حوار مع الأكاديمي الأردني علي محافظة: العولمة الثقافية لن تنجح في اختراق هويتنا

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسحاوره: أحمد الطراونة *
يرى أستاذ التاريخ في الجامعة الأردنية علي محافظة، أن التاريخ لا يعود ولا يمكن أن يعيد نفسه، مبررا ذلك بأن هنالك أمماً تنقرض وأخرى تتقدم وثالثة تخرج من الحضارة وتعود إليها أو يتوقف إسهامها في الإنسانية. ويضيف محافظة: من يقول إن التاريخ يعيد نفسه، ما يزال يعيش في الماضي ولم يعِ التاريخ والحاضر .
ويؤكد محافظة المولود في بلدة كفر جايز (إربد) سنة 1938، والحاصل على درجة دكتوراه دولة في الآداب والعلوم الإنسانية من جامعة السوربون-باريس (1980) أن الوعي بشكل عام هو وعي سياسي، والوعي بالتاريخ هو جزء من الوعي السياسي، مضيفاً: حتى تعي التاريخ يجب أن تكون متعلما، بمعنى أن الوعي مرتبط بالتعلم، وبما أن التعليم في الوطن العربي كان متأخرا فإن الوعي بالتاريخ وغيره ظل متأخرا أيضاً .
تالياً حوار مع محافظة، حول علم التاريخ، وعلاقة المؤرخ بالمثقف والسياسي، ومدى قدرة الوعي بالتاريخ على فهم المستقبل.
الطراونة : إلى أي حد يمكن أن يكون المؤرخ مثقفا، أو العكس: أن يكون المثقف كالروائي أو المسرحي أو الشاعر ملمّاً بالتاريخ أو عارفا به؟
- من الخصائص الأساسية للمؤرخ أن يكون مثقفا إذا قصدنا بالثقافة الإلمام بمختلف العلوم الاجتماعية وبمختلف قضايا الأمة ومشكلاتها، خصوصا أن المؤرخ يحتاج بشكل مباشر إلى العلم بالجغرافيا والاجتماع والاقتصاد والآثار ومجمل العلوم التي لها علاقة بعمله، وبغير ذلك لا يستطيع أن يفهم الحدث التاريخي وان يحلله ويتوصل إلى معرفة الحقائق فيه، خصوصا ان هدف المؤرخ دوما هو البحث عن الحقيقة: حقيقة الحدث التاريخي أو المسألة التاريخية التي حدثت عبر الماضي. وبغير ذلك سيكون مؤرخا أعرج أو غير قادر على تحليل الوقائع التاريخية تحليلا منهجيا دقيقا.
الطراونة : وهل ترى أن العكس مطلوب أيضا، أي أن يكون المثقف ملما بالتاريخ؟
- الروائي أو الشاعر أو القاص مضطر إلى أن يكون عارفا بالتاريخ أو بالفترة الزمنية التي تدور الأحداث فيها، خصوصا إذا كانت الرواية تاريخية أو قصة تاريخية أو مسرحية تاريخية، فلا بد له أن يفهم الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحالة النفسية للشخصيات التي ساهمت في هذا الحدث.
الطراونة : نعيش الآن معركة التاريخ الكوني أو الهوية الواحدة بوجود العولمة، إلى أي مدى يمكن أن تنجح العولمة في إلغاء الخصوصية العربية؟
- صحيح أننا نشهد عصر العولمة من الناحية الإعلامية أو من الناحية الاقتصادية، حيث يستطيع الإنسان العربي وهو في منزله أن يتابع أحداث الكون من خلال الفضائيات ويتابع ما يستجد من معلومات عن هذا الحدث، ويمكن القول أيضا إن العولمة هي في الحقيقة ذات شقين، الأول شق اقتصادي تتبناه المنظمة العالمية للتجارة والتي انضمت اليها دول ومنظمات كثيرة، وليس مستغربا خلال السنوات القادمة أن تصبح حركة السلع والمنتجات تعبر الحدود من دون قيود جمركية؛ والشق الآخر هو المعلومة التي تصل إلى الإنسان وتتجاوز كل حدود الدنيا ولا يمكن للدول أن تمنع دخول المعلومة ووصولها إلى مواطنيها.
لكن الى أي مدى يمكن أن تؤثر هذه، إضافة إلى ما يصل إلينا من أشكال الغناء والموسيقى والفن المختلف، في هويتنا وثقافتنا العربية الإسلامية؟ أنا اعتقد ان العولمة رغم حدتها الاقتصادية والإعلامية ليس بإمكانها أن تطغى على هويتنا القومية العربية الإسلامية مثلما أنها لا تستطيع أن تؤثر في هويات أخرى كالهويات الأوروبية، ففي الدول الغربية والحليفة لأميركا تم اتخاذ التدابير القانونية والإجرائية للوقوف في وجه هذه العولمة الساعية للقضاء على الهوية الوطنية أيضا، ورغم أن هنالك اتحادا اقتصاديا وأن هنالك أحلافا عسكرية، وقد يكون هنالك شكل آخر متطور من الاتحاد قد ينتخب رئيسا له في يوم من الأيام إلا انه لا يستطيع أن يقضي على الهوية القومية للدولة الأوروبية العضو فيه، أو القضاء على ركائز هويتها كاللغة أو التاريخ، او ان يلغي امة كانت لها خصائص معينة ويدمجها في امة أخرى لها خصائص مختلفة عنها.

