في خضمّ بحث العقل في الفضاء الإسلامي عن اكتشاف سبل الانبعاث المستجدّة، يجدر الإلتفات للمؤسّسات العلمية، الدّينيّة منها بالأساس، فيما أنتجته وما تنتجه من وعي ورؤى ومفاهيم. وتمعّن مثلّث: المحتوى المعرفي والمنتِج المعرفي والخرّيج العلمي. ومن ثمّة تبيّن الدور الحضاري-المعرفي للمؤسّسة، في فضائها العائدة إليه بالنظر والمرتبطة به. سيكون اهتمامي بالجامعة الزيتونية في هذه الدّراسة لاعتبارين أساسيين: لما ربطتني من وشائج قربى واقتراب بالمؤسّسة، حيث لازمتها طيلة مراحل التكوين الجامعي؛ ولانشغالي بالظاهرة الدّينية في حقلها الإسلامي وفي مجالها العالمي الموسّع. ولم يقتصر بحثي على تناول الزّيتونة في حدّ ذاتها بل تطلّع لربط المؤسّسة بالصيرورة التاريخية التطوّرية العامة، لما شكّلته مؤسّساتها العلمية من آلة، يقاس عليها واقع حال عقل كتل بشرية بمجملها.
أولا: من أجل تقييم علمي لتاريخ الزّيتونة
تُعدّ جامعة الزّيتونة في تونس من أعرق الفضاءات التعليمية في العالم الإسلامي، بالمعنى المؤسّسي الشّامل، استطاعت أن تحافظ على استمراريتها عبر القرون. بدءا ينسب تأسيس الجامع إلى حسّان بن النّعمان الغسّاني، فاتح تونس وقرطاج سنة 79هـ (698-699م). كذلك هناك من يذهب إلى أن تأسيسه تم في عهد عبد الله بن الحبحاب، الذي سمّاه هشام بن عبد الملك واليا على إفريقية سنة 110هـ (728-729م)، وقيل أيضا سنة 116هـ الموافقة لـ734م. كما تم توسيع الجامع في عهد زيادة بن الأغلب، عندما تولى إمارة القيروان. وأرجّح أنّ هذه الإختلافات التّاريخية متعلّقة بتحديد أزمنة تطورّات التوسيع التي شهدها الجامع في عهوده الأولى، وليس لها صلة بزمن التأسيس الأوّل.
وبرغم التجذّر التاريخي لهذا الجامع-الجامعة، وثراء التجربة التعليمية وعراقتها، فلازالت المؤسّسة تمثّل تجلّيا عيّناتيا مكثّفا لاشتغال العقل الإسلامي ولأزمته ومتاهاته المتنوّعة. فمبادرات الإصلاح التربويّة والتعليمية للمؤسّسة متكرّرة ومتعدّدة، ومن المحاولات التي جرت في القرنين الأخيرين مثلا، ما تمّ في 1842م وفي 1862م وفي 1875م وفي 1910م وفي 1950م وفي 1987م.
ونظرا لحساسية موضوع الزّيتونة المتشابك مع السّياسي في جلّ مراحله، نجد جلّ دارسي الاجتماع والمؤرّخين، غالبا ما حادوا عن التطرّق العلمي الموضوعي لتقييم العقل النّظري الذي قامت عليه المؤسّسة، الأمر الذي منع بلوغ موازنة موضوعية لدورها الحضاري. ولذلك يلاحظ المتتبّع للكتابات المتناولة للزّيتونة، هيمنة الخطاب الفخري والتمجيدي عليها. وتفتَقَد لحدّ الآن، المقاربة الموضوعية للتاريخ الحضاري لها، التي يُفرَز فيها الدّور التحصيني الحمائي للهوية -وهو غال على الشّعور الإسلامي، خصوصا أثناء الإقتحام الإستعماري-، بغرض تبين الأثر السّكوني السّلبي للنمط التعليمي لهذه الجامعة ومثيلاتها. وهو ما ينبغي إجلاؤه بكلّ صرامة، حتى لا يسترسل مع الخطاب التمجيدي العفوي أو المداهن.
فقد رأى العديد في الزّيتونة حصنا منيعا ضدّ الفرنسة وضدّ الأنجلة وضدّ التغريب، والرأي على حقّ ولكن ليس في مطلقه، بما أغفل في خضمّ ذكر هذا الدور الدّفاعي، تناول الوظيفة الجوهرية لهذه المؤسّسة العلمية، المتمثّلة أساسا في الإجلاء الصيروري للعقل الإسلامي في أعلى تجلّياته المعرفية وأرقاها، فهل حملت المؤسّسة هذا الدّور وهل وفّقت فيه؟
***
فقد اشترك عديد الكتّاب التونسيين، الزّيتونيين وغير الزيتونيين، وبكافة تلوّناتهم وخلفياتهم السّلطويّة والسّلفيّة والإسلامويّة، في النّظرة التمجيدية للزّيتونة، كما قابلتها نظرة بكائية لمآلها، خلت فيها مقارباتهم من تمعّن البضاعة الفكرية التي كان يقدّمها وينتجها هذا المعقل العلمي، والتي تناقضت في عديد الأحيان مع روح التحرّر في الإسلام. فعلى سبيل الذّكر يمكن الحديث هنا عمّا لاقته أطروحات الزّيتونيين، المصلح الطّاهر الحدّاد(1899-1935م)، بشأن تحرير المرأة؛ والشّيخ عبد العزيز الثعالبي(1876-1944م) بشأن الانتقاد للسّائد الاجتماعي والفكري. لقد كان الثّنائي أوفياء للفكر الإسلامي الأصيل في زمن سيطر فيه الفكر الخامل، فعدّت أصالتها ابتداعا سيّئا بين شرائح سلطوية زيتونية عديدة.
وداخل هذا المسار يتفسَّر، برغم حضور الزّيتونة كهيكل ذي وظيفة علمية دينية مختزن لقداسة عالية، فإنها ما فتئت فعلا، دون مستوى المشاركة الحضارية المنشودة. ولازال تراجع العقل الإسلامي، المتجلّي عبر كيفيات النّظر، ينذر حتى اليوم بفجائع أليمة، ما تواصل الأمر على حاله. إذ الجلي أن الإطار الذي تحكّم بالزّيتونة، حافظ في جلّ مسيرته على مضادة إرادات التحوّل الحضارية، سواء فيما سبق منه تجربة الإصلاح المنطلقة مع خير الدّين التونسي أو فيما لحقها. ولذلك حتى الزّيتونيين الذين نادوا بإصلاح الجامعة، والذي تطلّعوا من ورائه لإصلاح مجتمعات الغرب الإسلامي، أو أمّة إسلامية على اتساعها، عادة ما عبّروا عن إنسلاخ فكري عن خطّ تسافلي عام مهيمن، وما مثّلوا العمق القائمة عليه الزّيتونة. وضمن هذا السياق يتفسّر عجز الشقّ الزيتوني-ونعني به هنا خرّيجي القطر التّونسي أساسا-، برغم كثرتهم العددية، بالمقارنة مع المنحدرين من التكوين الحديث الفرنسي، على القدرة على توجيه نتائج تحرّر البلاد نحو مسارهم، أو المساهمة الفاعلة في قيادتها، على إثر الإستقلال. إذ وجد الزّيتونيون أنفسهم خارج سياق الفعل الحضاري وهم لا يدرون، وغالبا ما فسّروا الأمر بالمؤامرة الفرنكفونية العَلمانية، وقنعوا بما كتب الله لهم!.
وينبغي ألاّ يُخفي البعد العروبي والدّيني المتأجّج بين الزّيتونيين الأزمة الحقيقية للمؤسّسة. فمثلا مرامي القائمين على الزّيتونة في العهد الإستعماري الفرنسي، لتمديد الأثر الفعلي للمؤسّسة حتى يشمل كافة تراب الإيالة التونسية وما يجاورها، وقد إمتد فعلا حتى قسنطينة ومدينة الجزائر، أملا في المحافظة على الهوية العربسلامية في الغرب الإسلامي. فإن الأمر في دلالته الأخرى لم يحدّ من التجاء -حتى أبناء الطبقات الشعبية عصرئذ- إلى المدارس الفرنسية، لقناعتهم وتقديرهم اغتراب التعليم الزيتوني، الذي لم توقظه نداءات وانتفاضات طلابية عديدة ملحّة لإصلاحه.
فجيل الزّيتونيين قبل الاستقلال كان يعوزه تنبّه حضاري، لا يمكن التستّر عليه بادّعاءات الدّفاع عن العروبة والإسلام، أو الوصاية عنهما. من هذا الباب كان خيار تونس الحديثة، متعذّر التعايش مع عقل زيتوني ضاقت عليه مقاصد الشّريعة بما رحبت. ومن هنا لا نجاري أطروحة الأستاذ محمود عبد المولى في كتابه: "الجامعة الزيتونية والمجتمع التونسي"، في الرّغبة لحشر الجامعة التونسية مع فجر الاستقلال داخل وتحت جناح الجامعة الزّيتونية. والأحرى والواقع أن يواكب العقل الزّيتوني الحداثة لا أن تنحشر محاولات التّحديث تحته، فليس كلّ من تخفّى وراء الدّين شعارا أو العروبة علما، دون الاقتدار الأصيل على ترجمتهما حضاريا، انتهج الصواب أو مثّل إرادة التاريخ الحرّة. فما أتاهَ الزّيتونيين في عديد المناسبات، بموالاتهم ومشايعتهم التوجّهات التي تعارض التحديث، والنّظر إلى أهله بمظنّة السّوء المسبق والبدعة، كان جرّاء غياب النّظر لتطوير البلاد بعين مقاصد الإسلام وفلسفته التطوّرية، بل بما هو سائد تقليديا، وما دأب عليه الناس عُرْفيا. ومن هنا كان التناقض الخطير مع مشاريع التحديث، التي سيعتبرهم روادها لاحقا العقبة الكؤود أمام التقدّم، وستوسّع كتلة العزل المناوئة لهم. فكيف لتونس المتطلّعة للتحرّر أن تصغي لعقل ديني خامل، بقيت آثاره ومخلّفاته حتى اليوم، فمثلا حتى السّنوات القريبة 86-87، كانت الدّراسة الفقهية في مستواها الجامعي داخل الزّيتونة، تتمّ محكومة بالفصل بين الإناث والذكور، لما في الأمر بحسب تقدير الشيوخ، من معالجة لمسائل فقهية تلامس المناطق الجنسية المكهربة: الحيض، والنّفاس، وتعريفات الزنى، وما يتطلّبه من توضيحات، تفسّر بكونها قد تكون مدعى للتحرّشات الجنسية بين الطلبة!!!
***
فجرّاء ذلك التمازج بين الدّور والمقصد الذي حكم تاريخية المؤسّسة، سقطت أغلب الدّراسات التي تناولت الزّيتونة في المفاخرة، وما استطاعت أن تميّز بين المفخرة والتقدير والرّمزية من ناحية، والتقييم الحضاري الموضوعي للمؤسّسة. مما صدّ عديد الباحثين عن منافذ الوعي بمكوّنات العقل الدّيني الذي لازم تاريخية هذه المؤسّسة، مانعا إياهم عن التفطّن للتجلّيات الخاطئة للعقل الإسلامي. وما جرّ الزّيتونة للتخلّي، في أحقاب تاريخية مختلفة، عن خطّها الجوهري، وانجذابها لرهانات محافظة تقليدية، حاد بها عن دورها ورسالتها. إذ مطلب الاتّزان بين الالتزام الاجتماعي والدّور العقلي، الذي كان مفتقدا، أتاهها في الاجتماعي.
وبطبيعة تشابك الزّيتونة مع البنية الحضارية الشّاملة للعالم الإسلامي، فقد وجدت المؤسّسة، بفعل تراجع العقل الإسلامي الأكاديمي، جراء عدم الاستجابة المعرفية للحظته التاريخية، داخل أزمة شاملة وبنيوية شملت عديد المؤسّسات العلمية من فاس إلى نيسابور، تجلّت في اجتياح وقضم أطرافه. كانت الأندلس وصقلّية أبرزها في السّابق، وفلسطين في التاريخ الحاضر. فكانت أن مثّلت الثّغور المتقدّمة، والتي منها مجال الزّيتونة -في ظلّ هيمنة المزيج العرفاني اللاّعقلي السّائد، الذي وكِّل له أمر العقل الحضاري- مرتعا للغزو المنفلت والمتنوّع، الصّليبي والإسباني في البداية، والفرنسي لاحقا. فلو كانت المعرفة الصّائبة وفيّة لشروطها الموضوعية، أَوَكان لسنابك خيول الإسبان أن تدوس على شروحات وحواشي المؤلّفات المغتربة، التي تعبّئ خزائن جامع الزّيتونة؟ والفاكرة المغتربة تظنّها منتهى مقاصد العلوم والمعارف، حتى تتحوّل الزّيتونة إلى إسطبل لخيولهم. الحادثة جلية، التي جرت مع سنة 970هـ، والتي يصفها الوزير السّراج بقوله: "وقسمت المدينة -تونس- مؤمن وكافر، وأُهين المسجد الأعظم ونهبت خزائن الكتب الّتي كانت به، وداستها الكفرة بالأرجل وألقيت تصانيف الدّين بالأزقّة تدوسها حوافر الخيل والرّجال؛ حتّى قيل إنّ أزقّة الطّيبيّين كانت كلّها مجلّدات ملقاة تحت الأرجل. وضربت النّواقيس وربطوا الخيل بالجامع الأعظم، ونبش قبر الشيخ سيّدي محرز بن خلف فلم يجدوا به إلاّ الرّمل، وبالجملة فعلوا ما تفعله الأعادي بأعدائها وكانت كلّ دار مسلم يجاورها نصرانيّ". كشفت تلك الأحداث بعمق عن أزمة النّظر الفكري عصرئذ، العاجز عن تهيئة، أو صنع قوة حضارية، فضلا عن بقائه مضادا لأي ابتداع واستنارة.
ولا نقول أن تلك المضادات الحضارية قد زالت في أيامنا، بل حافظت على بقائها وفاعليتها متستّرة، فحتى تاريخ قريب، في سنة 1904م، وحالما بدأ رشيد رضا في إصدار مجلّة "المنار" في مصر، مناديا فيها بإصلاحات محتشمة، اجتمع "علماء الزّيتونة"، وحرّروا عريضة أرسلوها إلى الحكومة "التونسية" أنذاك، أي في الحقيقة إلى السّلطات الاستعمارية الفرنسية، طالبوا فيها بمنع توزيع المجلّة في الإيالة التونسية، زاعمين أنها تهاجم الأولياء الصالحين، وتنادي بفتح باب الإجتهاد من جديد، بما تعبّر عنه من أفكار، مختلفة عن تلك التي وردت في المذاهب الأربعة. وقد اكتوى بنار تلك الاتهامات أبناء الزّيتونة ذاتهم، فمحمّد شاكر الصفاقسي، اجتمع المجلس الشّرعي لأجله سنة 1902م، وطالب بعزله وسحب شهادته العلمية لمشايعته فكر محمّد عبده وسعيه في ترويجه.
