح أغلب المؤرّخين لبناء الفرادة والعبقريّة اليهودية، بين مختلف حضارات المنطقة، كما حضر تهوين، خصوصا على المستوى الفلسفي والرّوحي، للدّيانات الأخرى، ولإبداعات الحضارات المجاورة، في العراق وسوريا ومصر وقرطاج، وإعلاء لفلسفة الوجود الدّينية والرّوحية والاجتماعية، المستوحاة من التوراة العزراوية، نسبة إلى كاتب التوراة عزرا، المسمّاة الآن بالعبرية. والتي ليست في الحقيقة سوى رواية من جملة الرّوايات التي لخّصت التجربة الدّينية في المنطقة، على مثال غيرها من الرّوايات التي يحقّ تسميتها بـ"التوراة البابلية" و"التوراة الهيروغليفية" و"التوراة السّورية".
فبرغم ادّعاءات الكتابة العلمية والنّقدية لتاريخ الأديان في المنطقة الشّرقية، لاتزال مجموعة من الأساطير تتحكّم بالمقولات الرّئيسية في المبحث، لعلّ أوغلها عمقا ما يتّصل بالتطوّر الدّيني في المشرق العربي في جانبه المتّصل بالدّيانة اليهودية. فالبحث البنيوي لظهور اليهودية وما يسمّون بالعبريين تارة وباليهود والإسرائيليين أخرى، لايزال يفتقد السّند من خارج النصّ المقدّس التوراتي، ولولا الرّواية التوراتية العزْراويّة لغابت عديد المشاهد الشّائعة اليوم من المخيال البشري. فالمنطقة عرفت اليهودية كدين، ولكن لم تعرف شعبا يهوديا بمعنى التشكّل التاريخي العرقي، ولم تزد المسألة عن تهوّد قبائل وبطون، في مراحل تاريخية عدّة.
فقد كانت اليهودية تمتدّ وتتقلّص عبر تاريخها كغيرها من النّحل التي عرفتها المنطقة، كانت مملكة ذي النّواس-ق. 6م- في اليمن يهودية ثم انقرضت وتلاشت، وفي الشّمال الإفريقي مع حلول الصّيدونيين والصّوريين- منذ ما يقارب 2300 سنة- وفدت الدّيانة اليهودية، والتي تلتها حركة تهويد موحِّدة، شاعت في المنطقة، بلغت ذروتها مع داميا المسمّاة بالكاهنة، والتي مثّلت تحدّيا للفتح الإسلامي حتى دخول حسّان بن النعمان المظفّر قرطاج (القرية الحديثة)، سنة 698م.
كلّ ذلك ضمن تطوّرات التاريخ الدّيني في المنطقة، ولكن أزلية الشّعب والدّين، أو لحمة اليهودي بتوراته، فهي من الأساطير لا الحقائق التاريخية، التي لا تصمد أمام النّقد التاريخي. لذلك لم تخرج المدرسة التاريخية اليهودية إلى اليوم من تحليلها الميتافيزيقي للأحداث، المتلخّصة في "فجئية ظهور الشّعب اليهودي"، إلى عرض قراءة موضوعية لصيرورة التشكّل تلك، إذ الأمور تبدو أعقد مما يُروَّج مع قراءات النصّ التّوراتي الحالي وأوغل.
كان المؤرّخ اللّبناني كمال سليمان الصّليبي، في كتابيه: "التوراة جاءت من جزيرة العرب"، 1986 و"خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل"، 1988 مدركا هشاشة تلك المقولات، وكان محقّا عندما قلَبَ السّائد التوراتي رأسا على عقب، من خلال قراءة تتجاوز الضّبط المصوريتي، الذي قاد إلى تحديد المعنى، حتى يصوغ بناء مستجدّا للتاريخ والجغرافيا والنصّ.