الطراونة : هل تعتقد أن الاختراق الثقافي الأجنبي لا يؤثر في الهوية القومية العربية؟
- لا اعتقد ذلك، لأننا نعاني بشكل كبير في جامعاتنا من ضعف طلبتنا في اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الأخرى، بل واللغة العربية أيضا، وهذا يعكس مشاكل في التعليم، لكن ليس هنالك مؤشرات على أن العولمة الثقافية يمكن أن تخترق هويتنا أو تؤثر فيها.

الطراونة : برأيك هل ترى أن الهوية تأخذ صفة الثبات، أم إنها متحولة؟
- أرى أن الهوية تأخذ صفة الثبات في بعض جوانبها كاللغة والتاريخ المشترك والتراث والدين، أما الصفات المتغيرة فمنها النظر إلى الكون والحياة العادات والتقاليد وغيرها. لذلك العناصر المتغيرة تتشكل وتتغير ولا تؤثر سلبا في الهوية، فمثلا كان الشعر ديوان العرب، أما الآن فالرواية هي ديوان العرب، لذلك يمكن أن تتغير الموسيقى والشعر ويعاد إنتاج الأدب بما يتناسب والأذواق المتغيرة والمتجددة. لذلك هنالك ما يمكن أن يتغير لكن هنالك ثوابت والمساس بها قد يمس بجذور وأساسات الهوية ويسهم في تغييرها، وأنا أرى أن الاهتمام بالتاريخ واللغة والعديد من القواسم المشتركة التي تجتمع عليها الأمة قد زاد بين المثقفين في الفترة الأخيرة.

الطراونة : لماذا تأخر الوعي التاريخي العربي وتقدم عند الآخر؟ وهل نعزو تأخر العرب، إلى عدم امتلاكهم الوعي التاريخي الذي كان مهماز تفوق وتقدم الآخر الغربي؟
- يعني لماذا تأخرنا وتقدم الآخر، وهل لفهمنا بالتاريخ دور في ذلك. نعم! التاريخ وأيضاً غيره من العلوم الأخرى.. فأنت حتى تعي التاريخ يجب أن تكون متعلما، بمعنى أن الوعي مرتبط بالتعلم، وبما أن التعليم في الوطن العربي كان متأخرا فإن الوعي بالتاريخ وغيره ظل متأخرا، ثم سيطر التعليم الديني في فترة ما وبقي المتعلم هو العالم بأمور الدين فقط، لذلك نحن امة تقدمت في كل العلوم في فترة نهضتها في الفلك والحساب والهندسة والفيزياء والصيدلة والطب، وأخيرا أهملنا كل هذه العلوم واتجهنا للعلوم الدينية والعلوم اللغوية. والعلوم اللغوية نتعلمها من اجل إتقان العلوم الدينية وفهم النص الديني كالقرآن والحديث، وحتى التاريخ كان من أهداف تعلمه فهم الدين والتركيز على السيرة النبوية وغيرها من السير كسير الخلفاء الراشدين والصحابة، وهذا التركيز على الماضي كان تركيزا دينيا بحتا، لهذا السبب فإن الوعي التاريخي بمعنى الوعي بالوضع السياسي والتاريخي والاجتماعي وغيره للأمة كان يقدمه علماء الدين بناءً على ما يمتلكون من وعي ديني، لذلك لم يحدث الوعي المتحرر من الفكر الديني إلا بعد أن تأسست المدارس على الطراز الغربي في بلاد
 نا وكانت هذه المدارس على شكلين منها المدارس التبشيرية التي حملتها الإرساليات التبشيرية المسيحية إلى بلادنا، ومنها شرق الاردن متأخرا، والمدارس الحديثة التي بدأت تنشئها الدولة العثمانية حيث أدخلت العلم الحديث كعلم الطب والهندسة والرياضيات، ومنذ ذلك الحين بدأ العرب يعون تاريخهم ويعيدون كتابته، إذ رافقت إعادة كتابة التاريخ النهضةَ العربية منذ بدايتها، ولا عجب أن يكتب رواد النهضة الأوائل في التاريخ أو الاستشهاد به لبعث النهضة العربية من جديد، وفي فترة الدولة العثمانية سبقنا الأتراك في الوعي بقوميتهم لأنهم كانوا يريدون تحويل الدولة العثمانية إلى دولة تركية، ثم بدأنا نحن كعرب الوعي بقوميتنا كردة فعل على ذلك، لأننا أحسسنا حينها أن هويتنا هددت، خصوصا أن الدولة العثمانية إمبراطورية متعددة الأعراق والقوميات تضم العربي والتركي واليوناني والصربي والبوسني وغيرها، وبدأ الوعي القومي عند الشعوب الأوروبية التي كانت تتبع للإمبراطورية العثمانية، قبلنا استقلت اليونان وتبعتها بلغاريا والصرب وذلك لقربها من أوروبا والحركات التحررية الغربية، وبدأت هذه الشعوب تعي تاريخها وأنها امة مستقلة عن الاتراك، وأنها هي من يتحكم في مصيرها، وانتقلت هذه العدوى للعرب، ولذلك أدرك العرب انهم يمتلكون مقومات الأمة كاللغة والتاريخ والدين والثقافة الواحدة، فكان الوعي بالتاريخ مرافقاً للنهضة العربية التي جاءت نتيجة للوعي السياسي بالدرجة الأولى، خصوصا ان الوعي بالتاريخ جزء من الوعي السياسي العام.