ولذلك ينبغي في خضمّ الرؤى الهشّة السّائدة، عند مراجعة الأثر التاريخي للمؤسسات العلمية الإسلامية، التفطّن للدور التعطيلي السلبي للقائمين على هذه المؤسسات، والذي منع في عديد المناسبات الانطلاقة الطبيعية للعالم الإسلامي. بما مثّلته تلك الأطراف في عديد الأحقاب التاريخية من سدّ تتحطّم وتنخنق فيه براعم التحوّلات الحضارية، التي تبشّر بانطلاقة حداثية. فمثلا مبادرات تحرير المرأة كان انطلاقها أساسا من الخارجين عن الخطّ العام للأزهر والزّيتونة، باجتراحهم أنهجا مستجدّة في رؤية المقاصد العليا للإسلام، نجد الأمر، مع قاسم أمين، الأزهري المفصول، ومع الطّاهر الحدّاد، الزيتوني المعزول.
إذ ما كان العقل الزيتوني قادرا على ضبط وعيه التاريخي في عديد المناسبات، وعجز عن استيعاب المعطى التّشريعي من النصّ القرآني، باتجاه البحث عن توسيعه وإثرائه باجتراح المقصد البشري. فكان أن ساهم الممسكون بمقدّرات الأمور في هذه الجامعة في كبح التحوّلات الحضارية، جاذبين كتلا اجتماعية إلى الخلف باسم الدّين والمحافظة على قيمه، وصوّرت مطالب الإصلاحات وبوادر العقلنة بكونها نفيا للدّيني وهدما لأركان الإسلام. كما"...كُسيت المبادرات كساء الظنّ فتلقّاها الشّيوخ بسوء القصد وتخيّلوا أنها شرك نصب ليبطل به تعليم العلوم الإسلامية... فصمّموا على معارضتها... وتلك عادة عرفوا بها...".
مما جعل مجمل مساعي إصلاح الزّيتونة، خصوصا منها في القرنين الأخيرين، رفعا للسّقف دون أوتاد، بما توفرت من رغبة في النّهضة وما افتقدت إليه من أسس عقلية وعلمية للتحرّر.
ثانيا: الإصلاحات والفلسفة التطوّرية الغائبة
الجلي أن مطالب الإصلاحات قد لازمت تاريخ الزّيتونة، ولكن لم تبلور بشأنها فلسفة للإصلاح، تخلّف تحوّلا وتطوّرا مستمرّين. ولذلك تعدّدت دعوات الإصلاح دون أثر، لما وعى به العديد العملية خطأ، كونها حلّة خارجية ترتديها المؤسّسة. في حين الإصلاح الحقيقي، يتمثّل في ما ينبغي أن تقوم عليه من منهج عقلي تفكيكي، وأساس ديني إنساني منفتح مندسّين في البرمجة. والملاحظ في مسار طروحات الإصلاح تلك، أن طلاّب الجامعة كانوا أكثر استشعارا لضرورته من المشرفين، وهو أمر عجزت هياكل الإشراف عن تلبيته وترجمته لفلسفة تربوية علمية تطوّرية، لتناقض نتائج العملية آجلا مع أصولهم الأرستقراطية أو مع أهدافهم النّفعية الآنية. فممّا تجدر ملاحظته عبر تاريخ الزّيتونة ارتباطها في مستوى التسيير، بطبقة أرستقراطية، تتشكّل أساسا من البيارمة بطبقاتهم، الأولى والثانية والثّالثة والرّابعة والخامسة، وآل جعيّط، وبن عاشور، وبن مراد، والنّيفر، وبلخوجة. ولطالما أبعدت الكفاءات العلمية الشّعبية، المنحدرة من العامّة عن مراكز النفوذ في هذه الجامعة، ناعتة إياهم الأرستقراطية بازدراء واحتقار بـ"الآفاقيين"، كون العامة ليس مسموحا لها بالتقدّم إلاّ في ثلاث: "إن ساروا ليلا أو خاضوا سيلا أو واجهوا خيلا"، على حدّ تعبير صاحب "تحفة الوزراء" المجهول المؤلِّف.
فممّا أورده الأستاذ محمود عبد المولى، أن الحكومة التونسية تحت الحماية الفرنسية، قرّرت سنة 1950م توسيع الجامعة وإجراء مناظرة لانتداب ثمانين مدرّسا، فهرع ثلاثة مدرسين من عائلة النّيفر لمقابلة الوزير الأول، وإيغال صدره بتدني كفاءة أصحاب الشّهائد الجدد، علما أن المناصب العليا في الزّيتونة حتى ذلك التاريخ، كانت حكرا وراثيا على العائلات الكبرى. وقد وجدت تلك الدّونية سندا ببثّ فهومات خاطئة عن مدلول بعض الآيات القرآنية، وردت في معرض ذكرها انتقادات للأعراب، قادت للحكم الرّائج والخاطئ "لا يؤمّ الأعرابي وإن كان أقرأهم"، وسحِبت تلك التأويلات على كلّ من لا ينتمي لدم تلك العائلات.
ومما هو ثابت، أن هذه الطبقات الأرستقراطية ما كانت لتراهن على مصالحها النّفعية المرتبطة بنظم مهيمنة سائدة، وإن تغيرت من حين لآخر. ولذلك ما كان لها أن تطرح أو تتبنّى رؤى تحوّلية جذرية. فمثلا مع بداية القرن السّالف، سنة 1910، قام طلبة جامع الزّيتونة، وعلى رأسهم الطّالب إبراهيم شعبان، بتحرير مكتوب يتضمّن نداءات بإصلاح التعليم وتعصيره، مع مطالبة بتحسين الإقامة بمدارس سكنى الطلبة. وألحّوا على مطالبهم عبر الضغط بإضراب دام عدة أشهر، اضطرت الحكومة على إثره لإحداث لجنة لإصلاح التعليم الزيتوني ولكن أعمالها لم تأت بنتيجة، لما لاقته المطالب من معارضة شديدة من طرف الشيوخ، الذين رفعوا أمامهم شعار "ما ترك الأوّل للآخر من شيء للإضافة والتجديد". الأمر الذي دفع بدعوات النّهضة الإصلاحية في تونس لهجران الزّيتونة، لما للممسكين بها من قوّة نافذة، ومثّل أبناء الزّيتونة التحرّريين منشقّين في منظور الخطّ القابض على مقاليد الأمور، افعمل على حصرهم وتشويههم بشتىّ الوسائل.
فلما نشر الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي كتابه: "روح التحرّر في القرآن" سنة 1905، مناديا فيه بتعليم البنات والتخلّي عن عزلهنّ في البيوت، تضاربت الآراء بشأنه. إذ استقبله الصّادقيون -الشقّ المجدَّد في التعليم التونسي عصرئذ- استقبالا متحمّسا مشيدين ومنوّهين به، في حين واجهه المدرسيّون بمعارضة واستنكار شديدين. بلغت أوجها بتدبير محاكمة واهية له وتقديمه للقضاء، كان ردّه فيها: "إن الأفكار التي أعتنقُها والآراء التي أدعو إليها لا تتعارض البتّة مع التعاليم الدّينيّة، وغاية ما في الأمر أنها تريد تخليص الدّين الإسلامي من جميع ما علق به، نتيجة الجهل والتزمّت وإغراءات الثروة. وذلك لأجل أن نعيد إليه صفاءه الأوّل الذي كان مصدر قوته".
ولعلّ محنة الثعالبي وغيره، مع الأوساط التقليدية، متمثّلة في كون استهلاك المعرفة الدّينية في شكلها العرفاني الإتباعي، الذي سنشير لبعض مولّداته لاحقا، لا يترك للإنسان مقدرة للوعي الصّائب بمقوّمات المجتمع وبأواليات حراكه. لذلك طالما أمدّت المعرفة الدّينية غير الأصيلة العديدَ برؤى تنحو نحو الاغتراب، وتتناقض مع الصّلاح الجماعي، يوازي التقديرات الخاطئة لإحدى القبائل العربية الجاهلية، التي أرسل لها النبي محمّد (ص) رسالة يحظّها فيها على قبول مبادئ الإسلام، لما في الأمر من خير لها، فأهمل كبراؤها الرّسالة ورقّعوا بها دلْوهم.
فما لم تكن المعرفة ملتزمة بالنقد والتّمحيص العقلي من جانب، ومتيقّظة ووفية لتبدلات الاجتماع البشري واحتياجاته من جانب آخر، فإنها تكون مهدّدة بالتحوّل إلى فلسفة إماتة للمجتمع. لعلّ المعرفة الإسلامية التي سادت في عصور الانحطاط والتي تخلّت عن هذين الشّرطين السّالفين، العقلي والاجتماعي، كانت مما شايع فلسفة الموات لا فلسفة الحياة، وهو ما يبرّر نعتها بالتنكّر الرؤيوي للأسس الجوهرية للمعرفة الإسلامية.
فمع مطلع خمسينيات القرن الماضي، عشية المطالبة بالاستقلال أستعيد موضوع الإصلاح، وكان بضغط طلاّبي أيضا، لما يمثّلونه من دور البروليتاريا الدّينية القلقة. نادت بذلك "لجنة الطّالب الزّيتوني"، التي سعت في ضبط برنامج تفصيلي، سمّته بالدّستور الزّيتوني الجامع، وهو ملخّص لستّة عشر مطلبا، يمكن تلخيصها في ما يلي: تنظير الشّهادات الزّيتونية، تعريب المناظرات الإدارية، التوسّع في العلوم العصريّة، إدخال اللّغات الأجنبية، إرساء التخصّصات، تمكين الزّيتونيين من الدّراسة بالخارج، الزّيادة في عدد المدرّسين، إجبارية التقاعد للأساتذة البالغين سنّ افتقاد المقدرة، جلب أساتذة مختصّين للتدريس وفتح آفاق الشّغل أمام حاملي الشّهادات الزيتونية. وهي مطالب محورية تكرّرت النّداءات بشأنها في عديد المناسبات.
وتكاد تكون نفس المطالب المذكورة متكرّرة، قبل حصول تغيير السّابع من نوفمبر، الذي أعلن لاحقا عبر الأمر الرئاسي عدد: 96 المؤرّخ في 31 ديسمبر 1987، عن مشروع تجديد الجامعة وسعى في الأمر، والذي سنخصّص له شرحا مفصّلا لأهميته. ولكن مما هو جلي في المسار التاريخي للزّيتونة تكرّر ثلاثية: مطلب الإصلاح، ثم نشوء المعارضة الدّاخلية له، اللّذين يليهما إطاحة بالإصلاح وانهيار العملية برمّتها، ومن ثمة العودة لحالة الكمون من جديد.
ثالثا: الزّيتونة والحركة الجوهرية المفتقدة
لما يحوزه علما القرآن والحديث من مكانة مركزية، ليس بأثرهما التفسيري والروائي فحسب، بل بدورهما في تزويد التفرّعات العلمية الأخرى بالمادة المعرفية. فإن الزّيتونة التي درّست السّيوطي والزّركشي والباقلاّني والزّرقاني سابقا، وتدرّسهم حاضرا، بنفس المنهج والأسلوب، تبقى زيتونة لاتاريخية لم تتفطّن للتطوّر المعرفي التحوّلي. فما لم يتبدّل النّظر في العلوم، ضمن المحدّدين السّالفين العقلي والاجتماعي، لتطرح تنقية المقول الصّائب من المقول الخاطئ، ويفرز ما قيل عمّا أضيف، من خلال التقدّم لطرح سؤال الرّاهنية الحضارية، لما ما يزال يحافظ ويتمتّع به النتاج الفكري المنتَج خارج الزّيتونة، وأيضا داخلها مع رموزها الأعلام أمثال: سحنون واللّخمي والمازري وابن عرفة والبرزلي من جدوى ومصداقية، فإنّ العملية تبقى معلّقة. إذ سؤال صِدقية المعرفة ومعقوليتها من الشّروط اللازمة لحفظ الفكر الدّيني من الزّيغ والاغتراب. ففي العصر الذي كان فيه الإسبان يدنّسون حرم الزّيتونة، كان العقل الزيتوني يتلهّى بفنطازيا الغيبات وهو يحسب أنّه يحسن صنعا، إذ حتى تاريخ قريب لازم المنطق الغيبي، الممتطي والمستحوذ على الخطاب الدّيني، الزّيتونةَ. ففي سنة 1266هـ-1850م لما اشتدّ المرض الوبائي بأهالي تونس فأمر أحمد باشا باي، وبإشارة من القاضي الحنفي الشّيخ مصطفى بن محمّد بيرم، بانعقاد موكب خاشع، تمّ انتداب أربعين شريفا من أبناء الحاضرة اسمهم محمّد للغرض، ليتحلّقوا بجامع الزّيتونة من الصّباح إلى الظهر ليقرؤوا سورة يس أربعين مرّة، وليدعوا الله بدعوات حرّرها لهم، ناقلا ذلك عن بعض الكتب عن بعض الصالحين، داعين الله ليضمحلّ المرض بفضله ورحمته. هذا الوعي الأسطوري لا ننفي انقراضه من الفكر الدّيني الإسلامي، فلازال سائدا حتى الرّاهن، ولا زال التقدير لصلة عالم البشر بعالم الألوهية مغرقا في هذه البلاهة الاعتقادية. ولذلك أقدّر أن النهضة الحقيقية للعقل الإسلامي لن يتيسّر بلوغ مآربها إلاّ بتخليص القرآن الكريم من الفهم اللاّعقلي، مشفوعا ذلك بتنقية أسطورية للسنّة المطهّرة من منطق "تدخِل العينُ الرّجلَ القبرَ والجمل القِدر"، المدعومة بكافة أشكال مسحات القداسة المصطنعة.
والبيّن أن خرّيجي الزّيتونة قد أدركوا مبكّرا بعين اليقين انعزالهم المعرفي عن واقعهم التاريخي، وعدم تناسب ما يستهلكونه، ممّا يسمّى خطأ معرفة إسلامية، مع الرّاهن المعرفي، المحلّي منه والكوني. إضافة إلى انزياحهم الوظيفي والدّوري، جرّاء افتقادهم معارف، سواء كانت باتقان ألسن أمم أخرى، أو بامتلاك أدوات معرفية أنتجتها التحوّلات المستجدّة في فضاءات غير إسلامية ما كانوا لها مواكبين. ولكن هذا الخروج -الوظيفي المعرفي- كان غالبا ما تفسّر مسبّباته من طرف قصيري النّظر، بتآمر الدِّهريين اللاّدينيين واللاّئكيين على المنتمين للزّيتونة، وغيرها من التعليلات التي ينتجها العقل المستقيل، غير الواعي بإمكانياته المعرفية.
