منذ إرساء الوفاق المعروف بـ"الكونكورداتو"، بين الكنيسة والسّلطة الفاشية سنة 1929، لتنظيم علاقة حاضرة الفاتيكان بالدولة الإيطالية، ترسّخت تقاليد ضمن قاعدة "كنيسة حرّة في دولة حرّة". انجرّ عن ذلك فصل قانوني بين الشأن الدّيني والشّأن المدني، لكن في الواقع عناصر التّداخل كثيرة ومتنوّعة. فمثلا نجد 25679 مدرّسا دينيا تتولى الدّولة دفع رواتبهم، مع أن انتدابهم من مهام الأساقفة لا وزارة التعليم الإيطالية.
من ذلك التداخل نودّ التطرق إلى مسألة مال الكردينال. فللأسف أن الكنيسة في التاريخ الغربي إلتصقت بشكل دائم بأرباب الثروات والإقطاعيين، رغم ادّعائها أنها حاملة بشارة السيّد المسيح وراعية الفقراء.
على إثر عدة فضائح مالية هزّت الكنيسة خلال سبعينيات القرن الماضي، أشهرها تورط بنك الكنيسة، "بنك أمبروزيانو"، في عمليات فساد، اضطرّت القائمين عليه لغلقه. في أعقاب تلك الفترة ترأّس الكردينال كاميلو رويني "المؤتمر الأسقفي الإيطالي"، وأعلن الرجل حينها عجز الكنيسة عن دفع أجور موظّفيها. بعد عشرين سنة من ولايته بُدِّلت الكنيسة غير الكنيسة، عادت لها عافيتها وصار الجميع يخطبون ودّها، ساسة ورؤساء أحزاب، وبلغ تأثيرها في إيطاليا من حزب "التحالف الوطني" اليميني المتطرّف إلى حزب "إعادة التأسيس الشيوعي". وبات الجميع يتبجّحون بميولاتهم الدينية ويحرصون على التردّد على قدّاس الأحد. في أبريل من العام الماضي، انسحب رئيس حزب إعادة التأسيس الشيوعي ورئيس مجلس الشيوخ، فاوستو برتينوتي، في خلوة روحية مع نسّاك بشبه جزيرة مونتي آثوس باليونان، الخاصة بالذّكور والمحرّمة على الإناث، بشرا وطيرا وحيوانا.
فترة ربيع الكنيسة في إيطاليا من حيث النفوذ السياسي والاجتماعي، انطلقت مع الكردينال رويني، رغم تراجع عدد الرهبان من ستين ألف إلى 39 ألف. صارت الكنيسة لا يعنيها أن تكون ملح الأرض، بل أن تتحكّم بسلطان الأرض. وهو ما حدا باللاّهوتي المنشق جوزيف راتسينغر ليقرّ أنّ "الكنيسة بصدد التحوّل إلى عقبة رئيسة للإيمان. فليس فيها غير طموح بشري للسلطة. والمسرح الصغير من الناس، بادعائه تسيير المسيحية الرسمية، يبدو حقا العقبة أمام روح المسيحية".
أبرز مداخيل الكنيسة في إيطاليا ترد من خصم ضريبي يدفعه كلّ فرد، يعرف بضريبة "ثمانية من الألف"، للمواطن الخيرة في دفعه لإحدى التجمعات الدينية: (الكنيسة الفالدية، أو الكنيسة الأفنتية، أو تجمّع الربّ، أو اللّوثريون، أو الكنيسة الكاثوليكية، أو اليهود)، ومن لا يحدد جهة معينة يُحوَّل خصمه إلى الكنيسة الكاثوليكية مباشرة. علما أنه لا يحضر المسلمون من ضمن هؤلاء، رغم أن الإسلام الديانة الثانية بعد الكاثوليكية من حيث عدد الأتباع. وهذه الضريبة تتواجد تقريبا في كافة البلدان الأوروبية، وتتراوح بين خمسة من الألف في إسبانيا وتسعة من الألف في ألمانيا.