الطراونة : إلى أي حد ترى أن المؤرخ المعاصر لم يفسر الوقائع والأحداث بمنطق المشاركين فيها، بل بمنطقٍ لم يدركوه لأنه مرسوم لهم مسبقا، ولم يدركه هو لغياب الوثائق والشروط المعيارية لإعادة كتابة التاريخ؟.
- في هذه المقولة ظلمٌ للمؤرخ، فالمنهجية التاريخية المتبعة هي المنهجية الغربية، ومنذ القرن التاسع عشر حتى الآن وهذه المنهجية يتفق عليها كل العالم ولم تعد مقتصرة علينا، إلا أن هنالك نظريات مختلفة لتفسير التاريخ وتدخل في باب فلسفة التاريخ كالنظرية الماركسية التي تعتمد على صراع الطبقات والتحول الاقتصادي، هنالك نظرية التحدي والاستجابة ونظرية ميشيل فوكو وغيرها، ونحن في البلاد العربية ليس لدينا مدارس في تفسير التاريخ وما نزال مقصرين في مختلف العلوم ومنها التاريخ، لأن الأمة لم تنهض بعد النهوض المرجو ليظهر منها الفلاسفة والعلماء أصحاب النظريات الخاصة بهم وما نزال على الدرب ولم نلحق الأمم التي سبقتنا.
أما ما تقوله فيمكن أن ينطبق على الفترة الحديثة لأن الدولة في السابق كانت تمتلك زمام أمرها رغم انه كان هنالك صراع على السلطة، إلا أن الدولة كان تجمع هذه الصراعات، لكن إذا اعتبرت أن الأتراك كانوا يرسمون لنا فأنا أتفق معك في هذا، وهو ما حدث أيضا في فترة الاستعمار وفترة ما بعد الاستعمار.
أما المؤرخ فيجب أن يسعى إلى تمحيص الفترة التاريخية المراد دراستها، وهذا الآن سهل، خصوصا مع توفر الوثائق وإمكانية الإطلاع عليها من خلال دور حفظ الوثائق التي تنتشر في كل الدول خصوصا الاستعمارية، ويمكن للباحث أن يطلع عليها بحرية، بمعنى أنه لا يوجد لدينا أزمة في فهم التاريخ، فالوثائق موجودة والمنهجية موجودة، فإذا كان لدينا عجز فهو العجز المالي.. أقصد أنه ليس لدينا المال الكافي لإرسال طلابنا خصوصا طلبة الدكتوراه للاطلاع على هذه الوثائق، وهذا عيب في جامعاتنا ونشكو منه.
الطراونة : من يكتب التاريخ العربي الآن؟ وهل ترى أنه يتم إخضاع ذلك لأساس أيديولوجي؟ والى أي مدى يمكن أن يؤثر الواقع القطري في إعادة كتابة التاريخ العربي وتشويهه؟
- تاريخ العرب المعاصر يكتبه المؤرخون العرب، وهم أصناف، فهنالك مؤرخون مستقلون موضوعيون لدرجة كبيرة ويكتبون الحقائق باستقلالية تامة ويفسرونه باستقلالية لأن المشكلة في كتابة التاريخ هي مشكلة التفسير، فهنالك تفسير ايدولوجي، فالماركسي يفسر تفسيرا يركز على العوامل الاقتصادية بالدرجة الأولى مثلما يركز على صراع الطبقات وغيرها، والمؤرخ المتأثر بنظرية التحدي والاستجابة قد يفسر الحدث بناء على نظريته، بمعنى أن المؤرخ لديه العديد من النظريات لتفسير التاريخ، وهو يأخذ بأيها، لكني أرى أن كل نظريات التفسير الغربية لا تصلح لتفسير تاريخنا، لأنها وُضعت في الأصل لتفسير التاريخ الأوروبي، والتاريخ الأوروبي يختلف عن تاريخنا في مسيرته وفي العوامل المؤثرة فيه، ولذلك إذا أردنا أن ندرس التاريخ العربي علينا أن نأخذ المنهجيات الأوروبية في دراسة التاريخ من دون التأثر بالنظريات التي وُضعت لتفسر التاريخ الغربي، فمثلا ماكس فيبر وضع نظريته لتفسير التاريخ الأوروبي ولم يضعها لتفسير تاريخنا، فالباحثون عندنا سواء من دارسي التاريخ أو الفلسفة أو العلوم الأخرى، تأثروا بالنظريات الغربية وأنا آخذ عليهم ذلك، لأنني أرى أ ن مجتمعنا يحتاج إلى دراسة عميقة لفهم العوامل المؤثرة فيه والتي تحركه وتدفع الناس إلى التوجه إلى أمر ما. فلماذا يشتد إقبال الناس في هذه الفترة على التدين والدين؟ في الخمسينيات والستينيات كان الناس يقبلون على التوجه القومي والتصدي للمشاريع الاستعمارية الغربية والأحلاف، والآن وفي ظل كل هذا الانهزام والتدخل السافر من قبل أميركا في كل شؤون العرب، لماذا أصبحت ردة الفعل عند العرب ضعيفة؟ لماذا أصبح التصدي للغرب ضعيفاً؟ لماذا قدرنا أن نتصدى للأحلاف ونجابه الاستعمار في الخمسينيات؟.
بنظري، هنا تبرز المشكلة الحقيقية التي تواجه المؤرخ العربي والذي عليه أن يدرس تاريخ هذه الأمة من حيث التطور الاجتماعي والعوامل النفسية والانثربولوجية، فنحن لدينا قصور واضح في فهم هذه الأمة وفهم العوامل المحركة لها.