فقد ساهم افتقاد إرساء تجديد فعلي للجامعات الإسلامية في تثبيت العقل الإسلامي الأكاديمي، ممن يدّعون صيانته من الزّيغ والإنحراف. هذا الفراغ المعرفي خلّف بحثا فاشلا لتجاوز الأمر، لم يجد له عادة مكوّنين دينيين أكفّاء، مما أخّر المسألة الدّينية معرفيا والواقع الإسلامي حضاريا. وفي غمرة تلك التفاعلات المتنوّعة، سعت الأرستقراطية التونسية أثناء حقبة تحوّلها الأساسية -بين فترة الأربعينيات والستينيات- لتحويل وجهة دراسة أبنائها نحو التخصّصات الحديثة، في العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الصّحيحة، وتركت الزّيتونة لجحافل الوافدين الذين نعتوا سابقا بـ"الآفاقيين"، الذين لايزال يهزّهم الحنين التاريخي للزيتونة، التي طالما أقصوا منها، ولم تقدّر المتاهة الوظيفية والمعرفية، في المستقبل، التي تتربّص بكلّ مشرئبّ لهذه الجامعة.
فالجلي أن الحسّ الذي استشعره طلبة الزّيتونة، وهو حسّ موضوعي وطبيعي معبّر عن حياة في الجسد الشبابي الطلاّبي، كانت تقابله إرادة ثبات في الذّهنية الأكاديمية المشيخيّة، حتى جاءت لحظة اللّفظ الكلّي للهيكل الزّيتوني -طلبة ومشيخة-، لعدم استجابة الشقّ المتحكّم، لنداء التطوّر والتطوير، فيما استشعرته إرهاصات وعي الطلبة ولم يلبّه قطاع الشّيوخ.
رابعا: الأزمة التاريخية للتعليم الدّيني
لازمت الزّيتونة عبر تاريخها إرادة محافظة من داخلها، تجلّت بالأساس في التوجّهات العامّة لهيكلها المدرِّس، مما جعل معارضة الإصلاح وخنقه من داخلها أقوى مما هو من خارجها، أمرا دارجا. فقد كان الشقّ المشيخي حاضر الرّيب والتوجّس من كلّ ما هو جديد ومستحدَث، وعادة ما غلّف سداده بادعاءات المحافظة على الأصول وعلى مقاصد الإسلام. وقد تقنّنت المحافظة السّلبية، منذ إعلان ترتيب 1292هـ الذي عرف بالمعلّقة، التي وضعت على باب الجامع وقتئذ، والتي جاء في فصلها الخامس عشر ضبطا لأسلوب التدريس بهذا التعبير: "ليس لأحد أن يبحث في الأصول التي تلقّتها العلماء جيلا بعد آخر بالقبول، ولا أن يكثر من تغليط المصنّفين، فإن كثرة التغليط أمارة الإشتباه والتخليط. بل عليه -المدرِّس- أن يبذل الوسع في فهم مرادات الفضلاء، ولا يلقي البحث إلاّ بعد التحرّي والإحاطة بأطراف الكلام، والتدبّر في الفهم المراد". وقد بقي هذا النصّ محافظا على نفاذه في فلسفة التعليم وفي توجيه منهج التدريس حتى التاريخ الرّاهن.
هذا مما أبقى النبز والقدح والذمّ، الذي تدرّس به الفرق الإسلامية في الجامعة الزيتونية، وأساسا منها الشّيعة والإباضية والمعتزلة، ساريا وخال من العرض الموضوعي، سواء كان عبر درس الفقه أو علوم الحديث أو في علم تفسير القرآن. حيث يمتد الأمر لكلّ من خالف رأي أهل السنّة، بما يسعى فيه الأساتذة جاهدين لتوريث أسلوبهم للخلَف. ولذلك يعبُر الخرّيج وهو يكاد لا يعرف "تفسير الميزان" للعلاّمة محمد حسين الطباطبائي، ولا يرى مصدرا للأحاديث النبوية غير ما درج عليه من الكتب المقبولة سنّيا، وربما أغفلت عمدا أيضا محتويات كتاب "نهج البلاغة" للإمام علي بن أبي طالب، لما يخشى في الأمر من اجتراح هوى وميل نحو موالاة آل البيت، ومن ثمّة الوقوع في شرك التشيّع على حسب تقدير البعض.
فبفعل المنهج الخاطئ، كان اعتبار موضوعات التشيّع والإباضية والمعتزلة من الأمور المنبوذة، في واقع إسلامي تجاوز التشيّع والتمذهب، ولم يبق التحزّب لهذه النحل إلاّ لدى من يعاني غيابا للوعي السوسيولوجي بالحضارة، ولذلك ما يعوز المنهج الدّراسي تبليغه هو الوعي بأنماط الوعي، الذي تترسّخ الدّربة عليه بالاستيعاب المنهجي الموضوعي، والذي يُتبع بإعادة الإنتاج.
إذ حتى الرّاهن الحالي، بقي التدريس والمدرّسون على ولاء للسّياقات السّالفة التي طالما توجَّه لها النقد، ولا يزال كثير من الأساتذة يعدّ تعريف العلم على طريقة السّلف كونه "سعة المحفوظات سواء في علوم الشّريعة أم في علوم العربية، ولا يعتبر العالم عالما لديهم ما لم يكن كثير الحفظ، فهو إن ضمّ لذلك الإستنباط والتحقيق نال شهرة كبرى، ولكن لا يعد عالما ما لم يكن كثير الحفظ، فليس العلم عندهم إلاّ الحفظ لأنهم كانوا يميلون إلى شيء محسوس مشاهد في العالم...".
لذلك يبقى التحوّل المطلوب في تحوير نمط رؤية النصّ الدّيني والظّاهرة الدّينية عن السّياقات الدّينية التأسيسية التي صاغت السّقوف النظريّة وحدّدت منتهى الأبعاد المعرفية، حتى يتم تجنّب التكرار. ففي ظلّ واقع المحافظة على أدوات التفكير التقليدية يتعذّر تحقيق النّهضة، بل غاية ما ينتج، تأزّم داخلي وانعزال كوني. فكلّ ثورة في العقل الدّيني مشروطة بإعادة تأسيس رؤيوية مستجدّة للرّموز والأفكار. والثّورة المحمّدية المباركة ما ألغت الحجّ أو الصّلاة السّالفة لعرب مكّة والصّابئة، بل أعادت شحن الرّموز الطقوسية والعقَديّة بدلالات مستجدّة تتماشى مع واقع التطوّر النظري الذي بلغته البشرية عصرئذ. والحاجة في الراهن، هي الامتلاك الثّاني للإرث الدّيني، لا مواصلة استهلاك ما ساد سابقا. فقد كاد تعليم جامع الزّيتونة منذ أواخر القرن الثّالث عشر وأوائل القرن الرّابع عشر (هـ) أن ينحصر في أسلوب واحد للمراتب كلّها، وهو أسلوب الإلقاء... يلقي المدرّس المسائل العلمية ويجتهد في إفهامها للتلامذة وهم يسمعون، ثم يشتغل بألفاظ المؤلّفين وما أورد عليهم من الإخلال في أداء المسألة بلفظ تام.
فعملية التحوّل تمر عبر وعي أنماط الفهوم والرّؤى التي صيغت حول النصّ القرآني والإعتقادات والشّرائع الإسلامية، وجعلها مستقلّة ومنعزلة كلّيا عن العقل التاريخي، أي ملكة الإدراك المغاير للعالم والأشياء. وهي أمور لن تتحقّق ومناهج الأنسنة في وعي الخطاب القرآني غائبة في الجامعات، حيث علم الأساطير في قطيعة كلّية مع الخطاب القرآني والمتون الحديثية، وقِسْ على ذلك كافة العلوم التي يحويها علم الأديان والتي تحتلّ دورا أساسيا في تنشيط النّظر الدّيني.
فقد ظلّ المحور الهام المتمثّل في غرس علم تشكّل المعرفة الدّينية وما يصحبه من ربط المعرفة بالواقع العملي غائبا. إذ بدون الإلمام التكويني بالعلوم الشّرعية والأصولية، يبقى الحديث متعذّرا عن قطيعة أو تطوّر أو إضافة، مبشّرة بنهضة حضارية. فممّا ذكره الشّيخ ابن عاشور في أسباب تخلّف علم الفقه "صرفهم جلّ همّهم إلى فقه العبادات فأكثروا فيه من التخريج، مع أن طريق العبادات التوقيف، وتقصيرهم في فقه المعاملات من النّوازل والأقضية فتركوه محتاجا إلى أصول وكلّيات، تجعل للعارف به معرفة بأحوال الزّمان...". ولكن مما يلفت الانتباه أن القائمين على الزّيتونة قد أكثروا الحديث عن ضرورة التّطوير، ولكنّهم لم يبلوروا أو يدركوا كيفيته، فطالما تطلّعوا وأرادوا تجديدا خال من شروطه المعرفية، ولذلك تراهم غالبا ما يقفون ضدّ ما تاقت إليه نفوسهم بما رُكِّب في عقولهم.
وحتى تفسير "التحرير والتنوير" لمؤلّفه الشيخ الطاهر بن عاشور، والذي يعبّر عن الخلاصة المعرفية التقليدية للعقل الزّيتوني عبر مسيرة قرون، فإنّه يخلو من روح التحرير والتنوير بالمعنى الإبستيمي التقدّمي للمعرفة. فقد كان الشيخ -طيّب الله ثراه- متطلّعا إراديا لتحرير وتنوير العقل الزّيتوني والعقل الإسلامي، ولكنّه كان عاجزا أداتيا ومعرفيا، جرّاء احتكامه النظري والرؤيوي في تفسيره للسّائد المعرفي والدّيني، الذي لم يوفّق في الحياد عنه. فما كانت ضرورتنا وحاجتنا الحضارية لمجلّدات شروحات تكرّر اللاّمعقول الحديثي والتفسيري، الذي يخنق مستجدّا براعم العقلانية الإسلامية، على نمط التتلمذ التلمودي المصاغ في "لو قال لك المعلّم أن يدك اليمنى هي يدك اليسرى، وأن يدك اليسرى هي يدك اليمنى، فقل سمعا وطاعة"، وإنما كانت الحاجة إلى مقال في المنهج يدفع باتجاه الوعي الموضوعي والعلمي بالقرآن وبالسنّة النبويّة.
خامسا: تجربة إصلاح 1987
مما ميّز خرّيجي سنوات ما قبل إصلاح 1987 التعامل الإيماني الداخلي مع الظاهرة الدّينية المدروسة، بفعل طبيعة التكوين السائدة. والتي جعلت الدارس مشحونا بقيل وقال، المفتقدة لأي وعي تعقّلي يخبر عن كفاءة واقتدار في الذات العالمة. برغم امتداد تعامل الدارس مع ذلك النمط من المعارف الدينية زمنيا، طيلة مرحلتي السنوات الأربع للتكوين للأستاذية، أو حتى مرحلة الدكتوراه، لمن قدِّر لهم ارتقاء هذه المرحلة، التي كان يخضع ولوجها للموالاة والمحاباة والصّلات في غالب الأحيان. إضافة لما رافق مرحلة ما قبل الإصلاح، من قطيعة مع الآخر في عمومه، لغويا وفكريا، لما نشأ من توجّس من مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية، التي كانت تصنّف في عداد المسارب المؤدّية للنظريات الهدّامة. فولّد الإغترابان، الداخلي المنجرّ عن عدم القدرة على وعي الظاهرة الإسلامية، والخارجي بعدم التوفيق في تفهم متطلّبات الاجتماع، إنتاج الزيتوني المنفصل كليا عن عصره. ولذلك كان سهلا سقوط العديد منهم وانحدارهم داخل التيّارات السياسية الدينية، التي مثّلوا حشوا بارزا لها.
الإنقلاب المؤسّسي الذي عرفته الزّيتونة، مع بداية السابع من نوفمبر، أعني على إثر الأمر الرئاسي عدد: 96 المؤرّخ في 31 ديسمبر 1987. عبر تفريعها لثلاثة معاهد عليا: المعهد الأعلى للشريعة، والمعهد الأعلى لأصول الدّين، والمعهد الأعلى للحضارة الإسلامية، مع احتواء كل معهد لثلاثة تخصّصات. وحصرت المهمّة الأساسية للجامعة في الدور الدّيني العلمي، لما تشتغل عليه أساسا من معالجة الأوجه المتنوّعة للظاهرة الدّينية، وسبل نشاطها وتبدلاتها. وتمّ التجاوز للمعنى الموسع لإصلاح المؤسّسة، على نمط ما خاضته مؤسّسات إسلامية أخرى، بتوسيع الجامعة حتىّ تضمّ إليها كليّات هندسة وطبّ وإنسانيات، قد تتستّر عن الأزمة الحقيقية للعقل الديني الإسلامي، وذلك بإضافة تفرّعات علمية وعصرية يخيّل على إثرها تطوير العقل الإسلامي وهو على غير ما يدّعى. فتجربة الأزهر في هذا المجال، بإلحاق فروع كلّيات علمية به، لم تحلّ المسألة الجوهرية أصلا في أزمة العقل الدّيني، بل أظلّت الناس وأوهمتهم بتطوّر العقل الإسلامي. ولذلك لا يعني إحجام الزّيتونة أو مثيلاتها عن انتهاج هذا المسعى أنها بقيت رهينة التخلّف في حين الأزهر غادره.
فبعد ذلك الإصلاح، صار الطالب يدرس العلوم الدّينية بمختلف تفرّعاتها وتنوّعاتها، مرفوقة بالعلوم الاجتماعية، وعلم الأديان، والإناسة، وعلم النفس، والفلسفة الغربية، والفلسفة الإسلامية. لقد كانت التجربة دخيلة ومستجدَّة على العقل الدّيني الزيتوني. وكانت تتطلّب العقود حتى تحدِث التمازج بين النهجين الدراسيين السائد منه والمستحدث. حتى يتمّ إنتاج الزيتوني المتّزن معرفيا والحاضر تاريخيا. وبدأ الخرّيجون في تلك السنوات القليلة يعود إليهم الاعتدال المعرفي وتسري دماء العصرنة في عقولهم. كان هناك إحساس باستهلاك نمطين معرفيين متغايرين، نمط يبثّه أساتذة الزّيتونة المشيخيون، ورثة المنهج التدريسي الكلاسيكي، وما فيه من مادة خام متكتّلة تحتاج تحليلا وتركيبا مستجدّين، والذي تبلّغه مجموعة من الأساتذة أمثال السادة: أبو لبابة حسين، وعبد الله لوصيّف، وسعيد الفلاّح، وعبد المجيد بن حمدة، وعلي الشابي، وجلّول الجريبي، وعثمان بطّيخ، وأحمد البارودي، وعلي مانيطة، وونيّس بن عامر، ومحيي الدّين قادي، ومحمّد التّومي، ومحمّد العلاني، والزعايري، ووسيلة بلعيد، وهند شلبي، ومنجية السوايحي وأكثرهم لم نذكر، في شتى التفرعات الكلاسيكية التي تمتدّ حتى علمي المواريث والقراءات. ونمط جديد وافد على الزّيتونة مع أساتذة من جامعات العلوم الإنسانية والاجتماعية أصلا، مثّله الأساتذة: حمّادي بن جاء بالله، والمنصف ونّاس، وفوزي البدوي، ومحمد حسين فنطر، وتوفيق بن عامر، والمهدي مبروك، ولطيفة لخضر، وكمال عمران، وأحمد الفرجاوي وغيرهم.