من المجموع العام لتلك المحاصيل، تمنح الدولة 90 بالمئة للكنيسة الكاثوليكية، يتولى شأنها المجلس الأسقفي الإيطالي، المكلّف بالشأن المالي. ويعلن مؤتمر الأساقفة أن ما بين 8 و 12 بالمئة من تلك المداخيل توجّه للأعمال الخيرية في إيطاليا وفي الخارج، والباقي يحوّل لدفع رواتب قرابة 39 ألف رجل دين ذكر. علما أن الرّاهبات لا يُمنَحن مرتّبات ولا ينلن حقوق التقاعد، وجرّاء ذلك يكاد يكون الانتقاد أو التمرّد على سلطة الكنيسة منعدما بينهنّ، لعدم وجود سند مادي يعضد الرّاهبة.
عادة ما تتظافر حملة جمع ضريبة "ثمانية من الألف" من جانب الكنيسة بالتركيز على كارثة إنسانية، فمثلا رافق حملة 2005 حديث عن كارثة تسونامي فصارت عنوان الحملة، والحقيقة أن التبرّعات التي قدمتها الكنيسة للضحايا بلغت 0،3 بالمئة من المجموع، بالمقابل قدّم اتحاد الجاليات اليهودية بإيطاليا ستة بالمئة من "الثمانية من الألف"، وهو تبرّع فاق عشرين مرّة تبرعات الفاتيكان إلى سيريلانكا وأندونيسيا، في منطقة لا تتواجد فيها جالية يهودية.
انتقادات ممثلي الأديان لاستحواذ الفاتيكان على هذه الضريبة جاء على لسان ممثلة الفالديين ماريا بونافيدي قائلة: "إن أموال 'الثمانية من الألف' تأتي من المجتمع ولذا ينبغي أن تعود إليه. فإن لم يسع كنيسة الاكتفاء بالتبرعات، فتلك علامة الربّ أنه غير راض عنها".
نيل الكنيسة حصتها من المداخيل يعضده أيضا إعفاء من الضرائب في عدة مجالات. ففي القطاع السياحي تعدّ الكنيسة الكاثوليكية من الفاعلين الأساسيين، فهي ترعى نحو إيطاليا أربعين مليون حضور سنويا، وكذلك نحو مزارات "اللورد" و"فاطمة" و"كسيتوسكوفا" و"مدجوغوريج". كما تملك 250 ألف سرير في أربعة آلاف مؤسسة إقامة. ترعى تلك الأشغال مؤسسة "أعمال الحجّ نحو روما" التابعة للكرسي الرسولي.
كما تمتلك الكنيسة عددا من الفنادق على التراب الإيطالي وخارجه، فنزل بريجيدين خمسة نجوم، المليء دائما والمحاذي لكنيسة القدّيسة بريجيدا الخاوية باستمرار، تسهر عليه راهبات. يتواجد النزل في قلب روما عند ساحة فرنيزي، حيث يبلغ سعر الغرفة في اللّيلة 190 يورو. وهو من المؤسسات المعفية من ضريبة الدخل للدولة. علما أن ما بين 90 و 95 بالمئة من أملاك الكنيسة المنتشرة في روما تنطبق عليها خصوصيات المحلاّت التجارية، مع ذلك معفاة من أداء الضّرائب. تضم سلسلة بريجيدين التابعة للكنيسة الكاثوليكية عدة نزل وتتوزع فروعها في 19 بلدا تحت مسميات "دور دينية".
حين يتحوّل الدين إلى مؤسّسة، وتتحول المؤسسة إلى آلة، لا مكان فيها للمحروم والفقير، يبقى عزاء المؤمن في قول المسيح(ع):"لإن يدخل جمل في سمّ الخياط أهون من أن يدخل غني ملكوت الربّ".