الطراونة : إلى أي حد يمكن للمؤرخ المحترف أن يحتكر مهنة التاريخ في ظل ما نرى من وسائل الاتصال وهذا العالم المفتوح وانتشار وسائل الإعلام الشاهدة على الأحداث لحظة بلحظة، وأين تقع مهمة المؤرخ أو مهنة التاريخ أو محترف مهنة التاريخ في تحديد مضمون التاريخ ورسم حدوده؟
- لا شك أن وسائل الإعلام الحديثة تساهم في التعرف على الأحداث الثقافية والسياسية، وما يسمى التقارير الصحفية لها دورها أيضا في تعريف الناس بكثير من الأمور، خصوصا الزيارات التي تقوم بها للشعوب الفقيرة أو الشعوب التي تعيش الحروب، حيث تقدم فكرة واضحة ومباشرة عن حياة هذه الشعوب وبعض فئاتها وعن الحقائق الدينية، ولكن كتابة التاريخ ذات طابع خاص لأنها تتناول الحدث التاريخي بعد أن تهدأ العواطف والمناقشات ويبتعد الناس عن المغالاة في التعصب لفريق معين أو جهة معينة بخصوص ذلك الحدث، وعند هدوء العواطف يأتي المؤرخ ويرجع للوثائق الأصلية سواء كانت قرارات محاكم أو تقارير حكام أو تقارير صحفية يدرسها ويحللها بحثا عن الحقيقة ويقدم تصوره، فالكتابة التاريخية هي تصوُّر المؤرخ للحدث، لذلك لا عجب أن يتناول المؤرخون الثورة الفرنسية ويكتبون عنها آلاف الكتب والتي تتناولها من مختلف الجوانب وفي مختلف اللغات، وبمرور مائتي عام على قيام هذه الثورة (1989) احتفل الفرنسيون وحثوا المؤرخين والكتاب والأدباء على الكتابة حول هذه الثورة، فصدرت عشرات الكتب حول الثورة مرة أخرى، فكتابتك عن الحدث مرة لا تعني انك وفيت هذا ال
 حدث حقه من الكتابة، فالكتابة التاريخية تتطور، خصوصا ان المعلومة تتطور والعلوم تتطور، مما يجعل المؤرخ يستفيد منها، ولذلك فالذي كتب عن الثورة الفرنسية قبل الحرب العالمية الثانية يختلف تماما عن الذي كتب عنها بعد الحرب العالمية الثانية مثلا أو الذي كتب عنها في العام 1989.