لقد صنع مؤرّخو الأديان الغربيين هويّات في المشرق وألغوا أخرى، ضمن مسالك أبحاث صبّت في معادلات هيمنة سياسية مع تطوّرات التّاريخ الحديث، انطلقت مع مشروع- Studium arabicum- ما بين 1230 و 1250 الذي هدف رأسا إلى تحويل المسلمين نحو المسيحية. ثم في فترة لاحقة نشط فيها المتهوِّدون، من بقايا الخزر والأشكيناز، ممن عملوا جاهدين لتأبيد اليهودية في جماعة إثنية محدودة تضمن لهم انتسابا وقومية، كما حاول المشاركون الكنسيون نزع اليهودية عن جذورها العامة في المنطقة وإلحاقها بالوهم السّامي، النّعت الهلامي الذي استصنعه شلوزر الألماني. فالتقى الثنائي، صنّاع الهوية المتهوّدون والمؤرّخون الكنسيون، على أن العرب غرباء عن دين أبيهم إبراهيم، ولا شأن لهم بعبقرية الدّين التوحيدي، المتلخّص عندهم أساسا في اليهودية وربيبتها المسيحية، ذات الجذور اليهودية. وتعمّق ذلك التمشّي حتى عُزِل الإسلام خارجا لاحقا، وحُشِر ضمن تفسير النِّحلة الخارجة من عباءة المسيحية، كما رُوّج طيلة القرون الوسطى وحتى مطلع التاريخ الحديث في الأدبيات الكنسية والاستشراقية. وكأنّ المسيحية الغربية، ضمن تطوّراتها في الأطراف، تسعى بكلّ جهدها لإغلاق تطوّر التاريخ الدّيني المشرقي لتحصر منتهاه في المسيحيّة المكثْلَكة، وتأبى أن يستمرّ الشّرق حفيظا على التوحيد الإبراهيمي، ومن ثمة كان عزل الإسلام، الذي نشهد تبعاته الخطيرة اليوم.
وربما المتمعّن في النّصوص الكانونية الفاتيكانية المعاصرة، لا في ظاهرية الخطاب الحواري الدّعائي، الموجّه للاستهلاك الشّعبي، يلحظ عمق ذلك التأكيد على عزل الإسلام، ضمن ادّعاءات مقولة "التّراث المشترك" التي تربط المسيحية الغربية باليهودية لا غير، والتي تلخّصت في النصّ الكنسي القانوني "نحن نتذكّر: تأمّلات في المحرقة"، الذي أصّل لاهوتيا لتلك العلاقة، والذي أشرف عليه الكردينال إدوارد إدريس كاسيدي في 12 مارس 1998.
لقد غاب الرّبط الواقعي بين الحلقات الثّلاث، لتفصل الحلقة الثالثة، التي يمثّلها الإسلام. كما تدعّم التركيز على تغييب الخلاصة التي يمثّلها هذا الأخير، خصوصا خلال القرن التّاسع عشر والعشرين بفعل نشأة التفكير فيما يسمّى بالدّولة العبريّة. والمتابع لمواقف الكنيسة الغربية من اليهودية واليهود عبر تحوّلات الدّهور، يصاب بالدّهشة من مواقفها الرّجراجة، التي تبدّلت من القول بـ"قتلة المسيح" إلى "الإخوة الكبار".
كان مطمح العقل التاريخي الغربي تفريغ العرب من تراثهم، مدفوعا في ذلك بصراع قديم جديد معهم، يقلقه فيه استحواذهم على أهمّ مخزون تراثي وتاريخي وأسطوري للأديان الإبراهيمية. والمعركة على رمزيتها، ذات أثر في الواقع، فقد كان هدف الكنيسة فيها زعزعة الأسس الثّابتة التي تربط الإسلام باليهودية والمسيحية الأصليتين، لا اليهودية والمسيحية المصطَنَعتين، الأولى في شكلها المصهْيَن والثانية في شكلها المكثْلَك.