هذان النهجان، نهج الدراسة الكلاسيكية ونهج الدراسة الحديثة، اللذان كان يصبّ كلّ منهما في ذهن الطالب، كانا يتطلّبان تراكم السنين حتى ينتَج الجيل الزيتوني المنتظَر. بقول جليّ، حتى تهضم الأجيال المستوعبة النمطين الدراسيين، عبر احتكاكهما وتواصلهما، لتحقيق الاعتدال التاريخي المفتقد زيتونيا، وحتى تقود الأجيال المراهن عليها تيار التحوّل الجذري للعقل الدّيني. ولكن لسوء الحظ أن ذلك المشروع الثوري الذي أقدِم عليه، من خلال شعار "ردّ الإعتبار للجامعة الزيتونية"، لم يدم طويلا لعدة أسباب سنأتي على توضيح بعضها لاحقا. فوقع التراجع عن المسار وتقليصه إلى حدود ضيقة.
فمنذ سنة 1992م وما بعدها، بفعل الصراع الذي خاضته السلطة مع ما عرف بحركة النهضة، والذي أودى، داخل تلك الظروف العاتية، بذلك الإصلاح الجريء إلى مهاوي الرّدى، انطوى العقل الزيتوني على إثرها ثانية مترجّيا إرادة وعيوية ثورية تعلو فوق الصراعات. فقد تولدت أزمة الزّيتونة في العقدين الأخيرين عن هشاشتها البنيوية، إذ كان فكر التيّارات الإسلاموية في حقبة الثمانينيات والتسعينيات في تونس إخوانيا قطبيا يعوزه الوعي التاريخي، وإن تعدّدت أوجهه، فكان يطالب بالحرية وينفيها في الآن. وتلخّص الأمر في المقولة السائدة لحزب التحرير "الديمقراطية كفر"، والتي كانت موزّعة بالتساوي بين جلّ التيارات الإسلامية "خط الإمام"، "الإتجاه الإسلامي"، "حزب التحرير"، "السلفيون"، "العروبيون الإسلاميون"، باستثناء ما عرف وقتئذ بـ"اليسار الإسلامي"، الذي كان يرفض هذه الأطروحات الإنغلاقية.
وقد كانت جل التيارات الدينية تتطلع للجامعة الزيتونية لسحرها الكاريزمي لديها، ولتقديرها أن من استحوذ عليها فاز بمصير الإسلام ومستقبله في تونس. كما كانت هذه التيارات، حتى قبيل إدخال الإصلاح على الزّيتونة، بفعل الأمر الرئاسي السالف الذكر، لا ترى في فلسفة البرمجة ومناهج التعليم أي بعد رجعي، لتناغمها مع توجّهاتها العامة ولمشاركتها الفكرية في تلك العقلية، فقد كانت جزءا من تلك الرؤى. ولذلك ما طالب أتباع تلك التوجّهات بإصلاح بنيوي يمسّ الفلسفة التعليمية، وإنما طالبوا بتحويرات تغيّر مقاليد السلطة التربوية والتسيير من مجموعة أساتذة تنتمي للحزب الحاكم، الحزب الإشتراكي الدستوري سابقا، إلى مجموعة لها ولاءات لتلك التيارات. ونظرت للإصلاح المحدث بقرار الأمر الرئاسي 1987 بعين الاحتراز والانتقاد، لما فيه من هزهزة لكافة رهاناتها الفكرية التقليدية.
فبفعل الطابع الدّيني للعلوم والمعارف التي تُقدّم في الزّيتونة، وجرّاء الرمزية الدّينية المكثّفة التي تحوزها، عملت عديد التيارات الإسلاموية، بما فيها السياسية وغير السياسية، لاستغلال الزّيتونة للترويج لأطروحاتها النظرية والدّينية والسياسية. وكانت العقلية السائدة بين قياديي هذه التيارات، الذين وجدوا في الزّيتونة أرضا خصبة لتنمية أتباعهم وصقل نشطائهم، أن كلا منهم يرتئي أن الزّيتونة ملكه وحرمه، وتضخّمت هذه العقدة بين أنصار "حركة النهضة" خصوصا بما عدّوا فيه أنفسهم أوصياء على الجامعة الزّيتونة، فحشروا طلبتها في عديد المظاهرات وإضرابات الجوع والمناوشات ضدّ السلطة، كل ذلك لفائدة حركتهم الباحثة عن الاعتراف الحزبي وقتئذ، ولفائدة "الإتحاد العام التونسي للطلبة" الذي كان يخضع لتسيير أتباع الحركة المذكورة. عند هذا الحدّ تدخّلت السّلطة لتحدّ من الإصلاح الثوري الذي أقدمت عليه، والذي امتطى ظهره أتباع التيّارات الإسلاموية، باستغلالهم الجامعة للترويج لأطروحاتهم، وجعلها مرتعا يوجّهون منه طلبتها حيثما أرادوا.
لقد تمّ سابقا خنق الزّيتونة من طرف الفكر السلفي، فقتل فيها دورها المعرفي التاريخي، وتمّ إغتيالها ثانية سياسيا من طرف الفكر الإسلاموي القصير النظر. والغريب في مسار الزّيتونة التاريخي أن تقزيمها يتمّ دائما بأيدي أهلها وممن يظنون أنهم أقرب الناس إليها.
الزّيتونة وفلسفة الحضارة
متى يتحوّل المعرفي إلى فعل حضاري؟ ليس السؤال هيّنا حتى تختزل الإجابة عنه في بعض الكلمات. وما أرتئيه، أن العملية تتمّ داخل جدل علاقة التواصل بين كتلة المعرفة ومدى تطابقها مع إبستيمية العقل، أي بخروج الفعلة من التناقضات الداخلية، وما يلي ذلك من التنزيل الصائب للمقولة في الاجتماع البشري، فتتحوّل المعرفة إلى فعل إنتاجي داخل الماكنة الحضارية الجمعية. وداخل هذه المعادلة كان على الفكر الزيتوني أن يخوض معركة العقلنة والأنسنة للمقولات الدّينية حتى يوفّق في تنزيلها في الواقع.
فبرغم حضور معطيين أساسيين في التجربة الحضارية للفضاء الاجتماعي الواقع سابقا تحت تأثير الزّيتونة -أعني تونس وما جاورها من المناطق المغاربية، التي كانت تابعة لها من حيث نفاذ وأثر الفكر الدّيني المنبعث من الزّيتونة-، متلخّصين في:
-الإنتاج والتراكم للمعرفة الدّينية النظرية، وما خلّفته من إنتاجات رائدة على لسان كتّاب وشعراء ومفكّرين متنوّعي المشاغل.
-والإرادة السياسية المتطلّعة للتغيير والنهوض الحضاري، والمتجلّية أساسا في المصلح خير الدّين التونسي، وفي هرم القيادة الجزائرية السابق هواري بومدين ذي التكوين الزيتوني.
فإن الملاحظ أن الإصلاح الذي تطلّع إليه خير الدّين –الذي كان يتردّد بنفسه على حلقات التعليم بالزّيتونة- مع فجر النهضة، والسعي الفعلي للإنجاز مع بومدين، مع فترة الاستقلالات المشحونة بالوعود. عبر تحفز الرّجلين لإرساء تحول حضاري في الغرب الإسلامي وفي العالم الإسلامي، فإن مسعاهما افتقد حقا للأسس الدّينية اللازمة. برغم حرص المذكورين الشديد على التحوّل الحضاري، فإن الإنسان المعوّل عليه في ذلك، كان مفرغا من أي بناء معرفي داخلي. إذ منذ الحقبة التي أطرد فيها الفكر الخلدوني من الزّيتونة، صارت وظيفة المثقّف الدّيني المعرفية داخل النسيج الاجتماعي، لا تتجاوز تقديم الإستشارة الأخروية والغيبيّة للجموع الشعبية، بكافة تفاصيلها، المتعلّقة بالمآتم وتخليص المسحور والتعزيم، وغابت الإستشارة المعرفية الحضارية الواعية. ولذلك كان الفكر الديني ولا يزال محلّ ثقافة الفناء أكثر مما هو منبعا لثقافة الحياة. وما فعله خير الدّين في القرن التاسع عشر كرّره الهواري في القرن العشرين، دون تبيّن للفواعل الأساسية المتحكّمة بالنهضة في بنى المجتمعات العربية.
فتونس سابقا أو الجزائر في تاريخها الحديث، عجزتا عن صياغة نهج حضاري يقطع مع بنى التخلّف، لمسبّبات موضوعية تم التغاضي عنها. ولم توفّق القيادتان السياسيتان فيهما لإنتاج تحوّل تركيبي مستجدّ في مكوّنات العقل الدّيني. فالنهضة قد تبنى في غياب الوعي الدّيني، ولكن الأمر متمنّع في حالة الاجتماع العربي. وبالمثل قد تبنى النهضة في حضور العقل الدّيني، ولكن بشرط الترشيد للتمثّل والوعي الدّينيين. ومن الملحّ أن النهضة الحضارية في خصوصياتها العربسلامية ملزمة بمشروطية الإنبناء داخل التعقّل الدّيني، لا بالتملّص من الدّيني أو بالتنكّر له.
كما كان افتقاد المؤسسة الزيتونية للوعي الإستيعابي للظاهرة الإسلامية، مؤذنا بالاستنكاف الحضاري. حتى أنّه كلّما استجمع العقل الزيتوني عناصر وعيه، بضرورة إرساء إصلاح هيكلي بنيوي، والذي يتم غالبا خارج شروطه الموضوعية، إلا وتلم به نكبة، عادة ما يستولدها من داخله، فتردّه تحت الثرى. ممّا أبقى العقل الزيتوني وحتى وضعه الحالي محكوما عليه بالإختزال في الدور الوعظي والإرشادي، لما اختاره لنفسه من مهام الرّاعي الطقوسي والسادن المعبدي. ولعل تشكّل طبقة السّدانة، التي كادت أن تطمس روح الزّيتونة كليا، ذات دلالة هامة في المسيرة التاريخية للمؤسّسة.
ففي العهد الحسيني مثلا توزّعت الأدوار بجلاء بين سدانة سفلى تعضدها كهانة عليا: وكان من أبرز خططها خطة "المزوال"، ودور صاحبها السهر على سير الشعائر في المسجد. وخطة "الوقادة"، ودور بعضهم تنظيم الجامع وفرشه واستصباحه والمكوث بين يدي إمام الخمس. وأمّا نظيره في نفس الخطّة فدوره الإتيان لدار الإمام المكلّف بإقامة الصلوات الخمس عند الفجر ثم قبيل الظهر والمغرب والعشاء، وبالوصول إلى الدار يقول: الصلاة حضرت.. الصلاة حضرت.. يرحمكم الله! يا دار الخير يا دار البركة. ثم يخرج الإمام قاصدا الجامع يتقدّمه الوقّاد بيده "الفنار" –المصباح- إذا اقتضت الحاجة. وكذلك نجد خطة "الباش سقا"، ومن مهامه توزيع الماء على المصلّين، وغيرها من المهام الكهنوتية، وفي حين أهملت الجوانب البنيوية المعرفية الفاعلة.
فتداعي الأزمات على الزّيتونة نابع من كون العقل لم يرسّخ اجتراحا ذا نفاذ باتجاه العقلنة أو التجريبية المعرفية، المنغرسة في التاريخي والاجتماعي، وما سعى ابن خلدون في تدشينه، باعتبار الأمر إبتداعا نظريا،لم يتحوّل إلى تيّار متحكّم بالمؤسّسة، بل بقي هامشيا لافتقاده لسند يدعمه. وبقي الخط التقليدي –الخط الفقهي السلطاني- هو الصائغ للفلسفة الحضارية للعقل الإسلامي، وتبدّدت القوى في استنزافات ذاتية، عبر معارك حجاجية وهمية هلك التعليم الزيتوني بسببها، جرّاء الصراعات السنّية الإباضية الشيعية، وكذلك بفعل التدافع بين الأحناف والمالكية، داخل مختلف التبدّلات السلطوية التي مرّت على أرض الزّيتونة، ولم يتطوّر الأمر لابتداع فلسفة جديدة، بل حصرت كافة المساعي في الدّفاع والحجاح المذهبيين.
فكانت حلقة التحوّل المركزية التي افتقدتها الزّيتونة متلخّصة في العجز عن تحقيق الانتقال من وصف الماء الطّاهر والطّهور فقهيا، ورأي كلّ مذهب وكلّ متمذهب فيه، إلى تطوير البحث العلمي في حقيقة الماء النقي والمعقّم علميا. ومن تعليل سنن الكون ميتافيزيقيا وغيبيا إلى شرحها فيزيقيا وسوسيولوجيا.
***
لقد فرضت طبيعة الموضوع الاستعانة أحيانا بما هو سياسي، لإيضاح بعض المسائل المتعلّقة بالتجلّيات النظرية للعقل الإسلامي في الزّيتونة، وليس للارتهان عندها. فقد حرصت قدر الإمكان على حصر الموضوع داخل مقاربة معرفية، واستدعيت السياسي بمقدار ما أملاه توضيح بعض التوجّهات الفكرية. لما ألمسه من طغيان الهاجس السياسي على عديد المقاربات في الفكر العربي، حتى أصبح دارجا تفسير الأمور سلبا أم إيجابا ضمن مقاربة سياسوية، تتصاعد علوا باتجاه هرم السلطة لتحميلها واقع الحال ومسؤولية المآل. وهذا التمشّي عادة ما كان سائدا في النظر لتاريخ الزّيتونة عبر عصورها المختلفة، لتتخفّى وتلغى الأسباب العميقة الكامنة وراء الأزمة الحقيقية لهذه الجامعة. ففي عديد المناسبات تم إلحاق أزمة الزّيتونة البنيوية بالسلطة المواكبة عصرئذ. فمثلا أزمة الزّيتونة في العهد الإستعماري ألحقت بحكومة الباي وراعيها الإستعمار الفرنسي عصرئذ، وأزمة الزّيتونة بعد الإستقلال نسبت للنظام البورقيبي وللعناصر اللائكية فيه. وأزمة الزّيتونة في راهنها الحالي يلحقها بعض المتتبّعين للشأن التونسي بالخيارات السياسية الحالية للنظام الحالي. ولكن ما تبيّن لي أن أزمة الزّيتونة كامنة ومتركّزة في العقل المعرفي القائمة عليه، سواء تبدّلت الحكومات والنّظم أم ثبتت. فمثلا أعظم حركة تحوير هيكلي وتدريسي هزّت الزّيتونة في تاريخها، كانت مع تجربة 1987. ولكن ما يغيب دائما، هو الترجمة الوفيّة للعقل الإسلامي من طرف كتلة الإنتلجنسيا القائمة والمتحكّمة بالخطاب الدّيني فيها. فمع التجربة الأخيرة، كانت الإرادة السياسية الفوقية صادقة في السعي للتطوير والتحديث، ولكن مقدّرات العقل الزيتوني المنهكة كانت واهنة في تقبّل الحدث واستيعابه.