* أستاذ بجامعة لاسابيينسا بروما
من المجموع العام لتلك المحاصيل، تمنح الدولة 90 بالمئة للكنيسة الكاثوليكية، يتولى شأنها المجلس الأسقفي الإيطالي، المكلّف بالشأن المالي. ويعلن مؤتمر الأساقفة أن ما بين 8 و 12 بالمئة من تلك المداخيل توجّه للأعمال الخيرية في إيطاليا وفي الخارج، والباقي يحوّل لدفع رواتب قرابة 39 ألف رجل دين ذكر. علما أن الرّاهبات لا يُمنَحن مرتّبات ولا ينلن حقوق التقاعد، وجرّاء ذلك يكاد يكون الانتقاد أو التمرّد على سلطة الكنيسة منعدما بينهنّ، لعدم وجود سند مادي يعضد الرّاهبة.
عادة ما تتظافر حملة جمع ضريبة "ثمانية من الألف" من جانب الكنيسة بالتركيز على كارثة إنسانية، فمثلا رافق حملة 2005 حديث عن كارثة تسونامي فصارت عنوان الحملة، والحقيقة أن التبرّعات التي قدمتها الكنيسة للضحايا بلغت 0،3 بالمئة من المجموع، بالمقابل قدّم اتحاد الجاليات اليهودية بإيطاليا ستة بالمئة من "الثمانية من الألف"، وهو تبرّع فاق عشرين مرّة تبرعات الفاتيكان إلى سيريلانكا وأندونيسيا، في منطقة لا تتواجد فيها جالية يهودية.
انتقادات ممثلي الأديان لاستحواذ الفاتيكان على هذه الضريبة جاء على لسان ممثلة الفالديين ماريا بونافيدي قائلة: "إن أموال 'الثمانية من الألف' تأتي من المجتمع ولذا ينبغي أن تعود إليه. فإن لم يسع كنيسة الاكتفاء بالتبرعات، فتلك علامة الربّ أنه غير راض عنها".
نيل الكنيسة حصتها من المداخيل يعضده أيضا إعفاء من الضرائب في عدة مجالات. ففي القطاع السياحي تعدّ الكنيسة الكاثوليكية من الفاعلين الأساسيين، فهي ترعى نحو إيطاليا أربعين مليون حضور سنويا، وكذلك نحو مزارات "اللورد" و"فاطمة" و"كسيتوسكوفا" و"مدجوغوريج". كما تملك 250 ألف سرير في أربعة آلاف مؤسسة إقامة. ترعى تلك الأشغال مؤسسة "أعمال الحجّ نحو روما" التابعة للكرسي الرسولي.
كما تمتلك الكنيسة عددا من الفنادق على التراب الإيطالي وخارجه، فنزل بريجيدين خمسة نجوم، المليء دائما والمحاذي لكنيسة القدّيسة بريجيدا الخاوية باستمرار، تسهر عليه راهبات. يتواجد النزل في قلب روما عند ساحة فرنيزي، حيث يبلغ سعر الغرفة في اللّيلة 190 يورو. وهو من المؤسسات المعفية من ضريبة الدخل للدولة. علما أن ما بين 90 و 95 بالمئة من أملاك الكنيسة المنتشرة في روما تنطبق عليها خصوصيات المحلاّت التجارية، مع ذلك معفاة من أداء الضّرائب. تضم سلسلة بريجيدين التابعة للكنيسة الكاثوليكية عدة نزل وتتوزع فروعها في 19 بلدا تحت مسميات "دور دينية".
حين يتحوّل الدين إلى مؤسّسة، وتتحول المؤسسة إلى آلة، لا مكان فيها للمحروم والفقير، يبقى عزاء المؤمن في قول المسيح(ع):"لإن يدخل جمل في سمّ الخياط أهون من أن يدخل غني ملكوت الربّ".
* أستاذ بجامعة لاسابيينسا بروما