الطراونة : هل هنالك عدم وضوح أو مستقبل غامض في علاقة حضارتنا مع الحضارات الأخرى يستدعي كل هذه العودة للتاريخ والتمترس خلف وهم الماضي؟
- هل تواجه الحضارة بشكل عام خطر الأفول؟ أقول لك لا، لكن قد تجمد الحضارة وتبقى جزءاً من التاريخ.
نحن كعرب لم نشارك في الحضارة الحديثة ليس لنا دور، وإن كان لنا دور فهو دور قليل مقارنة مع غيرنا من الأمم الأخرى. صحيح أن هنالك بعض العلماء العرب شاركوا في أميركا وغيرها من الدول المتقدمة، لكنهم شاركوا في مختبرات ليست لهم ولم يعملوا وحدهم وإنما تحت إشراف علماء من فرنسا أو ألمانيا وسواهما، لذلك لم تكن مشاركتهم مشاركة حقيقية في الحضارة، أما المشاركة الحقيقة هي أن تقدم هذه الأمة من خلال معاهدها وجامعاتها ومختبراتها إسهاما ملموسا في الحضارة الإنسانية الحالية وفي مختلف جوانبها.

الطراونة : يعني.. هل ترى أن الحضارة العربية الآن في حالة جمود؟
- طبعا، ونحن لم نساهم بعد في الحضارة الإنسانية الحالية، وان كان لنا مساهمات فهي فقط في مجالات الشعر أو الأدب أو بعض الجوانب الأخرى، ولكن بشكل ضعيف، فكم من الروايات ترجمت للغات عالمية مثلا، كذلك الحال بالنسبة للشعر والإنتاج في الطب والفيزياء وغيرهما. انظر مثلا إلى الحضارة الهندية وسترى الفرق بين مساهمة حضارتنا مع هذه الحضارات مقارنة مع الحضارة الهندية.
العودة للماضي إذاً هي دليل عدم إيجاد أي إسهام حقيقي وأننا نعود لما انجزنا في السابق ونجتره ونتحدث عنه ونتباهى به.

الطراونة : هل ترى أن الخطاب الثقافي في الايديولوجيات العربية والذي كان سائدا حتى ثمانينيات القرن الماضي، كان خطابا مبطناً بالوجدان بعيدا عن الواقع، وهل حقاً أن هذا الخطاب كرس الفهم المتخلف للتاريخ بشكل أو بآخر؟.
- الوعي بشكل عام بأساسه هو وعي سياسي، والوعي بالتاريخ هو جزء من الوعي السياسي، ففي الخمسينيات والستيينات كان الوعي بالتاريخ قويا، وكانت الشعارات مهمة، خصوصا أننا حصلنا على الاستقلال حديثا وكنا ننظر إلى المستقبل، والمستقبل كان يحتاج إلى شعارات كأن نقول بترول العرب للعرب ، خصوصا ان العرب كانوا يحصلون على نصف في المئة من أرباح بيع برميل البترول، ونقول سوق عربية مشتركة ، وغيرها من الشعارات الحقيقية، إضافة إلى أن الشعوب العربية مع ظهور عبد الناصر كانت تحتاج للتأجيج ليستخدمها وسيلة ضغط على الحكام العرب بعد أن عجز في إيجاد التحول الذي يريده كمقاومة الأحلاف الغربية والتصدي لها، وكان هنالك معارك في المغرب وفي الجزائر وفي تونس، إضافة إلى المعركة المركزية مع إسرائيل في فلسطين، ومع الغرب التي كان يقف خلفها ويوهمنا بأن المعركة الحقيقية هي مع الشيوعية، لذلك من الظلم أن نقول إن الشعارات في تلك الفترة كانت شعارات مزيفة، وإنما كانت تساند معارك حقيقية. وحتى بعد خروج المستعمر كنا نحتاج إلى شعارات، لأن المستعمر عاد ليستعمرنا بطريقة أخرى وبعد قيام الدولة القطرية أيضا والتي أذلت شعوبها بكل الوسائل في سبيل تحكم فئة سياسية في كل شعب وفي ثروته وفي تغطية الفساد الذي أصبح يسود الدول العربية القطرية، والتخلف الذي لم تُستثنَ منه دولة عربية.
صحيح ان هنالك استقلالاً، لكن الدولة القطرية لم تؤمّن الأمن الداخلي لمواطنيها ولا الأمن الغذائي، ولم توزع الثروة بشكل عادل، ولم تؤمّن العدالة الاجتماعية وزادت الفروق بين المالكين وغير المالكين، وزاد الفقر والبطالة.
صحيح أن لكل مرحلة طروحاتها وشعاراتها، فمثلا بعد انتهاء حرب 67 كانت الهزيمة للأنظمة العربية الاشتراكية التي كانت تزعم انها تستطيع أن تقود الأمة للنصر، فحل محلها شعار جديد هو الإسلام هو الحل ، وبدأ ما يعرف ب الصحوة الإسلامية ، ولكن هذه الصحوة تحولت إلى حركات سلفية متطرفة استعملت الإرهاب على أهلها في معظم الدول العربية، مما جعلنا نستغرب إلى أي هدف تقود هذه الصحوة، لأنها أصبحت وبالاً علينا ولم تقُدنا إلى الاستقلال الحقيقي والصحوة الحقيقة، وإنما قادتنا إلى الانغلاق والتقوقع والشرنقة.