ولذلك تبقى الزّيتونة حتى اليوم في عداد الجامعات التقليدية بامتياز، فأغلب الملتحقين للدراسة فيها ينحدرون من الطبقات المنغلِبة في الصراع الاجتماعي الداخلي، حتى أن البعض يطلق عليها الجامعة البدوية، لطبيعة مقولاتها ولغتها ودورها، ولما فيها من تجانس بين البؤس الاجتماعي والبؤس النظري. وحتى الذين يلتحقون بها من أهالي المدن فعادة في الأصل، هم أفراد البدو العائمين الذين لم يستطيعوا الإندماج في حداثة المدينة فارتدوا إلى أصلهم، عبر الإلتحاق بمعسكرات الإنتلجنسيا المقهورة. لقد صار مما يندر، أن يتواجد فيها دارسون من الشرائح المتنفّذة، أو منحدرة من العائلات الأرستقراطية المذكورة سلفا أو الناشئة خلفا، بما يلازم هذه الطبقات من نباهة وتيقّظ اجتماعيين محكومين بالمصلحة، وهو ما لا يمكن أن تؤمّنه لهم الجامعة الزيتونية لسببين:
لبؤس التكوين الذي يتلقّاه المتخرّج من الجامعة المذكورة والذي لا يؤهّله للأداء الجيد لوظيفته ودوره.
وللانفعية البضاعة المعرفية في شكلها المعروض في الجامعة، والتي لا تستطيع أن تمنح المتخرّج إنحشارا في سوق الشغل اليوم، وهي حقيقة مريرة أمام عديد الخرّيجين، الذين ألغتهم وهمّشتهم المقاييس المستجدة ولم يدروا الأمر، كون تكوينهم لم يلتفت للثرى. فزملاؤهم منذ عشرينيات القرن المنصرم طالبوا بحق تساوي الفرص مع خريجي المؤسّسات الأخرى. ولكن المشكلة بقيت قائمة، وهي في الحقيقة من إنتاج العقل الدّيني اللاّتاريخي.
ما وددت التركيز عليه في هذه الدراسة من مظاهر الخطأ في تجلّيات العقل الديني، ترنو أساسا لبناء وعي نقدي بالمؤسسات العلمية التاريخية، لدورها التأسيسي في صياغة الرؤى النظرية والمعرفية في الحضارة الإسلامية. فبدون هذا النوع من المراجعات يصير من المتعذر بناء العقل الديني المنفتح.
***
فقد اشترك عديد الكتّاب التونسيين، الزّيتونيين وغير الزيتونيين، وبكافة تلوّناتهم وخلفياتهم السّلطويّة والسّلفيّة والإسلامويّة، في النّظرة التمجيدية للزّيتونة، كما قابلتها نظرة بكائية لمآلها، خلت فيها مقارباتهم من تمعّن البضاعة الفكرية التي كان يقدّمها وينتجها هذا المعقل العلمي، والتي تناقضت في عديد الأحيان مع روح التحرّر في الإسلام. فعلى سبيل الذّكر يمكن الحديث هنا عمّا لاقته أطروحات الزّيتونيين، المصلح الطّاهر الحدّاد(1899-1935م)، بشأن تحرير المرأة؛ والشّيخ عبد العزيز الثعالبي(1876-1944م) بشأن الانتقاد للسّائد الاجتماعي والفكري. لقد كان الثّنائي أوفياء للفكر الإسلامي الأصيل في زمن سيطر فيه الفكر الخامل، فعدّت أصالتها ابتداعا سيّئا بين شرائح سلطوية زيتونية عديدة.
وداخل هذا المسار يتفسَّر، برغم حضور الزّيتونة كهيكل ذي وظيفة علمية دينية مختزن لقداسة عالية، فإنها ما فتئت فعلا، دون مستوى المشاركة الحضارية المنشودة. ولازال تراجع العقل الإسلامي، المتجلّي عبر كيفيات النّظر، ينذر حتى اليوم بفجائع أليمة، ما تواصل الأمر على حاله. إذ الجلي أن الإطار الذي تحكّم بالزّيتونة، حافظ في جلّ مسيرته على مضادة إرادات التحوّل الحضارية، سواء فيما سبق منه تجربة الإصلاح المنطلقة مع خير الدّين التونسي أو فيما لحقها. ولذلك حتى الزّيتونيين الذين نادوا بإصلاح الجامعة، والذي تطلّعوا من ورائه لإصلاح مجتمعات الغرب الإسلامي، أو أمّة إسلامية على اتساعها، عادة ما عبّروا عن إنسلاخ فكري عن خطّ تسافلي عام مهيمن، وما مثّلوا العمق القائمة عليه الزّيتونة. وضمن هذا السياق يتفسّر عجز الشقّ الزيتوني-ونعني به هنا خرّيجي القطر التّونسي أساسا-، برغم كثرتهم العددية، بالمقارنة مع المنحدرين من التكوين الحديث الفرنسي، على القدرة على توجيه نتائج تحرّر البلاد نحو مسارهم، أو المساهمة الفاعلة في قيادتها، على إثر الإستقلال. إذ وجد الزّيتونيون أنفسهم خارج سياق الفعل الحضاري وهم لا يدرون، وغالبا ما فسّروا الأمر بالمؤامرة الفرنكفونية العَلمانية، وقنعوا بما كتب الله لهم!.
وينبغي ألاّ يُخفي البعد العروبي والدّيني المتأجّج بين الزّيتونيين الأزمة الحقيقية للمؤسّسة. فمثلا مرامي القائمين على الزّيتونة في العهد الإستعماري الفرنسي، لتمديد الأثر الفعلي للمؤسّسة حتى يشمل كافة تراب الإيالة التونسية وما يجاورها، وقد إمتد فعلا حتى قسنطينة ومدينة الجزائر، أملا في المحافظة على الهوية العربسلامية في الغرب الإسلامي. فإن الأمر في دلالته الأخرى لم يحدّ من التجاء -حتى أبناء الطبقات الشعبية عصرئذ- إلى المدارس الفرنسية، لقناعتهم وتقديرهم اغتراب التعليم الزيتوني، الذي لم توقظه نداءات وانتفاضات طلابية عديدة ملحّة لإصلاحه.
فجيل الزّيتونيين قبل الاستقلال كان يعوزه تنبّه حضاري، لا يمكن التستّر عليه بادّعاءات الدّفاع عن العروبة والإسلام، أو الوصاية عنهما. من هذا الباب كان خيار تونس الحديثة، متعذّر التعايش مع عقل زيتوني ضاقت عليه مقاصد الشّريعة بما رحبت. ومن هنا لا نجاري أطروحة الأستاذ محمود عبد المولى في كتابه: "الجامعة الزيتونية والمجتمع التونسي"، في الرّغبة لحشر الجامعة التونسية مع فجر الاستقلال داخل وتحت جناح الجامعة الزّيتونية. والأحرى والواقع أن يواكب العقل الزّيتوني الحداثة لا أن تنحشر محاولات التّحديث تحته، فليس كلّ من تخفّى وراء الدّين شعارا أو العروبة علما، دون الاقتدار الأصيل على ترجمتهما حضاريا، انتهج الصواب أو مثّل إرادة التاريخ الحرّة. فما أتاهَ الزّيتونيين في عديد المناسبات، بموالاتهم ومشايعتهم التوجّهات التي تعارض التحديث، والنّظر إلى أهله بمظنّة السّوء المسبق والبدعة، كان جرّاء غياب النّظر لتطوير البلاد بعين مقاصد الإسلام وفلسفته التطوّرية، بل بما هو سائد تقليديا، وما دأب عليه الناس عُرْفيا. ومن هنا كان التناقض الخطير مع مشاريع التحديث، التي سيعتبرهم روادها لاحقا العقبة الكؤود أمام التقدّم، وستوسّع كتلة العزل المناوئة لهم. فكيف لتونس المتطلّعة للتحرّر أن تصغي لعقل ديني خامل، بقيت آثاره ومخلّفاته حتى اليوم، فمثلا حتى السّنوات القريبة 86-87، كانت الدّراسة الفقهية في مستواها الجامعي داخل الزّيتونة، تتمّ محكومة بالفصل بين الإناث والذكور، لما في الأمر بحسب تقدير الشيوخ، من معالجة لمسائل فقهية تلامس المناطق الجنسية المكهربة: الحيض، والنّفاس، وتعريفات الزنى، وما يتطلّبه من توضيحات، تفسّر بكونها قد تكون مدعى للتحرّشات الجنسية بين الطلبة!!!
***
فجرّاء ذلك التمازج بين الدّور والمقصد الذي حكم تاريخية المؤسّسة، سقطت أغلب الدّراسات التي تناولت الزّيتونة في المفاخرة، وما استطاعت أن تميّز بين المفخرة والتقدير والرّمزية من ناحية، والتقييم الحضاري الموضوعي للمؤسّسة. مما صدّ عديد الباحثين عن منافذ الوعي بمكوّنات العقل الدّيني الذي لازم تاريخية هذه المؤسّسة، مانعا إياهم عن التفطّن للتجلّيات الخاطئة للعقل الإسلامي. وما جرّ الزّيتونة للتخلّي، في أحقاب تاريخية مختلفة، عن خطّها الجوهري، وانجذابها لرهانات محافظة تقليدية، حاد بها عن دورها ورسالتها. إذ مطلب الاتّزان بين الالتزام الاجتماعي والدّور العقلي، الذي كان مفتقدا، أتاهها في الاجتماعي.
وبطبيعة تشابك الزّيتونة مع البنية الحضارية الشّاملة للعالم الإسلامي، فقد وجدت المؤسّسة، بفعل تراجع العقل الإسلامي الأكاديمي، جراء عدم الاستجابة المعرفية للحظته التاريخية، داخل أزمة شاملة وبنيوية شملت عديد المؤسّسات العلمية من فاس إلى نيسابور، تجلّت في اجتياح وقضم أطرافه. كانت الأندلس وصقلّية أبرزها في السّابق، وفلسطين في التاريخ الحاضر. فكانت أن مثّلت الثّغور المتقدّمة، والتي منها مجال الزّيتونة -في ظلّ هيمنة المزيج العرفاني اللاّعقلي السّائد، الذي وكِّل له أمر العقل الحضاري- مرتعا للغزو المنفلت والمتنوّع، الصّليبي والإسباني في البداية، والفرنسي لاحقا. فلو كانت المعرفة الصّائبة وفيّة لشروطها الموضوعية، أَوَكان لسنابك خيول الإسبان أن تدوس على شروحات وحواشي المؤلّفات المغتربة، التي تعبّئ خزائن جامع الزّيتونة؟ والفاكرة المغتربة تظنّها منتهى مقاصد العلوم والمعارف، حتى تتحوّل الزّيتونة إلى إسطبل لخيولهم. الحادثة جلية، التي جرت مع سنة 970هـ، والتي يصفها الوزير السّراج بقوله: "وقسمت المدينة -تونس- مؤمن وكافر، وأُهين المسجد الأعظم ونهبت خزائن الكتب الّتي كانت به، وداستها الكفرة بالأرجل وألقيت تصانيف الدّين بالأزقّة تدوسها حوافر الخيل والرّجال؛ حتّى قيل إنّ أزقّة الطّيبيّين كانت كلّها مجلّدات ملقاة تحت الأرجل. وضربت النّواقيس وربطوا الخيل بالجامع الأعظم، ونبش قبر الشيخ سيّدي محرز بن خلف فلم يجدوا به إلاّ الرّمل، وبالجملة فعلوا ما تفعله الأعادي بأعدائها وكانت كلّ دار مسلم يجاورها نصرانيّ". كشفت تلك الأحداث بعمق عن أزمة النّظر الفكري عصرئذ، العاجز عن تهيئة، أو صنع قوة حضارية، فضلا عن بقائه مضادا لأي ابتداع واستنارة.
ولا نقول أن تلك المضادات الحضارية قد زالت في أيامنا، بل حافظت على بقائها وفاعليتها متستّرة، فحتى تاريخ قريب، في سنة 1904م، وحالما بدأ رشيد رضا في إصدار مجلّة "المنار" في مصر، مناديا فيها بإصلاحات محتشمة، اجتمع "علماء الزّيتونة"، وحرّروا عريضة أرسلوها إلى الحكومة "التونسية" أنذاك، أي في الحقيقة إلى السّلطات الاستعمارية الفرنسية، طالبوا فيها بمنع توزيع المجلّة في الإيالة التونسية، زاعمين أنها تهاجم الأولياء الصالحين، وتنادي بفتح باب الإجتهاد من جديد، بما تعبّر عنه من أفكار، مختلفة عن تلك التي وردت في المذاهب الأربعة. وقد اكتوى بنار تلك الاتهامات أبناء الزّيتونة ذاتهم، فمحمّد شاكر الصفاقسي، اجتمع المجلس الشّرعي لأجله سنة 1902م، وطالب بعزله وسحب شهادته العلمية لمشايعته فكر محمّد عبده وسعيه في ترويجه.
ولذلك ينبغي في خضمّ الرؤى الهشّة السّائدة، عند مراجعة الأثر التاريخي للمؤسسات العلمية الإسلامية، التفطّن للدور التعطيلي السلبي للقائمين على هذه المؤسسات، والذي منع في عديد المناسبات الانطلاقة الطبيعية للعالم الإسلامي. بما مثّلته تلك الأطراف في عديد الأحقاب التاريخية من سدّ تتحطّم وتنخنق فيه براعم التحوّلات الحضارية، التي تبشّر بانطلاقة حداثية. فمثلا مبادرات تحرير المرأة كان انطلاقها أساسا من الخارجين عن الخطّ العام للأزهر والزّيتونة، باجتراحهم أنهجا مستجدّة في رؤية المقاصد العليا للإسلام، نجد الأمر، مع قاسم أمين، الأزهري المفصول، ومع الطّاهر الحدّاد، الزيتوني المعزول.
إذ ما كان العقل الزيتوني قادرا على ضبط وعيه التاريخي في عديد المناسبات، وعجز عن استيعاب المعطى التّشريعي من النصّ القرآني، باتجاه البحث عن توسيعه وإثرائه باجتراح المقصد البشري. فكان أن ساهم الممسكون بمقدّرات الأمور في هذه الجامعة في كبح التحوّلات الحضارية، جاذبين كتلا اجتماعية إلى الخلف باسم الدّين والمحافظة على قيمه، وصوّرت مطالب الإصلاحات وبوادر العقلنة بكونها نفيا للدّيني وهدما لأركان الإسلام. كما"...كُسيت المبادرات كساء الظنّ فتلقّاها الشّيوخ بسوء القصد وتخيّلوا أنها شرك نصب ليبطل به تعليم العلوم الإسلامية... فصمّموا على معارضتها... وتلك عادة عرفوا بها...".
مما جعل مجمل مساعي إصلاح الزّيتونة، خصوصا منها في القرنين الأخيرين، رفعا للسّقف دون أوتاد، بما توفرت من رغبة في النّهضة وما افتقدت إليه من أسس عقلية وعلمية للتحرّر.