جانب آخر من ذلك الدّور خاضه المتهوِّدون الأوروبيون، فبفعل اندماجهم في المجتمعات الغربية، جَعَلَهم ذلك على حساسية مرهفة لإدراك توجّهات الغرب، الأمر الذي يسّر لهم البحث عن هوية دينية منعزلة، جرى فيها تشويه ونهب تراث المنطقة، واغتنموا ما يروّج عمّا يربطهم بالغرب من تراث ديني مشترك، فعملوا جاهدين على إقناعه أن الرّسالة المسيحية وليدة العبقرية اليهودية، وأن قوّة المسيحيّة الغربية فيما يدعمها من سند يهودي، وإلاّ كانت بدون جذور. داخل تلك العملية ما كان الغرب يخشى المتهوِّدين الخارجين من تحت بطانته، بل القراءةَ العربية لليهودية ضمن الشّمول الحضاري للمنطقة.
ولكن تلك القراءة لا تزال غائبة، فالعرب في التاريخ الحديث يستهلكون تعريفين بشأن اليهود: الأوّل مستمدّ من المفاهيم المتناثرة بشأنهم في الكتب المقدّسة الشّرقية، وفي كتب التاريخ الإسلامي والإسرائيليات والأسطوريات وليدة المنطقة، وهي تفتقر للصّياغة العلمية بحسب مقتضيات التطوّرات المستجدّة؛ والثّاني من مفاهيم صنعتها الآلة الاستشراقية الغربية في الزّمن الحديث، ينساق خطابها ضمن التّوظيف العلمي، ويصعب على غير المختصّ إدراك تناقضاتها. لذلك تجد العرب يردّدون مقولات "الشّعوب السّامية" و"اللّغة السّامية" و"اللّغة العبرية" و"إبراهيم العبري" وما شابهها، وهي مقولات غربية المنشأ جاءت ضمن صياغات مدرسة تاريخ الأديان الغربية حول المنطقة. والصّواب كما اقترح د. فاضل عبد الواحد علي في كتابه: " من سومر إلى التوراة"، 1996، إقرار "الجزريون" مقابل "السّاميون"، بناء على أن شعوب المنطقة ولغاتها كان موطنها الأصلي جزيرة العرب. وبالمثل لو أخذنا مقولة "اللّغة العبرية"، فهي لم تعرف بهذا النّعت إلاّ بعد السبي البابلي، فقد كانت تسمّى بلغة كنعان كما يظهر في سفر إشعياء 18:19. وما إبراهيم إلاّ اسما مشتقّا من الرّهام ومعناها الكثرة، وبنو رهم بطن من العرب، وأنّ أبا رهم من الأسماء الدّارجة عند العرب كأبي رهم بن مطعم الأرجي الشّاعر، وأبي رهم كلثوم الغفاري الصّحابي، وأبي رهم السّبعي التّابعي، ورهيمة أيضا هي عين بين الشّام والكوفة، وهو ما أفاض في شرحه ثروت أنيس الأسيوطي.
لايزال التّذبذب والتّداخل يحكم الأدبيات العربية بشأن اليهوديّة، والذي يبلغ حدّ التّناقض التأسيسي. فهل اليهود أمّة من العرب، هادت واحتكرت الدّيانة حتى صار الدّين نعتا اِلتحم بالنّاس، فتشكّلت القومية المزعومة اليوم، التي نحت نحو الانفصال عن الكلّ الجمعي، أم هم أمّة من دون العرب؟ تبدو تلك الأسئلة الحضارية بشأن التّراث المشرقي والبحث عن إجابات علمية لها يتيمة التّناول والمعالجة، جرّاء الاستهلاك المباشر للمقول السّياسي، والذي تبدو الحاجة ماسة للتخلّص من حصاره.