الطراونة : هل تقصد أن فئة معينة اختطفت هذه الصحوة وحولتها إلى فكر متطرف منغلق قائم على التكفير ونبذ الآخر بكل أشكاله؟.
- لا أستطيع أن أتهم فئة ما، صحيح أن الغرب أذلّنا وأهاننا وسيطر على مقدراتنا، ولكن لا يكون الرد على ذلك بالتطرف والإرهاب، وإنما بمزيد من الوعي والعلم وتحسين وعي الشعوب وتحريك المجتمعات الواعية والمتعلمة، لا كما يسود الآن.

الطراونة : شهد المشهد الثقافي العربي في ثمانينيات القرن الماضي ولادة ظاهرة الانقلاب على الوعي التاريخي باتجاه الوعي الحداثي.. فشُوِّهَ التاريخ وهُشِّم، وما نزال نبحث عن الحداثة. متى تنتهي مخاضات ولادة ثقافة عربية عقلانية ديمقراطية ذات وعي تاريخي كوني حديث ومعاصر؟
- لقد شهدنا منذ بداية النصف الثاني من القرن الماضي وجود جماعات تتمسك بالحداثة وتتبناها وترى أنها هي الحل الوحيد لمشاكلنا وان علينا اللحاق بالمجتمعات الغربية وبكل ما يأتي به الغرب، وهذا يمثله التيار الليبرالي الحر الذي شهدناه في الوطن العربي قبل الاستقلال وبعده، وهنالك التيار الذي يتمسك بالماضي والتراث ويرى أننا يجب أن نسعى إلى العودة إلى الماضي، لا يوجد امة من الأمم تعود إلى ماضيها، الأساس هو الوعي التاريخي الحديث للماضي والعودة إلى دراسته بتعمق والتعرف على العناصر الايجابية فيه لتكون منطلقا وسندا لنا في صناعة المستقبل.

الطراونة : كيف تنظر إلى مقولة إن التاريخ يعيد نفسه؟
- التاريخ لا يعود ولا يمكن أن يعيد نفسه، هنالك أمم تنقرض وهنالك أمم تتقدم وهناك أمم تخرج من الحضارة وتعود لها أو يتوقف إسهامها في الإنسانية، لكن التاريخ لا يمكن أن يعيد نفسه، لكن أعود واكرر أن هنالك من يعود للتاريخ ويعتبر أن نجاحه وصلاحه لا يمكن أن يكون إلا بالرجوع إلى هذا الماضي أو التراث، وهذا جزء من اعتقاد ما يسمى الصحوة الإسلامية ، فالخلافة الإسلامية لا يمكن أن تعود لأن من يطرح ذلك ما يزال يعيش في الماضي ولم يعِ التاريخ والحاضر، ولم يدرك بعد الظروف الحالية التي تتحكم به وهذه مشكلة.
فلا الماضي والتمسك به، ولا الحداثة والركض خلفها، ينقذنا. الذي ينقذنا هو ما تقدمت به وتطورت على أساسه الأمم الأخرى، وهو فهم الماضي بروح العصرالقرن والاستناد إلى العناصر الايجابية فيه والتي تسهم في إعادة بناء الأمة على شروط واضحة وثابتة للتقدم، فلا أنت تتبع الغرب ولا تتبع الشرق ولا تعود إلى الماضي وتتمترس خلفه، وهذا يأتي من الوعي الحقيقي للتاريخ.