ثانيا: الإصلاحات والفلسفة التطوّرية الغائبة
الجلي أن مطالب الإصلاحات قد لازمت تاريخ الزّيتونة، ولكن لم تبلور بشأنها فلسفة للإصلاح، تخلّف تحوّلا وتطوّرا مستمرّين. ولذلك تعدّدت دعوات الإصلاح دون أثر، لما وعى به العديد العملية خطأ، كونها حلّة خارجية ترتديها المؤسّسة. في حين الإصلاح الحقيقي، يتمثّل في ما ينبغي أن تقوم عليه من منهج عقلي تفكيكي، وأساس ديني إنساني منفتح مندسّين في البرمجة. والملاحظ في مسار طروحات الإصلاح تلك، أن طلاّب الجامعة كانوا أكثر استشعارا لضرورته من المشرفين، وهو أمر عجزت هياكل الإشراف عن تلبيته وترجمته لفلسفة تربوية علمية تطوّرية، لتناقض نتائج العملية آجلا مع أصولهم الأرستقراطية أو مع أهدافهم النّفعية الآنية. فممّا تجدر ملاحظته عبر تاريخ الزّيتونة ارتباطها في مستوى التسيير، بطبقة أرستقراطية، تتشكّل أساسا من البيارمة بطبقاتهم، الأولى والثانية والثّالثة والرّابعة والخامسة، وآل جعيّط، وبن عاشور، وبن مراد، والنّيفر، وبلخوجة. ولطالما أبعدت الكفاءات العلمية الشّعبية، المنحدرة من العامّة عن مراكز النفوذ في هذه الجامعة، ناعتة إياهم الأرستقراطية بازدراء واحتقار بـ"الآفاقيين"، كون العامة ليس مسموحا لها بالتقدّم إلاّ في ثلاث: "إن ساروا ليلا أو خاضوا سيلا أو واجهوا خيلا"، على حدّ تعبير صاحب "تحفة الوزراء" المجهول المؤلِّف.
فممّا أورده الأستاذ محمود عبد المولى، أن الحكومة التونسية تحت الحماية الفرنسية، قرّرت سنة 1950م توسيع الجامعة وإجراء مناظرة لانتداب ثمانين مدرّسا، فهرع ثلاثة مدرسين من عائلة النّيفر لمقابلة الوزير الأول، وإيغال صدره بتدني كفاءة أصحاب الشّهائد الجدد، علما أن المناصب العليا في الزّيتونة حتى ذلك التاريخ، كانت حكرا وراثيا على العائلات الكبرى. وقد وجدت تلك الدّونية سندا ببثّ فهومات خاطئة عن مدلول بعض الآيات القرآنية، وردت في معرض ذكرها انتقادات للأعراب، قادت للحكم الرّائج والخاطئ "لا يؤمّ الأعرابي وإن كان أقرأهم"، وسحِبت تلك التأويلات على كلّ من لا ينتمي لدم تلك العائلات.
ومما هو ثابت، أن هذه الطبقات الأرستقراطية ما كانت لتراهن على مصالحها النّفعية المرتبطة بنظم مهيمنة سائدة، وإن تغيرت من حين لآخر. ولذلك ما كان لها أن تطرح أو تتبنّى رؤى تحوّلية جذرية. فمثلا مع بداية القرن السّالف، سنة 1910، قام طلبة جامع الزّيتونة، وعلى رأسهم الطّالب إبراهيم شعبان، بتحرير مكتوب يتضمّن نداءات بإصلاح التعليم وتعصيره، مع مطالبة بتحسين الإقامة بمدارس سكنى الطلبة. وألحّوا على مطالبهم عبر الضغط بإضراب دام عدة أشهر، اضطرت الحكومة على إثره لإحداث لجنة لإصلاح التعليم الزيتوني ولكن أعمالها لم تأت بنتيجة، لما لاقته المطالب من معارضة شديدة من طرف الشيوخ، الذين رفعوا أمامهم شعار "ما ترك الأوّل للآخر من شيء للإضافة والتجديد". الأمر الذي دفع بدعوات النّهضة الإصلاحية في تونس لهجران الزّيتونة، لما للممسكين بها من قوّة نافذة، ومثّل أبناء الزّيتونة التحرّريين منشقّين في منظور الخطّ القابض على مقاليد الأمور، افعمل على حصرهم وتشويههم بشتىّ الوسائل.
فلما نشر الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي كتابه: "روح التحرّر في القرآن" سنة 1905، مناديا فيه بتعليم البنات والتخلّي عن عزلهنّ في البيوت، تضاربت الآراء بشأنه. إذ استقبله الصّادقيون -الشقّ المجدَّد في التعليم التونسي عصرئذ- استقبالا متحمّسا مشيدين ومنوّهين به، في حين واجهه المدرسيّون بمعارضة واستنكار شديدين. بلغت أوجها بتدبير محاكمة واهية له وتقديمه للقضاء، كان ردّه فيها: "إن الأفكار التي أعتنقُها والآراء التي أدعو إليها لا تتعارض البتّة مع التعاليم الدّينيّة، وغاية ما في الأمر أنها تريد تخليص الدّين الإسلامي من جميع ما علق به، نتيجة الجهل والتزمّت وإغراءات الثروة. وذلك لأجل أن نعيد إليه صفاءه الأوّل الذي كان مصدر قوته".
ولعلّ محنة الثعالبي وغيره، مع الأوساط التقليدية، متمثّلة في كون استهلاك المعرفة الدّينية في شكلها العرفاني الإتباعي، الذي سنشير لبعض مولّداته لاحقا، لا يترك للإنسان مقدرة للوعي الصّائب بمقوّمات المجتمع وبأواليات حراكه. لذلك طالما أمدّت المعرفة الدّينية غير الأصيلة العديدَ برؤى تنحو نحو الاغتراب، وتتناقض مع الصّلاح الجماعي، يوازي التقديرات الخاطئة لإحدى القبائل العربية الجاهلية، التي أرسل لها النبي محمّد (ص) رسالة يحظّها فيها على قبول مبادئ الإسلام، لما في الأمر من خير لها، فأهمل كبراؤها الرّسالة ورقّعوا بها دلْوهم.
فما لم تكن المعرفة ملتزمة بالنقد والتّمحيص العقلي من جانب، ومتيقّظة ووفية لتبدلات الاجتماع البشري واحتياجاته من جانب آخر، فإنها تكون مهدّدة بالتحوّل إلى فلسفة إماتة للمجتمع. لعلّ المعرفة الإسلامية التي سادت في عصور الانحطاط والتي تخلّت عن هذين الشّرطين السّالفين، العقلي والاجتماعي، كانت مما شايع فلسفة الموات لا فلسفة الحياة، وهو ما يبرّر نعتها بالتنكّر الرؤيوي للأسس الجوهرية للمعرفة الإسلامية.
فمع مطلع خمسينيات القرن الماضي، عشية المطالبة بالاستقلال أستعيد موضوع الإصلاح، وكان بضغط طلاّبي أيضا، لما يمثّلونه من دور البروليتاريا الدّينية القلقة. نادت بذلك "لجنة الطّالب الزّيتوني"، التي سعت في ضبط برنامج تفصيلي، سمّته بالدّستور الزّيتوني الجامع، وهو ملخّص لستّة عشر مطلبا، يمكن تلخيصها في ما يلي: تنظير الشّهادات الزّيتونية، تعريب المناظرات الإدارية، التوسّع في العلوم العصريّة، إدخال اللّغات الأجنبية، إرساء التخصّصات، تمكين الزّيتونيين من الدّراسة بالخارج، الزّيادة في عدد المدرّسين، إجبارية التقاعد للأساتذة البالغين سنّ افتقاد المقدرة، جلب أساتذة مختصّين للتدريس وفتح آفاق الشّغل أمام حاملي الشّهادات الزيتونية. وهي مطالب محورية تكرّرت النّداءات بشأنها في عديد المناسبات.
وتكاد تكون نفس المطالب المذكورة متكرّرة، قبل حصول تغيير السّابع من نوفمبر، الذي أعلن لاحقا عبر الأمر الرئاسي عدد: 96 المؤرّخ في 31 ديسمبر 1987، عن مشروع تجديد الجامعة وسعى في الأمر، والذي سنخصّص له شرحا مفصّلا لأهميته. ولكن مما هو جلي في المسار التاريخي للزّيتونة تكرّر ثلاثية: مطلب الإصلاح، ثم نشوء المعارضة الدّاخلية له، اللّذين يليهما إطاحة بالإصلاح وانهيار العملية برمّتها، ومن ثمة العودة لحالة الكمون من جديد.
ثالثا: الزّيتونة والحركة الجوهرية المفتقدة
لما يحوزه علما القرآن والحديث من مكانة مركزية، ليس بأثرهما التفسيري والروائي فحسب، بل بدورهما في تزويد التفرّعات العلمية الأخرى بالمادة المعرفية. فإن الزّيتونة التي درّست السّيوطي والزّركشي والباقلاّني والزّرقاني سابقا، وتدرّسهم حاضرا، بنفس المنهج والأسلوب، تبقى زيتونة لاتاريخية لم تتفطّن للتطوّر المعرفي التحوّلي. فما لم يتبدّل النّظر في العلوم، ضمن المحدّدين السّالفين العقلي والاجتماعي، لتطرح تنقية المقول الصّائب من المقول الخاطئ، ويفرز ما قيل عمّا أضيف، من خلال التقدّم لطرح سؤال الرّاهنية الحضارية، لما ما يزال يحافظ ويتمتّع به النتاج الفكري المنتَج خارج الزّيتونة، وأيضا داخلها مع رموزها الأعلام أمثال: سحنون واللّخمي والمازري وابن عرفة والبرزلي من جدوى ومصداقية، فإنّ العملية تبقى معلّقة. إذ سؤال صِدقية المعرفة ومعقوليتها من الشّروط اللازمة لحفظ الفكر الدّيني من الزّيغ والاغتراب. ففي العصر الذي كان فيه الإسبان يدنّسون حرم الزّيتونة، كان العقل الزيتوني يتلهّى بفنطازيا الغيبات وهو يحسب أنّه يحسن صنعا، إذ حتى تاريخ قريب لازم المنطق الغيبي، الممتطي والمستحوذ على الخطاب الدّيني، الزّيتونةَ. ففي سنة 1266هـ-1850م لما اشتدّ المرض الوبائي بأهالي تونس فأمر أحمد باشا باي، وبإشارة من القاضي الحنفي الشّيخ مصطفى بن محمّد بيرم، بانعقاد موكب خاشع، تمّ انتداب أربعين شريفا من أبناء الحاضرة اسمهم محمّد للغرض، ليتحلّقوا بجامع الزّيتونة من الصّباح إلى الظهر ليقرؤوا سورة يس أربعين مرّة، وليدعوا الله بدعوات حرّرها لهم، ناقلا ذلك عن بعض الكتب عن بعض الصالحين، داعين الله ليضمحلّ المرض بفضله ورحمته. هذا الوعي الأسطوري لا ننفي انقراضه من الفكر الدّيني الإسلامي، فلازال سائدا حتى الرّاهن، ولا زال التقدير لصلة عالم البشر بعالم الألوهية مغرقا في هذه البلاهة الاعتقادية. ولذلك أقدّر أن النهضة الحقيقية للعقل الإسلامي لن يتيسّر بلوغ مآربها إلاّ بتخليص القرآن الكريم من الفهم اللاّعقلي، مشفوعا ذلك بتنقية أسطورية للسنّة المطهّرة من منطق "تدخِل العينُ الرّجلَ القبرَ والجمل القِدر"، المدعومة بكافة أشكال مسحات القداسة المصطنعة.
والبيّن أن خرّيجي الزّيتونة قد أدركوا مبكّرا بعين اليقين انعزالهم المعرفي عن واقعهم التاريخي، وعدم تناسب ما يستهلكونه، ممّا يسمّى خطأ معرفة إسلامية، مع الرّاهن المعرفي، المحلّي منه والكوني. إضافة إلى انزياحهم الوظيفي والدّوري، جرّاء افتقادهم معارف، سواء كانت باتقان ألسن أمم أخرى، أو بامتلاك أدوات معرفية أنتجتها التحوّلات المستجدّة في فضاءات غير إسلامية ما كانوا لها مواكبين. ولكن هذا الخروج -الوظيفي المعرفي- كان غالبا ما تفسّر مسبّباته من طرف قصيري النّظر، بتآمر الدِّهريين اللاّدينيين واللاّئكيين على المنتمين للزّيتونة، وغيرها من التعليلات التي ينتجها العقل المستقيل، غير الواعي بإمكانياته المعرفية.
فقد ساهم افتقاد إرساء تجديد فعلي للجامعات الإسلامية في تثبيت العقل الإسلامي الأكاديمي، ممن يدّعون صيانته من الزّيغ والإنحراف. هذا الفراغ المعرفي خلّف بحثا فاشلا لتجاوز الأمر، لم يجد له عادة مكوّنين دينيين أكفّاء، مما أخّر المسألة الدّينية معرفيا والواقع الإسلامي حضاريا. وفي غمرة تلك التفاعلات المتنوّعة، سعت الأرستقراطية التونسية أثناء حقبة تحوّلها الأساسية -بين فترة الأربعينيات والستينيات- لتحويل وجهة دراسة أبنائها نحو التخصّصات الحديثة، في العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الصّحيحة، وتركت الزّيتونة لجحافل الوافدين الذين نعتوا سابقا بـ"الآفاقيين"، الذين لايزال يهزّهم الحنين التاريخي للزيتونة، التي طالما أقصوا منها، ولم تقدّر المتاهة الوظيفية والمعرفية، في المستقبل، التي تتربّص بكلّ مشرئبّ لهذه الجامعة.
فالجلي أن الحسّ الذي استشعره طلبة الزّيتونة، وهو حسّ موضوعي وطبيعي معبّر عن حياة في الجسد الشبابي الطلاّبي، كانت تقابله إرادة ثبات في الذّهنية الأكاديمية المشيخيّة، حتى جاءت لحظة اللّفظ الكلّي للهيكل الزّيتوني -طلبة ومشيخة-، لعدم استجابة الشقّ المتحكّم، لنداء التطوّر والتطوير، فيما استشعرته إرهاصات وعي الطلبة ولم يلبّه قطاع الشّيوخ.
رابعا: الأزمة التاريخية للتعليم الدّيني
لازمت الزّيتونة عبر تاريخها إرادة محافظة من داخلها، تجلّت بالأساس في التوجّهات العامّة لهيكلها المدرِّس، مما جعل معارضة الإصلاح وخنقه من داخلها أقوى مما هو من خارجها، أمرا دارجا. فقد كان الشقّ المشيخي حاضر الرّيب والتوجّس من كلّ ما هو جديد ومستحدَث، وعادة ما غلّف سداده بادعاءات المحافظة على الأصول وعلى مقاصد الإسلام. وقد تقنّنت المحافظة السّلبية، منذ إعلان ترتيب 1292هـ الذي عرف بالمعلّقة، التي وضعت على باب الجامع وقتئذ، والتي جاء في فصلها الخامس عشر ضبطا لأسلوب التدريس بهذا التعبير: "ليس لأحد أن يبحث في الأصول التي تلقّتها العلماء جيلا بعد آخر بالقبول، ولا أن يكثر من تغليط المصنّفين، فإن كثرة التغليط أمارة الإشتباه والتخليط. بل عليه -المدرِّس- أن يبذل الوسع في فهم مرادات الفضلاء، ولا يلقي البحث إلاّ بعد التحرّي والإحاطة بأطراف الكلام، والتدبّر في الفهم المراد". وقد بقي هذا النصّ محافظا على نفاذه في فلسفة التعليم وفي توجيه منهج التدريس حتى التاريخ الرّاهن.