فلئن يشهد العرب اليوم عنتًا في تسوية عادلة لمسألة فلسطين سياسيا ضمن تجاذبات الغرب مع العالم الإسلامي، فإن ذلك العنت عائد في جزء منه للنّظرة السّياسويّة المفرطة لفلسطين وعدم توظيف المخزون الحضاري للمنطقة لتصحيح مقولات السّياسة، جرّاء ما شاع في قراءاته من أخطاء. فتصحيح مقولات السّياسة يجد جانبا من تصويبه في تاريخ الأديان.
روما: 20-11-07
* أستاذ تونسي يدرّس بجامعة لاسابيينسا بروما.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
فبرغم ادّعاءات الكتابة العلمية والنّقدية لتاريخ الأديان في المنطقة الشّرقية، لاتزال مجموعة من الأساطير تتحكّم بالمقولات الرّئيسية في المبحث، لعلّ أوغلها عمقا ما يتّصل بالتطوّر الدّيني في المشرق العربي في جانبه المتّصل بالدّيانة اليهودية. فالبحث البنيوي لظهور اليهودية وما يسمّون بالعبريين تارة وباليهود والإسرائيليين أخرى، لايزال يفتقد السّند من خارج النصّ المقدّس التوراتي، ولولا الرّواية التوراتية العزْراويّة لغابت عديد المشاهد الشّائعة اليوم من المخيال البشري. فالمنطقة عرفت اليهودية كدين، ولكن لم تعرف شعبا يهوديا بمعنى التشكّل التاريخي العرقي، ولم تزد المسألة عن تهوّد قبائل وبطون، في مراحل تاريخية عدّة.
فقد كانت اليهودية تمتدّ وتتقلّص عبر تاريخها كغيرها من النّحل التي عرفتها المنطقة، كانت مملكة ذي النّواس-ق. 6م- في اليمن يهودية ثم انقرضت وتلاشت، وفي الشّمال الإفريقي مع حلول الصّيدونيين والصّوريين- منذ ما يقارب 2300 سنة- وفدت الدّيانة اليهودية، والتي تلتها حركة تهويد موحِّدة، شاعت في المنطقة، بلغت ذروتها مع داميا المسمّاة بالكاهنة، والتي مثّلت تحدّيا للفتح الإسلامي حتى دخول حسّان بن النعمان المظفّر قرطاج (القرية الحديثة)، سنة 698م.
كلّ ذلك ضمن تطوّرات التاريخ الدّيني في المنطقة، ولكن أزلية الشّعب والدّين، أو لحمة اليهودي بتوراته، فهي من الأساطير لا الحقائق التاريخية، التي لا تصمد أمام النّقد التاريخي. لذلك لم تخرج المدرسة التاريخية اليهودية إلى اليوم من تحليلها الميتافيزيقي للأحداث، المتلخّصة في "فجئية ظهور الشّعب اليهودي"، إلى عرض قراءة موضوعية لصيرورة التشكّل تلك، إذ الأمور تبدو أعقد مما يُروَّج مع قراءات النصّ التّوراتي الحالي وأوغل.
كان المؤرّخ اللّبناني كمال سليمان الصّليبي، في كتابيه: "التوراة جاءت من جزيرة العرب"، 1986 و"خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل"، 1988 مدركا هشاشة تلك المقولات، وكان محقّا عندما قلَبَ السّائد التوراتي رأسا على عقب، من خلال قراءة تتجاوز الضّبط المصوريتي، الذي قاد إلى تحديد المعنى، حتى يصوغ بناء مستجدّا للتاريخ والجغرافيا والنصّ.