الطراونة : هنالك من يرى أن الأمة العربية الآن تعيش تاريخياً فترة تشبه إلى حد كبير فترة ما قبل النهضة في أوروبا، هل ترى من تشابه سياسي واقتصادي وديني وفكري واجتماعي بين ما نعيشه الآن مع تلك الفترة الزمنية المتخلفة؟
- لقد بدأنا النهضة منذ النصف الثاني من القرن الماضي ولا أعتقد أن هنالك تراجعاً ثقافياً وعلمياً، لكننا نسير ببطء، وهنالك تراجع سياسي كبير، وبالرغم من أن الأمة العربية تعاني من نسب الأمية العالية إلا أنها أنجزت في هذا المضمار، فمثلا عندما استقلت الجزائر كانت نسبة الأمية فيها 94%، وفي الأردن عندما حصلنا على الاستقلال السياسي سنة 1946 كنا من حيث التربية والتعليم قبل اليمن فقط، وحدثت الثورة التعليمية في عهد الملك الراحل الحسين في الستينيات عندما صدر قانون للتربية والتعليم الذي تضمن إنشاء مدرسة حيثما يوجد عشرة أطفال، فهذه الثورة التعليمية جعلتنا نكون في الدرجة الأولى بين الدول العربية كلها، وان كان المستوى التعليمي عندنا الآن يتراجع.
نحن ما نزال نعيش عصر النهضة، ولا شك أن ذلك سيأخذ وقتاً، وهنالك عوامل عديدة تؤثر في التقدم والنهضة منها عوامل داخلية كعدم الاهتمام بالتعليم وعدم تحقق الأمن الوطني، فكلٌّ من الدول العربية همها الأول هو الهم الوطني، ولذلك إلانفاق على الجيش والأجهزة الأمنية هو الإنفاق الرئيسي، والانفاق على التعليم هو في آخر سلم الاولويات، وقد يصل إلى 5 % في أقصى حالاته، خصوصا ان سبيلنا الوحيد للنهوض هو التربية والتعليم: عندما يصبح لهذه الأمة مراكز مهمة للبحث العلمي ليس في الجامعات وإنما في خارج الجامعات، وعندما تعتمد هذه الأمة على العلم في اتخاذ القرارات التي تتخذها سلطاتها التنفيذية، لأننا في امة قلما يُتخذ فيها قرار بالاعتماد على دراسة علمية وإنما على انطباعات وقناعات شخصية تعتمد على رغبات ومحركات عاطفية ومصلحية.

الطراونة : لا بد أن يكون التراث حيث يجب أن يكون، وأن يتموضع في العقل في حدود ما ينبغي على عقل الأمة أن تحتفظ به من مقومات الهوية والذات الحضارية للأمة، ولا بد لمن يصنعون المستقبل الثقافي للأمة أن يبتعدوا عن الخلط بين الأزمنة، وعن توهم ماضٍ لم يكن قائماً، وعن توهم مستقبل مشتقّ من الماضي. برأيك إلى أي مدى يمكن أن نفسر الحاضر بالماضي؟.
- الحقيقة أن ما يحدث هو العكس، وهو أننا نفسر الماضي اعتمادا على الحاضر، فالمعرفة بالماضي تساعدنا كثيرا على فهم الحاضر، فمثلا العصبية القبلية موجودة قبل الإسلام، وكانت قاعدة لتشكيل الجيوش في فترات عديدة، وأصبح لكل قبيلة علمها، كما ان معظم الانتصارات جاءت نتيجة لفهم القادة في تلك الفترات لهذه العصبية، وهذا يدل على أن التركيبة أو البنية القبلية هي أساس تركيب المجتمع، وبالتالي لا بد من أن نعيد النظر في فهم مجتمعاتنا بعيداً عن فهمنا للمجتمعات الغربية لأنها تختلف في تركيبها عن تلك المجتمعات التي بنيت على الطبقات فكان هنالك طبقة الفرسان وطبقة الاقنان وغيرها وفي مجتمعاتنا لم يكن هنالك طبقات لذلك يجب أن نعي هذا الواقع وندرسه بمنهجية عقلية، وأريد أن أضيف أننا في امة لا تزال غير مقتنعة بعقول شبابها ومثقفيها وعلمائها فالحكومة تفكر عن الناس ورجل الدين يفكر عن الناس ويعتقد انه هو الصح والآخرين هم الخطأ لذلك لن نتقدم إلا إذا تحررنا من الداخل ومن ذاتنا المتخلفة التي تسيطر على تفكيرنا وتعيده إلى الوراء.