هذا مما أبقى النبز والقدح والذمّ، الذي تدرّس به الفرق الإسلامية في الجامعة الزيتونية، وأساسا منها الشّيعة والإباضية والمعتزلة، ساريا وخال من العرض الموضوعي، سواء كان عبر درس الفقه أو علوم الحديث أو في علم تفسير القرآن. حيث يمتد الأمر لكلّ من خالف رأي أهل السنّة، بما يسعى فيه الأساتذة جاهدين لتوريث أسلوبهم للخلَف. ولذلك يعبُر الخرّيج وهو يكاد لا يعرف "تفسير الميزان" للعلاّمة محمد حسين الطباطبائي، ولا يرى مصدرا للأحاديث النبوية غير ما درج عليه من الكتب المقبولة سنّيا، وربما أغفلت عمدا أيضا محتويات كتاب "نهج البلاغة" للإمام علي بن أبي طالب، لما يخشى في الأمر من اجتراح هوى وميل نحو موالاة آل البيت، ومن ثمّة الوقوع في شرك التشيّع على حسب تقدير البعض.
فبفعل المنهج الخاطئ، كان اعتبار موضوعات التشيّع والإباضية والمعتزلة من الأمور المنبوذة، في واقع إسلامي تجاوز التشيّع والتمذهب، ولم يبق التحزّب لهذه النحل إلاّ لدى من يعاني غيابا للوعي السوسيولوجي بالحضارة، ولذلك ما يعوز المنهج الدّراسي تبليغه هو الوعي بأنماط الوعي، الذي تترسّخ الدّربة عليه بالاستيعاب المنهجي الموضوعي، والذي يُتبع بإعادة الإنتاج.
إذ حتى الرّاهن الحالي، بقي التدريس والمدرّسون على ولاء للسّياقات السّالفة التي طالما توجَّه لها النقد، ولا يزال كثير من الأساتذة يعدّ تعريف العلم على طريقة السّلف كونه "سعة المحفوظات سواء في علوم الشّريعة أم في علوم العربية، ولا يعتبر العالم عالما لديهم ما لم يكن كثير الحفظ، فهو إن ضمّ لذلك الإستنباط والتحقيق نال شهرة كبرى، ولكن لا يعد عالما ما لم يكن كثير الحفظ، فليس العلم عندهم إلاّ الحفظ لأنهم كانوا يميلون إلى شيء محسوس مشاهد في العالم...".
لذلك يبقى التحوّل المطلوب في تحوير نمط رؤية النصّ الدّيني والظّاهرة الدّينية عن السّياقات الدّينية التأسيسية التي صاغت السّقوف النظريّة وحدّدت منتهى الأبعاد المعرفية، حتى يتم تجنّب التكرار. ففي ظلّ واقع المحافظة على أدوات التفكير التقليدية يتعذّر تحقيق النّهضة، بل غاية ما ينتج، تأزّم داخلي وانعزال كوني. فكلّ ثورة في العقل الدّيني مشروطة بإعادة تأسيس رؤيوية مستجدّة للرّموز والأفكار. والثّورة المحمّدية المباركة ما ألغت الحجّ أو الصّلاة السّالفة لعرب مكّة والصّابئة، بل أعادت شحن الرّموز الطقوسية والعقَديّة بدلالات مستجدّة تتماشى مع واقع التطوّر النظري الذي بلغته البشرية عصرئذ. والحاجة في الراهن، هي الامتلاك الثّاني للإرث الدّيني، لا مواصلة استهلاك ما ساد سابقا. فقد كاد تعليم جامع الزّيتونة منذ أواخر القرن الثّالث عشر وأوائل القرن الرّابع عشر (هـ) أن ينحصر في أسلوب واحد للمراتب كلّها، وهو أسلوب الإلقاء... يلقي المدرّس المسائل العلمية ويجتهد في إفهامها للتلامذة وهم يسمعون، ثم يشتغل بألفاظ المؤلّفين وما أورد عليهم من الإخلال في أداء المسألة بلفظ تام.
فعملية التحوّل تمر عبر وعي أنماط الفهوم والرّؤى التي صيغت حول النصّ القرآني والإعتقادات والشّرائع الإسلامية، وجعلها مستقلّة ومنعزلة كلّيا عن العقل التاريخي، أي ملكة الإدراك المغاير للعالم والأشياء. وهي أمور لن تتحقّق ومناهج الأنسنة في وعي الخطاب القرآني غائبة في الجامعات، حيث علم الأساطير في قطيعة كلّية مع الخطاب القرآني والمتون الحديثية، وقِسْ على ذلك كافة العلوم التي يحويها علم الأديان والتي تحتلّ دورا أساسيا في تنشيط النّظر الدّيني.
فقد ظلّ المحور الهام المتمثّل في غرس علم تشكّل المعرفة الدّينية وما يصحبه من ربط المعرفة بالواقع العملي غائبا. إذ بدون الإلمام التكويني بالعلوم الشّرعية والأصولية، يبقى الحديث متعذّرا عن قطيعة أو تطوّر أو إضافة، مبشّرة بنهضة حضارية. فممّا ذكره الشّيخ ابن عاشور في أسباب تخلّف علم الفقه "صرفهم جلّ همّهم إلى فقه العبادات فأكثروا فيه من التخريج، مع أن طريق العبادات التوقيف، وتقصيرهم في فقه المعاملات من النّوازل والأقضية فتركوه محتاجا إلى أصول وكلّيات، تجعل للعارف به معرفة بأحوال الزّمان...". ولكن مما يلفت الانتباه أن القائمين على الزّيتونة قد أكثروا الحديث عن ضرورة التّطوير، ولكنّهم لم يبلوروا أو يدركوا كيفيته، فطالما تطلّعوا وأرادوا تجديدا خال من شروطه المعرفية، ولذلك تراهم غالبا ما يقفون ضدّ ما تاقت إليه نفوسهم بما رُكِّب في عقولهم.
وحتى تفسير "التحرير والتنوير" لمؤلّفه الشيخ الطاهر بن عاشور، والذي يعبّر عن الخلاصة المعرفية التقليدية للعقل الزّيتوني عبر مسيرة قرون، فإنّه يخلو من روح التحرير والتنوير بالمعنى الإبستيمي التقدّمي للمعرفة. فقد كان الشيخ -طيّب الله ثراه- متطلّعا إراديا لتحرير وتنوير العقل الزّيتوني والعقل الإسلامي، ولكنّه كان عاجزا أداتيا ومعرفيا، جرّاء احتكامه النظري والرؤيوي في تفسيره للسّائد المعرفي والدّيني، الذي لم يوفّق في الحياد عنه. فما كانت ضرورتنا وحاجتنا الحضارية لمجلّدات شروحات تكرّر اللاّمعقول الحديثي والتفسيري، الذي يخنق مستجدّا براعم العقلانية الإسلامية، على نمط التتلمذ التلمودي المصاغ في "لو قال لك المعلّم أن يدك اليمنى هي يدك اليسرى، وأن يدك اليسرى هي يدك اليمنى، فقل سمعا وطاعة"، وإنما كانت الحاجة إلى مقال في المنهج يدفع باتجاه الوعي الموضوعي والعلمي بالقرآن وبالسنّة النبويّة.
خامسا: تجربة إصلاح 1987
مما ميّز خرّيجي سنوات ما قبل إصلاح 1987 التعامل الإيماني الداخلي مع الظاهرة الدّينية المدروسة، بفعل طبيعة التكوين السائدة. والتي جعلت الدارس مشحونا بقيل وقال، المفتقدة لأي وعي تعقّلي يخبر عن كفاءة واقتدار في الذات العالمة. برغم امتداد تعامل الدارس مع ذلك النمط من المعارف الدينية زمنيا، طيلة مرحلتي السنوات الأربع للتكوين للأستاذية، أو حتى مرحلة الدكتوراه، لمن قدِّر لهم ارتقاء هذه المرحلة، التي كان يخضع ولوجها للموالاة والمحاباة والصّلات في غالب الأحيان. إضافة لما رافق مرحلة ما قبل الإصلاح، من قطيعة مع الآخر في عمومه، لغويا وفكريا، لما نشأ من توجّس من مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية، التي كانت تصنّف في عداد المسارب المؤدّية للنظريات الهدّامة. فولّد الإغترابان، الداخلي المنجرّ عن عدم القدرة على وعي الظاهرة الإسلامية، والخارجي بعدم التوفيق في تفهم متطلّبات الاجتماع، إنتاج الزيتوني المنفصل كليا عن عصره. ولذلك كان سهلا سقوط العديد منهم وانحدارهم داخل التيّارات السياسية الدينية، التي مثّلوا حشوا بارزا لها.
الإنقلاب المؤسّسي الذي عرفته الزّيتونة، مع بداية السابع من نوفمبر، أعني على إثر الأمر الرئاسي عدد: 96 المؤرّخ في 31 ديسمبر 1987. عبر تفريعها لثلاثة معاهد عليا: المعهد الأعلى للشريعة، والمعهد الأعلى لأصول الدّين، والمعهد الأعلى للحضارة الإسلامية، مع احتواء كل معهد لثلاثة تخصّصات. وحصرت المهمّة الأساسية للجامعة في الدور الدّيني العلمي، لما تشتغل عليه أساسا من معالجة الأوجه المتنوّعة للظاهرة الدّينية، وسبل نشاطها وتبدلاتها. وتمّ التجاوز للمعنى الموسع لإصلاح المؤسّسة، على نمط ما خاضته مؤسّسات إسلامية أخرى، بتوسيع الجامعة حتىّ تضمّ إليها كليّات هندسة وطبّ وإنسانيات، قد تتستّر عن الأزمة الحقيقية للعقل الديني الإسلامي، وذلك بإضافة تفرّعات علمية وعصرية يخيّل على إثرها تطوير العقل الإسلامي وهو على غير ما يدّعى. فتجربة الأزهر في هذا المجال، بإلحاق فروع كلّيات علمية به، لم تحلّ المسألة الجوهرية أصلا في أزمة العقل الدّيني، بل أظلّت الناس وأوهمتهم بتطوّر العقل الإسلامي. ولذلك لا يعني إحجام الزّيتونة أو مثيلاتها عن انتهاج هذا المسعى أنها بقيت رهينة التخلّف في حين الأزهر غادره.
فبعد ذلك الإصلاح، صار الطالب يدرس العلوم الدّينية بمختلف تفرّعاتها وتنوّعاتها، مرفوقة بالعلوم الاجتماعية، وعلم الأديان، والإناسة، وعلم النفس، والفلسفة الغربية، والفلسفة الإسلامية. لقد كانت التجربة دخيلة ومستجدَّة على العقل الدّيني الزيتوني. وكانت تتطلّب العقود حتى تحدِث التمازج بين النهجين الدراسيين السائد منه والمستحدث. حتى يتمّ إنتاج الزيتوني المتّزن معرفيا والحاضر تاريخيا. وبدأ الخرّيجون في تلك السنوات القليلة يعود إليهم الاعتدال المعرفي وتسري دماء العصرنة في عقولهم. كان هناك إحساس باستهلاك نمطين معرفيين متغايرين، نمط يبثّه أساتذة الزّيتونة المشيخيون، ورثة المنهج التدريسي الكلاسيكي، وما فيه من مادة خام متكتّلة تحتاج تحليلا وتركيبا مستجدّين، والذي تبلّغه مجموعة من الأساتذة أمثال السادة: أبو لبابة حسين، وعبد الله لوصيّف، وسعيد الفلاّح، وعبد المجيد بن حمدة، وعلي الشابي، وجلّول الجريبي، وعثمان بطّيخ، وأحمد البارودي، وعلي مانيطة، وونيّس بن عامر، ومحيي الدّين قادي، ومحمّد التّومي، ومحمّد العلاني، والزعايري، ووسيلة بلعيد، وهند شلبي، ومنجية السوايحي وأكثرهم لم نذكر، في شتى التفرعات الكلاسيكية التي تمتدّ حتى علمي المواريث والقراءات. ونمط جديد وافد على الزّيتونة مع أساتذة من جامعات العلوم الإنسانية والاجتماعية أصلا، مثّله الأساتذة: حمّادي بن جاء بالله، والمنصف ونّاس، وفوزي البدوي، ومحمد حسين فنطر، وتوفيق بن عامر، والمهدي مبروك، ولطيفة لخضر، وكمال عمران، وأحمد الفرجاوي وغيرهم.
هذان النهجان، نهج الدراسة الكلاسيكية ونهج الدراسة الحديثة، اللذان كان يصبّ كلّ منهما في ذهن الطالب، كانا يتطلّبان تراكم السنين حتى ينتَج الجيل الزيتوني المنتظَر. بقول جليّ، حتى تهضم الأجيال المستوعبة النمطين الدراسيين، عبر احتكاكهما وتواصلهما، لتحقيق الاعتدال التاريخي المفتقد زيتونيا، وحتى تقود الأجيال المراهن عليها تيار التحوّل الجذري للعقل الدّيني. ولكن لسوء الحظ أن ذلك المشروع الثوري الذي أقدِم عليه، من خلال شعار "ردّ الإعتبار للجامعة الزيتونية"، لم يدم طويلا لعدة أسباب سنأتي على توضيح بعضها لاحقا. فوقع التراجع عن المسار وتقليصه إلى حدود ضيقة.
فمنذ سنة 1992م وما بعدها، بفعل الصراع الذي خاضته السلطة مع ما عرف بحركة النهضة، والذي أودى، داخل تلك الظروف العاتية، بذلك الإصلاح الجريء إلى مهاوي الرّدى، انطوى العقل الزيتوني على إثرها ثانية مترجّيا إرادة وعيوية ثورية تعلو فوق الصراعات. فقد تولدت أزمة الزّيتونة في العقدين الأخيرين عن هشاشتها البنيوية، إذ كان فكر التيّارات الإسلاموية في حقبة الثمانينيات والتسعينيات في تونس إخوانيا قطبيا يعوزه الوعي التاريخي، وإن تعدّدت أوجهه، فكان يطالب بالحرية وينفيها في الآن. وتلخّص الأمر في المقولة السائدة لحزب التحرير "الديمقراطية كفر"، والتي كانت موزّعة بالتساوي بين جلّ التيارات الإسلامية "خط الإمام"، "الإتجاه الإسلامي"، "حزب التحرير"، "السلفيون"، "العروبيون الإسلاميون"، باستثناء ما عرف وقتئذ بـ"اليسار الإسلامي"، الذي كان يرفض هذه الأطروحات الإنغلاقية.