لقد صنع مؤرّخو الأديان الغربيين هويّات في المشرق وألغوا أخرى، ضمن مسالك أبحاث صبّت في معادلات هيمنة سياسية مع تطوّرات التّاريخ الحديث، انطلقت مع مشروع- Studium arabicum- ما بين 1230 و 1250 الذي هدف رأسا إلى تحويل المسلمين نحو المسيحية. ثم في فترة لاحقة نشط فيها المتهوِّدون، من بقايا الخزر والأشكيناز، ممن عملوا جاهدين لتأبيد اليهودية في جماعة إثنية محدودة تضمن لهم انتسابا وقومية، كما حاول المشاركون الكنسيون نزع اليهودية عن جذورها العامة في المنطقة وإلحاقها بالوهم السّامي، النّعت الهلامي الذي استصنعه شلوزر الألماني. فالتقى الثنائي، صنّاع الهوية المتهوّدون والمؤرّخون الكنسيون، على أن العرب غرباء عن دين أبيهم إبراهيم، ولا شأن لهم بعبقرية الدّين التوحيدي، المتلخّص عندهم أساسا في اليهودية وربيبتها المسيحية، ذات الجذور اليهودية. وتعمّق ذلك التمشّي حتى عُزِل الإسلام خارجا لاحقا، وحُشِر ضمن تفسير النِّحلة الخارجة من عباءة المسيحية، كما رُوّج طيلة القرون الوسطى وحتى مطلع التاريخ الحديث في الأدبيات الكنسية والاستشراقية. وكأنّ المسيحية الغربية، ضمن تطوّراتها في الأطراف، تسعى بكلّ جهدها لإغلاق تطوّر التاريخ الدّيني المشرقي لتحصر منتهاه في المسيحيّة المكثْلَكة، وتأبى أن يستمرّ الشّرق حفيظا على التوحيد الإبراهيمي، ومن ثمة كان عزل الإسلام، الذي نشهد تبعاته الخطيرة اليوم.
وربما المتمعّن في النّصوص الكانونية الفاتيكانية المعاصرة، لا في ظاهرية الخطاب الحواري الدّعائي، الموجّه للاستهلاك الشّعبي، يلحظ عمق ذلك التأكيد على عزل الإسلام، ضمن ادّعاءات مقولة "التّراث المشترك" التي تربط المسيحية الغربية باليهودية لا غير، والتي تلخّصت في النصّ الكنسي القانوني "نحن نتذكّر: تأمّلات في المحرقة"، الذي أصّل لاهوتيا لتلك العلاقة، والذي أشرف عليه الكردينال إدوارد إدريس كاسيدي في 12 مارس 1998.
لقد غاب الرّبط الواقعي بين الحلقات الثّلاث، لتفصل الحلقة الثالثة، التي يمثّلها الإسلام. كما تدعّم التركيز على تغييب الخلاصة التي يمثّلها هذا الأخير، خصوصا خلال القرن التّاسع عشر والعشرين بفعل نشأة التفكير فيما يسمّى بالدّولة العبريّة. والمتابع لمواقف الكنيسة الغربية من اليهودية واليهود عبر تحوّلات الدّهور، يصاب بالدّهشة من مواقفها الرّجراجة، التي تبدّلت من القول بـ"قتلة المسيح" إلى "الإخوة الكبار".
كان مطمح العقل التاريخي الغربي تفريغ العرب من تراثهم، مدفوعا في ذلك بصراع قديم جديد معهم، يقلقه فيه استحواذهم على أهمّ مخزون تراثي وتاريخي وأسطوري للأديان الإبراهيمية. والمعركة على رمزيتها، ذات أثر في الواقع، فقد كان هدف الكنيسة فيها زعزعة الأسس الثّابتة التي تربط الإسلام باليهودية والمسيحية الأصليتين، لا اليهودية والمسيحية المصطَنَعتين، الأولى في شكلها المصهْيَن والثانية في شكلها المكثْلَك.
جانب آخر من ذلك الدّور خاضه المتهوِّدون الأوروبيون، فبفعل اندماجهم في المجتمعات الغربية، جَعَلَهم ذلك على حساسية مرهفة لإدراك توجّهات الغرب، الأمر الذي يسّر لهم البحث عن هوية دينية منعزلة، جرى فيها تشويه ونهب تراث المنطقة، واغتنموا ما يروّج عمّا يربطهم بالغرب من تراث ديني مشترك، فعملوا جاهدين على إقناعه أن الرّسالة المسيحية وليدة العبقرية اليهودية، وأن قوّة المسيحيّة الغربية فيما يدعمها من سند يهودي، وإلاّ كانت بدون جذور. داخل تلك العملية ما كان الغرب يخشى المتهوِّدين الخارجين من تحت بطانته، بل القراءةَ العربية لليهودية ضمن الشّمول الحضاري للمنطقة.