الطراونة : ما مدى اقتناعك بالحركات الفكرية العربية في بدايات القرن الماضي، وإلى أي حد أسهمت هذه الحركات في صياغة الوعي العربي فيما بعد وأثرت في الأحداث اللاحقة؟
- من المؤكد أن النهضة العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر نهضة متواصلة ومستمرة ولها دورها في توعية المثقفين العرب، لكنها تأثرت بعوامل مختلفة منها اقتصادي واجتماعي وسياسي، ولا شك أننا نعيش في عالم نتأثر فيه، ولسوء الحظ أن تأثيرنا فيه ضعيف لأننا لم نبلغ المستوى الذي نستطيع أن نؤثر فيه، وأعتقد أن النهضة كانت تطرح أسئلة وما تزال تطرحها حتى اليوم، منها: متى ننهض؟ ما هي عوامل النهوض؟ ما دور الإسلام في النهوض؟ ما دور التراث في النهوض؟ ماذا نفعل بالنظريات الغربية وكيف نتعامل معها؟ إلا أننا ما نزال لغاية الآن نتخبط ولم نستطع الإجابة عن أي منها، ظهرت أجوبة كثيرة، لكن لم نتفق على إجابة واحدة عن أي من هذه الأسئلة لاختلافنا من حيث نظرتنا إلى الماضي والى واقعنا الذي نعيشه وظروفنا الحالية.
الطراونة : كيف ترى إنجازك الفكري مقارنة مع المشروعات الفكرية العربية الأخرى التي تقرأ تاريخنا العربي؟ أين تتقاطع معهم وأين تختلف؟
- أنا واقعي، وواقعيتي تفرض عليّ التواضع، فإنجازي محدود، وما قدمته هو محاولة لدراسة تاريخ أمتي ودراسة تاريخ الأردن وفلسطين والبلاد العربية على وجه العموم، وكان تركيزي على أمرين، الأول هو علاقات هذه الامة بأوروبا لأن هذه العلاقة علاقة مؤثرة وقوية، خصوصا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث كانت العلاقات العربية مع الغرب علاقات حاسمة بكل معنى الكلمة في حياتنا واقتصادنا وتقاليدنا الاجتماعية وسياستنا وثقافتنا، ولذلك ركزت على هذا الجانب، ومنها علاقات بريطانيا بالأردن، وعلاقات بريطانيا بفلسطين، والدول الأوروبية بالدول العربية جميعا.
ثم توجهت أيضا إلى دراسة الفكر العربي الحديث والمعاصر منذ بداية النهضة العربية المعاصرة حتى اليوم في محاولة للتعرف على معالم هذا الفكر، فأصدرت أول كتاب في هذا الصدد سنة 1975، وكان من الكتب القليلة التي عنيت بهذا الموضوع وكان يدرَّس في كل الجامعات العربية، وركزت على الفكر العربي الحديث والمعاصر وحاولت أن أقدمه للناشئة، حيث كان هنالك حرب واضحة في كل الاتجاهات الدينية والاجتماعية والعلمية في النهضة العربية، فمثلا من الغريب أن تكون بدايات الجامعة الأميركية تدريس كل العلوم وعلى اختلافها باللغة العربية إلى سنة 1883، ثم انقلبت للتدريس باللغة الإنجليزية، يعني كانت بدايات سليمة.
وسعيت من خلال كتب ومقالات عدة أن ابحث في معوقات هذه النهضة وبيان الاتجاهات التي سرنا فيها ولم توصلنا إلى الهدف المطلوب، فإما تقليد الغرب، وإما التمسك بالماضي، وهنالك من يؤلف بينهما بطريقة العلم والإيمان، ولم نصل إلى نتائج لغاية الآن، لماذا؟ حاولنا أن نفسر ذلك وحاول من نهجَ نهجَنا أن يسير على الدرب وظهر بعد ذلك العديد من الدراسات، وقبل ذلك كان هنالك كتاب واحد لألبرت حوراني باللغة الإنجليزية بعنوان الفكر العربي في عصر النهضة ، لكن لم يكن هنالك من يتناول هذا الموضوع أو النهضة نفسها وبشكل شمولي ومختصر مما جعل كتابي مقررا يدرَّس في الجامعات العربية كافة.

* صحفي أردني
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