وقد كانت جل التيارات الدينية تتطلع للجامعة الزيتونية لسحرها الكاريزمي لديها، ولتقديرها أن من استحوذ عليها فاز بمصير الإسلام ومستقبله في تونس. كما كانت هذه التيارات، حتى قبيل إدخال الإصلاح على الزّيتونة، بفعل الأمر الرئاسي السالف الذكر، لا ترى في فلسفة البرمجة ومناهج التعليم أي بعد رجعي، لتناغمها مع توجّهاتها العامة ولمشاركتها الفكرية في تلك العقلية، فقد كانت جزءا من تلك الرؤى. ولذلك ما طالب أتباع تلك التوجّهات بإصلاح بنيوي يمسّ الفلسفة التعليمية، وإنما طالبوا بتحويرات تغيّر مقاليد السلطة التربوية والتسيير من مجموعة أساتذة تنتمي للحزب الحاكم، الحزب الإشتراكي الدستوري سابقا، إلى مجموعة لها ولاءات لتلك التيارات. ونظرت للإصلاح المحدث بقرار الأمر الرئاسي 1987 بعين الاحتراز والانتقاد، لما فيه من هزهزة لكافة رهاناتها الفكرية التقليدية.
فبفعل الطابع الدّيني للعلوم والمعارف التي تُقدّم في الزّيتونة، وجرّاء الرمزية الدّينية المكثّفة التي تحوزها، عملت عديد التيارات الإسلاموية، بما فيها السياسية وغير السياسية، لاستغلال الزّيتونة للترويج لأطروحاتها النظرية والدّينية والسياسية. وكانت العقلية السائدة بين قياديي هذه التيارات، الذين وجدوا في الزّيتونة أرضا خصبة لتنمية أتباعهم وصقل نشطائهم، أن كلا منهم يرتئي أن الزّيتونة ملكه وحرمه، وتضخّمت هذه العقدة بين أنصار "حركة النهضة" خصوصا بما عدّوا فيه أنفسهم أوصياء على الجامعة الزّيتونة، فحشروا طلبتها في عديد المظاهرات وإضرابات الجوع والمناوشات ضدّ السلطة، كل ذلك لفائدة حركتهم الباحثة عن الاعتراف الحزبي وقتئذ، ولفائدة "الإتحاد العام التونسي للطلبة" الذي كان يخضع لتسيير أتباع الحركة المذكورة. عند هذا الحدّ تدخّلت السّلطة لتحدّ من الإصلاح الثوري الذي أقدمت عليه، والذي امتطى ظهره أتباع التيّارات الإسلاموية، باستغلالهم الجامعة للترويج لأطروحاتهم، وجعلها مرتعا يوجّهون منه طلبتها حيثما أرادوا.
لقد تمّ سابقا خنق الزّيتونة من طرف الفكر السلفي، فقتل فيها دورها المعرفي التاريخي، وتمّ إغتيالها ثانية سياسيا من طرف الفكر الإسلاموي القصير النظر. والغريب في مسار الزّيتونة التاريخي أن تقزيمها يتمّ دائما بأيدي أهلها وممن يظنون أنهم أقرب الناس إليها.
الزّيتونة وفلسفة الحضارة
متى يتحوّل المعرفي إلى فعل حضاري؟ ليس السؤال هيّنا حتى تختزل الإجابة عنه في بعض الكلمات. وما أرتئيه، أن العملية تتمّ داخل جدل علاقة التواصل بين كتلة المعرفة ومدى تطابقها مع إبستيمية العقل، أي بخروج الفعلة من التناقضات الداخلية، وما يلي ذلك من التنزيل الصائب للمقولة في الاجتماع البشري، فتتحوّل المعرفة إلى فعل إنتاجي داخل الماكنة الحضارية الجمعية. وداخل هذه المعادلة كان على الفكر الزيتوني أن يخوض معركة العقلنة والأنسنة للمقولات الدّينية حتى يوفّق في تنزيلها في الواقع.
فبرغم حضور معطيين أساسيين في التجربة الحضارية للفضاء الاجتماعي الواقع سابقا تحت تأثير الزّيتونة -أعني تونس وما جاورها من المناطق المغاربية، التي كانت تابعة لها من حيث نفاذ وأثر الفكر الدّيني المنبعث من الزّيتونة-، متلخّصين في:
-الإنتاج والتراكم للمعرفة الدّينية النظرية، وما خلّفته من إنتاجات رائدة على لسان كتّاب وشعراء ومفكّرين متنوّعي المشاغل.
-والإرادة السياسية المتطلّعة للتغيير والنهوض الحضاري، والمتجلّية أساسا في المصلح خير الدّين التونسي، وفي هرم القيادة الجزائرية السابق هواري بومدين ذي التكوين الزيتوني.
فإن الملاحظ أن الإصلاح الذي تطلّع إليه خير الدّين –الذي كان يتردّد بنفسه على حلقات التعليم بالزّيتونة- مع فجر النهضة، والسعي الفعلي للإنجاز مع بومدين، مع فترة الاستقلالات المشحونة بالوعود. عبر تحفز الرّجلين لإرساء تحول حضاري في الغرب الإسلامي وفي العالم الإسلامي، فإن مسعاهما افتقد حقا للأسس الدّينية اللازمة. برغم حرص المذكورين الشديد على التحوّل الحضاري، فإن الإنسان المعوّل عليه في ذلك، كان مفرغا من أي بناء معرفي داخلي. إذ منذ الحقبة التي أطرد فيها الفكر الخلدوني من الزّيتونة، صارت وظيفة المثقّف الدّيني المعرفية داخل النسيج الاجتماعي، لا تتجاوز تقديم الإستشارة الأخروية والغيبيّة للجموع الشعبية، بكافة تفاصيلها، المتعلّقة بالمآتم وتخليص المسحور والتعزيم، وغابت الإستشارة المعرفية الحضارية الواعية. ولذلك كان الفكر الديني ولا يزال محلّ ثقافة الفناء أكثر مما هو منبعا لثقافة الحياة. وما فعله خير الدّين في القرن التاسع عشر كرّره الهواري في القرن العشرين، دون تبيّن للفواعل الأساسية المتحكّمة بالنهضة في بنى المجتمعات العربية.
فتونس سابقا أو الجزائر في تاريخها الحديث، عجزتا عن صياغة نهج حضاري يقطع مع بنى التخلّف، لمسبّبات موضوعية تم التغاضي عنها. ولم توفّق القيادتان السياسيتان فيهما لإنتاج تحوّل تركيبي مستجدّ في مكوّنات العقل الدّيني. فالنهضة قد تبنى في غياب الوعي الدّيني، ولكن الأمر متمنّع في حالة الاجتماع العربي. وبالمثل قد تبنى النهضة في حضور العقل الدّيني، ولكن بشرط الترشيد للتمثّل والوعي الدّينيين. ومن الملحّ أن النهضة الحضارية في خصوصياتها العربسلامية ملزمة بمشروطية الإنبناء داخل التعقّل الدّيني، لا بالتملّص من الدّيني أو بالتنكّر له.
كما كان افتقاد المؤسسة الزيتونية للوعي الإستيعابي للظاهرة الإسلامية، مؤذنا بالاستنكاف الحضاري. حتى أنّه كلّما استجمع العقل الزيتوني عناصر وعيه، بضرورة إرساء إصلاح هيكلي بنيوي، والذي يتم غالبا خارج شروطه الموضوعية، إلا وتلم به نكبة، عادة ما يستولدها من داخله، فتردّه تحت الثرى. ممّا أبقى العقل الزيتوني وحتى وضعه الحالي محكوما عليه بالإختزال في الدور الوعظي والإرشادي، لما اختاره لنفسه من مهام الرّاعي الطقوسي والسادن المعبدي. ولعل تشكّل طبقة السّدانة، التي كادت أن تطمس روح الزّيتونة كليا، ذات دلالة هامة في المسيرة التاريخية للمؤسّسة.
ففي العهد الحسيني مثلا توزّعت الأدوار بجلاء بين سدانة سفلى تعضدها كهانة عليا: وكان من أبرز خططها خطة "المزوال"، ودور صاحبها السهر على سير الشعائر في المسجد. وخطة "الوقادة"، ودور بعضهم تنظيم الجامع وفرشه واستصباحه والمكوث بين يدي إمام الخمس. وأمّا نظيره في نفس الخطّة فدوره الإتيان لدار الإمام المكلّف بإقامة الصلوات الخمس عند الفجر ثم قبيل الظهر والمغرب والعشاء، وبالوصول إلى الدار يقول: الصلاة حضرت.. الصلاة حضرت.. يرحمكم الله! يا دار الخير يا دار البركة. ثم يخرج الإمام قاصدا الجامع يتقدّمه الوقّاد بيده "الفنار" –المصباح- إذا اقتضت الحاجة. وكذلك نجد خطة "الباش سقا"، ومن مهامه توزيع الماء على المصلّين، وغيرها من المهام الكهنوتية، وفي حين أهملت الجوانب البنيوية المعرفية الفاعلة.
فتداعي الأزمات على الزّيتونة نابع من كون العقل لم يرسّخ اجتراحا ذا نفاذ باتجاه العقلنة أو التجريبية المعرفية، المنغرسة في التاريخي والاجتماعي، وما سعى ابن خلدون في تدشينه، باعتبار الأمر إبتداعا نظريا،لم يتحوّل إلى تيّار متحكّم بالمؤسّسة، بل بقي هامشيا لافتقاده لسند يدعمه. وبقي الخط التقليدي –الخط الفقهي السلطاني- هو الصائغ للفلسفة الحضارية للعقل الإسلامي، وتبدّدت القوى في استنزافات ذاتية، عبر معارك حجاجية وهمية هلك التعليم الزيتوني بسببها، جرّاء الصراعات السنّية الإباضية الشيعية، وكذلك بفعل التدافع بين الأحناف والمالكية، داخل مختلف التبدّلات السلطوية التي مرّت على أرض الزّيتونة، ولم يتطوّر الأمر لابتداع فلسفة جديدة، بل حصرت كافة المساعي في الدّفاع والحجاح المذهبيين.
فكانت حلقة التحوّل المركزية التي افتقدتها الزّيتونة متلخّصة في العجز عن تحقيق الانتقال من وصف الماء الطّاهر والطّهور فقهيا، ورأي كلّ مذهب وكلّ متمذهب فيه، إلى تطوير البحث العلمي في حقيقة الماء النقي والمعقّم علميا. ومن تعليل سنن الكون ميتافيزيقيا وغيبيا إلى شرحها فيزيقيا وسوسيولوجيا.
***
لقد فرضت طبيعة الموضوع الاستعانة أحيانا بما هو سياسي، لإيضاح بعض المسائل المتعلّقة بالتجلّيات النظرية للعقل الإسلامي في الزّيتونة، وليس للارتهان عندها. فقد حرصت قدر الإمكان على حصر الموضوع داخل مقاربة معرفية، واستدعيت السياسي بمقدار ما أملاه توضيح بعض التوجّهات الفكرية. لما ألمسه من طغيان الهاجس السياسي على عديد المقاربات في الفكر العربي، حتى أصبح دارجا تفسير الأمور سلبا أم إيجابا ضمن مقاربة سياسوية، تتصاعد علوا باتجاه هرم السلطة لتحميلها واقع الحال ومسؤولية المآل. وهذا التمشّي عادة ما كان سائدا في النظر لتاريخ الزّيتونة عبر عصورها المختلفة، لتتخفّى وتلغى الأسباب العميقة الكامنة وراء الأزمة الحقيقية لهذه الجامعة. ففي عديد المناسبات تم إلحاق أزمة الزّيتونة البنيوية بالسلطة المواكبة عصرئذ. فمثلا أزمة الزّيتونة في العهد الإستعماري ألحقت بحكومة الباي وراعيها الإستعمار الفرنسي عصرئذ، وأزمة الزّيتونة بعد الإستقلال نسبت للنظام البورقيبي وللعناصر اللائكية فيه. وأزمة الزّيتونة في راهنها الحالي يلحقها بعض المتتبّعين للشأن التونسي بالخيارات السياسية الحالية للنظام الحالي. ولكن ما تبيّن لي أن أزمة الزّيتونة كامنة ومتركّزة في العقل المعرفي القائمة عليه، سواء تبدّلت الحكومات والنّظم أم ثبتت. فمثلا أعظم حركة تحوير هيكلي وتدريسي هزّت الزّيتونة في تاريخها، كانت مع تجربة 1987. ولكن ما يغيب دائما، هو الترجمة الوفيّة للعقل الإسلامي من طرف كتلة الإنتلجنسيا القائمة والمتحكّمة بالخطاب الدّيني فيها. فمع التجربة الأخيرة، كانت الإرادة السياسية الفوقية صادقة في السعي للتطوير والتحديث، ولكن مقدّرات العقل الزيتوني المنهكة كانت واهنة في تقبّل الحدث واستيعابه.
ولذلك تبقى الزّيتونة حتى اليوم في عداد الجامعات التقليدية بامتياز، فأغلب الملتحقين للدراسة فيها ينحدرون من الطبقات المنغلِبة في الصراع الاجتماعي الداخلي، حتى أن البعض يطلق عليها الجامعة البدوية، لطبيعة مقولاتها ولغتها ودورها، ولما فيها من تجانس بين البؤس الاجتماعي والبؤس النظري. وحتى الذين يلتحقون بها من أهالي المدن فعادة في الأصل، هم أفراد البدو العائمين الذين لم يستطيعوا الإندماج في حداثة المدينة فارتدوا إلى أصلهم، عبر الإلتحاق بمعسكرات الإنتلجنسيا المقهورة. لقد صار مما يندر، أن يتواجد فيها دارسون من الشرائح المتنفّذة، أو منحدرة من العائلات الأرستقراطية المذكورة سلفا أو الناشئة خلفا، بما يلازم هذه الطبقات من نباهة وتيقّظ اجتماعيين محكومين بالمصلحة، وهو ما لا يمكن أن تؤمّنه لهم الجامعة الزيتونية لسببين:
لبؤس التكوين الذي يتلقّاه المتخرّج من الجامعة المذكورة والذي لا يؤهّله للأداء الجيد لوظيفته ودوره.
وللانفعية البضاعة المعرفية في شكلها المعروض في الجامعة، والتي لا تستطيع أن تمنح المتخرّج إنحشارا في سوق الشغل اليوم، وهي حقيقة مريرة أمام عديد الخرّيجين، الذين ألغتهم وهمّشتهم المقاييس المستجدة ولم يدروا الأمر، كون تكوينهم لم يلتفت للثرى. فزملاؤهم منذ عشرينيات القرن المنصرم طالبوا بحق تساوي الفرص مع خريجي المؤسّسات الأخرى. ولكن المشكلة بقيت قائمة، وهي في الحقيقة من إنتاج العقل الدّيني اللاّتاريخي.
ما وددت التركيز عليه في هذه الدراسة من مظاهر الخطأ في تجلّيات العقل الديني، ترنو أساسا لبناء وعي نقدي بالمؤسسات العلمية التاريخية، لدورها التأسيسي في صياغة الرؤى النظرية والمعرفية في الحضارة الإسلامية. فبدون هذا النوع من المراجعات يصير من المتعذر بناء العقل الديني المنفتح.
د. عزالدين عناية
أستاذ من تونس يدرّس بجامعة لاسابيينسا بروما.
أستاذ من تونس يدرّس بجامعة لاسابيينسا بروما.