ولكن تلك القراءة لا تزال غائبة، فالعرب في التاريخ الحديث يستهلكون تعريفين بشأن اليهود: الأوّل مستمدّ من المفاهيم المتناثرة بشأنهم في الكتب المقدّسة الشّرقية، وفي كتب التاريخ الإسلامي والإسرائيليات والأسطوريات وليدة المنطقة، وهي تفتقر للصّياغة العلمية بحسب مقتضيات التطوّرات المستجدّة؛ والثّاني من مفاهيم صنعتها الآلة الاستشراقية الغربية في الزّمن الحديث، ينساق خطابها ضمن التّوظيف العلمي، ويصعب على غير المختصّ إدراك تناقضاتها. لذلك تجد العرب يردّدون مقولات "الشّعوب السّامية" و"اللّغة السّامية" و"اللّغة العبرية" و"إبراهيم العبري" وما شابهها، وهي مقولات غربية المنشأ جاءت ضمن صياغات مدرسة تاريخ الأديان الغربية حول المنطقة. والصّواب كما اقترح د. فاضل عبد الواحد علي في كتابه: " من سومر إلى التوراة"، 1996، إقرار "الجزريون" مقابل "السّاميون"، بناء على أن شعوب المنطقة ولغاتها كان موطنها الأصلي جزيرة العرب. وبالمثل لو أخذنا مقولة "اللّغة العبرية"، فهي لم تعرف بهذا النّعت إلاّ بعد السبي البابلي، فقد كانت تسمّى بلغة كنعان كما يظهر في سفر إشعياء 18:19. وما إبراهيم إلاّ اسما مشتقّا من الرّهام ومعناها الكثرة، وبنو رهم بطن من العرب، وأنّ أبا رهم من الأسماء الدّارجة عند العرب كأبي رهم بن مطعم الأرجي الشّاعر، وأبي رهم كلثوم الغفاري الصّحابي، وأبي رهم السّبعي التّابعي، ورهيمة أيضا هي عين بين الشّام والكوفة، وهو ما أفاض في شرحه ثروت أنيس الأسيوطي.
لايزال التّذبذب والتّداخل يحكم الأدبيات العربية بشأن اليهوديّة، والذي يبلغ حدّ التّناقض التأسيسي. فهل اليهود أمّة من العرب، هادت واحتكرت الدّيانة حتى صار الدّين نعتا اِلتحم بالنّاس، فتشكّلت القومية المزعومة اليوم، التي نحت نحو الانفصال عن الكلّ الجمعي، أم هم أمّة من دون العرب؟ تبدو تلك الأسئلة الحضارية بشأن التّراث المشرقي والبحث عن إجابات علمية لها يتيمة التّناول والمعالجة، جرّاء الاستهلاك المباشر للمقول السّياسي، والذي تبدو الحاجة ماسة للتخلّص من حصاره.
فلئن يشهد العرب اليوم عنتًا في تسوية عادلة لمسألة فلسطين سياسيا ضمن تجاذبات الغرب مع العالم الإسلامي، فإن ذلك العنت عائد في جزء منه للنّظرة السّياسويّة المفرطة لفلسطين وعدم توظيف المخزون الحضاري للمنطقة لتصحيح مقولات السّياسة، جرّاء ما شاع في قراءاته من أخطاء. فتصحيح مقولات السّياسة يجد جانبا من تصويبه في تاريخ الأديان.
روما: 20-11-07
* أستاذ تونسي يدرّس بجامعة لاسابيينسا بروما.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.